رد شبهة الكتابي فداء للمسلم من النار



لأجل مناقشة هذه الشبهة يجب فهم حقيقة التقابل بين الجنة والنار كمصير نهائي جامع لكل الناس المؤمنين والكافرين الذين استقر موقف كل طرف منهم بالتقابل مع الطرف الآخر والتقابل معناه التضاد بين طرفين مع وجود قاسم مشترك بينهما
وله ثلاث مستويات
الأول التقابل بين الجنة والنار
الثاني التقابل بين عمل أهل الجنة والنار
الثالث التقابل بين جزاء أهل الجنة والنار
الأول التقابل بين الجنة والنار
والتضاد بين الجنة والنار واضح لا يحتاج إلى بيان
والقاسم المشترك بينهما هو وجود مكان لكل إنسان في الجنة والنار
فالمؤمن له مكان في الجنة والنار والكافر له مكان في الجنة والنار
والمؤمن يرث مكان الكافر في الجنة والكافر يرث مكان المؤمن في النار
ومن هنا كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ...
: « إِنَّ الْمَيِّتَ يَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ فَيُجْلَسُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ في قَبْرِهِ غَيْرَ فَزِعٍ وَلاَ مَشْعُوفٍ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : فِيمَ كُنْتَ فَيَقُولُ : كُنْتُ فِى الإِسْلاَمِ. فَيُقَالُ لَهُ : مَا هَذَا الرَّجُلُ فَيَقُولُ : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَصَدَّقْنَاهُ.
فَيُقَالُ لَهُ : هَلْ رَأَيْتَ اللَّهَ فَيَقُولُ : مَا يَنْبَغِى لأَحَدٍ أَنْ يَرَى اللَّهَ. فَيُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ النَّارِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيُقَالُ لَهُ : انْظُرْ إِلَى مَا وَقَاكَ اللَّهُ. ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ الْجَنَّةِ فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا وَمَا فِيهَا فَيُقَالُ لَهُ : هَذَا مَقْعَدُكَ. وَيُقَالُ لَهُ : عَلَى الْيَقِينِ كُنْتَ وَعَلَيْهِ مُتَّ وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَيُجْلَسُ الرَّجُلُ السُّوءُ في قَبْرِهِ فَزِعًا مَشْعُوفًا فَيُقَالُ لَهُ : فِيمَ كُنْتَ فَيَقُولُ : لاَ أَدْرِى. فَيُقَالُ لَهُ : مَا هَذَا الرَّجُلُ فَيَقُولُ : سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ قَوْلاً فَقُلْتُهُ. فَيُفْرَجُ لَهُ قِبَلَ الْجَنَّةِ فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا وَمَا فِيهَا فَيُقَالُ لَهُ : انْظُرْ إِلَى مَا صَرَفَ اللَّهُ عَنْكَ. ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ النَّارِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيُقَالُ لَهُ : هَذَا مَقْعَدُكَ عَلَى الشَّكِّ كُنْتَ وَعَلَيْهِ مُتَّ وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ». سنن ابن ماجه - (ج 12 / ص 476)
ولعلنا نلاحظ أن موضوع الإختبار هو الإيمان بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ورؤية الله عز وجل في الدنيا وهما القضيتان الفاصلتان بين المسلمين وأهل الكتاب
كما نلاحظ أن النعيم لن يكون دخول الجنة فقط ولكنه أيضا النجاة من النار
وأن العذاب لن يكون دخول النار فقط ولكنه أيضا الحرمان من الجنة
..وهذا هو معنى نسبية الجزاء بين أهل الجنة وأهل النار
وعلى أساس هذه النسبية يكون تحديد مصير كل طرف بالنسبة للطرف الآخر من حيث العمل ومن حيث الجزاء
وبذلك يكون كل من يدخل النار فكاك لكل من يدخل الجنة
لأنه كما سبق وتبين أن من يدخل الجنة يرث مقعد الكافر في الجنة وكل من يدخل النار يرث مقعد المؤمن في النار
فكل الكافرين فداء لكل المؤمنين
وهذا هو المعنى العام للعلاقة بين أهل الجنة والنار
ومن هنا لاتجد في القرآن قول الله عز وجل "أصحاب الجنة " و " أصحاب النار " الا وتجد نسبية العلاقة بين أهل الجنة وأهل النار وهو ما جاء في الأعراف
حيث تجد تكرار هذا التعبير في سورة الأعراف باعتبار أن الموضوع الأساسي للسورة هو تلك المقارنة
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (لأعراف:36)
