أخرى ، ولا غضاضة ! .. هذه طريقة القوم فى دراسة النصوص !
[line]
2 - قال (الحداد) فى (ص 98) :
اقتباس:
فتعريف القرآن بالمسيح عيسى ابن مريم رسول الله أنه ((كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه)) (النساء 170) . وهذا التعريف ، مهما اختلف التأويل ، فإنه يرفع المسيح من عالم البشر ... فكلام الله على لسان ((كلمة الله)) هو ختام الوحى والنبوة ، لأنه ليس من رسول عند الله مثل الذى هو ((كلمته وروح منه)) . قال الرازى : (( سمى كلمة الله : كأنه صار عين كلمة الله ... أو لأنه أبان كلمة الله أفضل بيان )) (آل عمران 45)
دعك الآن من تخبطه حين زعم أنه "مهما اختلف التأويل" لكلمة الله وروحه فإنه يرفع المسيح من عالم البشر ؛ إذ علم الجميع أن تفسير المسلمين لهما لا يرفع المسيح من عالم البشر . فهذا خبط وتخبط لا نتعرض له الآن .
ودعك الآن أيضا من ذكائه الفاحش حين زعم أن رسول الله "الذى هو كلمته وروح منه" "هو ختام الوحى والنبوة" . فلم يبين لنا الحبرُ (الأرشمندريت) وجهَ التلازم بين هذا وذاك . ناهيك عن إيمانه نفسه بوجود وحى بعد المسيح أُوحى إلى أصحاب الأناجيل بل و"الرسل" عامة .
دعك الآن من هذا وذاك ، فلسنا نتعرض فى مقامنا هذا لجهالاته وتخبطاته ، وإنما نقصر كلامنا على تدليساته فقط .
والتدليس واضح فيما نقله عن (الرازى) . وكان التدليس فاحشًا لأنه وضعه بين علامتى اقتباس . فتدليسه هنا وقع فى المعنى واللفظ معًا .
وتمام كلام (الرازى) رحمه الله هكذا : "وأما قوله تعالى : { بِكَلِمَةٍ مّنْهُ } فقد ذكرنا تفسير الكلمة من وجوه وأليقها بهذا الموضع وجهان :
الأول : أن كل مخلوق وإن كان مخلوقاً بواسطة الكلمة وهي قوله { كُنَّ } إلا أن ما هو السبب المتعارف كان مفقوداً في حق عيسى عليه السلام وهو الأب ، فلا جرم كان إضافة حدوثه إلى الكلمة أكمل وأتم ، فجُعل بهذا التأويل كأنه نفس الكلمة كما أن من غلب عليه الجود والكرم والإقبال يقال فيه على سبيل المبالغة : إنه نفس الجود ، ومحض الكرم ، وصريح الإقبال ، فكذا ههنا .
والوجه الثاني : أن السلطان العادل قد يوصف بأنه ظل الله في أرضه ، وبأنه نور الله ، لما أنه سبب لظهور ظل العدل ، ونور الإحسان ، فكذلك كان عيسى عليه السلام سبباً لظهور كلام الله عزّ وجلّ بسبب كثرة بياناته وإزالة الشبهات والتحريفات عنه ، فلا يبعد أن يُسمى بكلمة الله تعالى على هذا التأويل" اهـ
فالوجه الأول عند (الرازى) حكاه (الحداد) هكذا : "سمى كلمة الله : كأنه صار عين كلمة الله" . فأخفى (الحداد) أولاً كلام (الرازى) قبل عبارة "كأنه نفس الكلمة" ، ليوهم القارئ أن (الرازى) يوافق على عقيدة (الحداد) الشركية العبثية التى تجعل المسيح منطوق الله . وإنما قيد (الرازى) عبارته حين قال عن المسيح "فجعل بهذا التأويل كأنه نفس الكلمة" . وكلام (الرازى) قبله وبعده موجع (للحداد) فلم يقدر على إظهاره .
