الطب النبوي
بن قيم الجوزية

مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلواته على أشرف المرسلين محمد خاتم النبيين وآله وصحبه أجمعين # أما بعد فهذه فصول نافعة في هديه في الطب الذي تطبب به ووصفه لغيره نبين ما فيه من الحكمة التي تعجز عقول أكبر الأطباء عن الوصول إليها فنقول وبالله نستعين ومنه نستمد الحول والقوة
فصل المرض نوعان مرض القلوب ومرض الأبدان
وهما مذكوران في القرآن

ومرض القلوب نوعان مرض شبهة وشك ومرض شهوة وغي وكلاهما في القرآن قال تعالى في مرض الشبهة في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا وقال تعالى وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا وقال تعالى في حق من دعي إلى تحكيم القرى والسنة فأبى وأعرض وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم أرتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون فهذا مرض الشبهات والشكوك وأما مرض الشهوات فقال تعالى يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقتين فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض فهذا مرض شهوة الزنا والله أعلم فصل وأما مرض الأبدان فقال تعالى ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج وذكر مرض البدن في الحج والصوم والوضوء لسر بديع يبين لك عظمة القرآن والاستغناء به لمن فهمه وعقله عن سواه وذلك أن قواعد طب الأبدان ثلاثة حفظ الصحة والحمية عن المؤذي واستفراغ المواد الفاسدة فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة وفي هذه المواضع الثلاثة فقال في آية الصوم فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر فأباح الفطر للمريض لعذر المرض وللمسافر طلبا لحفظ صحته وقوته لئلا يذهبها الصوم في السفر لاجتماع شدة الحركه وما يوجبه من التحليل وعدم الغذاء الذي يخلف ما تحلل فتخور القوة وتضعف فأباح للمسافر الفطر حفظا لصحته وقوته عما يضعفها وقال في آية الحج فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فأباح للمريض ومن به أذى من رأسه من قمل أو حكة

أو غيرهما أن يحلق رأسه في الإحرام استفراعا لمادة الأبخرة الرديئة التي أوجبت له الأذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر فإذا حلق رأسه ففتحت المسام فخرجت تلك الأبخرة منها فهذا الاستفراغ يقال عليه كل استفراغ يؤذ انحباسه والأشياء التي يوذى انحباسها ومدافعتها عشرة الدم إذا هاج والمني إذا تتابع والبول والغائط والريح والقىء والعطاس والنوم والجوع والعطش وكل واحد من هذه العشرة يوجب حبسه داء من الأدواء بحبسه وقد نبه سبحانه باستفراغ أدناها وهو البخار المحتقن في الرأس على استفراغ ما هو أصعب منه كما هي طريقة القرآن التنبيه بالأدنى على الأعلى وأما الحمية فقال تعالى في آية الوضوء وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه وهذا تنبيه على الحمية عن كل مؤذ له من داخل أو خارج فقد أرشد سبحانه عباده إلى أصول الطب الثلاثة ومجامع قواعده ونحن نذكر هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ونبين أن هديه فيه أكمل هدي فأما طب القلوب فمسلم إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم وعلى أيديهم فإن صلاح القلوب أن تكون عارفة بربها وفاطرها وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه وأن تكون مؤثرة لمرضاته ولمحابة متجنبة لمناهيه ومساخطه ولا صحة لها ولا حياة البتة إلا بذلك ولا سبيل إلى تلقيه إلا من جهة الرسل ما يظن من حصول صحة القلب بدون أتباعهم فغلط ممن يظن ذلك وإنما ذلك حياة نفسه البهيمية الشهوانية وصحتها وقوتها وحياة قلبه وصحته وقوته عن ذلك بمعزل

ومن لم يميز هذا وهذا فليبك على حياة قلبه فإنه من الأموات وعلى نوره فإنه منغمس في بحار الظلمات فصل وأما طب الابدان فإنه نوعان نوع قد فطر الله عليه الحيوان ناطقه وبهيمة فهذا لا يحتاج فيه إلى معالجة طبيب كطب الجوع والعطش والبرد والتعب بأضدادها وما يزبلها والثاني ما يحتاج إلى فكر وتأمل كدفع الأمراض المتشابهة الحادثة في المزاج بحيث يخرج بها عن الاعتدال إما إلى حرارة أو برودة أو يبوسة أو رطوبة أو ما يتركب من اثنين منها وهي نوعان إما مادية وإما كيفية أعنى إما أن يكون بانصباب مادة أو بحدوث كيفية والفرق بينهما أن امراض الكيفيةتكون بعد زوال المواد التي أوجبتها فتزول موادها ويبقى أثرها كيفية في المزاج وأمراج المادة أسبابها معها تمدها وإذا كان سبب المرض معه فالنظر في السبب ينبغي أن يقع اولا ثم في المرض ثانيا ثم في الدواء ثالثا أو الأمراض الآلية وهي التي تخرج العضو عن هيئتة إما في شكل أو تجويف أو مجرى او خشونة أو ملامسة أو عدد أو عظم أو وضع فإن هذه الأعضاء إذا تألفت وكان منها البدن سمى تألفها اتصالا والخروج عن الاعتدال فيه يسمى تفرق الاتصال أو الأمراض العامة التي تعم المتشابهة والآلية والأمراض المتشابهة هي التي يخرج بها المزاج عن الاعتدال وهذا الخروج يسمى مرضا بعد أن يضر بالفعل إضرارا محسوسا وهي على ثمانية أضرب أربعة بسيطة وأربعة مركبة والبسيطة البارد والحار والرطب واليابس والمركبة الحار الرطب والحار اليابس والبارد اليابس وهي إما أن تكون بانصباب مادة أو بغير انصباب مادة وإن لم يضر المرض بالفعل يسمى خروجا عن الاعتدال صحة

وللبدن ثلاثة أحوال حال طبيعية وحال خارجة عن الطبيعية وحال متوسطة بين الأمرين فالأولى بها يكون البدن صحيحا والثانية يكون بها مريضا والحال الثالثة هي متوسطة بين الحالتين فإن الضد لا ينتقل إلى ضده إلا بمتوسط وسبب خروج البدن عن طبيعته إما من داخله لأنه مركب من الحار والبارد والرطب واليابس وإما من خارج فلأن ما يلقاه قد يكون موافقا وقد يكون غير موافق والضرر الذي يلحق الإنسان قد يكون من سوء المزاج بخروجه عن الاعتدال وقد يكون من فساد العضو وقد يكون من ضعف في القوى أو الأرواح الحاملة لها ويرجع ذلك إل زيادة ما الاعتدال في عدم زيادته أو نقصان ما الاعتدال في عدم نقصانه أو تفرق ما الاعتدال في اتصاله أو أتصال ما الاعتدال في تفرقه أو امتداد ما الاعتدال في انقباضه أو خروج ذي وضع وشكل عن وضعه وشكله بحيث يخرجه عن اعتداله فالطبيب هو الذي يفرق ما يضر بالإنسان جمعه أو يجمع فيه ما يضره تفرقه أو ينقص منه ما يضره زيادته أو يزيد فيه ما يضره نقصه فيجلب الصحة المفقودة أو يحفظها بالشكل والشبه ويدفع العلة الموجودة بالضد والنقيض ويخرجها أو يدفعها بما يمنع من حصولها بالحمية وسترى هذا كله في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم شافيا كافيا يحول الله وقوته وفضله ومعونته
فصل فكان من هديه صلى الله عليه وسلم فعل التداوي في نفسه والأمر به لمن أصابه مرض من أهله أو أصحابه
ولكن لم يكن من هديه ولا هدي أصحابه استعمال هذه الأدوية المركبة التي تسمى أقراباذين بل كان غالب أدويتهم بالمفردات وربما أضافوا إلى المفرد ما يعاونه أو يكسر سورته وهذا غالب طب الأمم على اختلاف أجناسها من العرب والترك وأهل البوادي قاطبة وإنما عني بالمركبات الروم واليونانيون وأكثر طب الهند بالمفردات

وقد اتفق الأطباء على أنه متى أمكن التداوي بالغذاء لا يعدل إلى الدواء ومتى أمكن بالبسيط لا يعدل إلى المركب قالوا وكل داء قدر على دفعه بالأغذية والحمية لم يحاول دفعه بالأدوية قالوا ولا ينبغي للطبيب أن يولع بسقي الأدوية فإن الدواء إذا لم يجد في البدن داء يحلله أو وجد داء لا يوافقه أو وجد ما يوافقه فزادت كميته عليه أو كيفيته تشبث بالصحة وعبث بها وأرباب التجارب من الأطباء طبهم بالمفردات غالبا وهم أحد فرق الطب الثلاث والتحقيق في ذلك أن الأدوية من جنس الأغذية والأمة والطائفة التي غالب أغذيتها المفردات أمراضها قليلة جدا وطبها بالمفردات وأهل المدن الذين غلبت عليهم الأغذية المركبة يحتاجون إلى الأدوية المركبة وسبب ذلك أن امراضهم في الغالب مركبة فالأدوية المركبة أنفع لها وأمراض أهل البوادي والصحاري مفردة فيكفى في مداواتها الأدوية المفردة فهذا برهان بحسب الصناعة الطبية ونحن نقول إن ههنا أمرا آخر نسبة طب الأطباء إليه كنسبة طب الطرقية والعجائز إلى طبهم وقد اعترف به حذاقهم وأئمتهم فإن ما عندهم من العلم بالطب منهم من يقول هو قياس ومنهم من يقول هو تجربة ومنهم من يقول إلهامات ومنامات وحدس صائب ومنهم من يقول أخذ كثير منه من الحيوانات البهيمية كما نشاهد السنانير إذا كانت ذوات السموم تعمد إلى السراج فتلغ في الزيت تتداوى به وكما رؤيت الحيات إذا خرجت من بطون الأرض وقد غشيت أبصارها تأتي إلى ورق الرازيانج فتمر عيونها عليها وكما عهد من الطير الذي يحتقن بماء البحر عند انحباس طبعه وأمثال ذلك مما ذكر في مبادىء الطب

وأين يقع هذا وأمثاله من الوحي يوحيه الله إلى رسول بما ينفعه ويضره فنسبة ما عندهم من الطب إلى هذا الوحي كنسبة ما عندهم من العلوم إلى ماجاءت به الأنبياء بل ههنا من الأدوية التي تشفى من الأمراض ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء ولم تصل إليها علومهم وتجار بهم وأقيستهم من الأدوية القلبية والروحانية وقوة القلب واعتماده على الله والتوكل عليه والالتجاء إليه والانطراح والانكسار بين يديه والتذلل له والصدقة والدعاء والتوبة والاستغفار والإحسان إلى الخلق وإغاثة الملهوف والتفريج عن المكروب فإن هذه الآدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء ولا تجربته ولا قياسه وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أمورا كثيرة ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية بل تصير الأدوية الحسية عندها بمنزلة الأدوية الطرقية عند الطباء وهذا جار على قانون الحكمة الإلهية ليس خارجا عنها ولكن الأسباب متنوعة فإن القلب متى أتصل برب العالمين وخالق الداء والدواء ومدير الطبيعة ومصرفها على ما يشاء كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد منه المعرض عنه وقد علم أن الأرواح متى قويت وقويت النفس والطبيعة تعاونا على دفع الداء وقهره فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه وفرحت بقربها من بارئها وأنسها به وحبها له وتنعمها بذكره وانصراف قواها كلها إليه وجمعها عليه واستعانتها به وتوكلها عليه أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية وتوجب لها هذه القوة دفع الألم بالكلمة ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس وأعظمهم حجابا وأكثفهم نفسا وأبعدهم عن الله وعن حقيقة الإنسان وسنذكر إن شاء الله السبب الذي به أزالت قراءة الفاتحة داء اللدغة عن اللديغ التي رقي بها فقام حتى كان مابه قلبة

