ولقد وجّهت منظمة ("الآباء البيض" النصرانيّة التبشيريّة) لعلماء المسلمين أسئلة تشكيكيَّة حول الحرّيّات :
ولست في أجوبتي بحاجة إلى أن أقف موقف المدافع عن الإسلام وأحكامه ، فالإسلام الحقُّ ، وهو من عند الله ربّ العالمين ، ولكنَّني أقف موقف الناصح الذي يَعْرض الحقّ ويبيِّنه لأولي الألباب ، ولأولي الأفكار المنصفة ، فمن شأن الحقّ أنَّه إذا جاء بنوره الساطع زهق الباطل ، إنَّ الباطل كان زهوقاً ، وإنَّني أُقّدِّمُ الأجوبة من منظار الحقّ ، ليكون بياني حجّةً عند الله يوم الدين على واضعي الأسئلة ، والمتأثرين بهم وحجَّةً لناشدي الحقّ وطالبيه ، الذين قد تؤثر في أفكارهم ونفوسهم التشكيكات والشُّبُهات والمغالطات ، وحجَّةً ينتفع منها أنصار الإسلام ، والدعاة إليه ، والمدافعون عن شرائعه وأحكامه.
السؤال الأول :
"كيف يمكن التوفيق بين حرِّيَّة التفكير والاعتقاد التي منحها الله للإنسان ، وبين منعه (مع استخدام العقوبة القصوى وهي القتل) من تغيير دينه ، وإن كان هذا التغيير قد نجم عن قرار شخصيّ نابع عن تفكير عميق ، ولأسباب جدّيَّة؟".
الجواب :
إنَّ الإنسان البالغ العاقل له الحرِّيَّة التامّة قبل أن يدخل في الإسلام في أن يُسلم أو لا يُسلم ، فلا تُكْرَهُ إرادته ، إذْ لا إكراه في الدّين ، لكنَّه مُسْتَتْبَعٌ بالمسؤولية عند الله عزَّ وجلَّ عن اختياره ، فإن اختار الكفر بما جاء به الإسلام من عقيدة وشريعة وأحكام فالنار مثواه يوم الدين خالداً مخلَّداً فيها أبداً ، ولا يُكْرَهُ إنسان على الدخول في الإسلام بحال من الأحوال ، ومن أراد أن ينتمي إلى الإسلام فعليه أن يعرف قبل إنتمائه أنَّه سيُكلّف تكاليف إذا خالفها فقد يعرِّض نفسه للعقاب ، حتى درجة العقوبة القصوى وهي القتل ، وهذا كمن يريد أن يطلب جنسيَّة دولة من الدول ، فإنَّ عليه أن يعلم أنَّه مسؤول عن الالتزام التام بقوانين هذه الدولة وأنظمتها قبل أن يتمّ العقد معه على منحه جنسيَّتها ومن هذه الأنظمة معاقبته بعقوباتها إذا فعل ما يقتضي عقابه ، ولو كانت العقوبة القصوى ، فطلب الجنسية من قِبَل الفرد ، ومنْحُها له من قِبَلِ الدولة عقْدٌ بين طرفين يشتمل على منافع وتبعات ، ومن تبعات اكتساب الجنسية تطبيق أنظمتها ، ودفع الضرائب كسائر نظرائه ، والجندية الإجبارية عند وجودها ، وقبول قانون العقوبات التي لديها حتّى ما يجدّ من قوانينها في المستقبل ، وإذا خان الدولة خيانة عظمى ، فتعامل مع أعدائها حُكم عليه بالعقوبة القصوى ، ومن الأمور التي يُبايع عليها من يرغب أن يدخل في الإسلام أنَّه إذا ارتدَّ عنه ، عرَّض نفسه للقتل.
إذن فليفكِّرْ بأناة وبكامل حرّيته قبل أن يُسلم وينخرط في جماعة المسلمين ، ويلتحق بالدولة الإسلامية ، فمن وافق وهو بكامل حرّيته وعقله وإدراكه على أن ينتمي إلى الإسلام ، فقد إلتزم وهو حرّ حريةً تامَّة أن يكون مُعاقباً بالقتل إذا ارتدَّ عنه ، فلا تعارضَ إذن بوجه من الوجوه بين حرِّيَّة التفكير والإعتقاد وبين هذا ، والسؤال مطروح بجهل ، أو بمغالطة للتلبيس وخلط المفاهيم ، فالعقاب على الردَّة ليس هو في الحقيقة إكراهاً على الدين ، ولكنَّه حمايةٌ للأمَّة الإسلامية من المتلاعبين ذوي الحيل الذين يدخلون في الإسلام بحريَّة ، ويخرجون منه بحريَّة ، وهم أعداءٌ للإسلام والمسلمين ، يمكرون بهما ، ويكيدونهما ، ويتَّخذون الوسائل المختلفة للتلاعب بالإسلام ، وتمزيق وحدة المسلمين وإضعافهم ، والتسلُّط عليهم ، والاستيلاء على ثرواتهم وخيراتهم ، وحربهم من داخل صفوفهم ، متذرِّعين بشعار الحرِّيَّة.
ومن إدَّعى أنَّه كان يجهل عند دخوله في الإسلام أنَّ عقابه القتل إذا إرتَدَّ عنه ، فإننا نقول له : من المعروف المقرر عند كل القانونيّين أنَّ الجهل بالقانون العامّ لا يعفي الفرد من المسؤولية إذا هو خالف أحكامه.