ثم إن عبارة (الرازى) هكذا : "كأنه نفس الكلمة" . وحكاها (الحداد) هكذا : "كأنه صار عين كلمة الله" . لأن "الكلمة" فى عبارة (الرازى) هى "كن" . وهى ضد مقصود (الحداد) ، فحذفها ووضع مكانها "كلمة الله" لتقترب أكثر - فى وهمه - من عقيدته الشركية ، وعبث بالعبارة عبثًا سخيفًا .
ثم دلس (الحداد) فى الوجه الثانى الذى حكاه (الرازى) . فكانت عبارة (الرازى) هكذا : "فكذلك كان عيسى عليه السلام سبباً لظهور كلام الله عزّ وجلّ بسبب كثرة بياناته وإزالة الشبهات والتحريفات عنه" . فكتم (الحداد) عبارة (الرازى) لأنها ضد عقيدته الشركية التى يريد تقريرها هنا ، وصاغ من عنده عبارة تؤدى جزءًا من كلام (الرازى) وفى نفس الوقت تقترب - فى وهمه - من عقيدته الشركية . فقال كاذبًا : "لأنه أبان كلمة الله أفضل بيان" . لأن المسيح عندهم هو كلمة الله ظهرت فى الجسد حقيقة حرفية . زعموا !
فدلس (الحداد) على (الرازى) فى معنى الوجه الأول ، ودلس عليه فى معنى الوجه الثانى . فهذا تدليسه فى المعنى . ثم أبى (الأرشمندريت) إلا أن يضم إلى تحريف المعنى تحريف اللفظ أيضًا ؛ ليجمع بين السوأتين ! .. فصاغ عبارتين من عنده ، مصرًا على وضعهما بين علامتى اقتباس ، واثقًا من غفلة قارئه أو نومه !
[line]
3 - قال (الحداد) فى (ص 101) عن القرآن :
اقتباس:
وفى المفاضلة بين الرسل يجعل تأييد المسيح بالمعجزات وبروح القدس (البقرة 253) سبب فضله على غيره : (( وجعل معجزاته سبب تفضيله لأنها آيات واضحات ومعجزات عظيمة لم يستجمعها غيره )) (البيضاوى)
التدليس فى انتزاع عبارة (البيضاوى) من فقرتها .
وسبب التدليس خداع القارئ بأن (البيضاوى) يوافق (الأرشمندريت) فى أفضلية المسيح على باقى الرسل عليهم الصلاة والسلام . وتمام كلام (البيضاوى) فى تفسير الآية كافٍ فى فضح خداعه .
قال (البيضاوى) رحمه الله : "{ تِلْكَ الرسل } إشارة إلى الجماعة المذكورة قصصها في السورة ، أو المعلومة للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو جماعة الرسل واللام للاستغراق . { فَضَّلْنَا بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } بأن خصصناه بمنقبة ليست لغيره . { مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله } تفضيل له ، وهو موسى عليه الصلاة والسلام . وقيل : موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، كلم الله موسى ليلة الحيرة وفي الطور ، ومحمداً عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج حين كان قاب قوسين أو أدنى وبينهما بون بعيد ... { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات } بأن فضله على غيره من وجوه متعددة ، أو بمراتب متباعدة ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم فإنه خصه بالدعوة العامة ، والحجج المتكاثرة ، والمعجزات المستمرة ، والآيات المتعاقبة بتعاقب الدهر ، والفضائل العلمية والعملية الفائتة للحصر . والإبهام لتفخيم شأنه كأنه العلم المتعين لهذا الوصف المستغني عن التعيين . وقيل : إبراهيم عليه السلام خصصه بالخلة التي هي أعلى المراتب . وقيل : إدريس عليه السلام لقوله تعالى : { وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } وقيل : أولو العزم من الرسل . { وَآتَيْنَا عِيسَى ابنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ } خصه بالتعيين لإفراط اليهود والنصارى في تحقيره وتعظيمه ، وجعل معجزاته سبب تفضيله لأنها آيات واضحة ومعجزات عظيمة لم يستجمعها غيره " .