فهذان نوعان من الطب النبوي نحن بحول الله نتكلم عليهما بحسب الجهد والطاقة ومبلغ علومنا القاصر ومعارفنا المتلاشية جدا وبضاعتنا المزجاة ولكنا نستوهب من بيده الخير كله ونستمد من فضله فإنه العزيز الوهاب فصل روى مسلم في صحيحه من حديث أبي الزبير عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل وفي الصحيحين عن عطاء عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء وفي مسند الإمام أحمد من حديث زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك قال كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب فقالوا يا رسول الله أنتداوى فقال نعم يا عبد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد قالوا ما هو قال الهرم وفي لفظ إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله وفي المسند من حديث ابن مسعود يرفعه إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله وفي المسند والسنن عن أبي خزامة قال قلت يا رسول الله أرأيت رقي

تسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا فقال هي من قدر الله فقد تضمنت هذا الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات وإبطال قول من أنكرها ويجوز أن يكون قوله لكل داء دواء على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة والأدواء التي لا يمكن طبيبا أن يبرئها ويكون الله عز وجل قد جعل لها أدوية تبرئها ولكن طوى علمها عن البشر ولم يجعل إليه سبيلا لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم الله ولهذا علق النبي صلى الله عليه وسلم الشفاء على مصادقة الدواء للداء فإنه لا شيء من المخلوقات إلا له ضد فكل داء له ضد من الدواء يعالج بضده فعلق النبي صلى الله عليه وسلم البرء بموافقة الداء للدواء وهذا قدر زائد على مجرد وجوده فإن الدواء متى جاوز درجة الداء في الكيفية أو زاد في الكمية على ما ينبغي نقله إلى داء آخر ومتى قصر عنها لم يف بمقاومته وكان العلاج قاصرا ومتى لم يقع المداوي عل الدواء لم يحصل الشفاء ومتى لم يكن الزمان صالحا لذلك الدواء لم ينفع ومتى كان البدن غير قابل له أو القوة عاجزة عن حمله أو ثم مانع يمنع من تأثيره لم يحصل البرء لعدم المصادفة ومتى تمت المصادفة حصل البرء ولابد وهذا أحسن المحملين في الحديث والثاني أن يكون من العام المراد به الخاص لا سيما والداخل في اللفظ أضعاف الخارج منه وهذا يستعمل في كل لسان ويكون المراد أن الله لم يضع داء يقبل

الدواء إلا وضع له دواء فلا يدخل في هذا الأدواء التي لا تقبل الدواء وهذا كقوله تعالى في الريح التي سلطها على قوم عاد تدمر كل شيء بأمر ربها أي كل شيء يقبل التدمير ومن شأن الريح أن تدمره ونظائره كثيرة ومن تأمل خلق الأضداد في هذا العالم ومقاومة بعضها لبعض ودفع بعضها ببعض وتسليط بعضها على بعض تبين له كمال قدرة الرب تعالى وحكمته وإتقانه ما صنعه وتفرده بالربوبية والوحدانية والقهر وأن كل ما سواه فله ما يضاده ويمانعه كما أنه الغني بذاته وكل ما سواه محتاج بذاته وفي هذه الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي وأنه لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبر بأضدادها بل لا يتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل فإن تركها عجزا ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ودفع ما يضره في دينه ودنياه ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب وإلا كان معطلا للحكمة والشرع فلا يجعل العبد عجزه توكلا ولا توكله عجزا وفيها رد على من أنكر التداوي وقال إن كان الشفاء قد قدر فالتدواي لا يفيد وإن لم يكن قدر فكذلك وأيضا فإن المرض حصل بقدر الله وقدر الله لا يدفع ولا يرد وهذا السؤال هو الذي أورده الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما أفاضل الصحابة فأعلم بالله وحكمته وصفاته من أن يوردوا مثل هذا

وقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بما شفي وكفى فقال هذه الأدوية والرقي والتقي هي من قدر الله فما خرج شيء عن قدره بل يرد قدره بقدره وهذا الرد من قدره فلا سبيل إل الخروج عن قدره بوجه ما وهذا كرد قدر الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها وكرد قدر العدو بالجهاد وكل من قدر الله الدافع والمدفوع والدفع وقال لموردها هذا السؤال هذا يوجب عليك أن لا تباشر سببا من الأسباب التي تجلب بها منفعة أو تدفع بها مضرة لأن المنفعة والمضرة إن قدرتا لم يكن بد من وقوعهما وإن لم تقدرا لم يكن سبيل إلى وقوعهما وفي ذلك خراب الذين والدنيا وفساد العالم وهذا لا يقوله إلا دافع للحق معاند له فيذكر القدر ليدفع حجةالمحق عليه كالمشركين الذين قالوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا و لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا فهذا قالوه دفعا لحجة الله عليهم بالرسل وجواب هذا السائل أن يقال بقي قسم ثالث لم تذكره وهو أن الله قدر كذا وكذا بهذا السبب فإن أتيت بالسبب حصل المسبب وإلا فلا فإن قال إن كان قدر لي السبب فعلته وإن لم يقدره لي لم أتمكن من فعله قيل فهل تقبل هذا الاحتجاج من عبدك وولدك وأجيرك إذا احتج به عليك فيما أمرته به ونهيته عنه فخالفك فإن قبلته فلا تلم من عصاك وأخذ مالك وقذف عرضك وضيع حقوقك وإن لم تقبله فكيف يكون مقبولا منك في دفع حقوق الله عليك وقد روى في أثر اسرئيلي أن إبراهيم الخليل قال يا رب ممن الداء قال

مني قال فيمن الدواء قال مني قال فما بال الطبيب قال رجل أرسل الدواء على يديه وفي قوله صلى الله عليه وسلم لكل داء دواء تقوية لنفس المريض والطبيب وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله تعلق قلبه بروح الرجاء وبرد من حرارة اليأس وانفتح له باب الرجاء ومتى قويت نفسه انبعثت حرارته الغريزية وكان ذلك سببا لقوة الأرواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية ومتى قويت هذه الأرواح قويت القوي التي هي حاملة لها فقهرت المرض ودفعته وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء دواء أمكنه طلبه والتفتيش عليه وأمراض الابدان على وزان أمراض القلوب وما جعل الله للقلب مرضا إلا جعل له شفاء بضدده فإن علمه صاحب الداء واستعمله وصادف داء قلبه أبرأه بإذن الله تعالى فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الحتماء من التخم والزيادة في الأكل على قدر الحاجة والقانون الذي ينبغي مراعاته في الأكل والشرب أنه قال ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا بد فاعلا فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه فصل الأمراض نوعان امراض مادية تكون عن زيادة مادة أفرطت في البدن حتى أضرت بأفعاله الطبيعية وهي الأمراض إلا كثرية وسببها إدخال الطعام على البدن قبل هضم الأول والزيادة في القدر الذي يحتاج إليه البدن وتناول الأغذية القليلة النفع البطيئة الهضم والإكثار من الأغذية المختلفة التراكيب المتنوعة فإذا ملأ الآدمي بطنه من هذه الأغذية واعتاد ذلك أورثته امراضا متنوعة منها بطيء

الزوال أو سريعة فإذا توسط في الغذاء وتناول منه قدر الحاجة وكان معتدلا في كميته وكيفيته كان انتفاع البدن به أكثر من انتفاعه بالغذاء الكثير ومراتب الغذاء ثلاث أحدها مرتبة الحاجة والثانية مرتبة الكفاية والثالثة مرتبة الفضلة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه فلا تسقط قوته ولا تضعف معها فإن تجاوزها فليأكل في ثلث بطنه ويدع الثلث الآخر للماء والثالث للنفس وهذا من أنفع ما للبدن والقلب فإن البطن إذا أمتلأ من الطعام ضاق عن الشراب فإذا أورد عليه الشراب ضاق عن النفس وعرض له الكرب والتعب وصار محمله بمنزلة حامل الحمل الثقيل هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب وكل الجوارح عن الطاعات وتحركها في الشهوات التي يستلزمها الشبع فامتلاء البطن من الطعام مضر للقلب والبدن هذا إذا كان دائما أو اكثريا وأما إذا كان في الأحيان فلا بأس به فقد شرب أبو هريرة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من اللبن حتى قال والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكا وأكل الصحابة بحضرته مرارا حتى شبعوا والشبع المفرط يضعف القوي والبدن وإن أخصبه وإنما يقوي البدن بحسب ما يقبل من الغذاء لا بحسب كثرته ولما كان في الإنسان جزء أرضي وجزء هوائي وجزء مائي قسم النبي صلى الله عليه وسلم طعامه وشرابه ونفسه على الأجزاء الثلاثة فإن قيل فأين حظ جزء النار قيل هذه مسألة تكلم فيها الأطباء وقالوا إن في البدن جزءا ناريا بالفعل وهو أحد اركانه وإسطقساته

ونازعهم في ذلك آخرون من العقلاء من الأطباء وغيرهم وقالوا ليس في البدن جزء ناري بالفعل واستدلوا بوجوه أحدها إن ذلك الجزء الناري إما أن يدعى أنه نزل عن الأثير واختلط بهذه الاجزاء المائية والأرضية أو يقال إنه تولد فيها وتكون والأول مستبعد لوجهين أحدهما أن النار بالطبع صاعدة فلو نزلت لكانت بقاسر من مركزها إلى هذا العالم الثاني أن تلك الأجزاء النارية لا بد في نزولها أن تعبر على كرة الزمهرير التي هي في غاية البرد ونحن نشاهد في هذا العالم أن النار العظيمة تنطفىء بالماء القليل فتلك الأجزاء الصغيرة عند مرورها بكرة الزمهرير التي هي في غاية البرد ونهاية العظم أولى بالانطفاء وأما الثاني وهو أن يقال إنها تكونت ههنا فهو أبعد وأبعد لأن الجسم الذي صار نارا بعد أن لم يكن كذلك قد كان قبل صيرورته إما أرضا وإما ماء وإما هواء لانحصار الأركان في هذه الأربعة وهذا الذي قد صار نارا اولا كان مختلطا بأحد هذه الاجسام ومتصلا بها والجسم الذي لا يكون نارا إذا اختلط بأجسام عظيمة ليست بنار ولا واحد منها لا يكون مستعدا لأن ينقلب نارا لأنه في نفسه ليس بنار والاجسام المختلطه به باردة فكيف يكون مستعدا لانقلابه نارا وإن قلتم لم لا تكون هناك أجزاء نارية تقلب هذه الآجسام وتجعلها نارا بسبب مخالطتها إياها قلنا الكلام في حصول تلك الأجزاء النارية كالكلام في الأول فإن قلتم إنا نرى في رش الماء على النورة المطفأة تنفصل منها نار وإذا وقع شعاع الشمس على البلورة ظهرت النار منها وإذا ضربنا الحجر على الحديد ظهرت

