اولا شبهات تثار حول القران الكريم(29- الإتيان بتوضيح الواضح )
29- الإتيان بتوضيح الواضح
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله جل ثناؤه:
(.. فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام فى الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة.. ) (1).
موطن الشاهد على هذه الشبهة عندهم هو قوله تعالى: " تلك عشرة كاملة " بعد قوله عز شأنه: " فصيام ثلاثة أيام فى الحج وسبعة إذا رجعتم "
وفى تصوير هذه الشبهة قالوا:
" فلماذا لم يقل: تلك عشرة ؟ مع حذف كلمة " كاملة " تلافياً لإيضاح الواضح ؟ لأنه مَنْ الذى يظن أن العشرة تسعة " ؟!
الرد على الشبهة:
من الآيات الكونية لله حركة القمر فى رحلته الشهرية حيث يظهر ضعيفاً نحيفاً فى أولى لياليه ، حتى لا يكاد يراه أحد إلا بأجهزة الرصيد الحساسة ، ثم ينمو ويكبر ليلة وراء ليلة ، وفى كل ليلة تالية تصحبها ظاهرتان فى تطور القمر:
الظاهرة الأولى: إطالة مكثه بعد غروب الشمس ، فهو فى أولى لياليه لا يمكث إلا لحيظات فى شكله الضعيف النحيف.
أما الظاهرة الثانية: فهى تطور حجمه من الضعف والنحافة إلى القوة والضخامة.
أما فى الليالى التالية فتزيد مدة مكثه بعد غروب الشمس ، ويكبر حجمه ، ليلة تلو ليلة.
وفى ليلة الخامس عشر من بدء ولادته تصل الظاهرتان إلى أقصى درجة لهما.
فيمتد مكثه طول الليل ، منيراً فى الوجود.
ويكتمل قرصه فيملأ الدائرة المخصصة له ويكتمل نوره 100% ويحيل الليل المظلم إلى نور قوى هادئ فيه منافع للناس ، ويُعجِب الناظرين ، ويتغنى بجماله الشعراء ، ويشبهون به كل ما يرونه:
* حسناً جميلاً.
* بهياً ساحراً.
* رفيع الشأن شامخاً.
حتى العامة من الناس ـ غير الشعراء المرهفى الحس ـ يفتنون به ، ويعبرون عن بهائه وسحره. ويمجدون بوصفه كل جميل ، فيقولون: " قمر أربع عشرة " أى قمر الليلة التى يرون فيها القمر يوم الرابع عشر ، التى سيعقبها اليوم الخامس عشر من الشهر ، والقمر فى هذه الليلة يبلغ كمال شبابه ونضجه.
ومنذ فجر الحياة كان القمر ، وبخاصة فى ليلة كماله مبعث الإعجاب والبهارة والابتهاج فى نفس كل من يراه ، ولم يشذ عن هذا الإحساس أحد ،
فإن رأيت من يذم القمر فى ليلة كماله فاعلم أنه رجل مريض الحس ، فاسد الذوق ، غريب الأطوار.
والأساليب البيانية شأنها شأن القمر ، فى تدرج أنماطها وتفاوت درجاتها:
فمنها الحديث اليومى العادى ، الذى يخلو من الخصائص الفنية ومنها المتوسط الدرجة ، الذى لا يمدح ولا يذم.
ومنها البيان العالى المؤثر فى النفوس ، الممتع للعواطف المثرى للفكر.
ومنها البيان الأعلى ، المعصوم من النقد ، الذى يحس الناس برونقه وإحكامه وجماله وكماله وجلاله ، وهو القرآن المعجز العظيم.
ومن أساليب هذا البيان الأعلى الذى لا يضارعه بيان ، أسلوب التوكيد كما فى قوله تعالى (تلك عشرة كاملة (.
ونبدأ بأقوال الأئمة فى بيان قيمة " تلك عشرة كاملة " فى تقوية الأسلوب وتوفير العناية بالمعنى ، نبدأ بما قاله الإمام الزمخشرى:
" فإن قلت: ما فائدة الفذلكة " ؟ قلت: الواو قد تجئ للإباحة فى نحو قولك: جالسى الحسن ، وابن سيرين ، ألا ترى أنه لو جالسهما جميعاً ، أو واحداً منهما كان ممتثلاً ، فَفُذْلِكَتْ (2) نفياً لتوهم الإباحة.
وأيضاً ففائدة الفذلكة فى كل حساب أن يُعْلَم العدد جملة كما عُلِم تفصيلاً ليحاط به من جهتين فيتأكد العلم به.
وفى أمثال العرب:
" علمان خير من علم ".
وكذلك " كاملة " تأكيد آخر ، وفيه زيادة توصية بصيامها ، وألا يتهاون بها ، ولا ينقص من عددها.
وقيل " كاملة فى وقوعها بدلاً من الهدى " (3).
يعنى أن فى هذه العبارة توكيدين:
الأول فى: تلك عشرة ".
والثانى فى " كاملة ".
وقد بين الإمام ـ رحمه الله ـ المعانى التى أفادها هذا التركيب ولنا إضافة على ما قاله سنوضحها فى الخلاصة التى تعودنا على جعلها خاتمة كل مبحث.
ويتابع الإمام البيضاوى ما قاله الإمام الزمخشرى ويضيف إليه جديداً فيقول: " تلك عشرة " فذلكة الحساب ، وفائدتها ألا يتوهم متوهم أن " الواو "
ـ أى فى " وسبعة إذا رجعتم " ـ كقولك جالسى الحسن وابن سيرين ، وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلاً.. و " كاملة " صفة مؤكدة تفيد المبالغة فى المحافظة على العدد ، أو مبينة كمال العشرة ، فإنه أول عدد كامل إذ به تنتهى الآحاد وتتم مراتبها " (4).
وحذا الإمام الشوكانى حذوهما ، ثم قال: إنه مثل " كتبتُ بيدى " والكتابة لا تكون إلا باليد (5).
ويسوق غيرهم شواهد من الشعر العربى على تأصيل هذا الأسلوب فى لغة العرب ، مثل:
فسرتُ إليهمُ عشرين شهراً
وأربعــة فذلـك حِجّتان
أى: سنتان. وقول الآخر:
ثلاث بالغداة فهُنَّ حسبى
وست حين يدركنى العشاء
فذلك تسعة فى اليوم ربى
وشُرب المرء بعد الِرى داء (6)
والخلاصة:
لقد أصاب الأئمة فى الإشارة إلى معنى جملة " تلك عشرة كاملة " وبخاصة فى قولهم إنها أفادت دفع توهم من يحسب أن " الواو " بمعنى " أو " تفيد الإباحة ، فليس ببعيد أن يفهم بعض الناس أن المتمتع بالعمرة إلى الحج كفارته الصيام:
فإن صام فى الحج فيكفيه ثلاثة أيام ، ومن لم يصم حتى رجع إلى بلده فعليه صيام سبعة أيام ، وأن يفهم الاكتفاء بالثلاثة فى الحج للتخفيف على المحرمين بالحج ويؤدون مناسكه ، أما بعد الرجوع إلى الوطن فلا داعى للتخفيف ، لأنه غير مشغول بالمناسك ، وليس غريباً عن بلده. ليس ببعيد أن يقع هذا الفهم فى أذهان بعض الناس حتى الفقهاء المجتهدين.
لذلك كان قوله تعالى: " تلك عشرة " واصفاً لها بأنها " كاملة " دافعاً لذلك الفهم.
وبذكر " كاملة " تحوَّل قوله تعالى: " تلك عشرة " إلى نص محكم غير قابل للاحتمال أو التأويل.
أما من حيث البلاغة والبيان ، فإن كلمة " كاملة " وصفاً لـ " تلك عشرة " تفيد تعظيم هذه الأيام العشرة وكمال فضلها عند الله عز وجل.
بدليل أنه أشار إليها باسم الإشارة الموضوع للبعيد ، تنويهاً ببعد منزلتها ، وكان يمكن أن يقال هذه عشرة كاملة ، وهذه اسم إشارة للقريب سواء كان قرباً حسياً أو قرباً معنويًّا.