فاقتطع (الحداد) عبارة (البيضاوى) "وجعل معجزاته سبب تفضيله" ليوهم موافقة (البيضاوى) له فى تقرير أفضلية المسيح على باقى الرسل أجمعين . لكن تمام كلام (البيضاوى) يوضح اعتقاده ، وهو أفضلية محمد صلى الله عليهم وسلم على المسيح وغيره عليهم السلام .
تنبيه وفائدة : فسر (البيضاوى) رحمه الله قوله تعالى {ورفع بعضهم درجات} بأنه محمد صلى الله عليه وسلم . ثم قال "وقيل : إبراهيم ... وقيل : إدريس ... وقيل : أولو العزم" عليهم السلام . فلا تحسبن (البيضاوى) متحيرًا غير مرجح . والحال أنه رجح القول الأول ، لأنه قرره جازمًا . ثم من باب الأمانة العلمية يسرد بعد ذلك الأقوال الأخرى ، وإن كان غير مرجح لها ، وهذا ظاهر فى حكايتها بصيغة التضعيف "قيل" . قال صاحب (كشف الظنون) عن (البيضاوى): "والذي ذكره من وجوه التفسير ثانيا وثالثا ورابعا "قيل" فهو ضعيف: ضعف المرجوح، أو ضعف المردود" (1/187) .
و(الحداد) يعلم ذلك جيدًا ، إذ قال فى (ص 238) :
اقتباس:
فى حديث عن ضرب ابن مريم مثلاً (الزخرف 57 - 66) يقول فيه : (( وإنه لعِلْم - لعَلَم - للساعة فلا تمترن بها )) (الزخرف 61) . أجمعوا أن الضمير فى (إنه) لعيسى (البيضاوى) ، (( وقيل : الضمير للقرآن فإن فيه الإعلام بالساعة والدلالة عليها )) (البيضاوى) . إن المفسر الكبير يشير إلى القول الثانى ولا يتبناه
فتأمل كيف فهم (الحداد) من قول (البيضاوى) "قيل" أنه لا يتبناه بل يشير إليه فقط .
المهم .. (البيضاوى) إذن فى تفسيره جزم بأفضلية محمد عليه الصلاة والسلام ، مع توقير باقى أنبياء الله وما اختصوا به . ولكن هذه الحال لا يمكن أن ترضى (الأرشمندريت) ؛ لأن عقيدته قائمة على تحقير باقى أنبياء الله غير المسيح ، بل قائمة على "زيغانهم وفسادهم" (رومية 3/12) ، إن لم يكن على "لصوصيتهم" (يوحنا 10/8) . فكان لزامًا على (الأرشمندريت) أن يقتصر من كلام (البيضاوى) على ما يتوهم موافقته لعقيدته الشركية . وليس بعد هذه الأمانة من أمانة !
[line]
4 - قال (الحداد) فى (ص 110) :
اقتباس:
فليس فى (التحريف) المذكور فى آية البقرة من تحريف للحرف والنص، وذلك بنص القرآن القاطع فى الآية (121) (( الذين آتيناهم الكتاب ، يتلونه حقَّ تلاوته ، أولئك يؤمنون به )) . قال الجلالان : (( يتلونه حق تلاوته أى يقرؤونه كما أنزل )) . وهذه الآية (البقرة121) تقطع قطعا مبرما كل تهمة بتحريف
ليس معنى الآية الكريمة الإخبار عن الذين أوتوا بالكتاب بأنهم يتلونه حق تلاوته . ولكن المعنى أن الذين أوتوا الكتاب وكانوا يتلونه حق تلاوته فأولئك هم الذين يؤمنون . قال (ابن كثير) رحمه الله : "وقوله: { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } خَبَر عن { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ } أي: مَن أقام كتابه من أهل الكتب المنزلة على الأنبياء المتقدمين حق إقامته، آمن بما أرسلتك به يا محمد" .
