باب ذكر حديث البراء المشهور الجامع لأحوال الموتى عند
قبض أرواحهم و في قبورهم
أخرجه أبو داود الطيالسي و عبد بن حميد في مسنديهما و
علي بن معبد في كتاب الطاعة و المعصية . و هناد بن السرى
في زهده . و أحمد بن حنبل في مسنده و غيرهم .
و هو حديث صحيح له طرق كثيرة تهمم بتخريج طرقه علي بن
معبد . فأما أبو داود الطيالسي فقال : حدثنا أبو عوانة
عن الأعمش . و قال هناد و أحمد : حدثنا أبو معاوية عن
الأعمش عن المنهال عن عمرو ، و قال : أبو داود : حدثنا
عمرو بن ثابت سمعه من المنهال بن عمرو عن زاذان عن
البراء ـ يعني ابن عازب ـ و حديث أبي عوانة أتمهما ، قال
البراء : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في
جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ، و لما يلحد ،
فجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم و جلسنا حوله ،
كأنما على رؤوسنا الطير ، قال عمر بن ثابت : وقع و لم
يقله أبو عوانة ، فجعل يرع بصره و ينظر إلى السماء و
يخفض بصره و ينظر إلى الأرض ، ثم قال : أعوذ بالله من
عذاب القبر قالها مراراً ثم قال : إن العبد المؤمن إذا
كان في إقبال من الآخرة و انقطاع من الدنيا ، جاءه ملك
فجلس عند رأسه فيقول اخرجي أيتها النفس الطيبة إلى مغفرة
من الله و رضوان فتخرج نفسه فتسيل كما يسيل قطر السقا
قال : عمرو في حديثه ، و لم يقله أبو عوانة و إن كنتم
ترون غير ذلك . و تنزل ملائكة من الجنة بيض الوجوه ، كأن
وجوههم الشمس ، معهم أكفان من أكفان الجنة ، و حنوط من
حنوطها . فيجلسون منه مد البصر فإذا قبضها الملك لم
يدعوها في يده طرفة عين قال : فذلك قوله تعالى : توفته
رسلنا و هم لا يفرطون قال : فتخرج نفسه كأطيب ريج وجدت ،
فتعرج به الملائكة فلا يأتون على جند بين السماء و الأرض
إلا قالوا : ما هذه الروح ؟ فيقال : فلان ، بأحسن أسمائه
حتى ينتهوا به أبواب سماء الدنيا فيفتح له ، و يشيعه من
كل سماء مقربوها حتى ينتهي إلى السماء السابعة ، فيقال :
اكتبوا كتابه في عليين و ما أدراك ما عليون * كتاب مرقوم
* يشهده المقربون فيكتب كتابه في عليين . ثم يقال : ردوه
إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلفتهم ، و فيها نعيدهم
، و منها نخرجهم تارة أخرى ، قال : فيرد إلى الأرض ، و
تعاد روحه في جسده ، فيأتيه ملكان شديدا الانتهار
فينتهرانه و يجلسانه ، فيقولان من ربك ؟ و ما دينك ؟ و
من نبيك ؟ فيقول ربي الله و ديني الإسلام ، فيقولان :
فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هو رسول
الله . فيقولان : و ما يدريك ؟ فيقول : جاءنا بالبينات
من ربنا فآمنت به و صدقت قال : و ذلك قوله تعالى : يثبت
الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في
الآخرة قال : و ينادي منادي السماء أن قد صدق عبدي
فأفرشوه من الجنة و ألبسوه من الجنة و أروه منزله منها و
يفسح له مد بصره . و يمثل عمله له في صورة رجل حسن الوجه
طيب الرائحة حسن الثياب فيقول : أبشر بما أعد الله لك
ابشر برضوان من الله و جنات فيها نعيم مقيم فينقول :
بشرك الله بخير ، من أنت فوجهك الوجه الذي جاء بالخير ؟
فيقول : هذا يومك الذي كنت توعد ، أو الأمر الذي كنت
توعد أنا عملك الصالح فو الله ما علمتك إلا كنت سريعاً
في طاعة الله بطيئاً عن معصية الله فجزاك الله خيراً .