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (لأعراف:42)
(وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (لأعراف:44)
(وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلّاً بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ) (لأعراف:46)
(وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (لأعراف:47)
(وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) (لأعراف:48)
(وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) (لأعراف:50)
ثم تأتي إلى المعنى الخاص وهو النسبة الخاصة بين عمل أهل الجنة وأهل النار
أو النسبة الخاصة بين المسلمين واليهود والنصارى
ويجمع اليهود والنصارى مصطلح " أهل الكتاب " لتكون العلاقة هي المسلم والكتابي واختصاص العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب هو الذي يقوم عليه نسبية الجزاء في الجنة والنار
وهذا الإختصاص هو أن اليهود والنصارى والمسلمين كانوا مخاطبين بالعمل لله وفقا لما ورد في الحديث الذي رواة ابن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ، فأوتى أهل التوراة التوراة ، فعملوا إلى نصف النهار ثم عجزوا ، فأعطوا قيراطا (1) قيراطا ، وأوتي النصارى الإنجيل ، فعملوا إلى صلاة العصر ثم عجزوا ، فأعطوا قيراطا قيراطا ، فأوتينا القرآن ، فعملنا من صلاة العصر إلى غروب الشمس ، فأعطينا قيراطين (2) قيراطين ، فقالت اليهود والنصارى : يا ربنا ، إنا كنا نحن أكثر عملا منهم ، وأعطيتنا قيراطا قيراطا ؟ فقال تبارك وتعالى : هل ظلمتكم من أجوركم شيئا ؟ قالوا : لا ، قال : فهو فضلي أوتيه من أشاء »
مسند أبي يعلى الموصلي - (ج 11 / ص 328)
وهذا الحديث يثبت نسبية العلاقة في الجزاء بين المسلمين وأهل الكتاب
وقد أتت هذه النسبية من مخاطبة الله عز وجل لأهل الكتاب والمسلمين للعمل لله عز وجل ثم تخلى أهل الكتاب واستجابة المسلمين
وقد نشأ عن موقف أهل الكتاب بالتخلي عن العمل لله.. الإنحراف عن التوحيد إلى الشرك وهو الموضوع الأساسي الفاصل في دخول الجنة والنار
فيصير التوحيد موضوعا للمقارنة المحققة لنسبية الجزاء بين المسلم الموحد والكتابي المشرك
فيكون دخول المسلم الجنة بثباته على التوحيد مقابلا لدخول الكتابي النار بتبديل دينه إلى الشرك فيكون دخول الكتابي المشرك إلى النار له علاقة متقابله مع دخول المسلم الثابت على التوحيد
وذلك لعدة أسباب
ـ أن المفاصلة العقيدية في دخول الجنة والنار هي نفسها المفاصلة العقيدية
بين المسلمين وأهل الكتاب بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في سؤال القبر فَيُقَالُ لَهُ : هَلْ رَأَيْتَ اللَّهَ فَيَقُولُ : مَا يَنْبَغِى لأَحَدٍ أَنْ يَرَى اللَّهَ. فَيُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ النَّارِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيُقَالُ لَهُ : انْظُرْ إِلَى مَا وَقَاكَ اللَّهُ. ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ الْجَنَّةِ فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا وَمَا فِيهَا فَيُقَالُ لَهُ : هَذَا مَقْعَدُكَ. وَيُقَالُ لَهُ : عَلَى الْيَقِينِ كُنْتَ وَعَلَيْهِ مُتَّ وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وقد زعم اليهود والنصارى تجسد الله ورؤيته في الدنيا مثلما قالوا في العزير والمسيح (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (التوبة:30)
فأصبح أهل الكتاب فتنة للمسلمين في دينهم وعقيدتهم حتى أصبح ثبات المسلم علي التوحيد له علاقة بشرك أهل الكتاب وفتنهم للمسلم عن دينه ( وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 109 وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 110 وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ 111 بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ 112)
ولعلنا نلاحظ الربط القرآني بين رغبة أهل الكتاب في ارتداد المسلمين عن دينهم طلب العفو من المسلمين لكي يكون الأمر فيهم خالصا لله