لكن (الأرشمندريت) يريد غير ذلك ، يريد أن عبارة "يتلونه حق تلاوته" هى الخبر عن الذين أوتوا الكتاب ، فيكون المعنى - حسب فهمه - أن كل الذين أوتوا الكتاب يتلونه حق تلاوته . يريد أن يزكى أهل الكتاب بأى وسيلة .
لا يعنينا تبيين ضلاله وجهله الآن ، لكن الذى يعنينا أنه يريد خداع القارئ بأن تفسير (الجلالين) يوافقه فى فهمه الفاسد . فنقل عن (الجلالين) : "يتلونه حق تلاوته أى يقرؤونه كما أنزل" .
ولو نقل عبارة (الجلالين) بتمامها لما استقامت له خدعته . بل لو نقل كلمتين بعد العبارة التى نقلها لافتضح كذبه وانكشف تدليسه .
جاء فى (الجلالين) : "{ الذين ءاتيناهم الكتاب } مبتدأ . { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } أي يقرؤونه كما أنزل . والجملة حال . و{حقَّ} نُصِبَ على المصدر . والخبر : { أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ }" .
فتفسير (الجلالين) لا يجعل عبارة "يتلونه حق تلاوته" هى الخبر ، بل هى حال ، والخبر هو عبارة "أولئك يؤمنون به" . والمعنى أن الذين يؤمنون من أهل الكتاب هم الذين كانوا يتلونه حق تلاوته .
ولكن (الحداد) استحق درجة (أرشمندريت) فى التدليس والخداع !
[line]
5 - قال (الحداد) فى (ص 132) :
اقتباس:
(( وإنه (القرآن) لتنزيل رب العالمين ... وإنه لفى زبر الأولين )) (الشعراء 193 - 195) أى (( كتبهم كالتوراة والإنجيل )) (الجلالان) . فالتنزيل القرآنى هو فى (( زبر الأولين )) الذين سبقوا عهد محمد
التدليس فى بتر كلام (الجلالين) .
وسبب التدليس أن (الحداد) يجعل القرآن نفسه متضمنًا فى الكتب السابقة . وهذا غلط ، لأن القرآن ، وإن كان مصدقًا للكتب السابقة ، لكنه زاد عليها فى محتواه وأسلوبه .
لا يعنينا بيان ذلك الآن . لكن الذى يعنينا أن (الحداد) يريد خداع القارئ بأن تفسير (الجلالين) يوافقه فى هواه . فاقتصر فى نقله على عبارة "كتبهم كالتوراة والإنجيل" . ولو نقل عبارة (الجلالين) كاملة لافتضح كذبه .
جاء فى (الجلالين) : "{ وَإِنَّهُ } أي ذكر القرآن المنزل على محمد { لَفِى زُبُرِ } كتب { الأولين } كالتوراة والإِنجيل" .
فالذى فى كتب الأولين ليس هو المحتوى القرآنى ، وإنما كتب الأولين "ذكرت" القرآن . وشتان ما بين المعنيين . وقد أدرك (الأرشمندريت) ذلك البون الشاسع ، فاقتضت "أمانته" كالعادة اجتزاء كلام (الجلالين) واقتصاصه تلبيسًا على القارئ .
[line]
6 - قال (الحداد) فى (ص 146) :
اقتباس:
ونوجز موقف القرآن من صحة الكتاب كله ، كما وصل إلى الحجاز ، على زمن الدعوة القرآنية ، بهذا المبدأ الذى شرعه القرآن : (( إنا نحن نزلنا الذكر ، وإنا له لحافظون )) (( من التبديل والتحريف والزيادة والنقص )) (الجلالان)
التدليس فى اقتصاص كلام (الجلالين) . جاء فى (الجلالين) : "{ نَزَّلْنَا الذكر } القرآن { وَإِنَّا لَهُ لحافظون } من التبديل والتحريف والزيادة والنقص" .
وسبب التدليس أن تمام كلام (الجلالين) يبين أن المقصود هنا بالذكر هو القرآن وحده ، وبالتالى فالحفظ للقرآن وحده دون باقى الكتب . وهذا ضد مُراد (الأرشمندريت) هنا ، إذ يريد شمول الحفظ للكتب كلها ليشمل كتبه المحرفة.
