آيـــة السيـــف


بسم الله الرحمن الرحيم

من أكثر الشبهات التي يثيرها أعداء الاسلام شبهة انتشاره بحد السيف ، ويستشهدون على زعمهم هذا ببعض الآيات القرآنية الكريمة من سورة التوبة .
لننظر في تلك الآيات وشرحها ومناسبتها لنرى مصداقية زعمهم هذا :-

1- فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ
يقول الله عز وجل (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة:5)
الظاهر من الآية الكريمة أنها تأمر بقتل المشركين حيث وجدوا، وبأسر من لم يقتل منهم، وبحصارهم وتضييق الخناق عليهم.
ولكن هل هي عامة في جميع المشركين أم أنها نزلت في فئة خاصة منهم ؟
وإذا كانت عامة فكيف نوفق بينها وبين آيات أخرى تحض على معاملة غير المسلمين بالحسنى؟
وكيف نوفق بينها وبين تصريح الاسلام بالزواج من غير مسلمات؟
وكيف نوفق بينها وبين وجود الملايين من غير المسلمين الذين عاشوا وما يزالون يعيشون بين المسلمين؟
أما إذا كان الأمر في فئة خاصة فمن هم المشركون المقصودون في الآية؟ ومتى يقتلون؟
لو نظرنا إلى الآيات التي قبل هذه الآية لوجدناها تقول ( بَرَاءَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (التوبة:1-4).
نجد في الآية الكريمة كيف احترم الاسلام عهد أولئك المشركين، الذين عاهدهم الرسول والمسلمون، فوفّوا بعهدهم معهم، ولم ينقصوهم شيئا، مما فرضته المعاهدة ولم يظاهروا عليهم عدوا، فأمر الله تعالى أن يتم إليهم عهدهم إلى مدتهم، فهذا من التقوى التي يحبها الله ويحب أهلها.
وبعد ما سموه آية السيف مباشرة نجد آية تقول:
"وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ" (التوبة: 6).
فهي تأمر بإجارة المستجير المشرك، ودعوته إلى الاسلام وإتاحة الفرصة له حتى يسمع كلام الله، كما تأمر بأن يبلغ الموضع الذي يأمن فيه .

إذن الآية الكريمة توضح سبب الأمر بقتل ذلك الفريق الخاص من المشركين ، وأنه لم يأت من فراغ ولا تعنت ولا اعتداء، فهم يصدون عن سبيل الله ولا يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمة أي قرابة وعهداً ، ثم كيف نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم الذي عقدوه مع نبي الله وألبوا أعداءه عليه، وطعنوا في دين الله، وهموا بإخراج الرسول، وبدءوا المؤمنين بالقتال أول مرة!!

إن سبب نزول هذه الآية أنه بعد سبعة أعوام من هجرة المسلمين إلى المدينة المنورة وقَّّع النبي صلى الله عليه وسلم مع مشركي مكة صلح الحديبية ولكن بعد عام من ذلك نقضت قريش العهد فنزلت هذه الآية تحض على قتالهم.
أولئك المشركون أعداء الإسلام ونبيه ليسوا هم كل المشركين، بدليل قوله جل ثناؤه قبل آية السيف: (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)
وبدليل الأخبار التي تظاهرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه حين بعث عليا رحمة الله عليه ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم – أمره فيما أمره أن ينادي به فيهم: "ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد- فعهده إلى مدته"
ثم بدليل قوله تعالى بعد آية السيف (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" (التوبة:7).
وإنما هم قوم من المشركين، كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم عهد إلى أجل، فنقضوه قبل أن تنتهي مدته...
وقوم آخرون كان بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم عهد غير محدود الأجل.
فهؤلاء وأولئك هم الذين أعلن الله عز وجل براءته هو ورسوله منهم، وأمهلهم أربعة أشهر من يوم الحج الأكبر (والمراد به يوم عيد النحر، وهو اليوم الذي نبذ إليهم فيه العهد على سواء)؛ ليسيحوا في الأرض خلالها حيث شاءوا، ثم ليحددوا فيها موقفهم من الدعوة إلى الإيمان بالله ربا واحدا: فإما تابوا فكان في استجابتهم لداعي الله خيرهم، وإلا فهي الحرب، وما تستتبعه من قتل وأسر وحصار وترقب.
ليست الغاية إذن من قتالهم هي إكراههم على الدخول في الإسلام بقوة السلاح، وما كانت (الغاية) قط هذا الإكراه...
هذا إلى تلك الآية التي تنفي جنس الإكراه في الدين نفيا صريحا قاطعا، وتعلل لهذا النفي حيث تقول: (لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي) (البقرة: 256)، والآية الأخرى التي تستبعد أن يستطيع الرسول صلى الله عليه وسلم إكراه الناس على الإيمان، حتى لتحكم باستحالة هذا الإكراه إذا تقول )وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس:99)
وإنما شرع القتال في الإسلام لتأمين الدعاة إليه، ولضمان الحرية التي تكفل لهم إبلاغ دعوته، ودرء الشبه عن عقيدته، بالمنطق السليم، والحجة المقنعة.
فإذا ما هيئت للدعاة وسائل الدعوة في أمن وحرية – فلا حرب ولا قتال؛ لأن دين الله حينئذ سيهدي بنوره كل ضال، ولأن بطلان الشرك بالله سيتضح يومئذ لكل مشرك، فلن يصر عليه إلا جاحد معاند مكابر في الحق، وهؤلاء قلة لا يؤبه لها، ولا بد منها في كل مجتمع؛ لتتحقق كلمة الله جل ثناؤه: " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآَمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا" (يونس:99)!.