فيقول يا رب أقم الساعة كي أرجع إلى أهلي و مالي قال :
فإن كان فاجراً و كان في إقبال من الدنيا و انقطاع من
الآخرة جاء ملك ، فجلس عند رأسه فقال : اخرجي أيتها
النفس الخبيثة أبشري بسخط من الله وغضبه ، فتنزل
الملائكة سود الوجوه معهم مسوح من نار فإذا قبضها الملك
قاموا فلم يدعوها في يده طرفة عين ، قال : فتفرق في جسده
فيستخرجها ، تقطع منها العروق و العصب كالسفود الكثير
الشعب في الصوف المبتل ، فتؤخذ من الملك فتخرج كأنتن
جيفة وجدت فلا تمر على جند فيما بين السماء و الأرض ،
إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة ؟ فيقولون : هذا فلان
بأسوأ أسمائه حتى ينتهوا به إلى سماء الدنيا فلا يفتح
لهم ، فيقولون : ردوه إلى الأرض إني وعدتهم أني منها
خلقتهم و فيها نعيدهم ، و منها نخرجهم تارة أخرى قال :
فيرمي به من السماء . قال : و تلا هذه الآية و من يشرك
بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به
الريح في مكان سحيق . قال : فيعاد إلى الأرض و تعاد فيه
روحه ، و يأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهزانه و
يجلسانه فيقولون : من ربك ؟ و ما دينك ؟ فيقول : لا أردي
. فيقولون : فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فلا
يهتدي لاسمه فيقال : محمد ، فيقول : لا أدري سمعت الناس
يقولون ذلك قال : فيقال : لا دريت ، فيضيق عليه قبره حتى
تختلف أضلاعه . و يمثل له عمله في صورة رجل قبيح الوجه
منتن الريح قبيح الثياب ، فيقول : أبشر بعذاب الله و
سخطه ، فيقول : من أنت فوجهك الذي جاء بالشر ؟ فيقول :
أنا عملك الخبيث فو الله ما عملتك إلا كنت بطيئاً عن
طاعة الله سريعاً إلى معصية الله .
قال عمرو في حديثه عن المنهال عن زاذان عن البراء عن
النبي صلى الله عليه و سلم : فيقيض له أصم أبكم بيده
مرزبه ضرب بها جبل صار تراباً أو قال : رميما فيضربه به
ضربة تسمعها الخلائق إلا الثقلين ، ثم تعاد فيه الروح
فيضرب ضربة أخرى لفظ أبي داود الطيالسي و خرجه علي بن
معبد الجهني من عدة طرق بمعناه : و زاد فيه : ثم يقيض له
اعمى أصم معه مرزبة من حديد فيضربه فيدق بها من ذؤابته
إلى خصره ثم يعاد فيضربه ضربة فيدق بها من ذؤابته إلى
خصره و زاد في بعض طرقه عند قوله مرزبة من حديد : لو
اجتمع عليه الثقلان لم ينقلوها . فيضرب بها ضربة فيصير
تراباً ثم تعاد فيه الروح ، و يضرب بها ضربة يسمعها من
على الأرض غير الثقلين ، ثم يقال : افرشوا له لوحين من
نار و افتحوا له باباً إلى النار ، فيفرش له لوحان من
نار و يفتح له باب إلى النار و زاد فيه عند قوله : و
انقطاع من الدنيا : نزلت به ملائكة غلاظ شداد معهم حنوط
من نار و سرابيل من قطران يحتوشونه فتنتزع نفسه كما
ينتزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبتل يقطع معه
عروقها ، فإذا خرجت نفسه لعنه كل ملك في السماء و كل ملك
في الأرض و خرج أبو عبد الله الحسين بن الحسين بن حرب ،
صاحب ابن المبارك في رقائقه بسنده عن عبد الله بن عمرو
بن العاص أنه كان يقول : [ إذا قتل العبد في سبيل الله
كان أول قطرة تقطر من دمه ، إلى الأرض كفارة للخطايا ثم
يرسل الله عز و جل بربطة من الجنة فيقبض فيها روحه . و
صورة من صور الجنة فيركب فيها روحه ثم يعرج مع الملائكة
كأن معهم و الملائكة على أرجاء السماء ، فيقولان : قد
جاء روح من الأرض طيبة ، و نسمة طيبة ، فلا تمر بباب إلا
فتح لها ، و لا ملك إلا صلى عليها و دعا لها : و يشيعها
، حتى يؤتى بها الرحمن . فيقولون : يا ربنا هذا عبدك
توفيته في سبيلك فيسجد قبل الملائكة ، ثم تسجد الملائكة
بعد ثم يطهر و يغفر له ثم يؤمر فيذهب به إلى الشهداء
فيجدهم في قباب من حرير في رياض خضر عندهم حوت و ثور يظل
الحوت يسبح في أنهار الجنة يأكل من كل رائحة في أنهار