هذا عن تدليس (الأرشمندريت) على (الجلالين) ، ناهيك عن أن تمام السياق القرآنى يبين ما هو "الذكر" المخصوص هنا الذى تكفل الله بحفظه دون باقى الكتب : { وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) }
[line]
7 - 8 - قال (الحداد) فى (ص 217) :
اقتباس:
بقيت أسطورة الشبه ، والرازى يفندها تفنيدًا محكمًا فى (آل عمران 55). (( فكيفما كان ، فى إلقاء شبهه على الغير إشكالات : الإشكال الأول : ... ))
ثم لخص (الحداد) الإشكالات الستة التى أوردها (الرازى) .
ثم أورد قول (الرازى) : "وبالجملة الأسئلة التى ذكروها أمور تتطرق الاحتمالات إليها من بعض الوجوه" .
ثم قال (الحداد) :
اقتباس:
ويختار الرازى مقالة الإشاعة الكاذبة التى انطلت على الناس . فهو يرد ردًا مبرمًا قصة الشبه
دعك الآن من أن (الحداد) أورد تلخيصه لكلام (الرازى) بين علامتى اقتباس . فالراجح أن ذلك ليس من تدليسه بل من جهله بآداب البحث العلمى . وقد علمت أن تدليساته وحدها هى التى تعنينا فى هذا المقام .
التدليس الأول فى أن (الحداد) أخفى عامدًا ردود (الرازى) على الإشكالات الستة . ليخدع القارئ أولاً بأن (الرازى) تبنى هذه الإشكالات بل هو الذى اخترعها ، وليخدعه ثانيًا بأن هذه الإشكالات لا جواب عنها وإلا لأجاب (الرازى) . وتمام كلام (الرازى) يحوى ردوده على الإشكالات المذكورة .
وبعد إخفاء الردود على الإشكالات ، ثبّت (الحداد) تدليسه فذكر عبارة (الرازى) بأن هذه الأسئلة "تتطرق الاحتمالات إليها" ، فيخدع القارئ بأن (الرازى) قال هذا ليحكم لهذه الأسئلة بالوجاهة . وستعلم من تمام كلام (الرازى) أنه رحمه الله لم يقل عبارته ليحكم بوجاهة الإشكالات بل ليحكم بدخول الاحتمال عليها وبالتالى بسقوط الاستدلال بها ؛ لأن ما دخله الاحتمال سقط به الاستدلال .
قال (الرازى) : "فهذا جملة ما في الموضع من السؤالات :
والجواب عن الأول : أن كل من أثبت القادر المختار ، سلم أنه تعالى قادر على أن يخلق إنساناً آخر على صورة زيد مثلاً ، ثم إن هذا التصوير لا يوجب الشك المذكور ، فكذا القول فيما ذكرتم .
والجواب عن الثاني : أن جبريل عليه السلام لو دفع الأعداء عنه أو أقدر الله تعالى عيسى عليه السلام على دفع الأعداء عن نفسه لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء ، وذلك غير جائز .
وهذا هو الجواب عن الإشكال الثالث : فإنه تعالى لو رفعه إلى السماء وما ألقي شبهه على الغير لبلغت تلك المعجزة إلى حد الإلجاء .
والجواب عن الرابع : أن تلامذة عيسى كانوا حاضرين ، وكانوا عالمين بكيفية الواقعة ، وهم كانوا يزيلون ذلك التلبيس .
والجواب عن الخامس : أن الحاضرين في ذلك الوقت كانوا قليلين ودخول الشبهة على الجمع القليل جائز والتواتر إذا انتهى في آخر الأمر إلى الجمع القليل لم يكن مفيداً للعلم .
والجواب عن السادس : إن بتقدير أن يكون الذي ألقي شبه عيسى عليه السلام عليه كان مسلماً وقبل ذلك عن عيسى جائز أن يسكت عن تعريف حقيقة الحال في تلك الواقعة .