هذه المعانى والدقائق والأسرار ما كانت لتُفهَم لولا وجود تلك العبارة ، التى عدَّها مثيرو الشبهات عيباً من عيوب الكلام.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) البقرة: 196.
(2) الفذلكة مصطلح فنى معناه: إجمال المعنى فى عبارة موجزة بعد بسطه فى عبارة طويلة.
(3) الكشاف (1/345).
(4) نوار التنزيل (1/111).
(5) فتح القدير (1/227).
(6) الدر المصون (2/320).
-------------------------------------------------------------------------------
والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل
اولا شبهات تثار حول القران الكريم(30- الالتفات من المخاطب إلى الغائب قبل تمام الم )
30- الالتفات من المخاطب إلى الغائب قبل تمام المعنى
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (هو الذى يسيركم فى البر والبحر حتى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ) (1).
وشاهدهم فى الآية هو قوله تعالى: " حتى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم ".
الرد على الشبهة:
هذه الشبهة المثارة هنا على هذه الآية ، ليست لها صلة ، لا من قريب ، ولا من بعيد ، بالنحو والصرف بل هى مسألة بلاغية صرفة ، والبلاغة ـ عموماً ـ لها عنصران كبيران ، أحدهما خارجى عن شخصية البليغ ، والثانى ممتزج بشخصيته.
العنصر الأول الخارجى:
هو مجموعة القواعد والأصول التى تكوِّن علوم البلاغة باعتبارها علماً راقياً من علوم اللسان ؛ لأن لكل علم أو فن أصوله ومبادئه الخاصة به.
وهذه القواعد والأصول يمكن تَعَلُّمها وإتقانها لكل راغب صادق الرغبة فيها.
العنصر الثانى الذاتى:
الممتزج بذات البليغ ، والذى يجرى فيه مجرى الروح فى الجسد هو الإحساس المرهف بالجمال الفنى ، والقدرة على التذوق ، والخبرة بالأساليب إنشاءً ودراسة ونقداً وتقويماً. وليس بلازم أن يكون العارف بالقواعد والأصول البلاغية ، ليس بلازم أن يكون بليغاً.
يقول الإمام الزمخشرى البليغ الذواقة ، فى الالتفات من الخطاب إلى الغيبة:
" فإن قلت ما فائدة صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة قلت: المبالغة ، كأنه يذكر حالهم لغيرهم ليعجبَّهم منها ، ويستدعى منهم الإنكار والتقبيح " (2).
هذه العبارة فى حاجة إلى إيضاح ، هو الآتى:
هؤلاء الذين تحدث الله عنهم فى هذه الآية ، أنعم الله عليهم بالتسيير فى البر والبحر ، وامتحنهم بالريح العاصف بعد أن أقلعت بهم الفلك تمخر عباب الماء ، فتوجهوا إلى الله يطلبون منه الإنجاء ، واعدين الله إذا أنجاهم أن يشكروه ويعرفوا فضله. فلما أنجاهم نسوا ما وعدوا الله به ، وعادوا إلى معصيته كما قال ربنا عز وجل:
(فلما أنجاهم إذا هم يبغون فى الأرض بغير الحق.. ) (3).
وكانت فائدة الالتفات عن خطابهم المباشر " كنتم فى الفلك " إلى حكاية حالتهم العجيبة إلى غيرهم ، لكى يستثير سخطهم عليهم ، ويقبِّحوا سوء صنيعهم مع الله.
والخلاصة:
ما قاله الإمام الزمخشرى فى هذه الآية لمحة طيبة ، ومعنى لطيف دل عليه هذا الالتفات من المخاطب إلى الغائب ، وقد تناقله عنه المفسرون من بعده.
أما البلاغيون ـ بعد الزمخشرى ـ فقد أضافوا ملمحًا بلاغياً آخر ، يساير ما فهمه الإمام الزمخشرى ولا ينافره ، فقد قالوا:
" إن السر فى الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، أن " الغيبة " تناسب الفعل " جرين " فهم كانوا على الشاطئ والفلك ترسو إلى جنبه ، وأخذ الناس يركبون الفلك ، حتى إذا تكاملوا على ظهره ، وأقلعت آخذة فى السير السريع (الجرى) غابوا عن الأنظار ، فهم ليسوا حاضرين حتى يُخاطَبُوا. ولكنهم غائبون غائبون فجرى الحديث عنهم مجرى الحديث عن الغائب ".
إن كلتا اللمحتين البلاغيتين تنبثقان من هذا التعبير " وجرين بهم " ولا تنافر واحدة منهما الأخرى.
هذا ما لم يكن مثيرو هذه الشبهات أهلاً لفهمه لبلادة حسهم ، وفساد ذوقهم.
والالتفات ـ عامة ـ فن عريق من فنون البيان فى البلاغة العربية ، طرقه الشعراء فى الجاهلية ، وشاع فى كلامهم ، ووردت منه نماذج وصور فى الذكر الحكيم ، وفى أحاديث خاتم النبيين ، وأسراره لا تحصر ، ودلالاته لا تنضب ، وكفاه فضلاً أنه يروِّح عن مشاعر السامعين وينتقل بهم من لون إلى لون ، فى معرض جذاب ، لا يقدره حق قدره إلا من رُزق حسن الفهم ، والقدرة على التذوق لمرامى الكلام.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) يونس: 22.
(2) الكشاف (2/231).
(3) يونس: 23.
-------------------------------------------------------------------------------
والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل
اولا شبهات تثار حول القران الكريم(31- الإتيان بفاعلين لفعل واحد )
31- الإتيان بفاعلين لفعل واحد (1)
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ) (2).
وشاهدهم فى هذه الآية هو الجمع بين: " وأسروا " ، " الذين ظلموا " لأنهم جزموا بأن " الواو " فى " أسروا " فاعل ، كما جزموا بأن " الذين " فى " الذين ظلموا " فاعل كذلك.
ولما كان كل فعل لا يتطلب إلا فاعلاً واحداً ، صاحوا بأعلى صوت قائلين:
إن القرآن أخطأ فجعل للفعل الواحد فاعلين ؟!
الرد على الشبهة:
قال شيخ المفسرين البيانيين الإمام جار الله محمود بن عمر الزمخشرى يقول: " أبدل الذين ظلموا من " واو " " وأسروا " إشعارًا بأنهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسروا به.
أو جاء على لغة من قال: أكلونى البراغيث.
أو هو منصوب المحل على الذم.
أو هو مبتدأ خبره " وأسروا النجوى " قُدِّم عليه والمعنى:
هؤلاء أسروا النجوى. فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلاً على فعلهم بأنه ظلم (3).
ذكر الإمام ـ رحمه الله ـ فى توجيه هذا التركيب أربعة آراء كلها صحيح فصيح:
الأول: إن " الذين ظلموا " بدل كل من كل من معنى " الواو " فى " أسروا " لأنه واو جماعة معناه الجمع.
الثانى: إنه جاء على لغة بعض القبائل العربية ، التى تجمع بين الضمير إذا وقع فاعلاً وبين ما يفسره.
وعليه جاء الحديث الشريف: [ يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل ، وملائكة بالنهار ] (4).
الثالث: أن يكون فى محل نصب على الذم ، على تقدير فعل محذوف هو: أذم أو أخص الذين ظلموا بالذم.
الرابع: أن يكون هو المبتدأ ، وما قبله خبر عنه ، أى الذين ظلموا أسروا النجوى.
أما الذى اقتضى تقديم خبره عليه " أسروا النجوى " فهو التسجيل عليهم بقبح ظلمهم وفحوشته. وهذا كله كلام طيب فى غاية النفاسة.
ويردد الإمام الشوكانى ما قاله الإمام جار الله ـ رحمه الله ـ ويضيف إلى ما قاله جديداً ، ومن هذا الجديد: " إن الذين ظلموا " فاعل لفعل محذوف تقديره: يقول الذين ظلموا.
ثم يورد على لغة " أكلونى البراغيث " آية أخرى من كتاب الله ، هى قوله عز وجل: (ثم عموا وصموا كثير منهم ) (5).