كما نلاحظ أمر الله إلى المسلمين بالثبات على الدين بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وفعل الأعمال التي يدخلون بها الجنة وزعم أهل الكتاب أنه لن يدخل الجنة
أحد غيرهم
والقاعدة الحاكمة للجميع هي قول الله عز وجل :
( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ 112)
فأهل الكتاب بشركهم وتحريفهم وحربهم وفتنتهم للمسلمين وحسدهم علي الدين.. هو موقف الظالم
حيث ينطبق عليهم مع المسلمين قاعدة الظالم والمظلوم الموجبة لأخذ الحسنات من الظالم وإعطائها للمظلوم وطرح سيئات المظلوم على الظالم
فيصير كل ظالم فكاك لكل مظلوم
سواء علي مستوى فردي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ ». صحيح مسلم - (ج 16 / ص 462)
أو المستوى الأممي كما بين المسلمين وأهل الكتاب
حيث أخذ أهل الكتاب والمسلمين حكم الظالم والمظلوم الوارد في الحديث
ومن هنا جاء قول النبي صلى الله عليه وسلم : « يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب مثل الجبال يغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى »
والمراد يضع عليهم مثلها بذنوبهم أو المراد آثام كان الكفار سببا فيها بأن سنوها فتسقط عن المسلمين بعفو الله وتوضع على الكفار لكونهم سنوها الديباج على مسلم - (ج 6 / ص 108)
وقوله في رواية (وَيَضَع عَلَى الْيَهُود وَالنَّصَارَى مِثْلهَا بِكُفْرِهِمْ وَذُنُوبهمْ ، فَيُدْخِلهُ النَّار بِأَعْمَالِهِمْ لَا بِذُنُوبِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا بُدّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيل لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى }
ويفسر قوله: (( دَفَعَ إِلَى كُلِّ مُسْلِم يَهُوديّاً أَوْ نَصْرَانِيّاً، فَيَقُولُ: هَذَا فِكَاكُكَ مِن النَّارِ )) مَعنَاهُ مَا جَاءَ في حديث أَبي هريرة - رضي الله عنه -: (( لِكُلِّ أَحَدٍ مَنْزلٌ في الجَنَّةِ، وَمَنْزِلٌ في النَّارِ، فَالمُؤْمِنُ إِذَا دَخَلَ الجَنَّةَ خَلَفَهُ الكَافِرُ في النَّارِ؛ لأنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ بِكفْرِهِ )) ومعنى (( فِكَاكُكَ )): أنَّكَ كُنْتَ معْرَّضاً لِدُخُولِ النَّارِ، وَهَذَا فِكَاكُكَ؛ لأنَّ الله تَعَالَى، قَدَّرَ للنَّارِ عَدَداً يَمْلَؤُهَا، فَإذَا دَخَلَهَا الكُفَّارُ بِذُنُوبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، صَارُوا في مَعنَى الفِكَاك للمُسْلِمِينَ، والله أعلم رياض الصالحين - (ج 1 / ص 273)
ولما كان اليهود هم بداية التحريف والحسد والفتنة والنصارى هم لهم تبع في ذلك
أختصهم القرآن بالذكر فقال سبحانه " أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا " (54)
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"أم يحسدون الناس"، أم يحسد هؤلاء الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب من اليهود
وعن مجاهد في قول الله:"أم يحسدون الناس"، قال: يهود.ويعضده قوله تعالى: (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم (2)). تفسير القرطبي - (ج 6 / ص 137)
وقد كان لوضع السيئات علي اليهود تحديدا مثال قرآني واضح
وهو ماجاء في قول الله في سورة المائدة:
)وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أحدهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ( (المائدة: 27
(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) (المائدة:29)
ويجب الإنتباه إلى قول ابن آدم (بإِثْمِي وَإِثْمِكَ) و(أَصْحَابِ النَّارِ)
حيث تحمل الإبن الظالم إثم الإبن المظلوم
والمعنى " بإثمي " الذي يختص بي فيما فرطت (1)، أي يؤخذ من سيئاتي فتطرح عليك بسبب ظلمك لي، وتبوء بإثمك في قتلي، وهذا يعضده قوله عليه الصلاة والسلام: (يؤتى يوم القيامة بالظالم والمظلوم فيؤخذ من حسنات الظالم فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه).