وبالجملة فالأسئلة التي ذكروها أمور تتطرق الاحتمالات إليها من بعض الوجوه ، ولما ثبت بالمعجز القاطع صدق محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر عنه امتنع صيرورة هذه الأسئلة المحتملة معارضة للنص القاطع ، والله ولي الهداية" .
فكلام (الرازى) كاملاً يفضح كذب الأرشمندريت وتدليسه ؛ لأن فيه الردود على الإشكالات ، وبعد ردوده قال (الرازى) عبارته بأن هذه الأسئلة أو الإشكالات تتطرق الاحتمالات إليها ، أى أنها ساقطة الاستدلال .
التدليس الآخر فى قول (الحداد) :
اقتباس:
ويختار الرازى مقالة الإشاعة الكاذبة التى انطلت على الناس . فهو يرد ردًا مبرمًا قصة الشبه
وتعقيب (الرازى) بعد جواباته الستة يفضح (الأرشمندريت) ويعريه ، فقد جعل إلقاء الشبه هو "النص القاطع" ، وجعل غيره مدخولا بالاحتمال المسقط للاستدلال .
وأصرح من ذلك تجده فى كلام (الرازى) الذى قدم به للإشكالات وجواباتها ، قال : "نص القرآن دل على أنه تعالى حين رفعه ألقى شبهه على غيره على ما قال : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبّهَ لَهُمْ } [النساء 157]" .
وقد كرر (الأرشمندريت) تدليسه على (الرازى) فى موضع آخر . قال فى (ص 230) : "وإن التاريخ العام الذى تمثله الوثنية الرومانية واليهودية المجرمة فى قتل المسيح والمسيحية المؤمنة بقتله مدة ستماية سنة ونيف قبل القرآن والإسلام لا يطعن فى تواتر شهادتها بالإجماع قول آية متشابهة فى ظاهرها . يقول الرازى : (( فلو أنكرنا ذلك كان طعنًا فيما ثبت بالتواتر ، والطعن فى التواتر يوجب الطعن فى نبوة محمد وعيسى وسائر الأنبياء ))" .
وقد علمت أن الكلام لم يقله (الرازى) كسرد لمعتقده كما دلس (الأرشمندريت) ، وإنما هو حكاية من (الرازى) للإشكال الخامس ضمن الإشكالات الستة . وقد مر بك فيما نقلنا من كلام (الرازى) جوابه نفسه عن هذا الإشكال الخامس بعينه . قال رحمه الله : "والجواب عن الخامس : أن الحاضرين في ذلك الوقت كانوا قليلين ، ودخول الشبهة على الجمع القليل جائز ، والتواتر إذا انتهى في آخر الأمر إلى الجمع القليل لم يكن مفيداً للعلم" .
تنبيه : ما من قس يتكلم فى هذا المقام إلا ودلس نفس التدليس الأول على (الرازى) رحمه الله. ويكأن القس لا يستحق شرف لقبه إن لم يعتمد هذا التدليس ويقترف هذا الكذب !
الطريف فى الأمر أن الطوائف النصرانية اختلفت فى طبيعة ربها ومشيئته ، لكنها لم تختلف أبدًا على اقتراف التدليس والكذب على (الرازى) فى هذا الموضع !!
[line]
9 - قال (الحداد) فى (ص 214) :
اقتباس:
لجأ بعضهم إلى مبدأ الناسخ والمنسوخ ، فقالوا : إن آية النساء نسخت سائر آيات القرآن فى وفاة المسيح . وفات هؤلاء المتخرصون أن النسخ - إن قبل كمبدأ فى تفسير كلام الله - لا يقع إلا فى الأحكام التشريعية ، ولا يجرى على الأخبار التاريخية
اختراعًا اخترع (الحداد) حكاية "بعضهم" هذه وما ادعوه من النسخ !
والمبحث كله يخلو من قول واحد منسوب لهؤلاء "البعض" الذين لا وجود لهم إلا فى كيس (الأرشمندريت) ! ولو وجد قولاً واحدًا لهم لما توانى عن إيراده . بل لو وجد قولاً واحدًا يستطيع إيراده مع التلبيس والكذب لما توانى أيضًا !