فقد جُمِعَ فى الآية بين الضمير ، وهو " الواو " فى " عموا " و "صموا " وبين الاسم الظاهر " كثير ".
كما ذكر قول الشاعر:
ولكن ديافى أبـوه وأمــه
بحوران يعصرن السليط أقاربـه (6)
والشاهد فى البيت حيث جَمَع الشاعر ، وهو عربى فصيح يحتج بكلامه بين نون النسوة فى " يعصرن " وهو فاعل لـ " يعصر " وبين الاسم الظاهر " أقاربه " وليس فى الكلام إلا فعل واحد يكفى فيه فاعل واحد (7).
وفى المسألة مذاهب أخرى ، منها:
* إن " الذين ظلموا " هى الفاعل ، أما " الواو " فهى علامة جمع الفاعل لا غير ، وأن العرب كانت تفعل ذلك حتى فى المثنى ، فيقولون:
قاما أخواك. كما استشهد من ذهب هذا المذهب بقول الشاعر:
يلوموننى فى اشتراء النخيـل
قومى ، فكلهمو يعـزل
حيث جمع بين " الواو " فى " يلوموننى " وبين الاسم الظاهر فى " قومى" (8).
هذا ما قاله المفسرون وبعض النحاة فى هذا التركيب وتخريجه على عدة وجوه من الصحة. دون أن يكون عندهم علم بأن بعضاً من الناس ، سيأتون ويقولون مثل ما قال مثيرو هذه الشبهات ، مع جهلهم المركب بلغة التنزيل وخصائصها التعبيرية والبيانية ، وهم فيها عوام أو أشباه عوام.
والخلاصة:
ما تقدم من الرد على هذه الشبهة يريك إلى أى مدىً تعسف هؤلاء المغالون فى التحامل على القرآن ، المسرفون فى إظهار الحقد عليه والطعن فيه ، إنهم مثل الذى يريد أن يعبر محيطاً بقارب مصنوع من " البوص " ، دون أن يكون لهم رادع من أنفسهم يحفظون به ماء وجوههم إن كان فى وجوههم ماء.
وقبل أن نودع الحديث فى الرد عليهم على ما أثاروه حول الآية نضيف إلى ما ذكره الأئمة إضافتين من حيث التوجيه البلاغى:
إحداهما: إن فى أساليب علم المعانى ، وهو أحد علوم البلاغة الثلاثة (المعانى ـ البيان ـ البديع) أسلوباً لا يعرف عنه مثيرو هذه الشبهات شيئاً ، هو ما يسميه البلاغيون بـ " الاستئناف البيانى ".
وضابط هذا الأسلوب أن تتقدم جملة من الكلام تثير فى ذهن السامع تساؤلاً لطيفاً يدب فى نفسه أو يسرى سريان الماء فى العود الأخضر ، فتأتى جملة أخرى تجيب على ذلك التساؤل ، الذى ليس له صورة فى الكلام. بل هو يبرق كالشعاع فى ذهن السامع ومن أمثلته فى القرآن:
(وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوعُ مصبحين ) (9). فجملة " أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين " جواب على سؤال تقديره: ما هو ذلك الأمر الذى قضاه الله (10).
ومثله قوله تعالى: (فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ) (11).
فجملة " فوسوس إليه الشيطان " أثارت فى النفس تساؤلاً لطيفاً " ماذا قال الشيطان لآدم ؟ فكان الجواب:
(قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى (.
هذا هو الاستئناف البيانى عند البلاغيين وهو ـ مرة أخرى ـ:
" تنزيل جملة منزلة جواب على سؤال تضمنته الجملة التى قبلها ".
والآية التى معنا: (وأسروا النجوى الذين ظلموا (جرت على نسق الاستئناف البيانى الذى عرفته ، لأن جملة (وأسروا النجوى (تثير فى النفس التساؤل نفسه: مَنْ هم الذين (أسروا النجوى (؟ فكان الجواب: (الذين ظلموا (.
لا يقال: إن هذا السؤال لا يقتضى المقام إثارته لأن مرجع الضمير ، وهو " الواو " فى " أسروا " مذكور قبله فى قوله تعالى:
(اقترب للناس حسابهم وهم فى غفلة معرضون * ما يأتيكم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون * لاهية قلوبهم.. ) (12).
لأنا نقول: إن الوقائع المذكورة فى مطلع السورة ، وقائع عامة ، هى أحوال للناس جميعاً ، إلا من عصمه الله.
أما إسرار النجوى ، فهى واقعة خاصة وقعت من مشركى العرب ، فليس " الناس " قبلها هم فاعليها ، بل فاعلوها هم الذين قالوا:
(??? هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ) (13).
وعلى هذا فإن " الذين ظلموا ليس فاعلا لـ " أسروا " وإنما فاعل " أسروا " الواو.
أما " الذين ظلموا " فواقعه فى كلام جديد ، هو خبر عن جلة السؤال: من هم الذين أسروا النجوى ؟
وهذا وجه آخر يرد به على مثيرى هذه الشبهة المتعالمين وهم جاهلون.
أما الإضافة الثانية ، فهى أسلوب آخر من أساليب البلاغة العربية ، مفتاح الإعجاز المفحم.
ذلك الأسلوب تحدث عنه شيخ البلاغيين بلا منازع الإمام عبد القاهر الجرجانى ، وأسماه:
" الإضمار على شريطة التفسير " (14).
وضابط هذا الأسلوب هو أن تأتى بالضمير أولاً ثم تفسره بعد ذلك بذكر مرجعه. ومن أمثلته شعرًا قول الشاعر:
هى الدنيا تقول بملء فيهـــا
حذار حذار من بطشى وفتكـى
ولا يغرُركمُ منى ابتســــام
فقولى مضحك والفعل مبكــى
وتخريج الآية " وأسروا النجوى الذين ظلموا " على هذا الأسلوب سائع رائع.
فقد أتى بالضمير أولاً " وأسروا " ثم فسره ثانياً هكذا " الذين ظلموا ".
وبلاغة هذا الأسلوب هى تحريك الشعور ، وتشويق النفس إلى عقبى الكلام كيف تكون ، فيتمكن المعنى المسوق من أجله الكلام فى النفوس كل التمكن ؛ لأن النفس إذا ظفرت بالشىء بعد انتظاره استقر ذلك الشىء فيها.
هذه الخصائص البيانية محرومٌ منها مثيرو هذه الشبهات ؛ لأنهم يجهلونها. والناس ـ كما جاء فى المثل ـ أعداء ما جهلوا.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) ليست هذه عبارتهم ، بل هى تعبير بديل من عندنا عنها. أما عبارتهم فهى " أتى بضمير فاعل مع وجود فاعل " وهى خطأ ـ كما ترى ـ لأنه لا مانع من الإتيان بضمير فاعل عائد على الفاعل فى الكلام الفصيح مثل: جاء صديقى الكريم خُلقه.
(2) الأنبياء: 3.
(3) الكشاف (2/562).
(4) رواه الشيخان: البخارى ومسلم.
(5) المائدة: 71.
(6) دياف وحوران: موضعان. والسليط: الزيت.
(7) فتح القدير (3/469-470).
(8) الدر المصون (8/132-133).
(9) الحجر: 66.
(10) انظر: الإيضاح للخطيب القزوينى: مبحث الفصل والوصل.
(11) طـه: 120.
(12) الأنبياء: 1-3.
(13) الأنبياء: 3.
(14) دلائل الإعجاز (163) تحقيق الشيخ العلامة محمود محمد شاكر ، مكتبة الخانجى ، القاهرة.
-------------------------------------------------------------------------------
والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل
اولا شبهات تثار حول القران الكريم(32- الإتيان بالضمير العائد على المثنى مفردًا )
32- الإتيان بالضمير العائد على المثنى مفردًا
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يُرضوه إن كانوا مؤمنين ) (1).