النار وكل هذه النارية حدثت عند الاختلاط وذلك يبطل ما قررتموه في القسم الأول ايضا قال المنكرون نحن لا ننكر أن تكون المصاكة الشديدة محدثة للنار كما في ضرب الحجارة على الحديد أو تكون قوة تسخين الشمس محدثة للنار كما في البلورة لكنا نستبعد ذلك جدا في أجرام النبات والحيوان إذ ليس في أجرامها من الأصطكاك ما يوجب حدوث النار ولا فيها من الصفاء والصقال ما يبلغ إلى حد البلورة كيف وشعاع الشمس يقع على ظاهرها فلا تتولد النار البتة فالشعاع الذي يصل إلى باطنها كيف يولد النار الوجه الثاني في أصل المسألة أن الأطباء مجمعون على أن الشراب العتيق في غاية السخونة بالطبع فلو كانت تلك السخونة بسبب الأجزاء النارية لكانت محالا إذ تلك الأجزاء النارية مع حقارتها كيف يعقل بقاؤها في الأجزاء المائية الغالبة دهرا طويلا بحيث لا تنطفىء مع أنا نرى النار العظيمة تطفأ بالماء القليل الوجه الثالث أنه لو كان في الحيوان والنبات جزء ناري بالفعل لكان مغلوبا بالجزء المائي الذي فيه وكان الجزء الناري مقهورا به وغلبة بعض الطبائع والعناصر على بعض يقتضى انقلاب طبيعة المغلوب إلى طبيعة الغالب فكان يلزم بالضرورة انقلاب تلك الأجزاء النارية القليلة جدا إلى طبيعة الماء الذي هو ضد النار الوجه الرابع إن الله سبحانه وتعالى ذكر خلق الإنسان في كتابه في مواضع متعددة يخبر في بعضها أنه خلقه من ماء وفي بعضها أنه خلقه من تراب وفي بعضها أنه خلقه من المركب منهما وهو الطين وفي بعضها أنه خلق من صلصال كالفخار وهو الطين الذي ضربته الشمس والريح حتى صار صلصالا كالفخار ولم يخبر في موضع واحد أنه خلقه من نار بل جعل ذلك خاصية إبليس

وثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم وهذا صريح في أنه خلق مما وصفه الله في كتابه فقط ولم يصف لنا سبحانه أنه خلقه من نار ولا أن في مادته شيئا من النار الوجه الخامس أن غاية ما يستدلون به ما يشاهدون من الحرارة في أبدان الحيوان وهي دليل على الأجزاء النارية وهذا لا يدل فإن أسباب الحرارة أعم من النار فإنها تكون من النار تارة وعن الحركة أخرى وعن انعكاس ألأشعة وعن سخونة الهواء وعن مجاورة النار وذلك بواسطة سخونة الهواء أيضا وتكون عن أسباب أخر فلا يلزم من الحرارة النار قال أصحاب النار من المعلوم أن التراب والماء إذا اختلطا فلا بد لهما من حرارة تقتضي طبخهما وامتزاجهما وإلا كان كل منهما غير ممازج للآخر ولا متحدا به وكذلك إذا ألقينا البذر في الطين بحيث لا يصل إليه الهواء ولا الشمس فسد فلا يخلو إما أن يحصل في المركب جسم منضج طابخ بالطبع أولا فإن حصل فهو الجزء النارى وإن لم يحصل لم يكن المركب مسخنا بطبعه بل إن سخن كان التسخين عرضيا فإذا زال التسخين العرضي لم يكن الشيء حارا في طبعه ولا في كيفيته وكان باردا مطلقا لكن من الأغذية والأدوية ما يكون حارا بالطبع فعلمنا أن حرارتها إنما كانت لأن فيها جوهرا ناريا وايضا فلو لم يكن في البدن جزء مسخن لوجب أن يكون في نهاية البرد لأن الطبيعة إذا كانت مقتضية للبرد وكانت خالية عن المعاون والمعارض وجب انتهاء البرد إلى أقصى الغاية ولو كان كذلك لما حصل لها الإحساس بالبرد لأن البرد الواصل إليه إذا كان في الغاية كان مثله والشيء لا ينفعل عن مثله وإذا لم ينفعل عنه

لم يحس به وإذا لم يحس به لم يتألم عنه وإن كان دونه فعدم الأنفعال يكون أولى فلولم يكن في البدن جزء مسخن بالطبع لما انفعل عن البرد ولا تألم به قالوا وأدلتكم إنما تبطل قول من يقول الأجزاء النارية باقية في هذه المركبات على حالها وطبيعتها النارية ونحن لا نقول بذلك بل نقول إن صورتها النوعية تفسد عند الامتزاج قال الآخرون لم لا يجوز أن يقال إن الأرض والماء والهواء إذا اختلطت فالحرارة المنضجة الطابخة لها هي حرارة الشمس وسائر الكواكب ثم ذلك المركب عند كمال نضجه يستعد لقبول الهيئة التركيبية بواسطة السخونة نباتا كان أو حيوانا أو معدنا وما المانع أن تكون السخونة والحرارة التي في المركبات هي بسب خواص وقوي يحدث الله تعالى عند ذلك الامتزاج لا من أجزاء نارية بالفعل ولا سبيل لكم إلى أبطال هذا الإمكان البتة وقد اعترف جماعة من فضلاء الأطباء بذلك وأما حديث إحساس البدن بالبرد فنقول هذا يدل على أن في البدن حرارة وتسخينا ومن ينكر ذلك لكن ما الدليل على انحصار المسخن في النار فإنه وان كان كل نار مسخنا فإن هذه القضية لا تنعكس كلية بل عكسها الصادق بعض المسخن نار وأما قولكم بفساد صورة النار النوعية فأكثر الأطباء على بقاء صورتها النوعية والقول بفسادها قول فاسد قد اعترف بفساده أفضل متأخريكم في كتابه المسمى بالشفاء وبرهن على بقاء الأركان أجمع على طبائعها في المركبات وبالله التوفيق فصل وكان علاجه صلى الله عليه وسلم للمرض ثلاثة أنواع أحدها بالأدوية الطبيعية والثاني بالأدوية الإلهية والثالث بالمركب من الأمرين

ونحن نذكر الأنواع الثلاثة من هديه صلى الله عليه وسلم فنبدأ بذكر الأدوية الطبيعية التي وصفها واستعملها ثم نذكر الأدويه الألهية ثم المركبة وهذا إنما يشير إليه إشارة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعث هاديا وداعيا إلى الله وإلى جنته ومعرفا بالله ومبينا للأمة مواقع رضاه وآمرا لهم بها ومواقع سخطه وناهيا لهم عنها ومخبرهم أخبار الأنبياء والرسل وأحوالهم مع أممهم وأخبار تخليق العالم وأمر المبدإ والمعاد وكيفية شقاوة النفوس وسعادتها واسباب ذلك وأما طب الأبدان فجاء من تكميل شريعته ومقصودا لغيره بحيث إنما يستعمل عند الحاجة إليه فإذا قدر الاستغناء عنه كان صرف الهمم والقوى إلى علاج القلوب والأرواح وحفظ صحتها ودفع أسقامها وحميتها مما يفسدها هو المقصود بالقصد الأول وإصلاح البدن بدون إصلاح القلب لا ينفع وفساد البدن مع إصلاح القلب مضرته يسيرة جدا وهي مضرة زائلة تعقبها المنفعة الدائمة التامة وبالله التوفيق
ذكر القسم الأول وهو العلاج بالأدوية الطبيعية فصل في هدية في علاج الحمى
ثبت في الصحيحين عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما الحمى أو شدة الحمى من فيح جهنم فأبر دوها بالماء وقد أشكل هذا الحديث على كثير من جهلة الأطباء ورآه منافيا لدواء الحمى وعلاجها ونحن نبين يحول الله وقوته وجهه وفقهه فنقول

خطاب النبي صلى الله عليه وسلم نوعان عام لأهل الأرض وخاص ببعضهم فالأول كعامة خطابه والثاني كقوله لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستديروها ولكن شرقوا أو غربوا فهدا ليس بخطاب لأهل المشرق ولا المغرب ولا العراق ولكن لأهل المدينة وما على سمتها كالشام وغيرها وكذلك قوله ما بين المشرق والمغرب قبلة وإذا عرف هذا فخطابه في هذا الحديث خاص بأهل الحجاز وما والاهم إذ كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من نوع الحمى اليومية العرضية الحادثة عن شدة حرارة الشمس وهذه ينفعها الماء البارد شربا واغتسالا فإن الحمى حرارة غريبة تشتعل بالقلب وتنبتث منه بتوسط الروح والدم في الشرايين والعروق إلى جميع البدن فتشتعل فيه اشتعالا يضر بالإفعال الطبيعية وهي تنقسم إلى قسمين عرضية وهي الحادثة إما عن الورم أو الحركة أو إصابة حرارة الشمس أو القيظ الشديد ونحو ذلك ومرضية وهي ثلاثة أنواع وهي لا تكون إلا في مادة أولى ثم منها يسخن جميع البدن فإن كان مبدأ تعلقها بالروح سميت حمى يوم لأنها في الغالب تزول في يوم ونهايتها ثلاثة أيام وإن كان مبدأ تعلقها بأخلاط سميت عفنية وهي أربعة أصناف صفراوية وسوداوية وبلغمية ودموية وإن كان مبدأ تعلقها بالأعضاء الصلبة الأصلية سميت حمى دق وتحت هذه الأنواع أصناف كثيرة وقد ينتفع البدن بالحمى انتفاعا عظيما لا يبلغه الدواء وكثيرا ما يكون حمى يوم وحمى

العفن سببا لانضاج مواد غليظة لم تكن تنضج بدونها وسببا لتفتح سدد لم تكن نصل إلهيا الأدوية المفتحة وأما الرمد الحديث والمتقادم فإنها تبرىء أكثر أنواعه برءا عجيبا سريعا وتنفع من الفالج واللقوة والتشنج الامتلائي وكثيرا من الأمراض الحادثة عن الفضول الغليظة وقال لي بعض فضلاء الأطباء إن كثيرا من الأمراض نستبشر فيها بالحمى كما يستبشر المريض بالعافية فتكون الحمى فيه أنفع من شرب الدواء بكثير فإنها تنضج من الخلاط والمواد الفاسدة ما يضر بالبدن فإذا انضجتها صادقها الدواء متهيئة للخروج بنضاجها فأخرجها فكانت سببا للشفاء وإذا عرف هذا فيجوز أن يكون مراد الحديث من أقسام الحميات العرضية فإنها تسكن على المكان بالانغماس في الماء البارد وسقى الماء البارد المثلوج ولا يحتاج صاحبها مع ذلك إلا علاج آخر فإنها مجرج كيفية حارة متعلقة بالروح فيكفي في زوالها مجرد وصول كيفية باردة تكنها وتخمد لهبها من غير حاجة إلى استفراغ مادة أو انتظار نضج ويجوز أن يراد به جميع أنواع الحميات وقد اعترف فاضل الأطباء جالينوس بأن الماء البارد ينفع فيها قال في المقالة العاشرة من كتاب حيلة البرء ولو أن رجلا شابا حسن اللحم خصب البدن في وقت القيظ وفي وقت منتهى الحمى وليس في أحشاءه ورم استحم بماء بارد أو سبح فيه لا نتفع بذلك وقال ونحن نأمر بذلك بلا توقف