وسبب كذب (الأرشمندريت) هو حب التعالم والتفيهق . وهو داء ملازم لرتبة القسيسية لا ينفك عنها ، مع أنهم من أجهل الناس فى المعارف العامة ، لكنهم يحبون الظهور بمظهر العالمين أمام عوامهم المساكين ، فيخترعون أشباحًا يحاربونها ، هذا آمن لهم من مواجهة كلام أهل الحق !
[line]
10 - قال (الحداد) فى (ص 241) :
اقتباس:
فالمسيح على الأرض ((من الصالحين)) ، وهو أيضا كان ويكون وسيكون (( وجيهًا فى الدنيا )) أى (( ذا جاه )) (الجلالان ، الرازى) ، (( والوجاهة فى الدنيا النبوة والتقدم على الناس )) (الرازى) . فالمسيح فى الدنيا وجه الدنيا : لم يقل القرآن ذلك بحق أحد من العالمين والمرسلين
تنبيه : عبارة "والوجاهة فى الدنيا النبوة والتقدم على الناس" قالها (الزمخشرى) لا (الرازى) . ومثل هذا كثير بثير فى كتابات (الحداد) ، لكننا لا يعنينا إهماله وعدم دقته فى هذا المقام . ثم إن عادة القساوسة أن ينقلوا عن كتب بعضهم ولو كانوا من غير طائفتهم بل لو كانوا يحكمون بأنهم لن يدخلوا الملكوت ! .. فشاع كثير من فقرات (الحداد) حاملة معها نفس الإهمال وانعدام الدقة .. هذا حال القوم .. وله حديث آخر فى مقام آخر . ولا يعنينا الآن إلا تدليس القس وكذبه .
الكذب فى قوله "لم يقل القرآن ذلك بحق أحد من العالمين" ؛ لأن الله عز وجل وصف موسى أيضًا بالوجيه ، و(الحداد) يعلم ذلك يقينًا ؛ لأنه اطلع على كلام (الرازى) فى ذلك الموضع إذ نقل عنه فى نفس الفقرة معنى "(( وجيهًا فى الدنيا )) أى (( ذا جاه )) (الجلالان ، الرازى)" ، وقد نبه (الرازى) فى هذا الموضع الذى اطلع عليه (الحداد) على اشتراك موسى والمسيح عليهما السلام فى وصف (الوجيه) .
قال (الرازى) : "معنى الوجيه : ذو الجاه والشرف والقدر ... واعلم أن الله تعالى وصف موسى صلى الله عليه وسلم بأنه كان وجيهاً قال الله تعالى : { يا أيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين ءَاذَوْاْ موسى فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً } [الأحزاب 69] ... فإن قيل : كيف كان وجيهاً في الدنيا واليهود عاملوه بما عاملوه ، قلنا : قد ذكرنا أنه تعالى سمى موسى عليه السلام بالوجيه مع أن اليهود طعنوا فيه ، وآذوه إلى أن برأه الله تعالى مما قالوا ، وذلك لم يقدح في وجاهة موسى عليه السلام ، فكذا ههنا" .
لكن الحقيقة التى قررها (الرازى) أوجعت (الأرشمندريت) بشدة وآلمته ككل حقيقة تعارض دينه . وكان الحل عنده فى إخفاء كلام (الرازى) تمامًا ، والاستعاضة عن ذلك بعبارة من صياغته هو ، يضعها بين علامتى اقتباس كعادته .
إن (الأرشمندريت) لا يستطيع إثبات صحة عقيدته فى ربه إلا بالكذب والتدليس .. وكفى بذلك خزيًا وعارًا !
[line]
11 - قال (الحداد) فى (ص 248) :
اقتباس:
وفسره الرازى (آل عمران 39) : (( واختيار الجمهور أن المراد (بكلمة من الله) هو عيسى . وسمى عيسى (كلمة الله) من وجوه : ...
ثم لخص (الحداد) خمسة الوجوه .