ذكروا هذه الآية ، ولفت نظرهم ذكر الله ، ثم ذكر رسوله معطوفاً عليه، ثم إيقاع الفعل " يُرضى " على الضمير المفرد، وهو " الهاء " فى " يُرضوه " وهو شاهدهم فى هذه الشبهة ، ثم قالوا:
" فلماذا لم يثنِّ الضمير العائد على الاثنين ، اسم الجلالة ورسوله فيقول: أن يُرضوهما " ؟!
الرد على الشبهة:
هذه الآية ، والتركيب الذى حسبوه أو عاندوا وقالوا إنه خطأ لغوى نحوى ، إنما هى لمحة قرآنية تتعلق بعقيدة توحيد الله عز وجل.
ومثيرو هذه الشبهات ، لا يعرفون عن حقيقة " التوحيد " شيئاً ، وضوابطهم فيه مثل الغربال إذا وضع فيه سائل لا يبقى فيه منه شىء.
وقد فات هؤلاء أمر عظيم ، ترتب عليه جهل شنيع ذلك أنهم لم يعرفوا أصلاً ، أو لم يستحضروا فى أذهانهم وهم يسطرون هذه الشبهة ، متى يُثنَّى المعدود ، ومتى يجمع ، ومتى يظل مفرداً.
وهى من البديهات ، بيان ذلك: أن هناك شرطاً موضوعيًّا فى تثنية المعدود وجمعه ذلك الشرط هو:
التجانس بين الأفراد فى الواقع ، فقَلَم يثنى فيقال: قلمان ويجمع فيقال أقلام.
لكن حماراً ـ مثلاً ـ لا يثنى مع القلم ولا يجمع ، لأنك لو ثنيت القلم والحمار ، فقلت قلمان ، أو حماران ، وأنت تريد قلماً وحماراً لم يفهم أحدٌ من العقلاء ما تريد.
وحتى الرجل والمرأة ، وهما فردان بينهما تجانس من جهة ، واختلاف من جهة أخرى. فإنك لا تستطيع أن تثنيهما فتقول: رجلان ، أو تقول: امرأتان ، وأنت تريد رجلاً وامرأة. هذا لا يجوز عند العقلاء ، ولا يجوز فى الواقع الذى يحسه الناس ويحترمونه.
هذا التمهيد ضرورى جدًّا لبيان لماذا ورد فى القرآن " أن يُرضوه " دون أن يُرضوهما كما اقترح مثيرو هذه الشبهات ؟
وذلك لأنه ليس بين الله ، وبين رسوله ، ولا بين الله وبين أىِّ شىء فى الوجود تجانس من أى نوع من الأنواع.
فالله هو الفرد الصمد ، الواحد الأحد ، الذى لم يلد فليس له ولد ، ولم يولد فليس له أم ولا أب. هو الخالق البارئ المصوِّر ، ليس له كفواً أحد ، وليس كمثله شىء فى الوجود وغيره ، هو المخلوق المبروء المصوَّر (اسم مفعول).
من أجل هذا ؛ فإن الله لا يُجمَع ولا يُثنىَّ. لا فى ذاته ولا مع أحدٍ من خلقه.
وعلى هذا جرى بيان القرآن المعجز ، فلم يقل كما يقترح هؤلاء الغافلون:
والله ورسوله أحق أن يُرضوهما. لأن الله ليس فرداً من جنس الأفراد الذين ينتمى إليهم رسوله صلى الله عليه وسلم .
بل هو فرد لا مثيل له فى الوجود أبداً ، فلا يكون مع غيره ثانى اثنين ، أو ثالث ثلاثة ، تعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا.
فالخطأ كل الخطأ هو ما توهمه مثيرو هذه الشبهات. أما ما عليه النظم القرآنى الحكيم ، فهو ليس كل الصواب فحسب ولكنه الإعجاز المفحم ، فى أَجْلَى معارضه ، وآلق آفاقه ومَنْ أحسن من الله حديثاً.
التوحيد فى القرآن عقيدة متمكنة فى الواقع الخارجى مستقرة كل الاستقرار فى قلوب المؤمنين.
وهو ـ كذلك ـ عقيدة فى البيان القرآنى ، فلم يأت الله فى لغة القرآن إلا واحداً أحدًا ، ليس اثنين ، وليس ثلاثة (ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ) (2) وليس ما لفت أنظار مثيرى هذه الشبهات فى الآية المتقدمة هو الوحيد فى القرآن ، بل له نظائر عميت عنها أبصارهم وبصائرهم:
ففى الآية الثالثة من سورة التوبة نفسها ، ورد قوله تعالى:
(.. أن الله برئ من المشركين ورسوله.. ) (3).
لم يقل: إن الله ورسوله بريئان من المشركين ، لأن وصف الله بالبراءة من المشركين ، وصف توحيدى تابع للواحد الأحد ، الذى ليس له مثيل فى كل الوجود.
ولذلك قال: " أن الله برئ من المشركين ورسوله " أى ورسوله برئ منهم ، والذى دل على هذا ، ما ذكره فى جانب الله أولاً.
كما تقول: محمد (من أُولى العزم من الرسل ، وموسى عليه السلام ، أى وموسى من أُولى العزم من الرسل. تثبت الوصف المحذوف لموسى ، استناداً إلى ذكر ذلك الوصف خبراً عن محمد ، عليهما الصلاة والسلام. هذا ما يفهمه العقلاء من بليغ الكلام.
وفى سورة التوبة نفسها ـ كذلك ـ ورد قوله تعالى: (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنَّا إلى الله راغبون ) (4).
روعيت عقيدة التوحيد فى النظم القرآنى المعجز المفحم فى ثلاثة مواطن:
الأول: " ما آتاهم الله ورسوله " حيث عطف رسوله على اسم الجلالة ، دون عود ضمير مثنى.
الثانى: " حسبنا الله " دون عطف رسوله على اسم الجلالة. لأن الحسب لا يكون إلا لله.
الثالث: " سيؤتينا الله من فضله ورسوله " دون أن يُثَنِّى فيقول: من فضلهما.
وإنما عُطِف " رسوله " بعد تمام الجملة الأولى.
ثم حذف من جملة " ورسوله " ما دل عليه الكلام السابق ، أى:
وسيؤتينا رسوله من فضله.
هذا هو التوحيد فى القرآن ، دقة وإحكام ، ومبالغة فى تنزيه الله عن المساوى والمثيل والكفء حتى فى اللفظ توحيد نقى ، خالص ، مبرأ عن الشبهات المعنوية ومبرأ عن الشبهات اللفظية.
ولم يرد فى القرآن الحكيم اسم يكون ثانياً لله ، ولا اسم يكون ثالثاً لله ، لا فى المعانى ، ولا فى الألفاظ وذلك هو التوحيد الخالص. رسالة كل الرسل والأنبياء.
والخلاصة:
أن فى الآية أسلوب الإيجاز البليغ لأن معناها الذى لم يهتدوا إليه هو: " والله أحق أن يُرضوه ورسوله أحق أن يرضوه " فحُذف " أحق أن يرضوه " من الأول ، لدلالة الثانى " ورسوله أحق أن يرضوه " عليه.
وهذا فن بلاغى يطلقون عليه: " الاحتباك " وهو نوعان:
الأول: أن يحذف كلام من جملة أولى ويذكر ما يدل عليه فى جملة ثانية جاءت بعدها مباشرة. مثل الآية التى اتخذوها منشأ لهذه الشبهة.
والثانى: أن يحذف من جملة ثانية كلام يدل عليه ما ذكر فى الجملة التى قبلها ، ومثاله قوله تعالى: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً.. ) (5).
والمعنى: والنهار مبصراً ليسعوا فيه ، فحذف لأن " ليسكنوا " دليل قوى عليه.
وقد تلحظ حذفاً من الأول ـ كذلك ـ لدلالة الثانى عليه ، وهو: مظلماً ، أى جعلنا الليل مظلماً ، وحذف لأن ما فى الثانى ، وهو " مبصراً " دليلاً عليه.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) التوبة: 62.
(2) سورة ص: 27.
(3) التوبة: 3.
(4) سورة: 59.
(5) النمل: 86.