وقال الرازي في كتابه الكبير إذا كانت القوة قوية والحمى حادة جدا والنضج بين ولا ورم في الجوف ولا فتق ينفع الماء البارد شربا وإن كان العليل خصب البدن والزمان حار وكان معتادا لاستعمال الماء البارد من خارج فليؤذن فيه وقوله الحمى من فيح جهنم هو شدد لهبها وانتشارها ونظيره قوله شدة الحر من فيح جهنم وفيه وجهان أحدهما أن ذلك أنموذج ورقيقة أشتقت من جهنم ليستدل بها العباد عليها ويعتبروا بها ثم أن الله سبحانه قدر ظهورها بأسباب تقتضيها كما أن الروح والفرح والسرور واللذة من نعيم الجنة أظهرها الله في هذه الدار عبرة ودلالة وقدر ظهورها بأسباب توجبها والثاني أن يكون المراد التشبيه فشبه شدة الحمى ولهبها بفوح جهنم وشبه شدة الحر به أيضا تنبيها للنفوس على شدة عذاب النار وأن هذه الحرارة العظيمة مشبهة بفيحها وهو ما يصيب من قرب منها من حرها وقوله فابر دوها روى بوجهين بقطع الهمزة وفتحها رباعي من أبرد الشيء إذا صبرة باردا مثل أسخنه إذا صيره سخنا والثاني بهمزة الوصل مضمومة من برد الشيء يبرده وهو أفصح لغة واستعمالا والرباعي لغة رديئة عندهم قال الحماسي إذا وجدت لهيب الحب في كبدي أقبلت نحو سقاء القوم ابترد هبني بردت ببرد الماء ظاهره فمن لنار على الأحشاء تتقد وقوله بالماء فيه قولان أحدهما أنه كل ماء وهو الصحيح والثاني أنه ماء زمزم واحتج أصحاب هذا القول بما رواه البخاري في صحيحه عن أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي قال كنت أجالس ابن عباس بمكة

فأخذتني الحمى فقال أبردها عنك بماء زمزم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء أو قال بماء زمزم وراوي هذا قد شك فيه ولو جزم به لكان أمرا لأهل مكة بماء زمزم إذ هو متيسر عندهم ولغيرهم بما عندهم من الماء ثم اختلف من قال إنه على عمومه هل المراد به الصدقة بالماء أو استعماله على قولين والصحيح أنه ستعمال وأظن أن الذي حمل من قال المراد الصدقة به أنه أشكل عليه استعمال الماء البارد في الحمى ولم يفهم وجهه مع أن لقوله وجهاص حسنا وهو أن الجزاء من جنس العمل فكما أخمد لهيب العطش عن الظمآن بالماء البارد أخمد الله لهيب الحمى عنه جزاء وفاقا ولكن هذا يؤخذ من فقه الحديث وإشارته وأما المراد به فاستعماله وقد ذكر أبو نعيم وغيره من حديث أنس يرفعه إذا حم أحدكم فليرش عليه الماء البارد ثلاث ليال من السحر وفي سنن ابن ماجه عن أبي هريرة يرفعه الحمى من كير جهنم فنحوها عنكم بالماء البارد وفي المسند وغيره من حديث الحسن عن سمرة يرفعه الحمى قطعة من النار فأبردوها عنكم بالماء البارد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حم دعا بقربة من ماء فأفرغها على رأسه فاغتسل

وفي السنن من حديث أبي هريرة قال ذكرت الحمى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبها رجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبها فإنها تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الحديد لما كانت الحمى يتبعها حمية عن الأغذية الرديئة وتناول الأغذية والأدوية النافعة وفي ذلك إعانه على تنقية البدن ونفي أخبائه وفضوله وتصفيته من مواده الرديئة وتفعل فيه كما تفعل النار في الحديد في نفي خبثه وتصفية جوهره كانت أشبه الأشياء بنار الكير التي تصفى جوهر الحديد وهذا القدر هو المعلوم عند اطباء الأبدان وأما تصفيتها القلب من وسخه ودرنه وإخراجها خبائثه فأمر يعلمه أطباء القلوب ويجدونه كما أخبرهم به نبيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن مرض القلب إذا صار مايوسا عن برئه ينفع فيه هذا العلاج فالحمى تنفع البدن والقلب وما كان بهذه المثابة فسبه ظلم وعدوان وذكرت مرة وأنا محموم قول بعض الشعراء يسبها زارت مكفرة الذنوب وودعت تبا لها من زائر ومودع قالت وقد عزمت على ترحالها ماذا تريد فقلت أن لا ترجعي فقلت تبا له إذسب ما نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبه ولو قال زارت مكفرة الذنوب لصبها أهلا بها من زائر ومودع قالت وقد عزمت على ترحالها ماذا تريد فقلت أن لا تقلعي لكان أولى به ولأقلعت عنه فأقلعت عني سريعا وقد روى في أثر لا أعرف حاله حمى يوم كفارة سنة وفيه قولان

أحدهما أن الحمى تدخل في كل الأعضاء والمفاصل وعدتها ثلثمائة وستون مفصلا فتكفر عنه بعدد كل مفصل ذنوب يوم والثاني أنها تؤثر في البدن تأثيرا لا يزول بالكلية إلى سنة كما قيل في قوله صلى الله عليه وسلم من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوما إن أثر الخمر يبقى في جوف العبد وعروقه وأعضائه أربعين يوما والله أعلم قال أبو هريرة مامن مرض يصيبني أحب إلي من الحمى لأنها تدخل في كل عضو مني وإن الله سبحانه يعطى كل عضو حظه من الأجر وقد روى الترمذي في جامعه من حديث رافع بن خديج يرفعه إذا أصابت أحدكم الحمى وإنما الحمى قطعة من النار فليطفئها بالماء البارد ويستقبل نهرا جاريا فليستقبل جرية الماء بعد الفجر وقبل طلوع الشمس وليقل باسم الله اللهم اشف عبدك وصدق رسولك وينغمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيام فإن بريء وإلا ففي خمس فإن لم يبرأ في خمس فسبع فإنها لا تكاد تجاوز السبع بإذن الله قلت وهو ينفع فعله في فصل الصيف في البلاد الحارة على الشرائط التي تقدمت فإن الماء في ذلك الوقت أبرد ما يكون لبعده من ملاقاة الشمس ووفور القوي في ذلك الوقت لما أفادها النوم والسكون وبرد الهواء فيجتمع قوة القوي وقوة الدواء وهو الماء البارد على حرارة الحمى العرضية أو الغب الخالصة أعنى التي لا ورم معها ولا شيء من الأعراض الرديئة والمواد الفاسدة فيطفئها بإذن الله لا سيما

في أحد الأيام المذكورة في الحديث وهي الأيام التي يقع فيها بحران الأمراض الحادية كثيرا لا سيما في البلاد المذكورة لرقة أخلاط سكانها وسرعة انفعالهم عن الدواء النافع
فصل في هدية في علاج استطلاق البطن
في الصحيحين من حديث أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أخي يشتكي بطنه وفي رواية استطلق بطنه فقال أسقه عسلا فذهب ثم رجع فقال قد سقيته فلم يغن عنه شيئا وفي لفظ فلم يرده إلا استطلاقا مرتين أو ثلاثا كل ذلك يقول له اسقه عسلا فقال له في الثالثة أو الرابعة صدق الله وكذب بطن أخيك وفي صحيح مسلم في لفظ له إن أخي عرب بطنه أي فسد هضمه واعتلت معدته والاسم العرب بفتح الراء والذرب أيضا والعسل فيه منافع عظيمة فإنه جلاء للأوساخ التي في العروق والأمعاء وغيرها محلل للرطوبات أكلا وطلاء نافع للمشايخ وأصحاب البلغم ومن كان مزاجه باردا رطبا وهو مغذ ملين للطبيعة حافظ لقوي المعاجين ولما استودع فيه مذهب لكيفيات الأدوية الكريهة منق للكبد والصدر مدر للبول موافق للسعال الكائن عن البلغم وإذا شرب حارا بدهن الورد نفع من نهش الهوام وشرب الأفيون وإن شرب وحده ممزوجا بماء نفع من عضة الكلب الكلب وأكل الفطر القتال وإذا جعل فيه

اللحم الطري حفظ طراوته ثلاثة أشهر وكذلك إن جعل فيه القثاء والخيار والقرع والباذنجان ويحفظ كثيرا من الفاكهة ستة أشهر ويحفظ جثة الموتى ويسمى الحافظ الأمين وإذ لطخ به البدن المقمل والشعر قتل قمله وصئبانه وطول الشعر وحسنه ونعمه وإن اكتحل به جلا ظلمة البصر وإن استن به يبض الأسنان وصقلها وحفظ صحتها وصحة اللثة ويفتح أفواه العروق ويدر الطمث ولعقه على الريق يذهب البلغم ويغسل خمل المعدة ويدفع الفضلات عنها ويسخنها تسخينا معتدلا ويفتح سددها ويفعل ذلك بالكبد والكلىوالمثانة وهو أقل ضررا لسدد الكبد والطحال من كل حلو وهو مع هذا كله مأمون الغائلة قليل المضار مضر بالعرض للصفراويين ودفعها بالخل ونحوه فيعود حينئذ نافعا له جدا وهو غذاء مع الأغذية ودواء مع الأدويه وشراب مع الأشربة وحلو مع الحلو وطلاء مع الأطلية ومفرح مع المفرحات فما خلق لنا شيء في معناه أفضل منه ولا مثله ولا قريب منه ولم يكن معول القدماء إلا عليه وأكثر كتب القدماء لا ذكر فيها للسكر البتة ولا يعرفونه فإنه حديث العهد حدث قريبا وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشربه بالماء على الريق وفي ذلك سر بديع في حفظ الصحة لا يدركه إلا الفطن الفاضل وسنذكر ذلك إن شاء الله عند ذكر هديه في حفظ الصحة وفي سنن ابن ماجة مرفوعا من حديث أبي هريرة من لعق ثلاث غدوات كل شهر لم يصبه عظيم البلاء

وفي آثر آخر عليكم بالشفاءين العسل والقرآن فجمع بين الطب البشري والإلهي وبين طب الأبدان وطب الأرواح وبين الدواء الأرضي والدواء السمائي إذا عرف هذا فهذا الذي وصف له النبي صلى الله عليه وسلم العسل كان استطلاق بطنه عن تخمة أصابته عن امتلاء فأمره بشرب العسل لدفع الفضول المجتمعة في نواحي المعدة والأمعاء فإن العسل فيه جلاء ودفع للفضول وكان قد أصاب المعدة أخلاط لزجة تمنع استقرار الغذاء فيه للزوجتها فإن المعدة لها خمل كخمل المنشفة فإذا علقت بها الأخلاط اللزجة أفسدتها وأفسدت الغذاء فدواؤها بما يجلوها من تلك الأخلاط والعسل جلاء والعسل من أحسن ما عولج به هذا الداء لا سيما إن مزج بالماء الحار وفي تكرار سقيه العسل معنى طبي بديع وهو أن الدواء يجب أن يكون له مقدار وكمية بحسب حال الداء إن قصر عنه لم يزله بالكلية وإن جاوزه أوهن القوي فأحدث ضررا آخر فلما أمره أن يسقيه العسل سقاه مقدارا لا يفي بمقاومة الداء ولا يبلغ الغرض فلما أخبره علم أن الذي سقاه لا يبلغ مقدار الحاجة فلما تكرر ترداده إلى النبي صلى الله عليه وسلم أكد عليه المعاودة ليصل إلى المقدار المقاوم للداء فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء بريء بإذن الله واعتبار مقادير الأدوية وكيفياتها ومقدار قوة المرض والمريض من أكبر قواعد الطب وفي قوله صلى الله عليه وسلم صدق الله وكذب بطن أخيك إشارة إلى تحقيق نفع هذا الدواء وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء في نفسه ولكن لكذب البطن وكثر المادة الفاسدة فيه فأمره بتكرار الدواء لكثرة المادة وليس طبه صلى الله عليه وسلم كطب الأطباء فإن طب النبي صلى الله عليه وسلم متيقن قطعي