ويقول سبحانه وتعالى )فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) (محمد:4)
فلو صح زعمهم بأن الاسلام يأمر بقتل غير المسلمين فكيف يعللون قوله سبحانه" فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً" وهي تحرم قتل الأسرى ؟؟؟

2- وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً
يقول جل وعلا (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(التوبة: من الآية36)
وهي جزء من آية كريمة جاءت في سياق تعظيم الأشهر الحرم، التي لها حرمة خاصة، ينبغي أن تعظم، ويقدر قدرها، ومن ذلك: تحريم القتال فيها، فإنه من ظلم النفس الذي حرمه الله فيها.
يقول تعالى: "إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ"(التوبة:36)
فهذه الآية التي يزعمون أنها آية (قطع الرقاب) أو (آية السيف) تأتي في سياق تحريم القتال في الأشهر الحرم، أي فرض هدنة إجبارية على المسلمين إذا كتب عليهم القتال وهو كره لهم: أن يغمدوا السيوف، ويكفوا عن القتال أربعة أشهر في العام: ثلاثة سرد، أي متتابعة، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وواحد فرد، أي منفرد وحده، وهو: رجب. أي يفرض عليهم ثلث العام هدنة للمسلم.
ثم يقول تعالى في الآية (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً" (التوبة:36)، فهي من باب المعاملة بالمثل، ومن عامل خصمه بمثل ما يعامله فما ظلمه.
فهل تحمل هذه الآية بهذا المعنى أي دلالة من الدلالات التي يفهم منها قتال الناس كافة، من حاربنا منهم، ومن كف عنا وألقى إلينا السلم؟

3- (انفروا خفافا وثقالا)
ومن الآيات التي ذهب البعض إلى أنها آية السيف وأنها تأمر جميع المسلمين بالجهاد تحت كل الظروف قوله تعالى في سورة التوبة ( انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (التوبة:41)
والواضح أن من تدبر الآية الكريمة، وقرأ سياقها، تبين له بجلاء أن هذه الآية جاءت في سياق من استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للجهاد، فلا يجوز أن يتقاعسوا عن الاستجابة له، ويثاقلوا إلى الأرض، ومثله إذا استنفرهم كل ولي للأمر بعده، كما قال عليه الصلاة والسلام: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، إذا استنفرتم فانفروا".وكأن القرآن الكريم يقول: إذا قيل لكم: انفروا في سبيل الله، فانفروا خفافا وثقالا، ولا تثاقلوا عن النفير، وإلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم، فالأمر بالنفير هنا مبني على الاستنفار قبله.
لقد رد العلامة ابن قدامة على من احتجوا بآية (انفروا خفافا وثقالا) على أن الجهاد فرض عين: بقوله تعالى: "فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا" (النساء:95)، وهذا يدل على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم، كما استدل بقوله تعالى )وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122)
ولأن الرسول كان يبعث السرايا: ويقيم هو وسائر أصحابه. قال: ويحتمل أنه أراد حين استنفرهم النبي إلى غزوة تبوك، وكانت إجابته واجبة عليهم، ولهذا هجر النبي كعب بن مالك وأصحابه الذين خلفوا، حتى تاب الله عليهم.

4- يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون
ومن الآيات التي زعموا أنها (آية السيف): آية سورة التوبة في قتال أهل الكتاب، وهي قوله تعالى)قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة:29) فقالوا: هذه الآية تأمر بقتال أهل الكتاب الذين وصفتهم الآية بما وصفتهم به، من اليهود والنصارى، ولم تشترط لقتالهم: أن يكونوا قاتلوا المسلمين، وعلى الذين آمنوا أن يقاتلوا هؤلاء حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
ومن الواضح لمن تدبر آيات القرآن، وربط بعضها ببعض: أن هذه الآيات نزلت بعد غزوة تبوك، التي أراد النبي فيها مواجهة الروم، والذين قد واجههم المسلمون من قبل في معركة مؤتة، واستشهد فيها القواد الثلاثة الذين عينهم النبي صلى الله عليه وسلم على التوالي: زيد بن حارثه، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة.
فالمعركة مع دولة الروم كانت قد بدأت، ولا بد لها أن تبدأ، فتلك الإمبراطوريات الكبرى لا يمكن أن تسمح بوجود دين جديد يحمل دعوة عالمية لتحرير البشر من العبودية للبشر )قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران:64)
وهم الذين بدءوا المسلمين بقتل دعاتهم والتحرش بهم، وهو المعهود والمنتظر منهم، فهذه معركة حتمية لا بد أن يخوضها المسلمون، وهي كره لهم.
أقدم الرسول الكريم على غزوة تبوك حين بلغه أن الروم يعدون العدة لغزوه في عقر داره في المدينة، فأراد أن يغزوهم قبل أن يغزوه، ولا يدع لهم المبادرة، ليكون زمامها بأيديهم. وهذا من الحكمة وحسن التدبير.
فالآية الكريمة هنا تأمر باستمرار القتال لهؤلاء الروم الذين يزعمون أنهم أهل كتاب، وأنهم على دين المسيح، وهم أبعد الناس عن حقيقة دينه.
ولكن هذه الآية لا تقرأ منفصلة عن سائر الآيات الأخرى في القرآن، فإذا وجد في أهل الكتاب من اعتزل المسلمين، فلم يقاتلوهم، ولم يظاهروا عليهم عدوا، وألقوا إليهم السلم، فليس على المسلمين أن يقاتلوهم، وقد قال الله تعالى: في شأن قوم من المشركين: "فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً" (النساء:90).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوا الحبشة ما ودعوكم" والحبشة نصارى أهل كتاب، كما هو معلوم.

وهذه باقة من آيات القرآنية كريمة تعزز ما سبق ذكره وتدحض مزاعمهم :-
1- )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل:125)

2- )وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت:34)

3- )خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (لأعراف:199)

4- )وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (لأنفال:61)

5- )ْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا)(النساء: من الآية90) )
6- )فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُم)(الاحقاف: من الآية35)
7- ومثلها كل ما أمر فيه الرسول بالصبر، مثل قوله تعالى )فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (الروم:60)

وهذه هي وصايا الرسول - ‏ صلوات الله وسلامه عليه - ووصايا الخلفاء الراشدين من بعده لقادة جيوشهم الذاهبين إلى نشر الإسلام :-

لا تـقـتـلوا شيخاً ولا امرأة ولا صبياً
ولا عابداً في محرابه
ولا راهباً في صومعـته
ولا شاباً ما دام لا يحمل السلاح
ولا تقطعوا شجرةً
ولا تعفروا - ‏ تردموا - بئرا
ولا تجهزوا على جريح ولا تمثلوا بقتيل .‏

لقد كانوا يعرضون أرواحهم للخطر أمام عدو لا يرحم ومع هذا تقال لهم هذه التعليمات ذات الطابع الأخلاقي النبيل فهل يقال بعـدها أنه دين نشره صاحبه بالسيف ؟‏

يقول (د. جوستاف ليبون) في كتابه (حضارة العرب) : (إن القارئ سيجد في معالجتي للغزوات العربية والسبب وراء انتصارات العرب - سيجد أن القوة لم تكن مطلقاً عاملاً مساعداً في انتشار التعاليم القرآنية ، وأن العرب قد تركوا أولئك الذين غزوا بلادهم أحراراً في ممارسة عقائدهم الدينية ، وإذا حدث أن اعتنقت بعض الشعوب المسيحية الإسلام ، واتخذت اللغة العربية لغة لها ، فإن ذلك يمكن عزوه أساساً إلى ما أبداه العرب من عدالة لم يعتدها هؤلاء غير المسلمين ، كما أن ذلك يُعزى إلى التسامح واللين اللذين يتسم الإسلام بهما ، وهما غير معروفيْن في الأديان الأخرى) .
وفي موضع آخر من الكتاب يضيف (د. ليبون) قائلاً : (لقد كان من الممكن أن تتسبب الفتوح العربية الأولى في عدم وضوح قدرتهم على الحكم في الأمور ، وتجعلهم يرتكبون نفس أعمال القهر التي يرتكبها الغزاة عادة ، ومن هنا يسيئون معاملة الشعوب الخاضعة لهم ، وإجبارهم على اعتناق الدين الذي يودون نشره في كل أرجاء الأرض ، وإذا كانوا فعلوا ذلك فإن كل الأمم التي ما زالت ليست تحت سيطرتهم ربما قد انقلبت عليهم مثلما ألمّ بالصليبيين في غزوهم لسوريا بعد ذلك . ولكن الخلفاء الأوائل كانوا يتحلون ببراعة كبيرة في تصريف أمور الدولة ، لم يكن ذلك متاحاً لغيرهم من دعاة الأديان الجديدة ، هؤلاء الخلفاء قد أدركوا أن القوانين والأديان لا يمكن فرضها بالقوة ، ومن هنا فقد كانوا يتحلون بقدر كبير من العطف في طريقة تعاملهم مع شعوب سورية ومصر وأسبانيا ، وكل قطر آخر أخضعوه لسيطرتهم ، وتركوا لهم حرية ممارسة قوانينهم وتشريعاتهم ودياناتهم ، ولم يفرضوا سوى قدر قليل من الجزية في مقابل حمايتهم ، والحفاظ على السلام بينهم ، وإحقاقاً للحق فإن الأمم لم تعرف قط غزاة رحماءَ ومتسامحين مثل العرب) .

ويمضي قدماً في الإيضاح قائلاً : (إن رحمة وتسامح الغزاة كانا سببين من ضمن أسباب انتشار الفتوحات ، ودخول الأمم في دينهم ، وانتهاج نظمهم ولغتهم ، والتي ضربت بجذورها في الأرض ، وقاومت كل أنواع الهجوم ، وظلت موجودة حتى بعد اختفاء سيطرة العرب على المسرح العالمي ، على الرغم من أن المؤرخين ينفون هذه الحقيقة ، إن مصر هي أكبر دليل على ذلك ، فقد اعتنقت دين العرب ، وظلت عليه ، في حين لم يستطع الغزاة السابقون مثل الفرس واليونانيين والبيزنطيين التخلص من الحضارة الفرعونية القديمة ، وفرض ما جاءوا به).

ثم يضيف في موضع آخر : (إن قليلاً من العلماء الأوروبيين غير المتحيزين المطّلعين على تاريخ العرب يؤكدون مثل هذا التسامح ، فيقول (روبرتسون) في كتابه (السيرة الذاتية لشارليكين) : إن المسلمين وحدهم كانوا هم أول مَن جمع بين الجهاد والتسامح مع أتباع الأديان الأخرى ، ممن أخضعوهم لسيطرتهم ، تاركين لهم إقامة الشعائر الدينية) .


ويقول (مايكل ميكادو) في كتابه (تاريخ الصليبيين) : (إن الإسلام يدعو إلى الجهاد ، وبجانب ذلك فهناك التسامح مع أتباع أديان أخرى ، فقد أعفى الإسلام البطريركيات والقساوسة ومن يخدمهم من الالتزام بدفع الضرائب ، كما حظر الإسلام - وعلى وجه التحديد - قتل القساوسة لأدائهم مناسك العبادة ، فعمر بن الخطاب لم يؤذِ المسيحيين عندما دخل القدس غازياً ، ولكن الصليبيين عندما دخلوا القدس أعملوا الذبح والقتل في المسلمين ، وأحرقوا اليهود) .