-------------------------------------------------------------------------------
والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل
اولا شبهات تثار حول القران الكريم(33- الإتيان بالجمع مكان المثنى )
33- الإتيان بالجمع مكان المثنى
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين ) (1).
والشاهد فى الآية عندهم هو " قلوبكما " حيث جاء المضاف (قلوب) جمعا ، والمضاف إليه " كما " مثنى. والمتحدث عنه فى قوله تعالى: " تتوبا " مثنى كذلك. وقد علقوا على هذا فقالوا: " لماذا لم يقل: قلباكما " لأنه ليس للاثنين أكثر من قلبين " ؟!
الرد على الشبهة:
العرب كانوا يستثقلون اجتماع تثنيين فى كلمة واحدة ، فيعدلون عن التثنية إلى الجمع ، لأن أول الجمع عندهم الاثنان.
ومما قاله أئمة اللغة والنحو فى جمع " قلوب " فى الآية قولهم:
و " قلوبكما " من أفصح الكلام حيث أوقع الجمع موقع المثنى ، استثقالاً لمجئ تثنتين لوقيل " قلباكما " (2).
ومثل هذه الآية قوله تعالى:
(والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) (3).
فقد أوقع الجمع " أيدى " موقع المثنى: يدى. جرياً على سُنة العرب فى كلامهم ، والقرآن بلغتهم نزل ولا يُفهم من هذا أن الجمع حل محل التثنية لإصلاح اللفظ فحسب ، وإن كان إصلاح اللفظ وإحلال الخفيف منه محل الثقيل سببًا مقبولاً كافيًا فى توجيه هذا الاستعمال بيد أننا لو أنعمنا النظر ، وأعملنا الفكر لظفرنا بمعانٍ أخرى غير إصلاح اللفظ ، هذه المعانى يومئ إليها برفق مجىء الجمع فىمقام التثنية. وسيأتى البيان بعد قليل.
والخلاصة(4):
اتضح لنا مما تقدم أن قوله تعالى " قلوبكما " من أفصح الكلام ، وليس صحيحاً فحسب ، ولكن ضآلة حظ مثيرى هذه الشبهات من اللغة العربية ، هى التى جعلتهم يهرفون بما لا يعرفون ، ويتعالمون وهم أميون.
أما ما يعود على المعنى من وضع الجمع موضع التثنية فوق إصلاح اللفظ كما تقدم ، فبيانه فيما يأتى:
ولنبدأ بآية المائدة ، نجد أن لجمع الأيدى دلالة على الجمع فعلاً ، وذلك من جهتين:
الأولى: أن المراد من " السارق " و " السارقة " ليس فردين ، بل نوعين:
* الذى يسرق من الرجال ، سواء كان واحداً أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو ألف وهكذا ؛ لأن المراد النوع لا الفرد.
* التى تسرق من النساء ، لا على سبيل الفردية (امرأة) واحدة ولكن كل من ينطبق عليها وصف السرقة. فالسارقون لا يحصرون فى عدد معين ، من عصر نزول القرآن إلى يوم القيامة.
والسارقات لا يحصرن فى عدد محدد ، بل هن جمع لا يعلمه إلا الله.
فأنت ترى أن اللفظ فى " السارق " و " السارقة " وإن كان مفرداً ، فهو من حيث المعنى جمع لا حصر له فى النوعين معاً: الذكور والإناث.
الجهة الثانية: إن السارق أو السارقة قد تتكرر منهما السرقة ، فيقام عليهما الحد مرة أخرى بقدر مرات السرقة.
وعلى كلا الوضعين (الجهة الأولى والجهة الثانية) تكون كلمة: " أيدى " جمعا. مضافة إلى الضمير " هما " فيها دلالة ملحوظة على الجمع كما رأيت. وهذا ما لا يهتدى إليه أمثال مثيرى هذه الشبهات.
أما آية " التحريم " فقد فسرها العلماء تفسيرين:
أحدهما: أن " صغت " بمعنى: زاغت وأثمت ، وهذا تفسير ابن عباس رضى الله عنه (5).
وعلى هذا يكون مجىء القلبين جمعاً فيه تهويل وتفظيع لما حدث من زوجتى النبى صلى الله عليه وسلم ، من إفشاء سره عليه السلام، لأن فى ذلك ما يؤذيه صلى الله عليه وسلم (6).
أما التفسير الثانى فهو قريب من الأول ، وهو: " إن صغت " بمعنى زاغت أى مالت عن الحق والصواب (7) وتوجيهه توجيه التفسير الأول.
وفى الآيتين معنى لطيف غاية فى الطرافة والروعة والإعجاز وهو مراعاة اللفظ والمعنى معاً.
مراعاة اللفظ فى تثنية المضاف إليه ، وهو " هما " فى " أيديهما " و"كما" فى " قلوبكما ".
ثم مراعاة المعنى فى جمع الأيدى والقلوب.
فتثنية الضمير المضاف إليه فيهما جاءت حملاً على اللفظ فى: "السارق والسارقة ".
وجمع الأيدى والقلوب جاء حملاً على المعنى المفهوم من إيحاءات المقام على وجه الحقيقة فى جمع الأيدى.
والمفهوم من المقام على وجه التنزيل التهويلى فى جمع القلوب.
أجل: إن القرآن لا تنتهى عجائبه ، ولا تجف ينابيعه ، لأنه تنزيل من حكيم حميد.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) التحريم: 4.
(2) الدر المصون (10/366).
(3) المائدة: 38.
(4) انظر: المصدر نفسه (4/262).
(5) فتح القدير للإمام الشوكانى (5/301).
(6) انظر:القصة بتمامها فى كتاب من كتب التفسير: تفسير سورة " التحريم " ؛ وليكن السابق ـ مثلاً.
(7) الدر المصون (10/265).
-------------------------------------------------------------------------------
والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل
اولا شبهات تثار حول القران الكريم(34- نصبُ المضاف إليه )
34- نصبُ المضاف إليه !
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (ولئن أذقناه نعماء بعد ضراءَ مسته ليقولن ذهب السيئات عنى إنه لفرح فخور ) (1).
وشاهدهم فى هذه الآية هى كلمة " ضراءَ " وهى مضاف إليه ، والمضاف هو كلمة " بعد " وقد رأوا فتحة بعد " الراء " فوق الهمزة من كلمة " ضراءَ " فأملى عليهم جهلهم أن القرآن أخطأ فنصب المضاف ، وهو من حقه أن يُجر ؟!
ثم قالوا: (وكان يجب أن يجر المضاف إليه فيقول: " بَعْدَ ضراءِ ").
الرد على الشبهة:
المضاف إليه فى الآية " ضراءَ " مجرور لا منصوب ، وهو ممنوع من الصرف ، والمانع له من الصرف ألف التأنيث الممدودة. وتلاميذ الإعدادى يعرفون أن الممنوع من الصرف يُجر بالفتحة نيابة عن الكسرة. ولذلك وضعت الفتحة فوق الهمزة بعد الراء. فهذه الفتحة علامة جر لا علامة نصب. والممنوع من الصرف لا يجر بالفتحة إلا فى حالتين:
أن يكون مضافاً ، أو معرفاً بالألف واللام.
و " ضراء " فى الآية ليست مضافاً ، ولا معرفة بالألف واللام. وفى جر الممنوع من الصرف يقول ابن مالك:
وجر بالفتحة ما لا ينصـرف
ما لم يضف أو يك بعد أل ردف
--------------------------------------------------------------------------------
(1) هود: 10.
-------------------------------------------------------------------------------
والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل
اولا شبهات تثار حول القران الكريم(35- هل تناقض القرآن فى مادة خلق الإنسان ؟ )
35- هل تناقض القرآن فى مادة خلق الإنسان ؟
يعطى القرآن معلومات مختلفة عن خلق الإنسان.. من ماء مهين (المرسلات: 20) من ماء (الأنبياء: 30).. من نطفة (يس: 77).. من طين (السجدة: 7).. من علق (العلق: 2).. من حمأ مسنون (الحجر: 26).. ولم يك شيئًا (مريم: 67).