ألهي صادر عن الوحي ومشكاة النبوة وكمال العقل وطب غيره أكثر حدس وظنون وتجارب ولا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة فإنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول واعتقاد الشفاء له وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان فهذا القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور إن لم يتلق هذا التلقى لم يحصل به شفاء الصدور من أدوائها بل لا يزيد المنافقين إلا رجسا إلى رجسهم ومرضا إلى مرضهم وأين يقع طب الأبدان منه فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطيبة والقلوب الحية فأعراض الناس عن طب النبوة كإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن الذي هو الشفاء النافع وليس ذلك لقصور في الدواء ولكن لخبث الطبيعة وفساد المحل وعدم قبوله والله الموفق فصل وقد اختلف الناس في قوله تعالى يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس هل الضمير في فيه راجع إلى الشراب أو راجع إلى القرآن على قولين الصحيح منهما رجوعه إلى الشراب وهو قول ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة والأكثرين فإنه هو المذكور والكلام سيق لأجله ولا ذكر للقرآن في الآية وهذا الحديث الصحيح وهو قوله صدق الله كالصريح فيه والله تعالى أعلم
فصل في هدية في الطاعون وعلاجه والاحتراز منه
في الصحيحين عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون فقال أسامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل وعلى من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارامنه

وفي الصحيحين ايضا عن حفصة بنت سيرين قالت قال أنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الطاعون شهادة لكل مسلم الطاعون من حيث اللغة نوع من الوباء قبله صاحب الصحاح وهو عند أهل الطب ورم ردىء قتال يخرج معه تلهب شديد مؤلم جدا يتجاوزالمقدار في ذلك ويصير ما حوله في الكثر أسود أو أخضر أو أكمد ويؤول أمره إلى التقرح سريعا وفي الأكثر يحدث في ثلاث مواضع في الإبط وخلف الأذن والأرنبة وفي اللحوم الرخوة وفي أثر عن عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم الطعن قد عرفناه فما الطاعون قال غدة كغدة البعير يخرج في المراق والإبط قال الأطباء إذا وقع الخراج في اللحوم الرخوة والمغابن وخلف الأذن والأرنبة وكان من جنس فاسد سمي يسمى طاعونا وسببه دم ردىء مائل إلى العفونة والفساد مستحيل إلىجوهر سمي يفسد العضو ويغير ما يليه وربما رشح دما وصديدا ويؤدي إلى القلب كيفية رديئة فيحدث القىء والخفقان والغشى وهذا الإسم وإن كان يعم كل ورم يؤدى الى القلب كيفية رديئة حتى يصير لذلك قتالا فإنه يختص به الحادث في اللحم الغددي لأنه لرداءته لا يقبله من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع وأردؤه ما حدث في الإبط وخلف الأذن لقربهما من الأعضاء التي هي أرأس وأسلمه الأحمر ثم الأصفر والذي إلى السواد فلا يفلت منه أحد

ولما كان الطاعون يكثر في الوباء وفي البلاد الحربية عبر عنه بالوباء كما قال الخليل الوباء الطاعون وقيل هو كل مرض يعم والتحقيق أن بين الوباء والطاعون عموما وخصوصا مطلقا فكل طاعون وباء وليس كل وباء طعاونا وكذلك الأمراض العامة أعم من الطاعون فإنه واحد منها والطواعين خراجات وقروح وأورام رديئة حادثة في المواضع المتقدم ذكرها قلت هذه القروح والأورام والخراجات هي آثار الطاعون وليس نفسه ولكن الأطباء لما لم تدرك منه إلا الأثر الظاهر جعلوه نفس الطاعون والطاعون يعبر به عن ثلاثة أمور أحدها هذا الأثر الظاهر وهو الذي ذكره الأطباء والثاني الموت الحادث عنه وهو المراد بالحديث الصحيح في قوله الطاعون شهادة لكل مسلم والثالث السبب الفاعل لهذا الداء وقد ورد في الحديث الصحيح أنه بقية رجز أرسل على بني أسرائيل وورد فيه أنه وخز الجن وجاء أنه دعوة نبي وهذه العلل والاسباب ليس عند الأطباء ما يدفعها كما ليس عندهم مايدل عليها والرسل تخبر بالأمور الغائبة وهذه الآثار التي أدركوها من أمر الطاعون ليس معهم ما ينفى أن تكون يتوسط الأرواح فإن تأثير الأرواح في الطبيعة وأمراضها وهلاكها أمر لا ينكره إلا من هو أجهى الناس بالأرواح وتأثيراتها وانفعال الأجسام وطبائعها عنها والله سبحانه قد يجعل لهذه الأرواح تصرفا في أجسام بني آدم عند حدوث الوباء

وفساد الهواء كما يجعل لها تصرفا عند غلبة بعض المواد الرديئة التي تحدث للنفوس هيئة رديئة ولا سيما عند هيجان الدم والمرة السوداء وعند هيجان المني فإن الأرواح الشيطانية تتمكن من فعلها بصاحب هذه العوارض ما لا تتمكن من غيره ما لم يدفعها دافع أقوى من هذه الأسباب من الذكر والدعاء والابتهال والتضرع والصدقة وقراءة القرآن فإنه يستنزل لذلك من الأرواح الملكية ما يقهر هذه الأرواح الخبيثة ويبطل شرها ويدفع تأثيرها وقد جربنا نحن وغيرنا هذا مرارا لا يحصيها إلا الله ورأينا لاستنزال هذه الأرواح الطيبة واستجلاب قربها تأثيرا عظيما في تقوية الطبيعة ودفع المواد الرديئة وهذا يكون قبل استحكامها وتمكنها ولا يكاد يخرم فن وفقه الله بادر عند إحساسه بأسباب الشر إلى هذه الأسباب التي تدفعها عنه وهي له من أنفع الدواء وإذا أراد الله عز وجل إنفاذ قضائه وقدره أغفل قلب العبد عن معرفتها وتصورها وإرادتها فلا يشعر بها ولا يريدها ليقضي الله فيه امرا كان مفعولا وسنزيد هذا المعنى إن شاء الله تعالى إيضاحا وبيانا عند الكلام على التداوي بالرقي والعوذ النبوية والأذكار والدعوات وفعل الخيرات ونبين أن نسبة طب الأطباء إلى هذا الطب النبوي كنسبة طب الطرقية والعجائز إلى طبهم كما اعترف به حذاقهم وأئمتهم ونبين أن الطبيعة الإنسانية أشد شيء انفعالا عن الأرواح وأن قوي العوذ والرقي والدعوات فوق قوي الأدوية حتى إنها تبطل قوي السموم القاتلة والمقصود أن فساد الهواء جزء من أجزاء السبب التام والعلة الفاعلة للطاعون وأن فساد جوهر الهواء الموجب لحدوث الوباء وفساده يكون لاستحالة جوهره إلى الرداءة لغلبة إحدى الكيفيات الرديئة عليه كالعفونة والنتن والسمية في أي وقت كان من أوقات السنة وإن كان أكثر حدوثه في أواخر الصيف وفي الخريف غالبا لكثرة اجتماع

الفضلات المرارية الحادة وغيرها في فصل الصيف وعدم تحللها في آخره وفي الخريف لبرد الجو وردغة الأبخرة والفضلات التي كانت تتحلل في زمن الصيف فتنحصر فتسخن وتعفن فتحدث الأمراض العفنة ولا سيما إذا صادفت البدن مستعدا قابلا رهلا قليل الحركة كثير المواد فهذا لا يكاد يفلت من العطب وأصح الفصول فيه فصل الربيع قال أبقراط إن في الخريف أشد ما يكون من الأمراض وأقتل وأما الربيع فأصح الأوقات كلها وأقلها موتا وقد جرت عادة الصيادلة ومجهزي الموتى أنهم يستدينون ويتسلفون في الربيع والصيف على فصل الخريف فهو ربيعهم وهم أشوق شيء إليه وأفرح بقدومه وقد روي في حديث إذا طلع النجم ارتفعت العاهة عن كل بلد وفسر بطلوع الثريا وفسر بطلوع النبات زمن الربيع ومنه النجم والشجر يسجدان فإن كمال طلوعه وتمامه يكون في فصل الربيع وهو الفصل الذي ترتفع فيه الآفات وأما الثريا فالأمراض تكبر وقت طلوعها مع الفجر وسقوطها قال التميمي في كتاب مادة البقاء أشد أوقات السنة فسادا وأعظمها بلية على الأجساد وقتان أحدهما وقت سقوط الثريا للمغيب عند طلوع الفجر والثاني وقت طلوعها من المشرق قبل طلوع الشمس على العالم بمنزلة من منازل القمر وهو وقت تصرم فصل الربيع وانقضائه غير أن الفساد الكائن عند طلوعها أقل ضررا من الفساد الكائن عند سقوطها وقال أبو محمد بن قتيبة يقال ماطلعت الثريا ولا نأت إلا بعاهة في الناس والإبل وغروبها أعوه من طلوعها وفي الحديث قول ثالث ولعله أولى الأقوال به أن المراد بالنجم الثريا وبالعاهة

الآفة التي تلحق الزرع والثمار في فصل الشتاء وصدر فصل الربيع فحصل الأمن عليها عند طلوع الثريا في الوقت المذكور ولذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة وشرائها قبل أن يبدو صلاحها والمقصود الكلام على هديه صلى الله عليه وسلم عند وقوع الطاعون فصل وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم للأمة في نهيه عن الدخول إلى الأرض التي هو بها ونهيه عن الخروج منها بعد وقوعه كمال التحرز منه فإن في الدخول في الأرض التي هو بها تعريضا للبلاء وموافاة له في محل سلطانه وإعانة الإنسان على نفسه وهذا مخالف للشرع والعقل بل تجنبه الدخول إلى أرضه من باب الحمية التي أرشد الله سبحانه إليها وهي حمية عن الأمكنة والأهوية المؤذية وأما نهيه عن الخروج من بلده ففيه مغنيان أحدهما حمل النفوس على الثقة بالله والتوكل عليه والصبر علىأقضيته والرضا بها والثاني ما قاله أئمة الطب أنه يجب على كل محترز من الوباء أن يخرج من مدته الرطوبات الفضيلة ويقلل الغذاء ويميل إلى التدبير المجفف من كل وجه إلا الرياضة والحمام فإنهما يجب أن يحذرا لأن البدن لا يخلو غالبا من فضل ردىء كامن فيه فتثيره لرياضة والحمام ويخلطانه بالكيموس الجيد وذلك يجلب علة عظيمة بل يجب عند وقوع الطاعون السكون والدعة وتسكين هيجان الخلاط ولا يمكن الخروج من أرض الوباء والسفر منها إلا بحركة شديدة وهي مضرة جدا هذا كلام أفضل الأطباء والمتأخرين فظهر المعنى الطبي من الحديث النبوي وما فيه من علاج القلب والبدن وصلاحهما فإن قيل ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تخرجوا فرارا منه ما يبطل أن يكون