الجنة ، فإذا أمسى و كزه الثور بقرنه فيذكيه فيأكلون
لحمه فيجدون في لحمه طعم كل رائحة و يبيت الثور في أفناء
الجنة فإذا أصبح غداً عليه الحوت فوكزه بذنبه فيذكيه
فيأكلون فيجدون في لحمه طعم كل رائحة في الجنة ثم يعودون
و ينظرون إلى منازلهم من الجنة ، و يدعون الله عز و جل
أن تقوم الساعة ، فإذا توفي العبد المؤمن بعث الله عز و
جل إليه ملكين و أرسل إليه بخرقة من الجنة ، فقال :
اخرجي أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى روح و ريحان و رب
عنك غير غضبان ، فتخرج كأطيب ريح من مسك ما وجدها أحد
بأنفه قط ، و الملائكة على أرجاء السماء يقولون قد جاء
من قبل الأرض روح طيبة و نسمة طيبة فلا تمر بباب إلا فتح
لها و لا بملك إلا دعا لها و صلى عليها ، حتى يؤتى بها
الرحمن فتسجد الملائكة ثم يقولون : هذا عبدك فلان قد
توفيته و كان يعبدك لا يشرك بك شيئاً ، فيقول مروه
فليسجد فتسجد النسمة ، ثم يدعى ميكائيل فيقول : اذهب
بهذه فاجعلها مع أنفس المؤمنين حتى أسألك عنها يوم
القيامة ثم يؤمر فيوسع عليه قبره سبعين ذراعاً عرضه و
سبعين ذراعاً طوله ، و ينبذ له فيه الرياحين و يستر
بالحرير ، فإن كان معه شيء من القرآن كفاه نوره . و إن
لم يكن معه جعل له في قبره نور مثل نور الشمس . و يكون
مثله كمثل العروس ينام فلا يوقظه إلا أحب أهله إليه ،
قال : فيقوم من نومه كأنه لم يشبع من نومته ، و إذا توفي
العبد الفاجر أرسل الله إليه ملكين و أرسل بقطعة من نجاد
أنتن من كل نتن و أخشن من كل خشن ، فقالا : أخرجي أيتها
النفس الخبيثة ، اخرجي إلى حميم و عذاب ، و رب عليك
غضبان أخرجي و ساء ما قدمت لنفسك ، فتخرج كأنتن رائحة
وجدها أحد بأنفه قط و على أرجاء السماء ملائكة يقولون :
قد جاءت من الأرض روح خبيثة ، و نسمة خبيثة فتغلق دونها
أبواب السماء ، و لا تصعد إلى السماء ثم يؤمر فيضيق عليه
قبره و يرسل عليه حيات أمثال أعناق البخت فتأكل لحمه حتى
لا تذر على عظمه لحماً ، و يرسل عليه ملائكة صم عمي
يضربونه بفطاطيس من حديد لا يسمعون صوته فيرحموه ، و لا
يبصرونه فيرحموه ، و لا يخطئون حتى يضربونه ، و يعرض
عليه مقعده من النار بكرة و عشيا يدعو بأن يدوم ذلك و لا
يخلص إلى النار .
و خرج أبو عبد الرحمن النسائي بسنده عن أبي هريرة أن
رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا احتضر المؤمن
أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون : أخرجي راضية
مرضياً عنك إلى روح و ريحان و رب راض غير غضبان فتخرج
كأطيب ريح المسك حتى إنه ليناوله بعضهم بعضاً حتى يأتوا
به باب السماء فيقولون : ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم
من الأرض ؟ فيأتون به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحاً من
أحدكم بغائبه يقدم عليه فيسألونه : ما فعل فلان ؟ ما
فعلت فلانة ؟ فيقولون : دعوه فإنه كان في غم الدنيا فإذا
قال : ما أتاكم ؟ قالوا : ذهب به إلى أمه الهاوية و إن
الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح فيقولون :
اخرجي ساخطة مسخوطاً عليك إلى عذاب الله فيخرج كأنتن ريح
خبيثة حتى يأتوا به باب الأرض فيقولون : ما أنتن هذه
الريح ؟ حتى يأتوا به أرواح الكفار .
و خرج أبو داود الطيالسي قال : حدثنا حماد ، عن قتادة
، عن أبي الجوزاء ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه
و سلم قال : إذا قبض العبد المؤمن جاءته ملائكة الرحمة
فتسلم تسل نفسه في حريرة بيضاء فيقولون : ما وجدنا ريحاً
أطيب من هذه . فيسألونه فيقولون : ارفقوا به فإنه خرج من
غمم الدنيا . فيقولون : ما فعل فلان ؟ ما فعلت فلانة ؟
قال : و أما الطافر فتخرج نفسه فتقول خزنة الأرض ما
وجدنا ريحاً أنتن من هذه فيهبط به إلى أسفل الأرض
من كتاب التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة