(8)هل كان محمد عليه الصلاة والسلام عالما نفسيا ؟
لما خص محمد عليه الصلاة والسلام أهل مكة بمزيد من الغنائم , وكانوا حديثي عهد بالإسلام فتتألف قلوبهم عليه , وجد بعض الأنصار من ذلك في نفوسهم فقالوا :
( يغفر الله لرسول الله , يعطي قريشا ويتركنا ) .
فبلغ ذلك محمد عليه الصلاة والسلام , فأرسل إلى الأنصار فاجتمعوا ولم يدع معهم أحدا غيرهم . ثم قام فيهم , فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال :
( وأريد أن نتأمل في حديث رسول الله جيدا , وكيف كان محمد طبيبا نفسيا من الطراز الأول ) . قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله :
"يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ : مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا عَلَيّ فِي أَنْفُسِكُمْ ؟
أَلَمْ آتِكُمْ ضُلّالًا فَهَدَاكُمْ اللّهُ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللّهُ وَأَعْدَاءً فَأَلّفَ اللّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ .
قَالُوا : بَلَى ، اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنّ وَأَفْضَلُ .
ثُمّ قَالَ أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ؟
قَالُوا : بِمَاذَا نُجِيبُك يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنّ وَالْفَضْلُ .
قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَا وَاَللّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَلَصُدّقْتُمْ أَتَيْتَنَا مُكَذّبًا فَصَدّقْنَاك ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاك ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاك ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاك .
أَوَجَدْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِكُمْ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدّنْيَا تَأَلّفْت بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا . وَوَكَلْتُكُمْ إلَى إسْلَامِكُمْ أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النّاسُ بِالشّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللّهِ إلَى رِحَالِكُمْ ؟ فَوَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْت امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَلَوْ سَلَكَ النّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا ، لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ .
اللّهُمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ . وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ ."
قَالَ فَبَكَى الْقَوْمُ حَتّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ وَقَالُوا : رَضِينَا بِرَسُولِ اللّهِ قَسْمًا ، وَحَظّا .
انظروا إلى هذه الطريقة في تهذيب النفوس , وكيف عالج محمد عليه الصلاة والسلام غيرة الأنصار وما وجدوه في نفوسهم .
فذكرهم بفضل الله عليهم , ثم ذكرهم بفضلهم عليه عندما آزروه ونصروه .
ثم ذكرهم بإيمانهم من بعد ذلك .
ثم منحهم ما هو خير لهم من الدنيا وما فيها .
تلك هي الحكمة , وذلك هو الإيمان الذي نحتاجه في مجتمعات متفككة تجتاحها الغيرة والتنافس على الأموال والنساء والسلطان .
ولننظر أيضا إلى حادثة أخرى , عندما جاء رجل إلى محمد عليه الصلاة والسلام يطلب منه وصية يدخرها طوال حياته نجاة له وفلاح , فقال الرجل :
أوصني بكلمات أعيـــش بهن .
فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام : " لا تغضب " .
ما السر في الغضب حتى ينهى عنه رسول الله عليه الصلاة والسلام بنصيحة غالية إلى هذا الحد ؟
يعرف علماء النفس الغضب بأنه طاقة نفسية ينفقها المرء دون جدوى , فهو محض خسارة , وهو أخيرا يقارب الجنون في مظاهره العامة وذلك لأنه يحدث هزة بدنية يتبعها انخذال , وأحيانا علل خطيرة , واضطرا بات صحية تؤدي إلى إغلاق النفس فلا تتطلع بعد ذلك على الوقائع , وتزعج النوم فلا يهدا الغضوب حتى مع نفسه , ويأرق لمحاسبتها .
فما أدرى محمدا بهذا , وهو الأمي البدوي الذي لم يقرأ ولم يكتب كتابا !
حسنا .
في علم النفس أيضا لا نستطيع معالجة مريض وشفاءه دون أن يكون في هذا المريض عدول عن عناده و إصراره , نعم هذا ما يقوله علماء النفس .
ومن الصحيح , وهذه قضية تجربة بسيكولوجية , أن الحالات المرضية التي تعالج لا يمكن أن تقود إلى نتيجة صالحة دون أن ترفق ببعض التضحيات الشخصية .
و الأمر كذلك في الفلسفة , لأنه لا يمكن وجود معالجة ذاتية تتكلل بالنجاح بواسطة الفلسفة ما دام هناك رفض للتخلي عن العناد وصلابة الروح .
وها هو القرآن الكريم يبين هذه الحقيقة بوضوح وجلاء فيقول :
} إنَّ الله لا يُغيِّر ما بِقوم حتَّى يغيِّروا ما بأنفسهم { - الرعد 11 –
وليس هذا وحسب , فالقرآن يبين في مواضع كثيرة طبيعة الإنسان وخفايا نفسه , وكيف لا وهو كلام خالق الإنسان ومسويه .
يقول فرنسيس بيكون :" نصيب الإنسان موجود بين يديه " .
نعم , إنه الدافع , وتعريفه عند علماء النفس أنه المحرك للسلوك الإنساني,أي الشيء الذي يدفع الإنسان للتصرف أو الحركة .
ويقول دنيس ويتلي صاحب كتاب سيكولوجية الدوافع :
" تتحكم قوة رغباتنا في دوافعنا وبالتالي في تصرفاتنا "
فالرغبة هي أول قاعدة للنجاح , و الإنسان بلا دوافع لا يكون لديه رغبة في عمل أي شيء .
هذا ما يقوله علماء النفس , فما أدرى محمد بهذا !
أين درس محمد علم النفس !
وهل تتلمذ على أيدي أولئك العلماء !
أنظروا كيف كان محمد عليه الصلاة والسلام عظيما في علم النفس , والبرهان على ذلك هو الدافع العظيم الذي زرعه محمد بين أصحابه , ذلك الدافع الذي جعله علماء النفس أول قاعدة للنجاح .
فماذا كان الدافع الذي زرعه محمد عليه الصلاة والسلام بين أصحابه , وبنى به أمة عظيمة أشرقت أنوار هدايتها في المشرق والمغرب ؟
لنرى ماذا قال محمد عليه الصلاة والسلام لأصحابه في بدر وحديثه مع عمير الأنصاري وذلك حينما دنا منهم المشركون .
روى مسلم قال :
فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ » .
قَالَ يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الأَنْصَارِىُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ قَالَ : « نَعَمْ» . قَالَ بَخٍ بَخٍ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ » . قَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا .
قَالَ « فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا» .
فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرْنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِى هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ - قَالَ - فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ . ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ .
هل علم احد ما الدافع الذي جعل الصحابة أسودا في المعارك وجعل ذلك الرجل يلقي ما في يديه من تمرات حتى لا يؤخرانه عن الموت ؟
إنها الشهادة في سبيل الله , ومن بعدها الجنة , جنة عرضها السماوات و الأرض .
فكان ولازال العالم عبر العصور يقف موقف المندهش المتعجب , من ذلك الدافع الذي يجعل المسلمين يسارعون إلى الموت فرحين مبتهجين .
من علم محمد ذلك !
قال الله تعالى :
}وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5){ .
يتبع ..