الفصل السابع
المبادئ والنظريات
http://www10.0zz0.com/2013/01/31/18/545578327.jpg
سبق وأن قلت أن الخلط عند الكل يظهر نتيجة للخلل والخلط بين المصطلحات...
فهناك فارق كبير بين( نظام الحكم في الإسلام ) و( مبادئ نظام الحكم في الإسلام )..
فالإسلام في نظام الحكم لم يأت بنظام معين أو بصورة معينة أو قالب معين مفروض على الأمة وقال هذا هو نظام الحكم في الإسلام فطبِقوه.أبداً.. لم يحدث هذا..فالحكم الملكي صورة من صور الحكم، والحكم السلطاني صورة من صور الحكم، والحكم الجمهوري صورة من صور الحكم، والخلافة صورة من صور الحكم. كل هذه صور من صور الحكم تخضع لدستور الدولة والذي يحكمه مجموعة من مبادئ نظام الحكم..
فالإسلام في نظام الحكم إنما جاء بمجموعة من المبادئ والنظريات تصلح للتطبيق في كل مكان وفي كل زمان ، على أن تترك صور الحكم تبعاً لكل بلد طالما التزم النظام بمبادئ الحكم في الإسلام..
وسوف نعرض الآن طائفة من النظريات والمبادئ الشرعية التي لم تعرفها القوانين الوضعية إلا أخيراً، أو لم تعرفها بعدُ، تتوفر فيها جميعاً كل المميزات التي تسمو بها الشريعة الإسلامية على باقي القوانين الوضعية، والتي تنحصر في خمسة مبادئ نعرض لها على الترتيب التالي:
أولاً: مبدأ المساواة
ثانياً: مبدأ الحرية
ثالثاً: مبدأ الشورى
رابعاً: العدل
خامساً: مبدأ السيادة العليا Sovereigntyونظرية تقييد سلطة الحاكم
والحديث على مطالب كالتالي:
المطلب الأول
من مبادئ نظام الحكم في الإسلام
مبدأ المساواة
أ ـ جاءت الشريعة الإسلامية من وقت نزولها بنصوص صريحة تقرر نظرية المساواة وتفرضها فرضاً، فالقرآن الكريم يقرر المساواة ويفرضها على الماس جميعاً في قوله تعالى:
[ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)] الحجرات : 13
والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكرر هذا المعنى في قوله:" الناس سواسية كأسنان المشط الواحد لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى".ثم يؤكد هذا المعنى تأكيداً في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"إن الله قد أذهب بالإسلام نخوة الجاهلية وتفاخرهم بآبائهم لأن الناس من آدم وآدم من تراب وأكرمكم عند الله أتقاكم".
ويلاحظ على هذه النصوص أنه فرضت المساواة بصفة مطلقة، فلا قيود ولا استثناءات، وأنها المساواة على الناس كافة أي على العالم بصفة مطلقة، فلا فضل لفرد على فرد، ولا لجماعة على جماعة، ولا لجنس على جنس، ولا للون على لون، ولا لسيد على مسود، ولا لحاكم على محكوم..
وهذا هو نص القرآن الكريم يذكر الناس أنهم خلقوا من أصل واحد من ذكر وأنثى ولا تفاضل إذا استوت الأصول وإنما مساواة، وهذا هو قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يذكر الناس أنهم جميعاً ينتمون لرجل واحد خلق من تراب فهم متساوون ويشبههم في تساويهم بأسنان المشط الواحد، ولم يعرف أن سنًّا من مشط فضلت على سنة أخرى..
وقد نزلت نظرية المساواة على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يعيش في قوم أساس حياتهم وقوامها التفاضل فه يتفاضلون بالمال والجاه، والشرف واللون، ويفاخرون بالآباء والأمهات، والقبائل والأجناس، فلم تكن الحياة الاجتماعية وحاجة الجماعة هي الدافعة لتقرير نظرية المساواة، وإنما كان الدافع لتقريرها من وجه آخر ضرورة تكميل الشريعة بما تقتضيه الشريعة الكاملة الدائمة من مبادئ ونظريات..
ولا جدال في أن عبارة النصوص جاءت عامة مرنة إلى آخر درجات العموم والمرونة، فلا يمكن مهما تغيرت ظروف الزمان والمكان والأشخاص أن تضيق عبارة النصوص بما يستجد من الظروف والتطورات، والعلة في وضع نصوص الشريعة على هذا الشكل أن الشريعة لا تقبل التعديل والتبديل فوجب أن تكون نصوصها بحيث لا تحتاج إلى تعديل أو تبديل.
وإذا كانت نظرية المساواة قد عرفت في الشريعة الإسلامية من خمسة عشر قرناً فإن القوانين الوضعية لم تعرفها إلا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر.