ثم نقل تعقيب (الرازى) هكذا :
اقتباس:
... واعلم أن كلمة الله هى كلامه ، وكلامه على قول أهل السنة : صفة قديمة قائمة بذاته ))
التدليس فى "بتر" كلام (الرازى) رحمه الله .
وسبب التدليس أن (الحداد) يخدع القارئ بأن (الرازى) يوافقه فى عقيدته الشركية التى يروجها هنا .
وتمام كلام (الرازى) يفضح هذا الخداع : "واعلم أن كلمة الله هي كلامه ، وكلامه على قول أهل السنة صفة قديمة قائمة بذاته ، وعلى قول المعتزلة أصوات يخلقها الله تعالى في جسم مخصوص دالة بالوضع على معان مخصوصة ، والعلم الضروري حاصل بأن الصفة القديمة أو الأصوات التي هي أعراض غير باقية يستحيل أن يقال : أنها هي ذات عيسى عليه السلام ، ولما كان ذلك باطلاً في بداهة العقول لم يبق إلا التأويل" .
[line]
12 - قال (الحداد) فى (ص 286) :
اقتباس:
المقالة الثانية : (( لقد كفر الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة )) (المائدة 76) . نقل الرازى إجماع المفسرين بقوله : (( وهو أنهم أرادوا بذلك أن الله ومريم وعيسى آلهة ثلاثة ، وأن الذى يؤكد ذلك قوله : (أأنت قلت للناس : اتخذونى وأمى إلهين من دون الله) ؟ (المائدة 119) . فقوله (ثالث ثلاثة) أى أحد ثلاثة آلهة ، أو واحد من ثلاثة آلهة . والدليل أنه المراد قوله فى الرد عليهم : وما من إله إلا واحد ))
كذب (الأرشمندريت) فى زعمه أن (الرازى) نقل "إجماع المفسرين" .
وسبب الكذب أن (الحداد) يخدع القارئ بأن علماء المسلمين لم يروا فى الآية الكريمة إلا إنكار ثالوث (الله ومريم وعيسى) ، وأنهم ما رأوا ثالوث (الحداد) الشركى : ثالوث الأقانيم المزعومة .
قال (الرازى) رحمه الله : "في تفسير قول النصارى { ثالث ثلاثة } طريقان :
الأول : قول بعض المفسرين ، وهو أنهم أرادوا بذلك أن الله ومريم وعيسى آلهة ثلاثة ، ...
والطريق الثاني : أن المتكلمين حكوا عن النصارى أنهم يقولون : جوهر واحد ، ثلاثة أقانيم أب ، وابن ، وروح القدس ، وهذه الثلاثة إله واحد ، كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة ، وعنوا بالأب الذات ، وبالابن الكلمة ، وبالروح الحياة ، وأثبتوا الذات والكلمة والحياة ، وقالوا : إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء بالخمر ، واختلاط الماء باللبن ، وزعموا أن الأب إلهة ، والابن إله ، والروح إله ، والكل إله واحد .
واعلم أن هذا معلوم البطلان ببديهة العقل ، فإن الثلاثة لا تكون واحداً ، والواحد لا يكون ثلاثة ، ولا يرى في الدنيا مقالة أشد فساداً وأظهر بطلاناً من مقالة النصارى" .
فتأمل وصف (الرازى) للقول الأول بأنه "قول بعض المفسرين" ، فجعله (الأرشمندريت) : "إجماع المفسرين" .. هكذا يكون الفجور فى الكذب !
ثم "كتم" (الأرشمندريت) باقى كلام (الرازى) الذى يسوءه بشدة إذ يرد على مذهبه ، وهو يحاول خداع القارئ بأن القرآن لم يتعرض لمذهبه ، وبذلك يفلت مذهبه من سوط التكفير القرآنى .
وإن المسلم ليمتلئ فخرًا ، وهو يرى قساوسة الشرك يهربون كل مهرب ، ليفلتوا من سوط الحق القرآنى .. وليس بعد هذه العزة من عزة !