الفرع الثالث
نظرية تقييد سلطة الحاكم
جاءت الشريعة الإسلامية من يوم نزولها بنظرية تقييد سلطة الحاكم، فكانت أول شريعة قيدت سلطة الحكام، وحرمتهم حرية التصرف،
وألزمتهم أن يحكموا في حدود معينة، ليس لهم أن يتجاوزوها وجعلتهم مسئولين عن عدوانهم وأخطائهم.
وتقوم النظرية على ثلاثة مبادئ أساسية:
أولها: وضع حدود لسلطة الحاكم.
ثانيها: مسئولية الحاكم عن عدوانه وأخطائه.
ثالثها: تخويل الأمة حق عزل الحاكم.
المبدأ الأول
وضع حدود لسلطة الحاكم
كانت سلطة الحاكم قبل الشريعة الإسلامية سلطة مطلقة لا حدود لها ولا قيد عليها وكانت علاقة الحاكمين بالمحكومين قائمة على القوة البحتة، ومن القوة كان الحاكم يستمد سلطانه، وعلى مقدار قوته كانت سلطته، فكلما كان قوياً امتد سلطانه لكل شيء ، وإن ضعف انكمشت سلطته وأصابها القصور والوهن.
وكان الناس يدينون للحاكم بالطاعة لا لأنه يحكمهم، بل لأنه أقوى منهم، فكلما كان الحاكم قادراً على أن يسوق الناس بعصاه أو يغريهم بماله وجاهه فهم من الطائعين السامعين، فإذا ضعف الحاكم واستطاع أحد منافسيه أن يتغلب عليه فإنه يستطيع تبعاً لذلك أن يتحكم في رقاب الرعية،وكانت الرعية تعتبر خدماً وعبيداً لصاحب السلطان سواء أورث سلطانه أم اكتسبه.
ولما كان الحاكم يستمد سلطته من قوته لم تكن سلطة أي حاكم تساوي سلطة الآخر، ولم تكن هناك حدود موسومة للحكام لا يتعدونها، بل كان للحاك أن يأتي ما يشاء ويدع ما يشاء دون حسيب أ, رقيب....
وجاءت الشريعة فاستبدلت لهذه الأوضاع الباليه أوضاعاً جديدة تتفق مع الكرامة الإنسانية والحاجات الاجتماعية، فجعلت أساس العلاقة بين الحكام والمحكومين تحقيق مصلحة الجماعة لا قوة الحاكم الذي يرعى مصلحتها ويحفظها، وجعلت لسلطة الحاكم حدوداً ليس له أن يتعداها، فإن خرج عليها كان عمله باطلاً وكان من حق الجماعة أن تعزله وتولي غيره لرعاية شئونها..
وقد بينت الشريعة مهمة الحاكم بياناً شافياً وحددت حقوقه وواجباته تحديداً دقيقاً، فمهمة الحاكم في الشريعة أن يخلف رسول الله في حراسة الدين وسياسة الدنيا [ الأحكام السلطانية للماوردي ص 3]. ويسمى الحاكم في اصطلاح الفقهاء الإمام.
والإمامة أو الخلافة كما يرى الفقهاء عقد لا ينعقد إلا بالرضا والاختيار وبموجب هذا العقد يلزم الإمام أي الحاكم أن يشرف على الشئون العامة للأمة في الداخل والخارج.بما يحقق مصلحتها، بشرط أن يكون ذلك كله في حدود ما أنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي مقابل التزام الإمام للأمة بهذا الالتزام تلتزم له الأمة على لسان ممثليها الذين اختاروه إماما أن تسمع له وتطيع أمره ما لم يتغير حاله فيصبح فاسقاً أو يعجز عن مباشرة عمله، فإذا تغير حاله انعزل بفسقه أو عجزه.
وقد حدد صاحب الأحكام السلطانية واجبات الإمام بأنها حفظ الدين وتوفير الأمن والنظام وإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام وحفظ الثغور والجهاد والإشراف على الموظفين العموميين الذين يتولون كل هذه المهام.
