المطلب الثالث
من مبادئ الشريعة الإسلامية العامة
مبدأ الشورى
والحديث عن مبدأ الشورى ونظام الحكم على فرعين:
الفرع الأول: الشورى كمبدأ من مبادئ نظام الحكم في الإسلام.
الفرع الثاني: نظام الحكم الإسلامي بين الشّورى والديمقراطية
الفرع الأول
الشورى كمبدأ من مبادئ نظام الحكم في الإسلام.
تعريف الشورى في مفهوم الفقه الدستوري هي: «تبادل الرأي بين المتشاورين من أجل استخلاص الصواب من الرأي، والأنجح من الحلول، والسديد من القرارات، وهي من مبادئ الشريعة، وأصل من أصول الحكم».
وإذا ما أتينا إلى الشورى، الذي هو ركن من أركان نظام الحكم في الإسلام، متى ما طبّق شكلا ومضمونا، وان لم تحدد الشريعة معالمه، ولم يهتد المسلمون إلى تقرير شكله وأسلوبه عبر العصور، فانه ينبغي التوقف أمامه عند سؤال كبير، سيظل يتردد على المسامع إلى حين، وهو: هل تطبق الشورى على أصولها في الدول التي تأخذ بها؟..
وبما أن النموذج الأكثر تعبيرا عن مفهوم الشورى الذي ورثناه من الخلافة الإسلامية (وهو مفهوم أهل الحل والعقد)، يظل النموذج شبه الوحيد، لكنه لم يجرّب حديثا ولم يبلور بعد على نطاق عملي، وما يزال ضبابيا، ولا أظن أن صيغة مجالس الشورى القائمة تمثل مفهومه وتحقق فلسفته ومقاصده. لقد ظهرت فكرة «أهل الحل والعقد والاختيار» في فترة مبكرة من عهد الخلافة الراشدة، بدأت بعدد محدود، وكان الهدف منها عقد البيعة للخليفة الخلف، ثم اختفت مع ظهور أنماط مختلفة من نظم الحكم في العهود الإسلامية اللاحقة.
لكن «عمومية» اللفظ بقيت في بطون كتب التاريخ وان خصصها بعض مفكري المسلمين بقليل من التعليقات التنظيرية في الكتب التي تناولت نظم الحكم في الإسلام.
الفرع الثاني
نظام الحكم الإسلامي بين الشّورى والديمقراطية
موضوع( نظام الحكم الإسلامي بين الشّورى والديمقراطية) يهدف إلى بيان المقصودبالديمقراطية في المجتمعات المعاصرة،وعقد مقارنة بينها وبين حقيقة الشّورى في النظرالإسلامي بقصد الوصول إلى الموقف الإسلامي من الديمقراطيّة، وبيان إمكانيّة تبنيها في المجتمعات الإسلاميّة المعاصرة.. وما حدود ذلك وشروطه والآليّات اللازمة له، في إطار يركز على بيان الحكم الشرعي المعتمد، من منطلق أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره؛ وبيان المقصود منه اعتماداً على النصوص والتطبيقات المتعلقة بالموضوع وعلىحرص الشريعة على تحقيق مصالح العباد، وفق ما بيَّنه علماؤنا في مباحث مقاصد الشريعة والمصالح المرسلة والاستحسان والعرف.
وتأتي أهمية البحث في هذا الموضوع من منطلق التوجّه العالمي إلى تبني الديمقراطيّة، عنواناً لاستقرار المجتمعات الإنسانيّة وتقدّمها، وبخاصّة في مجال الحياة السياسيّة، والمحافظة على حقوق الإنسان وحرياته.. بحيث بات تبنّي الديمقراطيّة مطلباً عالمياً تركز عليه حركات الإصلاح في المجتمعات المعاصرة، وأصبح الموقف منها مقياساً لمدى تقدم المجتمع ونهوضه، ومعياراً للحكم على صلاح النظم والمذاهب والحركات والتجمّعات والأحزاب السياسيّة.
ومن الأهمية بمكان أن نلاحظ أنّ الحكم على نجاح الأفكاروالمفاهيم الديمقراطية بات يركز على صيغها وآلياتها وآثارها ونتائجها، ولا يهتم بأسسها الفلسفيّة، وما كانت عليه مفاهيمها في البداية أو في إطار النظم والفلسفات الأخرى، ومن هنا فإنه من المهم الوعي على هذه النقطة لأهميتها في تسهيل الحكم عليهامن الناحية الشرعيّة، حيث يبادر العديد من الباحثين المهتمين بدراسة هذا الأمر إلى القول بتحريم الأخذ بالأفكار والمفاهيم الديمقراطيّة بالنظر إلى أسسها الفلسفيّة،باعتبارها مصطلحاً غربياً طارئاً على الثقافة الإسلاميّة، له مدلولاته الخاصّة في الثقافات المغايرة.. وأنّ الأخذ بها قد يؤدي إلى الخلط بين الفلسفات والنظم، واستيراد المضامين غير الإسلاميّة، وليس فقط الأخذ بالصيغ والآليّات.
ويمكن تشبيه ما يدور حول استخدام لفظ الديمقراطيّة في الفكر والواقع الإسلاميين المعاصرين بما دار حول استخدام لفظ الاشتراكيّة في منتصف القرن الماضي، فقد سمى بعض الباحثين ما قدمه الإسلام من معالجة لمشكلات الفقر وتوزيع الثروة والدخل وتحقيق العدالة الاجتماعيّة في الإسلام باشتراكيّة الإسلام، ورفض بعضهم هذه التسمية واعتبرها خطراً يهدّد الفكر الإسلامي المعاصر، لأنه يؤدي إلى دخول بعض المفاهيم الغريبة عن الإسلام في هذا الفكر (انظر اشتراكية الإسلام، د. مصطفى السباعي حيث ناقش هذا الموضوعوعرض لحجج المانعين والموافقين وانتهى إلى ترجيح هذا الاستخدام، ص 6 – 8 .).
وعلى ضوء هذا كله فإنّ هذا المبحث سوف يهتم ببيان الأمور التالية:
1ـ المقصود بالديمقراطيّة في المجتمعات المعاصرة، وعلاقة ذلك بأصولها الفلسفيّة،بهدف بيان إمكانيّة فصلها بصيغها وممارساتها المعاصرة عن أصولها الفلسفيّة.
2ـ حقيقة الشّورى في النظر الإسلامي، وأدلتها وتطبيقاتها ومقارنتها بالصيغ الديمقراطية المعاصرة.
3ـ الحكم على الصيغ الديمقراطيّة المعاصرة من وجهة نظر إسلاميّة، وبيان كيف يمكن للتطبيق الإسلامي المعاصر أن يتبنى هذه الصيغ وينتفع بها، دون إخلال بالمبادئ والقواعد الإسلاميّة.
وأخصص لكل أمر من هذه الأمور مبحثاً مستقلاً.
المبحث الأول
المقصود بالديمقراطيّة في المجتمعات المعاصرة وعلاقة ذلك بأصولها الفلسفيّة
يذكر الباحثون أنّ الديمقراطيّة تعني حكم الشعب للشعب ، وقد نادى المفكرون والمصلحون بهذا المفهوم في وجه الديكتاتورية التي تعني حكم الفرد للشعب. (انظر الديمقراطية التقدميّة والاشتراكيّة الثوريّة، د. عدنان الأتاسي، ص 97.).
وقد أوضحوا أنّ هذه اللفظة قديمة في استعمالها، إذ استخدمها الإغريق القدامى لأول مرة في القرن الخامس قبل الميلاد.
فالديمقراطية: كلمة مشتقة من الكلمة اليونانية Δήμος أو Demos وتعني عامة الناس، والنصف الثاني Κρατία أو kratia وتعني حُكم، Democratia حكم عامة الناس.
يمكن استخدام مصطلح الديمقراطية بمعنى ضيق لوصف دولة- قومية أو بمعنى أوسع لوصف مجتمعحر.
فهي مصطلح يوناني مركب من لفظين: «ديموس» أي الشّعب و«كراتوس» أي السّلطة، فهي تعني سلطة الشّعب، وقد ظهرت أول ما ظهرت في كتابتاريخ حرب البيلو بونيز للمؤرخ اليوناني توسيد يوس (460 – 400 قبل الميلاد) الذي نقل قول بيريكليس – وهو يرثيه – التالي: «إنّ دستورنا لا ينقل عن الدول الأخرى،فنحن نموذج للآخرين .. إنّ حكومتها – يقصد أثينا – ترعى الأغلبيّة لا الأقليّة . ولهذا تسمى ديمقراطيّة (انظر ذلك معنى الديمقراطيّة، صول. ك. بادوفر، ترجمة جورج عزيز، دار الكرنك للنشرالقاهـرة 1997م، ص23.).
ويقول توسيديوس: أن بيريكليس كان يتصور الديمقراطيّة نظام حكم يتمتع في ظله الناس جميعاًبالمساواة أمام القوانين، ويُنتخب موظفوه على أساس من كفاءتهم، لا على أساس الطبقة التي ينتمون إليها، ويستند إلى المبدأ القائل إنّ الأغلبيّة أكثر حكمة من الأقليّة..(انظر ذلك في: معنى الديمقراطيّة، صول. ك. بادوفر، ترجمة جورج عزيز، دار الكرنك للنشر القاهرة 1997م، ص 23 - 24.).
وقد طبقت الديمقراطيّة نظاماً للحكم في أثينا خلال القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد.. وكانت هذه الديمقراطيّة ديمقراطيّة مباشرة تتكون الجمعية العموميّة فيهامن جميع أفراد الشّعب، مستبعداً منهم الإناث والعبيد ومادون العشرين سنة، حيث يتولّى هؤلاء اختيار الحكام والقضاة، ووضع القوانين المقدمة من المجلس النيابي،وإعلان الحرب والسلام وعقد المعاهدات وغيرها، أمّا المجلس النيابي فيتكون من خمسمائة عضو عن كل قبيلة من قبائل أثينا العشرة، على أن تكون أعمارهم فوق الثلاثين،ومدّة العضويّة سنة، ولا يعاد الاختيار إلا مرّة واحدة طوال الحياة، ويتولّى المجلس بالإضافة لإعداد مشروعات القوانين الإشراف على أجهزة الإدارة والشؤون الماليّة وعلى الجيش.. وفي النظام مناصب أخرى مثل المحاكم الشعبيّة والقواد العشرة والمناصب العامة الأخرى (انظر بالتفصيل: الشّورى وأثرها في الديمقراطيّة، ص 22 وما بعدها.).
وقد أخذ على هذا النظام ملاحظات عديدة منهااستبعاد النساء والاعتراف بنظام العبودية واستبعاد العبيد، وأنها قررت الحريّةالمطلقة بطريقة تتيح للفرد أن يفعل ما يشاء، وأنها ساوت بين الصالحين وغير الصالحين،وأنّ السيادة في كثير من الأحوال للأغلبية لا للقانون، وقد وجّه هذه الانتقادات كلمن أفلاطون وأرسطو وغيرهم (انظر بالتفصيل: الشّورىوأثرها في الديمقراطيّة، ص 32 - 38.).
ويذكر بعض الباحثين أنّ الديمقراطيّة تعني المشاركة الشعبيّة في شؤون الحكم (د. عبد الحميد الأنصاري، الشّورى وأثرهافي الديمقراطيّة، ص 21.).
وقد ذكر الباحثون أنّ للديمقراطيّة في مجالات السياسات والنظم ما لا يقل عن خمسميزات أساسيّة هي:
1. المساواة أمام القانون.
2. المساواة في الاقتراع.
3. انتخاب الممثلين النيابيين دورياً.
4. التشريع بموافقة الأغلبيّة.
5. حريّة العمل السياسي ووضع البرامج السياسيّة.
(يراجع بالتفصيل معنى الديمقراطية، صول. ك. بادوفر، ترجمة جورج عزيز،دار الكرنك للنشر القاهرة 1997م، ص 19.)
ويقول الدكتور عدنان الأتاسي: ومن الوجهة العمليّة إنّ للديمقراطية اليوم شقين يتمم أحدهم الآخر:
1ـ تعني الديمقراطيّة تمتع كل مواطن بالأمن الشخصي وبالحريّات المدنيّة والسياسيّة، وخاصّة بالمساواة في الحقوق والواجبات، وبقضاء عادلمستقل.
2ـ تعني الديمقراطيّة أيضاً، أن يكون للمواطنين رأي في انتقاء الحكام وفي توجيهالحكم ومراقبته، وذلك عن طريق التصويت العام الحرّ في فترات متقاربة (الديمقراطية التقدميّة والاشتراكيةالثوريّة، ص 97.).
فهي تقول بحقّ الإنسان بأن يعيش حرّاً ضمن حدود القانون، وأن يساهم في الحياةالسياسيّة ضمن نظام قائم على إرادة الشعب (الديمقراطية التقدميّة والاشتراكيةالثوريّة، ص 114)، وبحيث تتعمق هذه المبادئ في حس المواطنين وسلوكهم وهذا يقتضي إطلاق حريات الأفراد، والالتزام برأي الأكثرية معاحترام رأي الأقلية، في إطار تطبيق القانون على الجميع. ذلك أنّ تطبيق المبادئ الديمقراطيّة يحتاج إلى تربية سياسيّة وتوجيه مستمر حتى لا تقع الأخطاء ويقع القصورفي الممارسة والتطبيق (انظر المرجع نفسه عند الحديث عما أسماه بعيوب الديمقراطيّة وكيفية علاجها، ص 132 وما بعدها.).
وواضح أنّ هذا الفهم يجعل التشريع للأغلبيّة من خلال الممثلين النيابيين، منمنطلق أن التشريع ووضع القوانين الضابطة لنواحي الحياة المتعددة هو من صلاحيّة الشّعب يمارسها من خلال مجلس منتخب تؤخذ القرارات فيه بالأغلبيّة. فهو فهم لا يلاحظولا يهتم بوجود شريعة إلهيّة حملها الرسل والأنبياء يجب الالتزام بها والعمل بموجبها، لذلك يهاجم كثير من المتمسكين بوجوب تطبيق الشريعة هذا الفهم وينددون به،ويعتبرونه مخالفاً لوجوب تطبيق الشريعة، ومن هنا فإنّ عدداً من العلماء المسلمين أشاروا إلى هذا الفهم ومتعلقاته باعتباره نوعاً من أنواع الحكم الذي يختلف عن الحكم الإسلامي المقبول.
المفضلات