إذن فقد سبقت الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية في تقرير المساواة بثلاثة عشر قرناَ ،ولم تأت القوانين الوضعية بجديد حين قررت المساواة، وإنما سارت في أثر الشريعة واهتدت بهداها، وسيرى القارئ فيما بعد أن القوانين الوضعية تطبق نظرية المساواة تطبيقاً محدوداً بالنسبة للشريعة الإسلامية التي توسعت في تطبيق النظرية إلى أقصى حد.
أما مصطلح المساواة (Equality) في الفكر العلماني، فيشير إلى حالة التماثل بين الأفراد في المجتمع.
والمساواة بالمفهوم البرجوازي تعني المساواة بين المواطنين أمام القانون، بينما يبقى الاستغلال والتفاوت بين أفراد الشعب دون مساس.
أما الماركسية فترى أن المساواة الاقتصادية والثقافية مستحيلة بدون الغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وتصفية الطبقات المستغِلة.
ويشيع أيضاً مصطلح (التفاوت)، أو عدم المساواة ( Inequality )، الذي يعني التفرقة بين الأفراد على أساس العنصر، أو الجنس، أو اللغة، أو الرأي السياسي، أو أسس التمييز الأخرى في التعليم والعمل وأمام القانون، وغيرها من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
وينظر إلى التفاوت الاجتماعي على أنه نتيجة للفروق بين الخصائص الشخصية للأسر (كالقوة والذكاء والحافز)، ولإنتاجية أعضاء الأسرة, كما يظهر التفاوت بسبب وراثة الثروة Wealth والقوة (النفوذ) Power والهيبة Prestige داخل الأسرة، وبسبب أن الجماعات المسيطرة في كل المجتمعات الطبقية تكوّن أفكاراً ومعتقدات تبرر لها الأوضاع الاقتصادية والسياسية القائمة.
هذه هي نظرية المساواة كما تطلع علينا بها القوانين الوضعية الحديثة لا تزال مهيضة الجناح، مقصوفة الأطراف، لم تسمو بين الرؤساء والمرءوسين، والحاكمين والمحكومين، لم تسو بين الأفراد، ولا بين الجماعات ، ولا بين الغني والفقير.
وقد يدهش بعض الذين لا يعلمون أن نظرية المساواة التي لم يتم نضجها وتكوينها في القانون الوضعي الحديث قد نضجت تمام النضج، وتكونت تمام التكوين ووصلت إلى أقصى مداها في الشريعة الإسلامية ولا تمتاز الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية بهذا فقط، بل تتميز عليها أيضاً بأنها عرفت نظرية المساواة على هذا الوجه منذ خمسة عشر قرناً، بينما لم تبدأ القوانين الوضعية بمعرفتها إلا في آخر القرن الثامن عشر.
ب ـ المساواة بين رؤساء الدول والرعايا: ونطبق الشريعة الإسلامية مبدأ المساواة إلى أوسع مدى يتصوره العقل البشري، ولهذا لا تفرق نصوصها بين الرؤساء والمرءوسين، ولا بين الملوك والسوقة، ولا بين ممثلي الدول السياسيين والرعايا العاديين، ولا بين ممثلي الشعب وأفراده ولا بين الغني ولا الفقير، وسنبين فيما يلي حكم هذه الحالات التي جعلناها أمثلة على انعدام المساواة في القوانين..
1ـ تسوي الشريعة بين رؤساء الدول والرعايا في سريان القانون، ومسئولية الجميع عن جرائمهم، ومن أجل ذلك كان رؤساء الدول في الشريعة أشخاصاً لا قداسة لهم، ولا يمتازون على غيرهم، وإذا ارتكب أحدهم جريمة عوقب عليها كما يعاقب أي فرد.
ولقد كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو نبي ورئيس دولة لا يدعي لنفسه قداسة ولا امتيازاً، وكان يقول دائماً:[إنما أنا بشر يوحى إلى] ، [وهل كنت إلا بشراً رسولا].
وكان قدوة لخلفائه وللمسلمين في توكيد معاني المساواة بين الرؤساء والمرءوسين..
دخل عليه أعرابي فأخذته هيبة الرسول، فقال له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( هون عليك، فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد) وتقاضاه غريم له دينا فأغلظ عليه، فهم به عمر بن الخطاب، فقال له الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مه يا عمر، كنت أحوج إلى أن تأمرني بالوفاء، وكان أحوج إلى أن تأمره بالصبر).
وخرج أثناء مرضه الأخير بين الفضل بن عباس وعلى حتى جلس على المنبر، ثم قال:
( أيها الناس من كنت جلت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه، ومن أخذت له مالاً فليأخذ منه ،ولا يخش الشحناء من قبلي فإنها ليست من شأني، ألا وإن أحبكم إلى من أخذ مني حقاً إن كان له، أو حللني فلقيت ربي وأنا طيب النفس) ..ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع إلى المنبر فعاد لمقالته الأولى..ـ تاريخ ابن الأثير ج2 ص 154ـ.
وجاء خلفاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بعده رضي الله تعالى عنهم فنسجوا على منواله، واهتدوا بهديه، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يصعد المنبر بعد أن بويع بالخلافة، فتكون أول كلمة يقولها توكيداً لمعنى المساواة، ونفياً لمعنى الامتياز..
قال: أيها الناس، قد وليت عليكم ولست بخيركم،أن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني..ثم يعلن في آخر كلمته أن من حق الشعب الذي اختاره أن يعزاه..فيقول: أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم..ـ تاريخ ابن الأثير ج2 ص 160ـ.
وهذا عمر بن الخطاب يولي الخلافة فيكون أكثر تمسكاً بهذه المعاني، حتى إنه ليرى قتل الخليفة الظالم..خطب يوما فقال: لوددت أني وإياكم في سفينة في لجة البحر تذهب بنا شرقاً وغرباً، فلن يعجز الناس أن يولوا رجلاً منهم، فإن استقام اتبعوه، وإن جنف قتلوه.فقال طلحة : وما عليك لو قلت وإن تعوج عزلوه، فقال : لا ، القتل أنكل لمن بعده. ـ تاريخ ابن الأثير ج 3 ص 30ـ.
وأخذ عمر الولاة بما أخذ به نفسه، فما ظلم وال رعيته إلا أقاد من الوالي للمظلوم، وأعلن على رءوس الأشهاد مبدأه هذا في موسم الحج، حيث طلب من ولاة الأمصار أن يوافوه في الموسم، فلما اجتمعوا خطبهم وخطب الناس فقال: أيها الناس ، أني ما أرسل إليكم عمالاً ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، وإنما أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم، وسنة نبيكم، فمن فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إلىّ فوالدي نفس عمر بيده لأقصنه منه..
فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين أرأيتك إن كان رجل من المسلمين على رعيته فأدب بعض رعيته إنك لتقصنه منه؟.
فقال : أي والذي نفس عمر بيده، إذن لأقصنه منه، وكيف لا أقصنه منه! وقد رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقص من نفسه. ـ تاريخ ابن الأثير ج3 ص 208 وكتاب الخراج لأبي يوسف ص 66ـ. ويقص علينا التاريخ أن المأمون وهو خليفة المسلمين اختصم مع رجل بين يدي يحيى بن أكثم قاضي بغداد، فدخل المأمون إلى مجلس يحيى وخلفه خادم يحمل طنفسة لجلوس الخليفة، فرفض يحيى أن يميز الخليفة على أحد أفراد رعيته، وقال : يا أمير المؤمنين لا تأخذ على صاحبك شرف المجلس دونه، فاستحيا المأمون، ودعا للرجل بطنفسة أخرى.
وفقهاء الشريعة الإسلامية وإن كانوا يشترطون في الإمام أي رئيس الدولة الإسلامية شروطاً لا تتوفر في كل شخص، إلا أنهم يسوونه بجمهور الناس أمام الشريعة، ولا يميزونه عنهم في شيء، وهذا متفق عليه فيما يختص بالولاة والحكام والسلاطين والملوك الذين يخضعون للخليفة أو يستمدون سلطتهم منه.
ج ـ رؤساء الدول الأجنبية: وإذا كانت الشريعة لا تميز رئيس الدولة الإسلامية الأعلى فهي من باب أولى لا تميز رئيس دولة أجنبية، وإذن فالشريعة تسري على رؤساء الدول الأجنبية، وعلى رجال حاشيتهم، فإذا ارتكبوا أية جريمة عوقبوا عليها.
د ـ رجال السلك السياسي:
تسري الشريعة على رجال السلك السياسي فيما يرتكبون من جرائم، سواء تعلقت الجرائم بحقوق الجماعة أو بحقوق الأفراد، وليس في قواعد الشريعة ما يسمح بإعفائهم من تطبيق الشريعة عليهم وليس في أخذ رجال السلك السياسي بجرائمهم ما يعيب الشريعة، مادامت الشريعة تسوي بينهم وبين غيرهم من رعايا الدولة، وتجعل حكمهم حكم رئيس الدولة، ولكن العيب في التفرقة التي تأخذ بها القوانين الوضعية بحجة حمايتهم، وتمكينهم من أداء وظائفهم، لأن الممثل السياسي الذي يرتكب الجرائم لا يستحق الحماية، ولا يصلح لأداء وظيفته.
