{فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رّوحِنَا}
سؤال: قال النصارى: أليس في كتبكم معشر المسلمين {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رّوحِنَا}(1) فما تأويل ذلك غير ما ذهبنا إليه ؟!
_
جوابه من وجوه:
الوجه الأول:
هذا لايفيدكم شيئاً فيي مطلوبكم ؛ إذ ليس اعتقاد أحد منكم أن روح الأب اتحد بالمسيح، وإنما الذي اتحد به هو العلم. وإن الروح ترد على معاني شتى منها: أن ترد والمراد بها الوحي كقوله {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا}(2) .
ونرد والمراد بها جبريل وهو المعني بقوله تعالى {نَزَلَ بِهِ الرّوحُ الأمِينُ}(3) .
وترد والمراد بها ملك كبير يقوم يوم القيامة صفاً والملائكة قال تعالى {يَوْمَ يَقُومُ الرّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفّاً}(4)
وترد والمراد بها أرواح الأشخاص وهو المعني بقوله {قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي}(5) ، وإذا كان اللفظ متردداً بين معاني كثيرة فلا يسوغ التمسك به إلا مع اقترانه بما يفسره .
_
فالمسيح سمَّاه الله (روحا) كتسمية جبريل روحاً، وقد قلنا: إن الشيء قد يسمى بما يلازمه، فالله تعالى نفخ في مريم بواسطة جبريل وهو المعني بقول لوقا (الروح القدس تحل عليك)(6) ، وقد قالت التوراة عن نبي الله يوسف(هل نجد مثل هذا رجلا حل فيه روح الله)(7) وذلك كناية عن العلم والحكمة(8)
_
وفي التوراة عن بصلئيل (انظر.قد دعوت بصلئيل بن أوري بن حور من سبط يهوذا باسمه. وملأته من روح الله بالحكمة والفهم والمعرفة وكل صنعة)(9) ، وفي التوراة عن يشوع بن نون (ويشوع بن نون كان قد امتلأ روح حكمة اذ وضع موسى عليه يديه)(10)
_
وفي القضاة عن جدعون (ولبس روح الرب جدعون فضرب بالبوق فاجتمع ابيعزر وراءه.)(11) ، وفي كتاب صاموئيل عن شاول (فحل عليه روح الله فتنبأ في وسطهم.)(12) . وفي إنجيل لوقا (وامتلأت اليصابات من الروح القدس.)(14) و زكريا (وامتلأ زكريا ابوه من الروح القدس)(15) ، قال لوقا كذلك عن سمعان (وكان رجل في اورشليم اسمه سمعان.وهذا الرجل كان بارا تقيا ينتظر تعزية اسرائيل والروح القدس كان عليه.)(16).
_
وقال بولس (أما تعلمون انكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم.ان كان احد يفسد هيكل الله فسيفسده الله لان هيكل الله مقدس الذي انتم هو.)(17)
_
وذلك كله دليل على مساواة المسيح غيره من الأنبياء في حلول هذه الروح التي هي إما مَلَك ، أو العلم والحكمة.
_
أما الوجه الثاني:
اما قوله تعالى {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رّوحِنَا}(1) وقوله في سورة الأنبياء {وَالّتِيَ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ آيَةً لّلْعَالَمِينَ}(18)
_
فـهـذا تفسيرة في قوله تعالى {فَاتّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً 17 قَالَتْ إِنّيَ أَعُوذُ بِالرّحْمَـَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً 18 قَالَ إِنّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لاَِهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً 19}(19)
فأحبر أنه رسوله وروحه ، وأنه تمثل لها بشراً ، وأنه ذكر انه رسول الله إليها ، فعلم أن روحه مخلوق مملوك له ، ليس المراد حياته التي هي صفته سبحانه وتعالى .
_
وكذلك قوله تعالى {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رّوحِنَا}(1) وهو مثل قوله في آدم –عليه السلام- _{فَإِذَا سَوّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ}(20) فالمسيح روح من الله كمثل آدم أبيه روح من الله وإن مايكون على المسيح يكون قبله على آدم ، وقد شبه سبحانه المسيح بآدم {إِنّ مَثَلَ عِيسَىَ عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}(21)
_
والشبهة في هذا نشأت عند بعض الجهال من أن الإنسان إذا قال: روحي، فروحه في هذا الباب هي الروح التي في البدن، وهي عين قائمة بنفسها، وإن كان من الناس من يعني بها الحياة، والإنسان مؤلف من بدن وروح، وهي عين قائمة بنفسها عند سلف المسلمين وأئمتهم وجماهير الأمم.
والرب تعالى منزه عن هذا، وأنه ليس مركباً من بدن وروح، ولايجوز أن يراد بروحه مايريد الإنسان بقوله: روحي، بل تضاف إليه ملائكته وما ينزله على أنبيائه من الوحي والهدى والتأييد، ونحو ذلك.
_
وفي الختام نقول:
{ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ لآ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لاّ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ}(22)
قال تعالى
{وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدّونَ * وَقَالُوَاْ أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لّبَنِيَ إِسْرَائِيلَ}(23) ، انتهى .
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين
--------------------------------------------------------------------------------------
(1) سورة التحريم / 12
(2) سورة الشورى / 52
(3) سورة الشعراء / 193
(4) سورة النبأ / 38
(5) سورة الإسراء / 85
(6) لوقا/1/35
(7) التكوين/41/38
(8) كما بين ذلك العدد الذي يليه (ثم قال فرعون ليوسف بعدما اعلمك الله كل هذا ليس بصير وحكيم مثلك.)
(9) الخروج/31/1-3
(10) التثنية/34/9 ، وارجع إلى سفر العدد/27/18 (فقال الرب لموسى: خذ يشوع بن نون، فهو رجل فيه روح الرب، وضع يدك عليه) – الترجمة السبعينية ، دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط
(11) القضاة/6/34
(12) صاموئيل الأول/10/10
(13) حزقيال/3/23-24
(14) لوقا/1/41
(15) لوقا/1/67
(16) لوقا/2/25
(17) رسالته الأولى لأهل كورونثوس/3/16-17
(18) سورة الأنبياء / 91
(19) سورة مريم / 17 – 19
(20) سورة الحجر / 29
(21) سورة آل عمران / 59
(22) سورة الأنعام / 102 – 103
(23) سورة الزخرف / 57 – 59 والعبد المقصود به: المسيح عليه السلام