فكيف يكون كل ذلك صحيحًا فى نفس الوقت ؟ (انتهى).
الرد على الشبهة:
ليس هناك أدنى تناقض بل ولا حتى شبهة تناقض بين ما جاء فى القرآن الكريم من معلومات عن خلق الإنسان.. وحتى يتضح ذلك ، يلزم أن يكون هناك منهج علمى فى رؤية هذه المعلومات ، التى جاءت فى عديد من آيات القرآن الكريم.. وهذا المنهج العلمى يستلزم جمع هذه الآيات.. والنظر إليها فى تكاملها.. مع التمييز بين مرحلة خلق الله للإنسان الأول آدم ـ عليه السلام ـ ومرحلة الخلق لسلالة آدم ، التى توالت وتكاثرت بعد خلق حواء ، واقترانها بآدم ، وحدوث التناسل عن طريق هذا الاقتران والزواج..
* لقد خلق الله ـ سبحانه وتعالى ـ الإنسان الأول ـ آدم ـ فأوجده بعد أن لم يكن موجودًا.. أى أنه قد أصبح " شيئًا " بعد أن لم يكن " شيئًا " موجودًا.
وإنما كان وجوده فقط فى العلم الإلهى.. وهذا هو معنى الآية الكريمة (أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئًا ) (1).
* أما مراحل خلق الله ـ سبحانه وتعالى ـ لآدم.. فلقد بدأت بـ [ التراب ] الذى أضيف إليه [ الماء ] فصار [ طينًا ] ثم تحول هذا الطين إلى [ حمأ ] أى أسود منتنًا ، لأنه تغير والمتغير هو [ المسنون ].. فلما يبس هذا الطين من غير أن تمسه النار سمى [ صلصالاً ] لأن الصلصال هو الطين اليابس من غير أن تمسه نار ، وسمى صلصالاً لأنه يصلّ ، أى يُصوِّت ، من يبسه أى له صوت ورنين.
وبعد مراحل الخلق هذه ـ التراب.. فالماء.. فالطين.. فالحمأ المسنون.. فالصلصال ـ نفخ الله سبحانه وتعالى فى " مادة " الخلق هذه من روحه ، فغدا هذا المخلوق " إنسانًا " هو آدم عليه السلام.
* وعن هذه المراحل تعبر الآيات القرآنية ، فتصور تكامل المراحل ـ وليس التعارض المتوهم والموهوم ـ فتقول هذه الآية الكريمة: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ) (2). فبالتراب كانت البداية (الذى أحسن كل شىء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ) (3). وذلك عندما أضيف الماء إلى التراب (فاستفتهم أهم أشد خلقًا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب ) (4) وذلك عندما زالت قوة الماء عن الطين ، فأصبح " لازبًا " أى جامدًا.
* وفى مرحلة تغير الطين ، واسوداد لونه ، ونتن رائحته ، سمى [ حمأً مسنونًا ] ، لأن الحمأ هو الطين الأسود المنتن.. والمسنون هو المتغير.. بينما الذى (لم يَتَسَنَّه) هو الذى لم يتغير.. وعن هذه المرحلة عبرت الآيات: (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون * والجان خلقناه من قبل من نار السموم * وإذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرًا من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين * قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين * قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين ) (5).
تلك هى مراحل خلق الإنسان الأول ، توالت فيها وتتابعت وتكاملت معانى المصطلحات: التراب.. والماء.. والطين.. والحمأ المسنون.. والصلصال.. دونما أية شبهة للتعارض أو التناقض.
* وكذلك الحال والمنهاج مع المصطلحات التى وردت بالآيات القرآنية التى تحدثت عن خلق سلالة آدم ـ عليه السلام ـ.
فكما تدرج خلق الإنسان الأول آدم من التراب إلى الطين.. إلى الحمأ المسنون.. إلى الصلصال.. حتى نفخ الله فيه من روحه.. كذلك تدرج خلق السلالة والذرية بدءاً من [ النطفة ] ـ التى هى الماء الصافى ـ ويُعَبَّرُ بها عن ماء الرجل [ المنىّ ].. إلى [ العَلَقَة ] التى هى الدم الجامد ، الذى يكون منه الولد ، لأنه يعلق ويتعلق بجدار الرحم إلى [ المضغة ] وهى قطعة اللحم التى لم تنضج ، والمماثلة لما يمضغ بالفم.. إلى [ العظام ].. إلى [ اللحم ] الذى يكسو العظام.. إلى [ الخلق الآخر ] الذى أصبح بقدرة الله فى أحسن تقويم (6).
ومن الآيات التى تحدثت عن توالى وتكامل هذه المراحل فى خلق وتكوين نسل الإنسان الأول وسلالته ، قول الله سبحانه وتعالى: (يا أيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر فى الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدّكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئًا ) (7).
وقوله سبحانه: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا ثم أنشأناه خلقًا آخر * فتبارك الله أحسن الخالقين ) (8).
* وإذا كانت [ النطفة ] هى ماء الرجل.. فإنها عندما تختلط بماء المرأة ، توصف بأنها [ أمشاج ] ـ أى مختلطة ـ كما جاء فى قوله تعالى: (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعًا بصيرًا ) (9).
* كما توصف هذه [ النطفة ] بأنها [ ماء مهين ] لقلته وضعفه.. وإلى ذلك تشير الآيات الكريمة: (الذى أحسن كل شىء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ) (10). (ألم نخلقكم من ماء مهين * فجعلناه فى قرار مكين * إلى قَدَرٍ معلوم * فقدرنا فنعم القادرون ) (11).
* وكذلك ، وصفت [ النطفة ] ـ أى ماء الرجل ـ بأنه [ دافق ] لتدفقه واندفاعه.. كما جاء فى الآية الكريمة (فلينظر الإنسان مِمَّ خلق * خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب والترائب ) (12).
هكذا عبر القرآن الكريم عن مراحل الخلق.. خلق الإنسان الأول.. وخلق سلالات وذريات هذا الإنسان..
وهكذا قامت مراحل الخلق ، ومصطلحات هذه المراحل ، شواهد على الإعجاز العلمى للقرآن الكريم. عندما جاء العلم الحديث ليصدق على هذه المراحل ومصطلحاتها ، حتى لقد انبهر بذلك علماء عظام فاهتدوا إلى الإسلام.
فكيف يجوز ـ بعد ذلك ومعه ـ أن يتحدث إنسان عن وجود تناقضات بين هذه المصطلحات.. لقد صدق الله العظيم إذ يقول: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا ) (13).
--------------------------------------------------------------------------------
(1) مريم: 67.
(2) آل عمران: 59.
(3) السجدة: 7.
(4) الصافات: 11.
(5) الحجر: 26ـ35. انظر معانى المصطلحات الواردة فى هذه الآيات فى: الراغب الأصفهانى أبو القاسم الحسين بن محمد [ المفردات فى غريب القرآن ] طبعة دار التحرير ـ القاهرة ـ سنة 1991م و[ لسان العرب ] ـ لابن منظور ـ طبعة دار المعارف ـ القاهرة.
(6) انظر فى معانى هذه المصطلحات [ المفردات فى غريب القرآن ] ـ مصدر سابق ـ.
(7) الحج: 5.
(8) المؤمنون: 12ـ14.
(9) الإنسان: 2.
(10) السجدة: 7ـ8.
(11) المرسلات: 20ـ23.
(12) الطارق: 5ـ7.
(13) النساء: 82.
-------------------------------------------------------------------------------
والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل
اولا شبهات تثار حول القران الكريم(36- حول موقف القرآن من الشرك بالله )
36- حول موقف القرآن من الشرك بالله
يوضح القرآن أن الله لا يغفر أن يشرك به (سورة النساء آية: 48). ومع ذلك فقد غفر الله لإبراهيم ـ عليه السلام ـ بل جعله نبيّا رغم أنه عبد النجوم والشمس والقمر (الأنعام: 76ـ78). فما الإجابة ؟ (انتهى).
الرد على الشبهة:
الشرك محبط للعمل: (قل أفغير الله تأمرونى أعبد أيها الجاهلون * ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ) (1) (إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثمًا عظيمًا ) (2).
والأنبياء والرسل هم صفوة الله من خلقه ، يصطفيهم ويستخلصهم ، ويصنعهم على عينه ، وينزههم حتى قبل البعثة لهم والوحى إليهم عن الأمور التى تخل بجدارتهم للنبوة والرسالة.. ومن ذلك الشرك ، الذى لو حدث منهم واقترفوه لكان مبررًا لغيرهم أن يقترفه ويقع فيه.. ولذلك ، لم يرد فى القرآن الكريم ما يقطع بشرك أحد من الأنبياء والرسل قبل بعثته.. بمن فى ذلك أبو الأنبياء وخليل الرحمن إبراهيم ـ عليه السلام ـ.
أما الآيات التى يشير إليها السؤال.. وهى قول الله سبحانه وتعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصنامًا آلهة إنى أراك وقومك فى ضلال مبين * وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين * فلما جن عليه الليل رأى كوكبًا قال هذا ربى فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغًا قال هذا ربى فلما أفل قال لئن لم يهدنى ربى لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربى هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إنى برئ مما تشركون * إنى وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين * وحاجّه قومه قال أتحاجّونى فى الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربى شيئًا وسع ربى كل شىء علمًا أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانًا فأى الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون * الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون * وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ) (3).
أما هذه الآيات ، فليس فيها دليل على أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ قد مر بمرحلة شرك ، وحاشا لله أن يقع فى ذلك، وإنما هى تحكى كيف آتى الله إبراهيم الحجة على قومه.. حجة التوحيد ، ودحض الشرك.. فهى حجاج وحوار يسلم فيه إبراهيم جدلاً ـ كشأن الحوار ـ بما يشركون ، لينقض هذا الشرك ، ويقيم الحجة على تهاوى ما به يحتجون ، وعلى صدق التوحيد المركوز فى فطرته.. ليخلص من هذا الحوار والحجاج والاحتجاج إلى أن الخيار الوحيد المتبقى ـ بعد هذه الخيارات التى سقطت ـ هو التوحيد..
فهو حوار التدرج من توحيد الفطرة إلى التوحيد القائم على المنطق والبرهان والاستدلال ، الذى فند دعاوى وحجج الخصوم.. والاستدلال اليقينى (وليكون من الموقنين (وليس فيه انتقال من الشرك إلى التوحيد.
تلك هى الحقيقة التى رجحها المفسرون.
* فالقرطبى ، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصارى [671هـ 1273م] يقول فى تفسيره [ الجامع لأحكام القرآن ] ـ مورد الآراء المختلفة حول هذا الموضوع:
قوله تعالى: (هذا ربى (اختلف فى معناه على أقوال ، فقيل: كان هذا منه فى مُهلة النظر وحال الطفوليّة وقبل قيام الحجة ، وفى تلك الحال لا يكون كفر ولا إيمان.
وقال قوم: هذا لا يصح ، وقالوا: غير جائز أن يكون لله تعالى رسول يأتى عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحِّد وبه عارف ، ومن كل معبود سواه برئ. قالوا: وكيف يصح أن يتوهم هذا على من عصمه الله وأتاه رشده من قبلُ ، وأراه ملكوته ليكون من الموقنين ، ولا يجوز أن يوصف بالخلو من المعرفة ، بل عرف الرب أول النظر.. وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم أنه قال: (واجنبنى وبنىّ أن نعبد الأصنام ) (4) وقال عز وجل: (إذ جاء ربه بقلب سليم ) (5) أى لم يشرك قط.. لقد قال: (هذا ربى (على قول قومه ، لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر. ونظير هذا قوله تعالى: (أين شركائى ) (6). وهو جل وعلا واحد لا شريك له ، والمعنى: أين شركائى على قولكم..
وقيل: إنما قال: (هذا ربى (لتقرير الحُجة على قومه ، فأظهر موافقتهم ، فلما أفل النجم قرّر الحُجة ، وقال: ما تَغَيَّرَ لا يجوز أن يكون ربًّا ، وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ويحكمون بها.
ومن أحسن ما قيل فى هذا ما صح عن ابن عباس أنه قال فى قوله ـ عز وجل ـ: (نور على نور ) (7) قال: كذلك قلب المؤمن يعرف الله عز وجل ويستدل عليه بقلبه ، فإذا عرفه ازداد نورًا على نور ، وكذلك إبراهيم ـ عليه السلام ـ ، عرف الله عز وجل بقلبه واستدل عليه بدلائله ، فعلم أن له ربًّا وخالقًا. فلما عرَّفه الله عز وجل بنفسه ازداد معرفة فقال: (أتحاجونى فى الله وقد هدان (.
وقيل: هو على معنى الاستفهام والتوبيخ ، منكرًا لفعلهم ، والمعنى: أهذا ربى ، أو مثل هذا يكون ربًّا ؟! فحذف الهمزة. وفى التنزيل: " (أفإن مت فهم الخالدون ) (8). أى أفهم الخالدون ؟.. " (9).
* ومع هذا الرأى أيضًا الزمخشرى ، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الخوارزمى [467 ـ 538هـ 1075 ـ 1144م ] ، صاحب تفسير [ الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل ] الذى يقول فى تفسير هذه الآيات:
" وكان أبوه آزر وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب ، فأراد أن ينبههم على الخطأ فى دينهم ، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال ، ويعرِّفهم أن النظر الصحيح مؤدٍّ إلى أن شيئًا منها لا يصح أن يكون إلها ، لقيام دليل الحدوث فيها ، وأن وراءها مُحْدِثًا أحدثها وصانعًا صنعها ومدبرًا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها ".
(هذا ربى (: قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل ، فيحكى قوله كما هو غير متعصب لمذهبه ، لأن ذلك أدعى إلى الحق وأنجى من الشَّغَب ، ثم يكرُّ عليه بعد حكايته فيبطله بالحُجة.
(لا أحب الآفلين (: لا أحب عبادة الأرباب المتغيرين من حال إلى حال ، المنتقلين من مكان إلى مكان ، المحتجبين بستر ، فإن ذلك من صفات الأجْرام.
(لئن لم يهدنى ربى (: تنبيه لقومه على أن من اتخذ القمر إلها وهو نظير الكواكب فى الأفول فهو ضال ، وأن الهداية إلى الحق بتوفيق الله ولطفه..
(إنى وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض (أى للذى دلت هذه المحدثات عليه وعلى أنه مبتدئها ومبدعها (10).
* وعلى هذا الرأى أيضًا من المحدثين ـ الشيخ عبد الوهاب النجار [ 1278ـ1360هـ ،1862ـ1941م] ـ صاحب [ قصص الأنبياء ] ـ الذى يقول: " لقد أتى إبراهيم فى الاحتجاج لدينه وتزييف دين قومه بطريقة التدرج فى الإلزام أو التدرج فى تكوين العقيدة.. " (11).
وذلك هو موقف إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ من الشرك.. لقد عصمه الله منه.. وإنما هى طريقة فى الجدال يتدرج بها مع قومه ، من منطلقاتهم ليصل إلى هدم هذه المنطلقات ، وإلى إقامة الدليل العقلى على عقيدة التوحيد الفطرية المركوزة فى القلوب.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) الزمر: 64ـ66.
(2) النساء: 48.
(3) الأنعام: 74ـ83.
(4) إبراهيم: 35.
(5) الصافات: 84.
(6) القصص: 74.
(7) النور: 35.
(8) الأنبياء: 34.
(9) [ الجامع لأحكام القرآن ] ج7 ص 25 ، 26 ، طبعة دار الكاتب العربى للطباعة والنشر ـ القاهرة 1387هـ 1967م.
(10) [ الكشاف ] ج2 ص 30 ، 31 طبعة دار الفكر ـ بيروت ـ بدون تاريخ ـ وهى طبعة مصورة عن طبعة طهران " انتشارات أفتاب ـ تهران " وهى الأخرى بدون تاريخ للطبع.