ھ ـ أعضاء الهيئة التشريعية:
لا تسمح قواعد الشريعة بإعفاء أعضاء البرلمان من العقاب على الجرائم القولية التي يرتكبونها في دار البرلمان،لأن الشريعة تأبى أن تميز فرداً على فرد، أو جماعة على جماعة، ولأنها تأبى أن تسمح لفرد أو هيئة بارتكاب الجرائم مهما كانت وظيفة الفرد أو صفة الجماعة, وعليه فلا مجال للحصانة البرلمانية هنا فالكل سواسية أمام القانون..
و ـ المسلمون وغيرهم من أرباب الديانات الأخرى:
وتسوي الشريعة الإسلامية بين المسلمين وغيرهم في تطبيق نصوص الشريعة في كل ما كانوا فيه متساوين، أما ما يختلفون فيه فلا تسوي بينهم فيه، لأن المساواة في هذه الحالة تؤدي إلي ظلم غير المسلمين والذين لا يختلفون عن المسلمين إلا فيما يتعلق بالعقيدة، ولذلك كان كل ما يتصل بالعقيدة لا مساواة فيه، والواقع أنه إذا كانت المساواة بين المتساوين عدل خالص فإن المساواة بين المتخالفين ظلم واضح، ولا يمكن أن يعتبر هذا استثناء من قاعدة المساواة، بل هو تأكيد للمساواة، إذ المساواة لم يقصد بها إلا تحقيق العدالة، ولا يمكن أن تتحقق العدالة إذا سوي بين المسلمين وغيرهم فيما يتصل بالعقيدة الدينية، لأن معنى ذلك هو حمل المسلمين على ما يتفق مع عقيدتهم، وحمل غيرهم على ما يختلف مع عقيدتهم، ومعناه أيضاً عدم التعرض للمسلمين فيما يعتقدون، والتعرض لغير المسلمين فيما يعتقدون وإكراههم على غير ما يدينون،ـ ومعناه أخيراً الخروج على نص القرآن الصريح :[ لا إكراه في الدين] البقرة : 256.
والجرائم التي تفرق فيها الشريعة بين المسلمين وغيرهم هي الجرائم القائمة على أساس ديني محض كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير، فالشريعة الإسلامية تحرم شرب الخمر وأكل لحم الخنزير ، ومن العدل أن يطبق هذا التحريم على المسلم الذي يعتقد طبقاً لدينه بحرمة شرب الخمر وأكل لحم الخنزير ، ولكن من الظلم أن يطبق هذا التحريم على غير المسلم الذي يعتقد بأن شرب الخمر غي محرم وأن أكل لحم الخنزير لا حرمة فيه. ولكن يعاقب غير المسلمين على الجرائم القائمة على أساس ديني إذا كان إتيانها محرماً في عقيدتهم، أو يعتبرونها رذيلة، أو كان إتيان الفعل مفسداً للأخلاق العامة، أو ماساً بشعور الآخرين، فمثلاً شرب الخمر ليس محرماً عند غير المسلمين ولكن السكر محرماً عندهم، أو هو رذيلة، فضلاً عن أنه مفسد للأخلاق العامة، ومن ثم شرب كان غير المسلمين معاقبين على السكر دون الشرب، فمن شرب حتى سكر عوقب، ومن شرب ولم يسكر فلا عقوبة عليه.
ويترتب على التفرقة في تطبيق نصوص الشريعة بين المسلمين وغيرهم أن تكون الجرائم في الشريعة قسمين:
قسم عام يعاقب على إتيانه كل المقيمين داخل الدولة..
وقسم خاص يعاقب على إتيانه المسلمون دون غيرهم، ولا يمكن أن يقع إلا منهم، وأساس هذا القسم هو الدين.
والخلط بين القسمين هو الذي جعل المنظمات العلمانية تقع في خطأ فاحش حينما أرادوا أن يحققوا المساواة ويطبقوا مبدأ حرية الاعتقاد، فلم يروا وسيلة لتطبيق هذين المبدأين معاً إلا أن يجردوا القانون من كل ما يمس العقائد والأخلاق والأديان فأدى بهم هذا التطبيق السيئ إلى هذه النتائج المحزنة، ولو أنهم أخذوا بطريقة الشريعة الإسلامية لضمنوا ما شاءوا من مبادئ ولمنعوا من وقوع هذه المساوئ.
ولعل عذر المشرعين الوضعيين فيما حدث أن القوانين الوضعية كانت إلى ما قبل الثورة الفرنسية تقوم على أساس ديني يراعى فيه مذهب الحاكم واعتقاده، لا مذهب المحكومين جميعاً وعقائدهم.
ومن هنا نشأت نظرية المواطنة.