فسلطة الحاكم في الشريعة الإسلامية ليست مطلقة، وليس له أن يفعل ما يشاء، ويدع ما يشاء، وإنما هو فرد من الأمة اختير لقيادتها وعليه للأمة التزامات وله على الأمة حقوق، وله من السلطة ما يستطيع أن يؤدي به التزاماته ويستوفي به حقوقه، وهو في أداء وجباته واستيفاء حقوقه مقيد بأن لا يخرج على نصوص الشريعة أو روحها، وذلك طبقاً لقوله تعالى : [ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] المائدة:44ـ 45
وقوله تعالى:[ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ] المائدة:49
وقوله تعالى: [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ] الجاثية: 18
وإذا كان الإمام أي الحاكم مقيداً بأن يتبع الشريعة وأن يحكم طبقاً لنصوصها فمعنى ذلك أ سلطته مقيدة بنصوص الشريعة فما أباحته له فقد امتد سلطانه إليه،وما حرمته عليه فلا سلطان له عليه.
والشريعة لا تبيح للحاكم إلا ما تبيحه لكل فرد، ولا تحرم عليه إلا ما حرمته على كل فرد.
المبدأ الثاني
مسئولية الحاكم عن عدوانه وأخطائه
وبعد أن بينت الشريعة واجبات الإمام أي الحاكم وحقوقه وحددت سلطته على الوجه السابق جعلته مسئولاً عن كل عمل يتجاوز به سلطاته سواء أتعمد هذا العمل أم وقع العمل نتيجة إهماله.
ولم تكن الشريعة في تقرير مسئولية الحكام عن تصرفاتهم إلا متمشية مع منطق الأشياء فقد بينت للحاكم حقه ووجباته وألزمته بأن لا يخرج عن أحكام الشريعة، وجعلته كأي فرد عادي فلم تميزه على غيره بأي حال فكان من الطبيعي تحقيقاً للعدالة والمساواة واستجابة للمنطق أن يُسأل الحاكم عن كل عمل مخالف للشريعة سواء أتعمد هذا العمل أم وقع منه نتيجة إهماله.
ففي جريمة كبرى كجريمة الزنا مثلاً، يشترط القانون الجنائي في الإسلام أن يؤتى بأربعة شهداء إلى الحاكم، وإن لم يؤت بهم فالحكم هو في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }النور4
والسؤال الآن ما الحكم لو أن أمير المؤمنين نفسه هو الذي رأى رجلاً وامرأة على فاحشة؟.
اقرأ الحكم في الإسلام:
ذلك أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ ، روي عنه أنه كان يمر ليلاً ـ على عادته ـ ليتفقد أحوال رعيته، فرأى رجلاً وامرأة على فاحشة،وعرفهما، فسكت ولم يعقب وجمع الناس في اليوم الثاني وخطب فيهم قائلاً: " أيها الناس ما قولكم في رجل وامرأة رآهما أمير المؤمنين على فاحشة؟.. فرد عليه عليّ بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ: يأتي أمير المؤمنين بأربعة شهداء، أو يجلد حد القذف، شأنه في ذلك شأن سائر المسلمين. ثم تلا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }النور4 ولم يملك أمير المؤمنين إلاّ أن يمسك عن ذكر أسماء الجناة، حيث أدرك أنه لا يستطيع أن يأتي بباقي نصاب الشهادة وأنه لا فرق في هذا بينه وبين سائر المسلمين.
وهذا هو عليّ بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ الخليفة الرابع ، افتقد درعه ـ يوما من الأيام ـ فوجدها عند رجل يهودي، فاختصمه إلى شريح القاضي ، فقال عليّ مدعياً: الدّرع درعي، ولم أبع ولم أهب، وسأل شريح النصراني في ذلك فقال: ما الدّرع إلاّ درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذبٍ. فالتفت القاضي إلى أمير المؤمنين عليّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ ، فقال: يا أمير المؤمنين، إن اليهودي صاحب اليد على الدّرع، وله بذلك حقٌ ظاهر عليها، فهل لديك بيّنة على خلاف ذلك تؤيد ما تقول؟ فقال أمير المؤمنين أصاب شريح ، مالي بيّنة، وقضى شريحٌ بالدرع للنصراني ، وأخذ اليهودي الدّرع وانصرف بضع خطوات ،ثم عاد فقال أمّا أني أشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يدنيني إلى قاضيه ، فيقضي لي عليه، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، الدّرع درعك يا أمير المؤمنين، اتبعت الجيش وأنت منطلق من صفين، فخرجت من بعيرك الأورق. فقال علي: أمّا و قد أسلمت فهي لك.
وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة ، التي تدلّ على تطبيق العدل في الإسلام في أعلى درجاته، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }المائدة8.
المبدأ الثالث
تخويل الأمة حق عزل الحاكم.
بينا فيما سبق أن الإمامة تنعقد بناء على عقد يختار فيه الشعب الإمام أي الحاكم ويلتزم له بالطاعة في مقابل التزام الحاكم بالإشراف على شئون الأمة وقيادتها في الطريق التي رسمتها الشريعة وينبني على هذا المنطق أن الحاكم الذي لا يقوم بالتزاماته أو يخرج على حدودها فليس له أن ينتظر من الشعب السمع والطاعة، وعليه هو أن يتنحى عن مركزه لمن هو أقدر منه على الحكم في حدود ما أنزل الله، فإن لم يتنح مختاراً نحّاه الشعب واختار غيره.
وهذا الذي يقتضيه المنطق هو نفس حكم الشريعة الصريح، جاء به القرآن وأمر به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وعمل به الخلفاء الراشدون من بعده، فالله جلّ شأنه يأمر بطاعة أولي الأمر في حدود ما جاء به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول عز شأنه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا] النساء: 59
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)..ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إنما الطاعة في المعروف)..ويقول في ولاة الأمور: ( من أمركم منهم بمعصية فلا سمع له ولا طاعة).
وبعد موت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اختار المسلمون أبا بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُخليفة عليهم فكانت أول خطبة يقولها تطبيقاً دقيقاً لهذه النصوص حيث قال: ( أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم ) ..
وولي عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُأمر المسلمين بعد أبي بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ فكان حريصاً على إظهار معاني هذه النصوص وتثبيتها في الأذهان، خطب يوما فقال: ( لوددت أني وإياكم في سفينة في لجة البحر تذهب بنا شرقاً وغرباً فلن يعجز الناس أن يولوا رجلاً منهم فإن استقام اتبعوه وإن جنف قتلوه)..
فقال طلحة: وما عليك لو قلت وإن تعوج عزلوه..
قال عمر : لا ..القتل أنكل لمن بعده.
وإليكم مثالاً لمساواة الحاكم أمام القانون في الإسلام.
هذه هي مبادئ الشريعة جاءت بها في وقت كانت فيه سلطة الحاكمين على المحكومين سلطة مطلقة، فلم تكن الشريعة حين قررت هذه المبادئ تأتي بما يلائم الجماعة ويصلح لحالها وإنما جاءت بالمبادئ لأنها ضرورية للشريعة الكاملة الدائمة من ناحية، ولترفع بها مستوى الجماعة وتدفعهم نحو الرقي من ناحية أخرى..
فالمبادئ إذن شرعت للتكميل والتوجيه..وهذه هي النصوص التي تقوم عليها المبادئ جاءت عامة إلى آخر حدود العموم، مرنة إلى آخر حدود المرونة بحيث تنطبق في كل زمان ومكان ولا تضيق بما يمكن أن يستجد من حالات..
وقد سبقت الشريعة الإسلامية بمبادئها كل القوانين الوضعية في تقييد سلطة الحكام، وتعيين الأساس الذي تقوم عليه علاقة الحاكمين بالمحكومين، وفي تقرير سلطان الأمة علة الحكام، وأول قانون وضعي اعترف بعد الشريعة بسلطان الأمة علة الحكام هو القانون الإنجليزي، وكان ذلك في القرن السابع عشر بعد أن قررت الشريعة نظريتها بأحد عشر قرناً، ثم جاءت الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر وعلى أثرها انتشر هذا المبدأ في القوانين الوضعية.
إن الشريعة الإسلامية تجعل الحد بين الحاكمين والمحكومين محوره وأساسه هو مراقبة الله سبحانه وتعالى عليهم والذي هو واضع والمبادئ ويبقى التقنين على عباده..