ورغم كيد الحاقدين الذين يحرفون معاني النصوص يقول الكونت (دي كاستري) في كتابه (الإسلام : انطباعات ودراسات) :

(بعد أن آمن العرب بالقرآن ، وتلقوا النور من خلال الدين الحق ، ظهروا ومعهم ما هو جديد ليقدمونه لشعوب الأرض ، وهو التوافق والمعاملة المبنية على أساس حرية التفكير والاعتقاد ، إن الآيات القرآنية قد جاءت الواحدة تلو الأخرى تدعو للمعاملة الحسنة ، وهذه الآيات جاءت بعد الآيات التي كانت تحمل تحذيرات للقبائل الخارجة عن الدين ، لقد كانت تلك هي رسالة (الرسول) إلى قومه ، وبعد اعتناق العرب للإسلام حذا الخلفاء حذوه ، وهو ما يجعلني أقول مع (روبرتسون) إن شعب (محمد) كان الوحيد الذي جمع بين الرفق بالآخرين ، والسعادة بنشر دينهم .

لقد كانت تلك هي الخاصية التي مكنت العرب من المُضي قدماً في فتوحاتهم ، وهو سبب وجيه ، لقد حلّق القرآن بتعاليمه على القوات المنتصرة ، التي غزت سورية وانتقلت كالصاعقة إلى شمال إفريقية ، ومن البحر الأحمر إلى المحيط الأطلنطي بلا أثر لطغيان ، ما عدا تلك الأمور التي لم هناك بد من تفاديها في الحرب ، كما لم يقم العرب بذبح أية أمة رفضت الإسلام ..).

(إن انتشار الإسلام والخضوع لسلطته يبدو أنه قد حدث لسبب آخر في قارة آسيا وشمال إفريقية ، فقد جاء ذلك نتيجة للحكم الاستبدادي للقسطنطينية ، التي كانت تمارس الطغيان المطلق ، وعدم عدالة الحكام التي فاقت قدرة الناس على التحمل) .

(إن الإسلام لم يتم فرضه مطلقاً بقوة السيف أو بأية قوة ، ولكنه دخل قلوب الناس من بوابتي الاشتياق والإرادة الحرة ، وذلك بفضل ما في القرآن من إثارة وتلقائية تأخذ بألباب الناس) .

إن كثيراً من المؤرخين يقرون أن انتشار الإسلام وسط المسيحيين الذين ينتمون للكنائس الشرقية يمكن عزوه أساساً إلى شعور أولئك المسيحيين بعدم الرضا عن المغالطات العقائدية التي دخلت للعقيدة المسيحية من الروح الهيلينية .

ويمكن عزوه ذلك أيضاً إلى وفرة النقاط الحميدة التي وجدها المسيحيون الشرقيون في الإسلام ، وقدرته على إنقاذهم من الفوضى التي كانوا يعانون منها . فيقول (كايتاني) -على سبيل المثال - : (إن الشرق الذي كان يفضل الآراء السهلة الواضحة ، كان يعاني من الناحية الدينية من العواقب السيئة لدخول الثقافة الهيلينية على المسيحية ، والتي تسببت في تحويل تعاليم المسيح إلى عقيدة مليئة بتعاليم معقدة ، وشكوك ، وعندما جاءت أخيراً أخبار من الصحراء عن الاكتشاف الجديد ، فإن أولئك المسيحيين الشرقيين - الذين عانوا من التمزق بسبب الشقاقات الداخلية - قد شعروا بالضياع ، فاهتزت الأسس الدينية داخلهم ، وبسبب تلك الشكوك فإن كهنة الكنيسة قد شعروا باليأس ، فالمسيحية بعد ذلك لم تكن قادرة على الوقوف أمام دعاوى الدين الجديد ، الذي اقتلع بضربة قوية كل الشكوك التافهة ، وقدم صفات إيجابية وجميلة ، بالإضافة إلى مبادئه غير المشكوك فيها والسهلة الواضحة ؛ ولذلك فقد تخلى الشرق عن المسيح ، وألقى بنفسه في أحضان نبي العرب


والحمد لله على نعمة الاسلام