أراد هذا المعنى الذي ذكرتموه وأنه لا يمنع الخروج لعارض ولا يحبس مسافرا عن سفره قيل لم يقل أحد طبيب ولا غيره إن الناس يتركون حركاتهم عند الطواعين ويصيرون بمنزلة الجمادات وإنما ينبغي فيه التقليل من الحركة بحسب المكان والفار منه لا موجب لحركته إلا مجرد الفرار منه ودعته وسكونه أنفع لقلبه وبدنه وأقرب إلى توكله على الله تعالى واستسلامه لقضائه وأما من لا يستغني عن الحركة كالصناع والأجراء والمسافرين والبرد وغيرهم فلا يقال لهم اتركوا حركاتكم جملة وإن أمروا أن يتركوا منها ما لا حاجة لهم إليه كحركة المسافر فارا منه والله تعالى أعلم وفي المنع من الدخول إلى الأرض التي قد وقع بها عدة حكم أحدها تجنب الأسباب المؤذية والبعد منها الثاني الأخذ بالعافية التي هي مادة المعاش والمعاد الثالث أن لا يستنشقوا الهواء الذي قد عفن وفسد فيمرضون الرابع أن لا يجاوروا المرضى الذين قد مرضوا بذلك فيحصل لهم بمجاورتهم من جنس أمراضهم وفي سنن أبي داود مرفعا إن من العرق التلف قال ابن قتيبة العرق مداناة الوباء ومداناة المرضى الخامس حمية النفوس عن الطيرة والعدوى فإنها تتأثر بهما فإن الطيرة على من تطير بها وبالجملة ففي النهي عن الدخول في أرضه الأمر بالحذر والحمية والنهي عن التعرض لأسباب التلف وفي النهي عن الفرار منه الأمر بالتوكل والتسليم والتفويض فالأول تأديب وتعليم والثاني تفويض وتسليم وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه

أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا فقال لابن عباس ادع لي المهاجرين الأولين قال فدعوتهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا فقال له بعضهم خرجت لأمر فلا نرى أن ترجع عنه وقال آخرون معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء فقال عمر ارتفعوا عني ثم قال ادع لي الأنصار فدعوتهم له فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم فقال ارتفعوا عني ثم قال ادع لي من ههنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوتهم له فلم يختلف عليه منهم رجلان قالوا نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء فأذن عمر في الناس إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه فقال أبو عبيدة بن الجراح يا أمير المؤمنين أفرارا من قدر الله تعالى قال لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم نفر من قدر الله تعالى إلى قدر الله تعالى أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة الست إن رعيتها الخصبة رعيتها بقدر الله تعالى وإن رعيتها الحدبة رعيتها بقدر الله قال فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبا في بعض حاجاته فقال إن عندي في هذا علما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه
فصل في هدية في داء الاستسقاء وعلاجه
في الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال قدم رهط من عزينة وعكل على النبي صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لو خرجتم إلى إبل الصدقة فشربتم من أبوالها وألبانها ففعلوا فلما صحو عمدوا إلى الرعاة فقتلوهم واستاقوا الإبل

وحاربوا الله ورسوله فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم فأخذوا فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقاهم في الشمس حتى ماتوا والدليل على أن هذا المرض كان الاستسقاء ما رواه مسلم في صحيحه في هذا الحديث أنهم قالوا إنا اجتوينا المدينة فعظمت بطوننا وارتهشت اعضاؤنا وذكر تمام الحديث والجوى داء من أدواء الجوف والاستسقاء مرض مادي سببه مادة غريبة باردة تتخلل الأعضاء فتربو لها إما الأعضاء الظاهرة كلها وإما المواضع الخالية من النواحي التي فيها تدبير الغذاء والأخلاط وأقسامه ثلاثة لحمى وهو أصعبها وزقي وطبلى ولما كانت الأدوية المحتاج إليها في علاجه هي الأدوية الجالبة التي فيها إطلاق معتدل وإدرار بحسب الحاجة وهذه الأمور موجودة في أبوال الإبل وألبانها أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بشربها فإن في لبن اللقاح جلاء وتليينا وإدرارا وتلطيفا وتفتيحا للسدد إذا كان أكثر رعيها الشيح والقيصوم والبابونج والأقحوان والإذخر وغير ذلك من الأدوية النافعة للاستسقاء وهذا المرض لا يكون إلا مع آفة في الكبد خاصة أو مع مشاركة وأكثرها عن السدد فيها ولبن اللقاح العربية نافع من السدد لما فيه من التفتيح والمنافع المذكورة قال الرازي لبن اللقاح يشفي أوجاع الكبد وفساد المزاج وقال الإسرائيلي لبن اللقاح أرق الألبان وأكثرها مائية وحدة وأقلها غذاء فلذلك صار أقواها على تلطيف الفضول وإطلاق البطن وتفتيح السدد ويدل على ذلك ملوحته اليسيرة التي فيه لإفراط حرارة حيوانية بالطبع ولذلك صار أخص الألبان بتطرية الكبد وتفتيح سددها وتحليل صلابة الطعام إذا كان حديثا والنفع من الأستسقاء خاصة إذا استعمل لحرارته التي

يخرج بها من الضرع مع بول الفصيل وهو حار كما يخرج من الحيوان فإن ذلك مما يزيد في ملوحته وتقطيعه الفضول وإطلاقه البطن فإن تعذر انحداره وإطلاقه البطن وجب أن يطلق بدواء مسهل قال صاحب القانون ولا يلتفت إلى ما يقال من أن طبيعة اللبن مضادة لعلاج الاستسقاء قال واعلم أن لبن النوق دواء نافع لما فيه من الجلاء برفق وما فيه من خاصية وإن هذا اللبن شديد المنفعة فلو أن أنسانا أقام عليه بدل الماء والطعام شفي به وقد جرب ذلك في قوم دفعوا إلى بلاد العرب فقادتهم الضرورة إلى ذلك فعوفوا وأنفع الأبوال بول الجمل الأعرابي وهو النجيب انتهى وفي القصة دليل على التداوي والتطيب وعلى طهارة بول مأكول اللحم فإن التداوي بالمحرمات غير جائز ولم يؤمروا مع قرب عهدهم بالإسلام بغسل أفواههم وما أصابته ثيابهم من أبوالها للصلاة وتأخير البيان لا يجوز عن وقت الحاجة وعلى مقابلة الجاني بمثل ما فعل فإن هؤلاء قتلوا الراعي وسملوا عينيه ثبت ذلك في صحيح مسلم وعلى قتل الجماعة وأخذ أطرافهم بالواحد وعلى أنه إذا اجتمع في حق الجاني حد وقصاص استوفيا معا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قطع أيديهم وأرجلهم حدا الله على جرأتهم وقتلهم لقتلهم الراعي وعلى أن المحارب إذا أخذ المال وقتل قطعت يده ورجله في مقام واحد وقتل وعلى أن الجنايات إذا تعددت تغلظت عقوباتها فإن هؤلاء أرتدوا بعد إسلامهم وقتلوا النفس ومثلوا بالمقتول وأخذوا المال وجاهروا بالمحاربة وعلى أن حكم ردة المحار بين حكم مباشرهم فإنه من المعلوم أن كل واحد منهم لم يباشر القتل بنفسه ولا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وعلى أن قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدا فلا يسقطه العفو ولا تعتبر فيه المكافأة وهذا مذهب أهل المدينة وأحد الوجهين في مذهب أحمد اختاره شيخنا وأفتى به


فصل في هديه في علاج الجرح
في الصحيحين عن أبي حازم أنه سمع سهل بن سعد يسأل عما دووي به جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقال جرح وجهه وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه وكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدم وكان علي بن أبي طالب يسكب عليها بالمجن فلما رأت فاطمة الدم لا يزيد إلا كثرة أخذت قطعة حصير فأحرقتها حتى إذا صارت رمادا ألصقته بالجرح فاستمسك الدم برماد الحصير المعمول من البردى وله فعل قوي في حبس الدم لأن فيه تجفيفا قويا وقلة لذع فإن الأدوية القوية التجفيف إذا كان فيها لذع هيجت الدم وجلبته وهذا الرماد إذا نفح وحده أو مع الخل في أنف الراعف قطع رعافه وقال صاحب القانون البردى ينفع من النزف ويمنعه ويذر على الجراحات الطرية فيدملها والقرطاس المصري كان قديما يعمل منه ومزاجه بارد يابس ورماد نافع من آكلة الفم ويحبس نفث الدم ويمنع القروح الخبيثة أن تسعى
فصل في هديه في العلاج بشرب العسل والحجامة والكي
في صحيح البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الشفاء في ثلاث شربة عسل وشرطة محجم وكية نار وأنا أنهي أمتي عن الكي قال أبو عبد الله المازري الأمراض الامتلائية إما أن تكون دموية

أو صفراوية أو بلغمية أو سوداوية فإن كانت دموية فشفاؤها إخراج الدم وإن كانت من الأقسام الثلاثة الباقية فشفاؤها بالإسهال الذي يليق بكل خلط منها وكأنه صلى الله عليه وسلم نبه بالعسل على المسهلات وبالحجامة على الفصد وقد قال بعض الناس إن الفصد يدخل في قوله شرطة محجم فإذا أعيا الدواء فآخر الطب الكي فذكره صلىالله عليه وسلم من الأدوية لأنه يستعمل عند غلبة الطباع لقوي الأدوية وحيث لا ينفع الدواء المشروب وقوله أنا انهى أمتي عن الكي وفي الحديث الاخر وما أحب أن أكتوي إشارة إلى أن يؤخر العلاج به حتى تدفع الضرورة إليه ولا يعجل التداوي به لما فيه من استعجال الألم الشديد في دفع ألم قد يكون أضعف من ألم الكي انتهى كلامه وقال بعض الأطباء الأمراض المزاجية إما أن تكون بمادة أو بغير مادة والمادية منها إما حارة أو باردة أو رطبة أو يابسة أو ما تركب منها وهذه الكيفيات الأربع منها كيفيتان فاعلتان وهما الحرارة والبرودة وكيفيتان منفعلتان وهما الرطوبة واليبوسة ويلزم من غلبة إحدى الكيفيتين الفاعلتين استصحاب كيفية منفعلة معها وكذلك كان لكل واحد من الأخلاط الموجودة في البدن وسائر المركبات كيفيتان فاعلة ومنفعلة فحصل من ذلك أن أصل الأمراض المزاجية هي التابعة لأقوى كيفيات الأخلاط التي هي الحرارة والبرودة فجاء كلام النبوة في أصل معالجة الأمراض التي هي الحارة والباردة على طريق التمثيل فإن كان المرض حارا عالجناه بإخراج الدم بالفصد كان أو بالحجامه لأن في ذلك استفراغا للمادة وتبريدا للمزاج وإن كان باردا

عالجناه بالتسخين وذلك موجود في العسل فإن كان يحتاج مع ذلك إلى استفراغ المادة الباردة فالعسل أيضا يفعل في ذلك لما فيه من الإنضاج والتقطيع والتلطيف والجلاء والتليين فيحصل بذلك استفراغ تلك المادة برفع وأمن من نكاية المسهلات القوية وأما الكي فلأن كل واحد من الأمراض المادية إما أن يكون حادا فيكون سريع الإفضاء لأحد الطرفين فلا يحتاج إليه فيه وإما أن يكون مزمنا وأفضل علاجه بعد الاستفراغ الكي في الأعضاء التي يجوز فيها الكي لأنه لا يكون مزمنا إلا عن مادة باردة غليظة قد رسخت في العضو وأفسدت مزاجه وأحالت جميع ما يتصل إليه إلى مشابهة جوهرها فيشتعل في ذلك العضو فيستخرج بالكي تلك المادة من ذلك المكان الذي هي فيه بإفناء الجزء الناري الموجو بالكي لتلك المادة فتعلمنا بهذا الحديث الشريف أخذ معالجة الأمراض المادية جميعها كما استنبطنا معالجة الأمراض الساذجة من قوله صلى الله عليه وسلم إن شدة الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء فصل وأما الحجامة ففي سنن ابن ماجه من حديث جبارة بن المغلس وهو ضعيف عن كثير بن سليم قال سمعت أنس بن مالك يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مامررت ليلة أسرى بي بملإ إلا قالوا يا محمد مر أمتك بالحجامة وروى الترمذي في جامعه من حديث ابن عباس هذا الحديث وقال فيه عليك بالحجامة يا محمد