وكذلك إثم من فعل فعله بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى اِبْن آدَم الْأَوَّل كِفْلٌ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّل مَنْ سَنَّ الْقَتْل )
ثم تثبت الآيات قاعدة هامة في علاقة الجزاء بين أهل الجنة والنار
وهي أن الإثم يقع على من تتوافر فيه العلة التي وقع بها الإثم ابتداءا
وهو قول الله.. في آخر القصة: )مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا( (المائدة: 32).
إذ أن أخطر أسرار التكوين النفسي لليهود هو حسد العباد على القرب من الله، حتى أصبحوا لا يطيقون رؤية عبد قريب من الله سبحانه ..
ولعل حادثه العابد جريج دليل على ذلك وفيه" فَتَذَاكَرَ بَنُو إسْرائِيل جُرَيْجاً وَعِبَادَتَهُ ، وَكَانَتِ امْرَأةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بحُسْنِهَا ، فَقَالَتْ: إنْ شِئْتُمْ لأَفْتِنَنَّهُ ، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ " (1)
ولما كان الحسد هو العلة التي جعلت ابن آدم الأول يقتل أخيه وكان الحكم دائرا مع العلة كان حكم الله في اليهود هو ما ورد في الآية (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا( (المائدة: 32).
وبذلك يقع إثم الضلال على أهل الكتاب بسبب إبتداءهم للضلال وبسبب توفر علته فيهم
وفوق ما تقدم يكون من أسباب وضع الذنوب على أهل الكتاب .. دعوتهم إلى الضلال وهي قاعد عامة في الحساب والجزاء كما في الحديث
ـ عن أبي هريرة قال قال رسول الله من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي
وَهَذَا الْحَدِيث مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلام ، وَهُوَ : أَنَّ كُلّ مَنْ اِبْتَدَعَ شَيْئًا مِنْ الشَّرّ كَانَ عَلَيْهِ مِثْل وِزْر كُلّ مَنْ اِقْتَدَى بِهِ فِي ذَلِكَ الْعَمَل مِثْل عَمَله إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ، شرح النووي على مسلم - (ج 6 / ص 88)
وبذلك يكون تفسير الفداء هو أن الذنوب التي فعلها المسلمون إتباعا لأهل الكتاب في ضلالهم يكون على المسلم فيها وزر الإتباع
وعلى الكتابي وزر الدعوة للضلال
لأن من دعا إلى ضلال فعليه وزره ووزر من عمل به لاينقص من أوزارهم شيء ,فيغفر الله للمسلم وزر الإتباع إن شاء
ويبقي على الكتابي وزر الدعوة إلى الضلال
وذلك بحسب أساس علاقة الجزاء بين المسلم والكتابي وهي أن أجر الأمة المسلمة باعتبارها صاحبة تمام العمل لله حتى قيام الساعة بحسب ما ورد في الحديث" فأعطينا قيراطين (2) قيراطين ، فقالت اليهود والنصارى : يا ربنا ، إنا كنا نحن أكثر عملا منهم ، وأعطيتنا قيراطا قيراطا ؟ فقال تبارك وتعالى : هل ظلمتكم من أجوركم شيئا ؟ قالوا : لا ، قال : فهو فضلي أوتيه من أشاء »
ونسبية الجزاء بمضاعفة أجر الأمة الإسلامية بالنسبة لأمة أهل الكتاب قاعدة عامة ينبني عليها العلاقة التفصيلية بين أفراد الأمم الثلاثة
وأن هذه القاعدة العامة ينشأ عنها عدة أحكام
ـ أن يكون لمن أسلم من أهل الكتاب أجر مضاعف
كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « ثَلاَثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ ، وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم.. » - صحيح البخارى - (ج 1 / ص 181)
ـ أن يكون لمن قتل من المسلمين بيد أهل الكتاب أجر شهيدين
جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم (يقال لها ام خلاد وهى متنقبة تسأل عن ابن لها وهو مقتول فقال لها بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - 1) جئت (2) تسألين عن ابنك وأنت منتقبة فقالت أن ارزأ ابني فلن ارزأ حيائي فقال رسول الله صلى الله وسلم ابنك له اجر شهيدين قالت ولم ذاك يا رسول الله ؟ قال لأنه قتله أهل الكتاب" السنن الكبرى للبيهقي - (ج 9 / ص 175)
وكل ذلك ناشئ عن تمام المسلمين للعمل لله وتراجع أهل الكتاب
وبذلك يكون معنى الفداء هي آثَامً كَانَتْ الْكُفَّارُ سَبَبًا فِيهَا بِأَنْ سَنُّوهَا فَلَمَّا غُفِرَتْ سَيِّئَات الْمُؤْمِنِينَ بَقِيَتْ سَيِّئَاتُ الَّذِي سَنَّ تِلْكَ السُّنَّةَ السَّيِّئَةَ بَاقِيَةً لِكَوْنِ الْكَافِرِ لا يُغْفَرُ لَهُ، فَيَكُون الْوَضْع كِنَايَة عَنْ إِبْقَاء الذَّنْب الَّذِي لَحِقَ الْكَافِرَ بِمَا سَنَّهُ مِنْ عَمَلِهِ السَّيِّئِ ، وَوَضَعَهُ عَنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي فَعَلَهُ بِمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ الْعَفْو
وقاعدة الفكاك الثابتة في العلاقة بين الأمة الإسلامية وأمة أهل الكتاب من جهة
وبين الأمة الإسلامية وأمة يأجوج ومأجوج من جهة أخرى, تفسر حقيقة الفكاك وهو أن يكون يأجوج ومأجوج في آخر الزمان فداء هم أيضا للمسلمين من النار كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يقول الله تبارك وتعالى لآدم يوم القيامة يا آدم قم فابعث من ذريتك بعث النار فيقول يا رب وما بعث النار فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ويبقى واحد.. فشق ذلك على أصحابه فقالوا يا رسول الله من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ويبقى واحد فأينا ذلك الواحد فدخل منزله ثم خرج عليهم فقال من يأجوج ومأجوج ألف ومنكم واحد..) السنن الكبرى للنسائي - (ج 6 / ص 409)
واختصاص المسلمين بالفداء من أهل الكتاب و من يأجوج ومأجوج هو وجود أهل الكتاب مع بداية وجود الأمة واستمرارها ووجود يأجوج ومأجوج في خاتمة وجود الأمة في آخر الزمان
والخاتمة هي أخطر قواعد الجزاء عند الله لما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار الأعمال بالخواتيم ) صحيح البخاري - (ج 6 / ص 2436)
ومن هنا ستكون فتنة يأجوج وأجوج بهذا الإعتبار هي أخطر ما ستواجهه الأمة في تاريخها كله
ومن هنا كان يأجوج ومأجوج فداء للأمة من النار تماما مثل أهل الكتاب لموقفهما من الأمة بفتنتها وظلمها من البداية حتى النهاية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