(11) [ قصص الأنبياء ] ص 80 طبعة دار إحياء التراث العربى ـ بيروت ـ لبنان ـ بدون تاريخ للطبع.
-------------------------------------------------------------------------------
والله من وراء القصد
اولا شبهات تثار حول القران الكريم(37- حول عصيان إبليس وهو من الملائكة الذين لا يعص)
37- حول عصيان إبليس وهو من الملائكة الذين لا يعصون الله
يؤكد القرآن أنه لا يمكن للملائكة أن تعصى الله [ التحريم: 6 ] ومع ذلك فقد عصى إبليس الذى كان من الملائكة ، كما فى الآية [ البقرة: 34 ] فأيهما صحيح ؟. (انتهى).
الرد على الشبهة:
الملائكة مخلوقات مجبولة على طاعة الله وعبادته والتسبيح له وبه.. فهم لا يعصون الله سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) (1).
ومع تقرير هذه الآية أن هؤلاء الملائكة القائمين على النار [ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ] يقرر القرآن الكريم أن إبليس ـ وهو من الملائكة ـ فى قمة العصيان والعصاة: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين ) (2).
وهناك إمكانية للجمع بين معانى الآيتين ، وذلك بأن نقول: إن عموم الملائكة لا يعصون الله ـ سبحانه وتعالى ـ فهم مفطورون ومجبولون على الطاعة.. لكن هذا لا ينفى وجود صنف هم الجن ـ ومنهم إبليس ، شملهم القرآن تحت اسم الملائكة ـ كما وصف الملائكة أيضًا بأنهم جِنَّة ـ لخفائهم واستتارهم ـ وهذا الصنف من الجن ، منهم الطائعون ومنهم العصاة..
وفى تفسير الإمام محمد عبده [1265 ـ 1323هـ ،1849 ـ 1905م] لآية [ لبقرة: 34 ] يقول:
" أى سجدوا إلا إبليس ، وهو فرد من أفراد الملائكة ، كما يفهم من الآية وأمثالها فى القصة ، إلا آية الكهف فإنها ناطقة بأنه كان من الجن.. وليس عندنا دليل على أن بين الملائكة والجن فصلاً جوهريًا يميز أحدهما عن الآخر ، وإنما هو اختلاف أصناف ، عندما تختلف أوصاف. فالظاهر أن الجن صنف من الملائكة. وقد أطلق القرآن لفظ الجنَّة على الملائكة ، على رأى جمهور المفسرين فى قوله تعالى: (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ) (3). وعلى الشياطين فى آخر سورة الناس " (4).
ونحن نجد هذا الرأى أيضًا عند القرطبى ـ فى تفسيره [ الجامع لأحكام القرآن ] فيقول:
" وقال سعيد بن جبير: إن الجن سِبْط من الملائكة ، خلقوا من نار ، وإبليس منهم ، وخُلق سائر الملائكة من نور.. والملائكة قد تسمى جنا لاستتارها. وفى التنزيل: (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ) (5) وقال الشاعر أعشى قيس ـ فى ذكر سليمان ـ عليه السلام:
وسَخَّر من جنّ الملائكة تسعة قيامًا لديه يعملون بلا أجر (6).
فلا تناقض إذًا بين كون الملائكة لا يعصون الله.. وبين عصيان إبليس.. وهو من الجن ، الذين أطلق عليهم اسم الملائكة ـ فهو مثله كمثل الجن هؤلاء منهم الطائعون ومنهم العصاة.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) التحريم: 6.
(2) البقرة: 34.
(3) الصافات: 158.
(4) [ الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده ] ج4 ص 133 ، دراسة وتحقيق. د. محمد عمارة ، طبعة دار الشروق. القاهرة 1414هـ 1993م.
(5) الصافات: 158.
(6) [ الجامع لأحكام القرآن ] ج1 ص294 ، 295 مصدر سابق.
--------------------------------------------------------------------------------
والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل
اولا شبهات تثار حول القران الكريم(38- حول عصيان البشر)
38- حول عصيان البشر: مع أنهم من المخلوقات الطائعة القانتة لله
كل المخلوقات فى السموات والأرض طائعة وقانتة لله تعالى [ الروم: 26 ] ومع ذلك نجد حالات كثيرة من عدم الطاعة من جانب البشر مثلاً: [ الحاقة: 10 ]. (انتهى).
الرد على الشبهة:
كل المخلوقات فى السموات والأرض ، طائعة وقانتة لله ـ سبحانه وتعالى ـ (وله من فى السموات والأرض كل له قانتون ) (1).
فهم قانتون لله ، أى خاضعون ومطيعون لإرادته ـ سبحانه وتعالى ـ ومع ذلك يشهد الواقع ، وتحكى الآيات القرآنية الكثير من حالات العصيان وعدم الطاعة من جانب البشر وذلك من مثل قوله سبحانه: (وجاء فرعون ومن قَبْلَه والمؤتفكات بالخاطئة * فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية ) (2).
ففى هذه الآية وحدها إشارات إلى عصيان فرعون.. وعصيان من سبقه من المؤتفكات ـ أى قُرى قوم لوط ـ الذين أخذهم الله أخذة رابية ، أى زائدة فى الشدة على غيرها.
بل إن تاريخ الإنسان هو صراع بين أهل العصيان.. حتى أن المأثور النبوى الشريف قد تحدث عن أن كل بنى آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون.
فكيف يتسق شيوع العصيان فى البشر ، مع الآية القرآنية التى تحدثت عن أن كل من فى السموات والأرض قانتون ـ أى خاضعون ومطيعون ـ لله سبحانه وتعالى ؟..
إن مفتاح الإجابة عن هذا التساؤل ، هو فهم أنواع الإرادة الإلهية والقضاء الإلهى.. فالله سبحانه لا يريد العصيان ، ولا يقضى بالشر.. لكن إرادته وقضاءه نوعان:
1 ـ إرادة وقضاء تكوينى وحتمى للمخلوقات غير المُخَيَّرة.. وذلك مثل القضاء الذى تتحدث عنه الآية: (فقضاهن سبع سموات فى يومين وأوحى فى كل سماء أمرها ) (3).
(وإذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون ) (4).
ففى هذا اللون من الأمر الإلهى والقضاء الربانى تكون المخلوقات غير المختارة مجبولة على القنوت والطاعة والخضوع لله سبحانه وتعالى..
2 ـ إرادة وقضاء معهما تخيير..وذلك خاص بالإنسان المُخَيَّر..المكلف.. المسئول والذى له ـ بسبب هذا التخيير والحرية ـ حساب وجزاء.
وإلى مثل هذا تشير الآيتان: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريمًا * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربيانى صغيرا ) (5).
فنحن هنا أمام قضاء إلهى ، شاء الله سبحانه وتعالى أن يترك للإنسان المخير إزاءه حرية الطاعة والعصيان ليتميز الخبيث من الطيب ، وليكون الجزاء وفق العمل والإرادة والاختيار.. فالإنسان المُخَيَّر ، الذى هداه الله النجدين ، له قدرات واستطاعات الطاعة والعصيان.. ولذلك كان من جنس الإنسان المؤمن والكافر ، والمطيع والعاصى ومن يبتغى وجه الله ومن يبتغى غير دين الله.. بينما المخلوقات غير المختارة مجبولة على الطاعة والخضوع (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من فى السموات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه يرجعون ) (6) ، وقوله تعالى: (ولله يسجد من فى السموات والأرض طوعًا وكرهًا ) (7) ، وقوله سبحانه وتعالى: (ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين ) (8).
ففى مخلوقات الله مخلوقات مجبولة على الطاعة والخضوع.. وفى هذه المخلوقات مخيرون ، منهم من يطيع ومنهم من يختار العصيان ، فيبتغى غير دين الله !.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) الروم: 26.
(2) الحاقة: 9 ـ 10.
(3) فصلت: 12.
(4) البقرة: 117.
(5) الإسراء: 23ـ24.
(6) آل عمران: 83.
(7) الرعد: 15.
(8) فصلت: 11.
-------------------------------------------------------------------------------
والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل