أحسنت أخي المراقب ، بارك الله فيك وحفظك من كل سوء .
وتعقيبًا على قولك : (( فكفى بالمنهج فسادًا أن يصعب على العلماء ضبطه ! )) انقل لك قول فخر الدين الرازي رحمه الله في تفسيره الكبير : (( واعلم أن مذهب النصارى مجهول جدًا . . . )) الرازي ، مفاتيح الغيب ج6 ص118 .
قلت : قول الرازي رحمه الله أن مذهب النصارى مجهول إنما هو من تخبط هؤلاء في تصويره و تعريفه ، وقد سبقه أبو عثمان الجاحظ في هذه الملحوظة فقال : (( ولو جهدت بكل جهدك ، وجمعت كل عقلك أن تفهم قولهم في المسيح ، لما قدرت عليه حتى تعرف به حد النصرانية وخاصة قولهم في الإلهية .
وكيف تقدر على ذلك ، وأنت لو خلوت ونصراني نسطوري فسألته عن قولهم في المسيح لقال قولاً ، ثم إن خلوت بأخيه لأمه وأبيه وهو نسطوري مثله فسألته عن قولهم في المسيح لأتاك بخلاف أخيه وضده . وكذلك جميع الملكانية واليعقوبية . ولذلك صرنا لا نعقل حقيقة النصرانية كما نعرف جميع الأديان .
على أنهم يزعمون أن الدين لا يخرج في القياس ولا يقوم على المسائل ولا يثبت في الامتحان وإنما هو بالتسليم لما في الكتب والتقليد للأسلاف .. ولعمري إن من كان دينه دينهم ليجب عليه أن يعتذر بمثل عذرهم )) الجاحظ ، رسالة الرد على النصارى ص68 .
وأشار إليها بعده الإمام القرافي فقال : (( اتفق لي مع كثير منهم في المناظرة أن أطالبه بتصوير مذهبه فيعجز ، ومن يعجز عن تصوير مذهبه كيف يمكنه إقامة الدليل عليه ؟! فيتوقف ، فلو كانت للقوم فطنة بكوا على عقولهم قبل أديانهم )) شهاب الدين القرافي ، الأجوبة الفاخرة على الأسئلة الفاجرة ص143 .
وكذلك شيخ الإسلام فقال : (( فإن مقالة النصارى فيها من الاختلاف والاضطراب ما يتعذر ضبطه ، فإن قولهم ليس مأخوذًا عن كتاب منزل ، ولا نبي مرسل ، ولا هو موافق لعقول العقلاء )) ابن تيمية ، تفسير سورة الإخلاص ص124 .
وقال في موضع آخر : (( ولهذا قال طائفة من العقلاء : إن عامة مقالات الناس يمكن تصورها إلا مقالة النصارى , وذلك أن الذين وضعوها لم يتصوروا ما قالوا , بل تكلموا بجهل , وجمعوا كلامهم بين النقيضين , ولهذا قال بعضهم : لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا عن أحد عشر قولاً . وقال آخر : لو سألت بعض النصارى وامرأته وابنه عن توحيدهم لقال الرجل قولاً , وامرأته قولاً أخر , وابنه قولاً ثالثًا )) ابن تيمية ، الجواب الصحيح ج2 ص27 .
وهذه اللفتة القيمة من الإمام الفخر هي ما نسعى لتأكيده والإصرار عليه عند دعوتنا النصارى لنبذ الشرك والتثليث ، وقد نبه كذلك شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه على هذه النقطة كما نقلنا عنه سابقًا ، ولفت النظر إلى كون النصارى يقولون لمن يناظرهم ويحاورهم خلاف ما يعتقدون في قانون إيمانهم ؛ لأن فيه إثبات صريح لثلاثة أرباب أو ثلاثة آلهة ، وهذا القانون يناقض صراحةً ما يدعونه من أن الإله واحد ، ويبين أنهم يقولون لمن يناظرهم ويحاورهم خلاف ما يعتقدون في دستور إيمانهم ؛ لأن فيه تصريح بتعدد الآلهة مع القول بإله واحد .
فهم أثبتوا إلهًا هو الآب ثم أثبتوا آخر هو يسوع المسيح الذي هو إله حق من إله حق مولود من الآب ويجلس عن يمينه .. فهذا إله ثان مع الإله الأول .. ثم قالوا في أقنوم الروح القدس أنه الرب المحيي المنبثق من الآب المسجود له والمعظم مع الآب والابن .. فهذا إله ثالث مغاير للأول والثاني .
فها هم يعتقدون بثلاثة آلهة ، ثم يزعمون بعدها أنه إله واحد ، لكن العاقل يستطيع التمييز بين ما هو حقيقي وما هو دعوى .. لهذا تجدهم أشد الناس تخبطًا في الاعتقاد و اضطرابًا في فهم الدين ، وقد صدق الإمام الرازي عندما قال : (( وبالجملة فلا نرى مذهباً في الدنيا أشد ركاكة وبعداً عن العقل من مذهب النصارى )) الرازي ، مفاتيح الغيب ج6 ص119 .
المفضلات