· هذا في حالة النقاش المكتوب..
أما في حالة المواجهة فإن أسلوب النقاش يجب أن يأخذ منحى أخر تماماً..إذ أنه يتعين على الداعية المسلم أن يتبع منهج الإسلام في الجدال
بحيث لا يتعدى دائرة قوله تعالى : (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي
أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ )العنكبوت: 46..فإذا تجاوز الداعية المسلم ذلك الإطار (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)
فإن الجدال سيتحول إلى صراخ وزعيق ونهيق..وينطفئ نور الحق ويصبح الباطل هو الحادي..إذ أن كل من المجادلين يريد الانتصار لرأيه ولا يعرف الحق بينهما سبيلاً.
· كما أنه يجب على المتحاورين أن يوحدا خط البداية عند النقاشن فإذا تم ذلك كانت النتيجة محسومة حتما لصالح أحدهما..
فمن كان معه الحق طويت له المسافات طياً وكانت له قصبة السبق ووصل إلى النهاية بدون أدنى مشقة أو عناء..
كنت أتصفح إحدى الفضائيات ـ بقدر الله ـ و قد لفت نظري في برنامج حواري دماثة خلق الضيف والذي عرفت من سياق حديثه أنه مهندساً
وخيل إلى أنني أعرفه، ومن حديثه أدركت أنه كان مسيحياً وأسلم منذ أكثر من ثلاثين عاماً وأن الكثيرين لا يعرفون أنه كان مسيحياً أصلاً فشهرته
كمسلم ذائعة الصيت كما أنه لا يحب الحديث عن قصة إسلامه وأنه يفضل الكلام عن شخصه كمهندس مسلم وكان الامتعاض
بادياً على وجهه كأنه لا يفتخر بما كان عليه من ضلال ويفتخر بما هو عليه من هداية.. إنه مسلم.. .
وإلى هنا والأمر يبدو عادياً جداً..إلا أنني فوجئت بذكره لاسمي وذلك في معرض حديثه، وأن الحوار الهادئ والذي دار بيني وبينه منذ أكثر من ثلاثين عاماً،
كان قد ترك في نفسه الأثر الكبير وجعله يعيد حساباته ويقرأ ثم أسلم بعد ثلاثة سنوات من ذلك الحوار قضاها في الدراسة والبحث والتحصيل،
وترك بلدته وغير محل إقامته في بلد آخر عملاً بحديث رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المشهور والخاص بالرجل قاتل التسعة وتسعين نفساً،
و سافر بعد ذلك إلى الخارج ثم عاد إلى بلده محل إقامته وهو يمارس مهنته كداعية مسلم وكمهندس ناجح مشهور..لم يستغرق الحديث عن نفسه أكثر من خمسة دقائق.
والواقع أنني نسيته تماماً حتى أنني لا أعرف اسمه ولا أين يقيم..فلقد غير الزمن من جغرافية وجهه ولولا أنه قد ذكر اسمي في معرض حديثه
ما انتبهت كثيراً لما يقول ولكنه أعاد إلى ذاكرتي ذلك الحوار الهادئ جداً والذي كان قد دار بيني وبينه..
وكان محور الحوار كله يدور حول شخص الرسول الكريم محمد بن عبد الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واشترط في حديثه ألا نتناول
شخصية السيد المسيح بالذكر ولا نتحدث عن إلوهيته ولا بشريته ولا قصة صلبه, ولا نتناول البشارات الموجودة في الكتاب المقدس
والتي نستدل بها على نبوءة الرسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقط على أن استمع إلى أسئلته ثم أجيب..
وقبلت الحوار الذي دار بيني وبينه ولم يكن أحداً بيننا سوى الله تبارك وتعالى
وصدق الله العظيم إذ يقول:
(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) سبأ : 46.
فالحوار بين اثنين في السر دون العلن أدعى للتفكر والبحث والنظر، فلن ينتصر أحداً لرأيه أمام الآخرين كما يحدث في المناظرات العامة.
أخرج من جيبه ورقة مكتوب بها بعض الأسئلة والخواطر فراح يقرأ منها ولم يطلعني عليها...وبدأ الحوار..
1ـ لقد بدأ الحوار بالطعن في نبوءة الرسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..وأتهمه بالكذب..[حاشاه صلى الله عليه وسلم].
قلت له:
إنني أعرف أن أمك أستاذة جامعية..فلو أنني قلت لك واصفاً إياها بأنها طيبة السمعة وأنها رقيقة القلب والمشاعر وأنها كريمة شريفة عفيفة ذات أصل كريم وحسب عظيم..
وعلى الفور بادرتني بالتكذيب. وقلت لي أنت كذّاب..