وفي الصحيحين من حديث طاوس عن ابن عباس إن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أمره وفي الصحيحين أيضا عن حميد الطويل عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة فأمر له بصاعين من طعام وكلم مواليه فخفضوا عنه من ضريبته وقال خير ما تداويتم به الحجامة وفي جامع الترمذي عن عباد بن منصور قال سمعت عكرمة يقول كان لابن عباس غلمة ثلاثة حجامون فكان اثنان يغلان عليه وعلى أهله وواحد لحجمه وحجم أهله قال وقال ابن عباس قال نبي الله صلى الله عليه وسلم نعم العبد الحجام يذهب الدم ويجفف الصلب ويجلو عن البصر وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث عرج به ما مر على ملإ من الملائكة إلا قالوا عليك بالحجامة وقال إن خير ما يحتجمون فيه يوم سبع عشرة ويوم تسع عشرة ويوم إحدى وعشرين وقال إن خير ما تداويتم به السعوط واللدود والحجامة والمشي وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لد فقال من لدني فكلهم أمسكوا فقال لا يبقى أحد في البيت إلا لد إلا العباس قال هذا حديث غريب ورواه ابن ماجة فصل وأما منافع الحجامة فإنها تنقي سطح البدن أكثر من الفصد والفصد لأعماق البدن أفضل والحجامة تستخرج الدم من نواحي الجلد قلت والتحقيق في أمرها وأمر الفصد أنهما يختلفان بإختلاف الزمان والمكان والإسنان والأمزجة والبلاد الحارة والأزمنه الحارة والأمزجة الحارة التي دم أصحابها

في غاية النضج الحجامة فيها أنفع من الفصد بكثير فإن الدم ينضج ويروق ويخرج إلى سطح الجسد الداخل فتخرج الحجامة ما لا يخرجه الفصد ولذلك كانت أنفع للصبيان من الفصد ولمن لا يقوى على الفصد وقد نص الأطباء على أن البلاد الحارة الحجامة فيها أنفع وأفضل من الفصد وتستحب في وسط الشهر وبعد وسطه وبالجملة في الربع الثالث من أرباع الشهر لأن الدم في أول الشهر لم يكن بعد قد هاج وتبيغ وفي آخره يكون قد سكن وأما في وسطه وبعيده فيكون في نهاية التزيد قال صاحب القانون ويأمر باستعمال الحجامة لا في أول الشهر لأن الأخلاط لا تكون قد تحركت وهاجت ولا في آخره لأنها تكون قد نقصت بل في وسط الشهر حين تكون الأخلاط هائجة بالغة في تزاديها لتزايد النور في جرم القمر وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خير ما تداويتم به الحجامة والفصد وفي حديث خير الدواء الحجامة والفصاد انتهى وقوله صلى الله عليه وسلم خير ما تداويتم به الحجامة إشارة إلى أهل الحجاز والبلاد الحارة لأن دماءهم رقيقة وهي أميل إلى ظاهر أبدانهم لجذب الحرارة الخارجة لها إلى سطح الجسد واجتماعها في نواحي الجلد ولأن مسام أبدانهم واسعة وقواهم متخلخلة ففي الفصد لهم خطر والحجامة تفرق اتصالي إرادي يتبعه استفراغ كلي من العروق وخاصة العروق

التي لا تفصد كثيرا ولفصد كل واحد منها نفع خاص ففصد الباسليق ينفع من حرارة الكبد والطحال والأورام الكائنة فيهما من الدم وينفع من أورام الرئة وينفع الشوصة وذات الجنب وجيمع الأمراض الدموية العارضة من أسفل الركبة إلى الورك وفصد الكحل ينفع من الأمتلاء العارض في جميع البدن إذا كان دمويا وكذلك إذا كان الدم قد فسد في جميع البدن وفصد القفال ينفع من العلل العارضة في الرأس والرقبة من كثر الدم أو فساده وفصد الوجين ينفع من وجع الطحال والربو والبهو ووجع الجبين والحجامة على الكاهل تنفع من وجع المنكب والحلق والحجامة على الأخدعين تنفع من أمراض الرأس وأجزائه كالوجه والأسنان والأذنين والعينين والأنف والحلق إذا كان حدوث ذلك عن كثرة الدم أو فساده أو عنهما جميعا قال أنس رضي الله تعالى عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتجم في الأخدعين والكاهل وفي الصحيحين عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتجم ثلاثا واحدة على كاهله واثنتين على الأخدعين وفي الصحيح عنه أنه احتجم وهو محرم في رأسه لصداع كان به

وفي سنن ابن ماجه عن علي نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بحجامة الأخدعين والكاهل وفي سنن أبي داود من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم في وركه من ونى كان به فصل واختلف الأطباء في الحجامة على نقرة القفا وهي القمحدوة وذكر أبو نعيم في كتاب الطب النبوي حديثا مرفوعا عليكم بالحجامة في جوزة القمحدوة فإنها تشفى من خمسة أدواء ذكر منها الجذام وفي حديث آخر عليكم بالحجامة في جوزة القمحدوة فإنها شفاء من اثنين وسبعين داء فطائفة منهم استحسنته وقالت إنها تنفع في جحوظ العين والنتوء العارض فيها وكثير من أمراضها ومن ثقل الحاجبين والجفن وتنفع من جر به وروى أن أحمد بن حنبل أحتاج إليها فاحتجم في جانبي قفاه ولم يحتجم في النقرة وممن كرهها صاحب القانون وقال إنها تورث النسيان حقا كما قال سيدنا ومولانا وصاحب شريعتنا محمد صلى الله عليه وسلم فإن مؤخر الدماغ موضع الحفظ والحجامة تذهبه انتهى كلامه ورد عليه آخرون وقالوا الحديث لا يثبت وإن ثبت فالحجامة إنما تضعف مؤخر الدماغ إذا استعملت بغير ضرورة فأما إذا استعملت لغلبة الدم عليها فإنها نافعة له طبا وشرعا فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه احتجم في عدة أماكن من قفاه بحسب ما اقتضاه الحال في ذلك واحتجم في غير القفا بحسب ما دعت إليه حاجته فصل والحجامة تحت الذقن تنفع من وجع الأسنان والوجه والحلقوم إذا استعملت في وقتها وتنقى الرأس والكفين

والحجامة على ظهر القدم تنوب عن فصل الصافن وهو عرق عظيم عند الكعب وتنفع من قروح الفخذين والساقين وانقطاع الطمث والحكة العارضة في الأنثيين والحجامة في أسفل الصدر نافعة من دماميل الفخذ وجربه وبثوره ومن النقرس والبواسير والفيل وحكة الظهر
فصل في هديه في أوقات الحجامة
روى الترمذي في جامعة من حديث ابن عباس يرفعه إن خير ما تحتجمون فيه يوم سابع عشرة أو تاسع عشرة ويوم إحدى وعشرين وفيه عن أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتجم في الأخذ عين والكاهل وكان يحتجم لسبعة عشر وتسعة عشر وفي إحدى وعشرين وفي سنن ابن ماجه عن أنس مرفوعا من أراد الحجامة فليتحر سبعة عشر أو تسعة عشر أو إحدى وعشرين ولا يتبيغ بأحدكم الدم فيقتله وفي سنن أبي داود من حديث أبي هريرة مرفوعا من احتجم لسبع عشرة أو تسع عشرة إو إحدى وعشرين كانت شفاء من كل داء وهذا معناه من كل داء سببه غلبة الدم وهذه الأحاديث موافقة لما اجمع عليه الأطباء أن الحجامة في النصف الثاني وما يليه من الربع الثالث من أرباعه أنفع من أوله وآخره وإذا استعملت عند الحاجة إليها نفعت أي وقت كان من أول الشهر وآخره

قال الخلال أخبرني عصمة بن عصام قال حدثنا حنبل قال كان أبو عبد الله احمد بن حنبل يحتجم أي وقت هاج به الدم واي ساعة كانت وقال صاحب القانون أوقاتها في النهار الساعة الثانية أو الثالثة ويجب توقيتها بعد الحمام إلا من دمه غليظ فيجب أن يستحم ثم يحم ساعة ثم يحتجم انتهى وتكره عندهم الحجامة على الشبع فإنها ربما أورثت سددا وأمراضا رديئة ولا سيما إذا ان الغذاء رديئا غليظا وفي آثر الحجامة على الريق دواء وعلى الشبع داء وفي سبعة عشر من الشهر شفاء واختيار هذه الأوقات للحجامة فيما إذا كانت على سبيل الاحتياط والتحرز من الأذى وحفظا للصحة وأما في مداواة الأمراض فحيثما وجد الاحتياج إليها وجب استعمالها وفي قوله لا يتبيغ بأحدكم الدم فيقتله دلالة على ذلك يعني لئلا يتبيغ فحذف حرف الجر مع أن ثم حذفت أن والتبيغ الهيج وهو مقلوب البغي وهو بمعناه فإنه بغى الدم وهيجانه وقد تقدم أن الإمام أحمد كان يحتجم أي وقت احتاج من الشهر فصل وأما اختيار أيام الأسبوع للحجامة فقال الخلال في جامعه أخبرنا حرب ابن إسماعيل قال قلت لأحمد تكره الحجامة في شيء من الأيام قال وقد جاء في الأربعاء والسبت وفيه عن الحسين بن حسان أنه سأل أبا عبد الله عن الحجامة أي وقت تكره فقال في يوم السبت ويوم الأربعاء ويقولون يوم الجمعة وروى الخلال عن أبي سلمة وأبي سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعا من احتجم يوم الأربعاء أو يوم السبت فأصابه بياض أو برص فلا يلومن إلا نفسه وقال الخلال أخبرنا محمد بن علي بن جعفر أن يعقوب بن بختان حدثهم قال

سئل أحمد عن النورة والحجامة يوم السبت ويوم الأربعاء فكرهها وقال بلغني عن رجل أنه تنور واحتجم يعني يوم الأربعاء فأصابه البرص فقلت له كأنه تهاون بالحديث قال نعم وفي كتاب الأفراد للدارقطنى من حديث نافع قال قال لي عبد الله بن عمر تبيغ بي الدم فابغ لي حجاما ولا يكن صبيا ولا شيخا كبيرا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الحجامة تزيد الحافظ حفظا والعاقل عقلا فاحتجموا على اسم الله تعالى ولا تحتجموا الخميس والجمعة والسبت والأحد واحتجموا الاثنين وما كان من جذام ولا برص إلا نزل يوم الأربعاء قال الدار قطني تفرد به زياد ابن يحيى وقد رواه أيوب عن نافع وقال فيه واحتجموا يوم الاثنين والثلاثاء ولا تحتجموا يوم الأربعاء وقد روى أبو داود في سننه من حديث ابي بكرة أنه كان يكره الحجامة يوم الثلاثاء وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الثلاثاء يوم الدم وفيه ساعة لا يرقأ فيه الدم فصل وفي ضمن هذه الأحاديث المتقدمه استحباب التداوي واستحباب الحجامة وأنها تكون في الموضع الذي يقتضيه الحال وجواز احتجام المحرم وإن آل إلى قطع شيء من الشعر فإن ذلك جائز وفي وجوب الفدية عليه نظر ولا يقوى الوجوب وجواز احتجام الصائم فإن في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم

وهو صائم ولكن هل يفطر بذلك أم لا مسألة أخرى الصواب الفطر بالحجامة لصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير معارض وأصح ما يعارض به حديث حجامته وهو صائم ولكن لا يدل على عدم الفطر إلا بعد أربعة أمور أحدها أن الصوم كان فرضا الثاني أنه كان مقيما الثالث أنه لم يكن به مرض احتاج معه إلى الحجامة الرابع أن هذا الحديث متأخر عن قوله أفطر الحاجم والمحجوم فإذا ثبتت هذه المقدمات الأربع أمكن الاستدلال بفعله صلى الله عليه وسلم على بقاء الصوم مع الحجامة وإلا فما المانع أن يكون الصوم نفلا يجوز الخروج منه بالحجامة وغيرها أو من رمضان لكنه في السفر أو من رمضان في الحضر لكن دعت الحاجة إليها كما تدعو حاجة من به مرض إلى الفطر أو يكون فرضا من رمضان في الحضر من غير حاجة إليها لكنه مبقى على الأصل وقوله أفطر الحاجم والمحجوم ناقل ومتأخر فتعين المصير إليه ولا سبيل إلى أثبات واحدة من هذه المقدمات الأربع فكيف بإثباتها كلها وفيها دليل على استئجار الطبيب وغيره من غير عقد إجارة بل يعطيه أجرة المثل أو ما يرضيه وفيها دليل على جواز التكسب بصناعة الحجامة وإن كان لا يطيب للحر أكل أجرته من غير تحريم عليه فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه أجره ولم يمنعه من أكله وتسميته إياه خبيثا كتسميته للثوم والبصل خبيثين ولم يلزم من ذلك تحريمها وفيها دليل على جواز ضرب الرجل الخراج على عبده كل يوم شيئا معلوما بقدر طاقته وأن للعبد أن يتصرف فيما زاد على خراجه ولو منع من التصرف فيه لكان كسبه كله خراجا ولم يكن لتقديره فائدة بل ما زاد على خراجه فهو تمليك من سيده له يتصرف فيه كما أراد والله أعلم


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في قطع العروق والكي
ثبت في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أبي ابن كعب طبيبا فقطع له عرقا وكواه عليه ولما رمى سعد بن معاذ في أكحله حسمه النبي صلى الله عليه وسلم ثم ورمت فحسمه ثانيه والحسم هو الكي وفي طريق آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذ في أكحله بمشقص ثم حسمه سعد بن معاذ أو غيره من أصحابه وفي لفظ آخر أن رجلا من الأنصار رمى في أكحله بمشقص فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فكوى وقال أبو عبيد وقد اتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل نعت له الكي فقال اكووهأ وأرضفوه قال أبو عبيدة الرضف الحجارة تسخن ثم تكمد بها وقال الفضل بن دكين حدثنا سفيان عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كواه في أكحله وفي صحيح البخاري من حديث أنس أنه كوى من ذات الجنب والنبي صلى الله عليه وسلم حي وفي الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى أسعد بن زرارة من الشوكة وقد تقدم الحديث المتفق عليه وفيه وما أحب أن أكتوى وفي لفظ آخر وأنا أنهى أمتي عن الكي وفي جامع الترمذي وغيره عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن

الكي قال فابتلينا فاكتوينا فما أفلحنا ولا أبححنا وفي لفظ نهينا عن الكي وقال فما أفلحنا ولا أبحعنا قال الخطابي إنما كوى سعدا ليرفأ الدم من جرحه وخاف عليه أن ينزف فيهلك والكي مستعمل في هذا الباب كما يكوى من تقطع يده أو رجله وأما النهي عن الكي فهو أن يكتوى طلبا للشفاء وكانوا يعتقدون أنه متى لم يكتو هلك فنهاهم عنه لأجل هذه النية وقيل إنما نهى عنه عمران بن حصين خاصة لأنه كان به ناصور وكان موضعه خطرا فنهى عن كيه فيشبه أن يكون النهي متصرفا إلى الموضع المخوف منه والله تعالى أعلم وقال ابن قتيبة الكي جنسان كي الصحيح لئلا يعتل فهذا الذي قيل فيه لم يتوكل من اكتوى لأنه يريد أن يدفع القدر عن نفسه والثاني كي الجرح إذا نغل والعضو إذا قطع ففي هذا الشفاء وأما إذا كان الكي للتداوي الذي يجوز أن ينجح ويجوز أن لا ينجح فإنه إلى الكراهة أقرب انتهى وثبت في الصحيح من حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب أنهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون فقد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع أحدها فعله والثاني عدم محبته له والثالث الثناء على من تركه والرابع النهي عنه ولا تعارض بينها بحمد الله تعالى فإن فعله يدل على جوازه وعدم محبته له لا يدل على المنع منه وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل وأما النهي عنه فعلى سبيل الأختيار والكراهة أو عن النوع الذي لا يحتاج إليه بل يفعل خوفا من حدوث الداء والله أعلم


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الصرع
أخرجا في الصحيحين من حديث عطاء بن أبي رباح قال قال ابن عباس ألا أريك امرأة من أهل الجنة قلت بلى قال هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إني أصرع وإني اتكشف فادع الله لي فقال إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك فقالت أصبر قالت فإني اتكشف فادع الله أن لا أتكشف فدعا لها قلت الصرع صرعان صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية وصرع من الأخلاط الرديئة والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه وأما صرع الأرواح فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه ويعترفون بأن علاجه مقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة فتدفع آثارها وتعارض أفعالها وتبطلها وقد نص على ذلك أبقراط في بعض كتبه فذكر بعض علاج الصرع وقال هذا إنما ينفع في الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة وأما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج أما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ومن يعتقد بالزندقة فضيلة فأولئك ينكرون صرع الأوراح ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع وليس معهم إلا الجهل وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك والحس والوجود شاهد به وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط هو صادق في بعض أقسامه لا في كلها وقدماء الأطباء كانوا يسمون هذا الصرع المرض الإلهي وقالوا إنه من الأرواح وأماجالينوس وغيره فتأولوا عليهم هذه التسمية وقالوا إنما سموها بالمرض

الإلهي لكون هذه العلة تحدث في الرأس فتضر بالجزء الإلهي الظاهر الذي مسكنه الدماغ وهذا التأويل نشأ لهم من جهلهم بهذه الأرواح وأحكامها وتأثيراتها وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف عقولهم وعلاج هذا النوع يكون بأمرين أمر من جهة المصروع وأمر من جهة المعالج فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان فإن هذا نوع محاربة والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلالأمرين أن يكون السلاح صحيحا في نفسه جيدا وأن يكون الساعد قويا فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير طائل فكيف إذا عدم الأمران جميعا يكون القلب خرابا من التوحيد والتوكل والتقوى والتوجه ولا سلاح له والثاني من جهة المعالج بأن يكون فيه هذان الأمران ايضا حتى إن من المعالجين من يكتفي بقوله أخرج منه أو يقول باسم الله أو يقول لا حول ولا قوة إلا بالله والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول اخرج عدو الله أنا رسول الله وشاهدت شيخنا يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه ويقول قال لك الشيخ أخرجي فإن هذا لا يحل لك فيفيق المصروع وربما خاطبها بنفسه وربما كانت الروح ماردة فيخرجها بالضرب فيفيق المصروع ولا يحس بألم وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مرارا

وكان كثيرا ما يقرأ في أذن المصروع أفحسبتم أنماخلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون وحدثني أنه قرأها مرة في أذن المصروع فقالت الروح نعم ومد بها صوته قال فأخذت له عصا وضربته بها في عروق عنقه حتى كلت يداي من الضرب ولم يشك الحاضرون بأنه يموت لذلك الضرب ففي أثناء الضرب قالت أنا أحبه فقلت لها هو لا يحبك قالت أنا أريد أن أحج به فقلت لها هو لا يريد أن يحج معك فقالت أنا أدعه كرامة لك قال قلت لا ولكن طاعة لله ولرسوله قالت فأنا أخرج منه قال فقعد المصروع يلتفت يمينا وشمالا وقال ما جاء بي إلى حضرة الشيخ قالوا له وهذا الضرب كله فقال وعلي أي شيء يضربني الشيخ ولم أذنب ولم يشعر بأنه وقع به الضرب البتة وكان يعالج بآية الكرسي وكان يأمر بكثرة قراة المصروع من يعالجه بها وبقراة المعوذتين وبالجملة فهذا النوع من الصرع وعلاجه لا ينكره إلا قليل الحظ من العلم والعقل والمعرفة وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله تكون من جهة قلت دينهم وخراب قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر والتعاويذ والتحصنات النبوية والإيمانية فتلقى الروح الخبيثة الرجل أعزل لا سلاح معه وربما كان عريانا فيؤثر فيه هذا

ولو كشف الغطاء لرأيت أكثر النفوس البشرية صرعى مع هذه الأرواح الخبيثة وهي في أسرها وقبضتها تسوقها حيث شاءت ولا يمكنها الامتناع عنها ولا مخالفتها وبها الصرع الأعظم الذي لا يفيق صاحبه إلا عند المفارقة والمعاينة فهناك يتحقق أنه كان هو المصروع حقيقة وبالله المستعان وعلاج هذا الصرع باقتران العقل الصحيح إلا الإيمان بما جاءت به الرسل وأن تكون الجنة والنار نصب عينه وقبلة قلبه ويستحرض أهل الدنيا وحلول المثولات والآفات بهم ووقوعها خلال ديارهم كمواقع القطر وهم صرعى لا يفيقون وما أشد أعداء هذا الصرع ولكن لما عمت البلية به بحيث ينظر الإنسان لا يرى إلا مصروعا لم يصر مستغربا ولا مستنكرا بل صار لكثرة المصروعين عين المستنكر المستغرب خلافة فإذا أراد الله بعبد حيرا أفاق من هذه الصرعة ونظر إلى أبناء الدنيا مصروعين حوله يمينا وشمالا علىاختلاف طبقاتهم فمنهم من أطبق به الجنون ومنهم من يفيق أحيانا قليلة ويعود إلى جنونه ومنهم من يجن مرة ويفيق أخرى فإذا أفاق عمل عمل أهل الإفاقة والعقل ثم يعاوده الصرع فيقع في التخبيط فصل وأما صرع الأخلاط فهو علة تمنع الأعضاء التنفيسة عن الأفعال والحركة والانتصاب منعا غير تام وسببه خلط غليظ لزج يسد منافذ بطون الدماغ سدة غير تامة فيمتنع نفوذ الحس والحركة فيه وفي الأعضاء نفوذا ما من غير انقطاع بالكلية وقد يكون لأسباب آخر كريح غليظ يحتبس في منافذ الروح أو بخار

ردىء يرتفع إليه من بعض الأعضاء أو كيفية لاذعة فينقبض الدماغ لدفع المؤذي فيتبعه تشنج في جميع الأعضاء ولا يمكن أن يبقى الإنسان معه منتصبا بل يسقط ويظهر في فيه الزبد غالبا وهذه العلة تعد من جملة الأمراض الحادثة باعبتار وقت وجوده المؤلم خاصة وقد تعد من جملة الأمراض المزمنة باعتبار طول مكثها وعشر برئها لا سيما إن جاوز في السن خمسا وعشرين سنة وهذه العلة في دماغه وخاصة في جوهره فإن صرع هؤ