فهل تكذيبك لي يضرني أم أنه يضر بأمك؟..
أنا أقول لك إن أمك شريفة عفيفة .. وأنت تقول لي أنت كذّاب..
أقول لك أمك طيبة السمعة رقيقة القلب و المشاعر.. وأنت تقول لي أنت كذّاب..
فهل تكذيبك لي يضرني أم أنه يضر بأمك..؟؟؟..
فهل تعني أن محمداً صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذّاب عندما قال في القرآن الكريم:
[ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ] آل عمران 42.
أي أنه قد وصف السيدة مريم بأنها ساندويتش طهارة..[ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ] ..
ولك أن تتأمل أن صفتا الاصطفاء والطهارة كانتا..[ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ].
فهل تكذيبك بمحمد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضره أم أنه يضر بالسيدة مريم أم السيد المسيح؟..
أنت تعرف أن السيدة مريم بعد أن وضعت وليدها[فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ]مريم 27.
تأمل القرآن الكريم وهو يصف الموقف:
[فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ]..
[قَالُوا]..
[يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا]
والقرآن الكريم يقول ..حذار..انتبهوا إياكم أن تقولوا عنها ما يسوء..
إياكم أن تقولوا [ يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا].
إنها طاهرة مصطفاة.. إنها طاهرة مصطفاة.. إنها طاهرة مصطفاة.. إنها طاهرة مصطفاة..
هذه هي صفتها على لسان محمد بن عبد الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأنت تقول إن محمد كذّاب..
فهل كان قومها صادقين حينما [قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا].
إن تكذيبك بمحمد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يضر به ولكنه يضر بالسيدة مريم أم السيد المسيح عليهما السلام؟.
أم تعني أن محمداً كذّاب عندما قال عن السيد المسيح:
[ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)]آل عمران 45.
القرآن يصف السيد المسيح عليه السلام بأنه [وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ].
وأنت تقول محمد كذّاب..
فهل تكذيبك بمحمد يضر به أم أنه يضر بالسيد المسيح عليه السلام؟..
عندما يصف القرآن الكريم أتباع السيد المسيح بقوله ( وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا
إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ) المائدة: 82
وأن هؤلاء القساوسة يقول الله سبحانه وتعالى واصفاً رقة قلوبهم ورقة مشاعرهم بعد أن وصفهم بالتواضع[ وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ]..
[وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ] (المائدة : 83 ).
يا ضيفي الكريم
إن تكذيبك بمحمد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَلم يترك شيئاً من دين السيد المسيح إلا وقد أضر به..
ومن يغمض عينيه دون النور يُضيَر بعينيه ولا يضير النور.
وصدق الله العلي العظيم إذ يقول:
[ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًالَهُمْ ] آل عمران 110.
قلت له: إن القرآن الكريم ذكر اسم النبي محمد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع مرات بكلمة محمد، وجاء مرة باسم أحمد..
أما السيد المسيح فجاء في القرآن الكريم 23 مرة، وجاء اسم السيدة مريم 34 مرة، واخبر النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أحاديثه أن السيدة مريم سيدة نساء العالمين.
وهذا التشريف لمريم لم يأت في القرآن لأحد غير مريم، حتى المرأة العظيمة السيدة خديجة بنت خويلد
التي آمنت بالنبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما كفر الناس به،لم يأت ذكرها في القرآن الكريم ولو لمرة واحدة،
حتى السيدة فاطمة وهي ذات قدر عظيم لم يأت ذكرها في القرآن الكريم ولو مرة واحدة..
قاطعني محدثي على الفور قائلاً: أرجوك.. لا تستشهد بما هو مكتوب عندنا بالكتاب المقدس حول نبوءة رسولكم الكريم.
فإن كافة النصوص المستشهد بها في هذا الباب من محض التأويل بمعرفتكم ولا نقتنع بتأويلاتكم.
قلت له: مهلاً..
إن القرآن الكريم إذا حدثنا بقوله سبحانه وتعالى:[ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ]..كان معنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى
قد أمسك يد التحريف أن تطال ما هو مكتوب في كتابكم حول النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع ذلك فأنا لن أتناول البشارات الخاصة بهذا الموضوع
فلقد سبقني إليها المهتدون الأجلاء من اليهود والنصارى.
إذ أنه قد بلغ التحدي مداه حينما تحدث مخاطباً علماء بني إسرائيل أنهم يعرفونه عليه الصلاة والسلام وأنه كشف عن تلاعبهم في نصوص التوراة
بأن أخفوا اسمه الشريف ووضعوا بديلاً عنه كلمات لا يعرفها إلا العلماء منهم.