السؤال الثاني :
"المسلمون يعتبرون من الطبيعي جداً أن يعترف النصارى بحقّ إخوتهم في العقيدة في اعتناق الإسلام ... ألاَ يمكن للمسلمين الراغبين في دخول النصرانية من التمتّع بالحقّ نفسه ، إقراراً للحرِّيَّة التي منحها الله للإنسان؟".
الجواب :
"جاء في جواب السؤال الأول ما يتعلَّق بالردَّة عن الإسلام فلا داعي لإعادته هنا"
وأقول هنا : إنَّ ما ورد في السؤال ليس هو ما يُناظر به المسلمون النصارى ، فهم لا يقولون : إنّ من حقِّ النصرانيّ أن يعتنق الإسلام وينضم إلى المسلمين ، باعتبارهم حزباً ، أو جماعة من الناس ، ولكن الدّعاة المسلمين يقولون لكل إنسان : إننا نبلِّغك أنَّك مخلوق لله ربّ العالمين ربّ السماوات والأرض ، وأنَّ من الواجب عليك أن تؤمن به ربَّاً واحداً لا شريك له وتعبدَهُ وحده ، ولا تشرك بعبادته أحداً ، وتؤمن بكلّ ما جاء من عند الله ، وبكلّ رُسُل الله وأنبيائه ، دون تفريق ، وأن يكون إيمانك على وفق الحق الذي جاء من عند الله ، والذي لم يتعرَّض لتحريفٍ أو تبديلٍ أو تغيير، وأنَّ من الواجب عليك أن تعمل بمقتضى آخِر دين مُنزَّل من عند الله ، مؤيّد بالحجج والبراهين ، ومقترن بالمعجزة التي تُثْبت صدق الرسول الذي بلَّغه عن ربِّه ، فإن لم تؤمن ورفضت هذا الدين الخاتم عرَّضت نفسك لعذاب الله في نار جهنَّم يوم الدين خالداً مخلَّداً فيها أبداً ، ولا ينفعك يومئذٍ حزبٌ ولا جماعة ، ولا تنفعك شفاعةٌ من أحدٍ ونحن لك مبلِّغون وناصحون لا نكرهك ولا نجبرك ، فإنْ منعك قومك مُكْرِهِين فباستطاعتك أن تؤمن مستخفياً ، حتى إذا سنحت لك الفرصة أعلنت إيمانك وألتحقت بجماعة المسلمين وضممتَ قُوَّتَك إلى قوتهم ، ولسنا نقول للنصارى : إنَّ من حقّه أن لا تمنعوه ولا تكرهوه على البقاء في النصرانية بمقتضى مبدأ الحرِّيَّة ، ولكن نقول لهم : أنتم جميعاً يجب عليكم أن تؤمنوا بدين الله الحقّ ، وبجميع أنبياء الله ورُسُله ، فإنْ أبيتم عرَّضتم أنفسكم ، وأهليكم ، وأتباعكم ، لعقاب الله الشديد يوم الدين ، ونقول لهم جميعاً : نحن مستعدّون أن نقدِّم لكم الحجج والبراهين العقلية والعلمية لإقناعكم إنْ شئتم ، ولكم أن تقولوا ما تشاؤون حول أصول دينكم ومبادئكم ، ونحن مستعدّون لمناظرتكم حولها ، على مستوى أرضيَّة فكريَّة عقليَّة علميَّة مشتركة بيننا وبينكم فمن لزمته الحجّة وقام عليه البرهان الحقّ منّا فعليه أن يعلن اعترافه به ونقول لكم كما علَّمنا القرآن المجيد قال تعالى {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} فالسؤال الثاني كما ورد في أسئلة تنظيم "الآباء البيض" لا يكون على الطريقة التي ساقوها ، إلاَّ إذا اعتبر موجهو السؤال أنَّ الدّين قضيَّة جماعات بشريَّة ذات انتماءات إنسانيَّة ، لا قضيَّةٌ ربّانيَّة يُطالب الناس جميعاً بها ، فطرح السؤال طرحٌ قائمٌ على فكرة خاطئة غير صحيحة أصلاً ، فنحن لا نقول للنصارى : إنَّ من حقّ النصراني عليكم ألاَّ تعترضوا حرِّيته في اختيار تغيير دينه ، إنَّ قضيَّة الدين ليست قضيَّة مساومات سياسية أو اقتصادية ، حتى يكون التعامل فيها بالمثل ، إنَّ الدين حقُّ الله على عباده جميعاً ، وليس حقّ المسلمين حتّى يتنازلوا عن شيءٍ منه ، فإن كان النصارى يعتقدون أنَّ النصرانية حق النصارى ، وأنَّ لهم أن يساوموا عليه فهذا شأنهم ، وهو مختلف تماماً عن الفكر الإسلامي ، والعقيدة الإسلامية الرَّبّانية.
السؤال الثالث :
"هل الإسلام على استعداد – في البلاد الإسلاميَّة – لمنح المسيحيين تلك الحريّات التي يتمتَّع بها المسلمون في البلاد المسيحية ، بما في ذلك دخول المساجد ، والتعبير الحرّ عن دينهم ودعوتهم الجماهير لاعتناق العقيدة المسيحية؟".
الجواب :
المسلمون مستعدّون لعقد مناظرات عامة حول قضايا العقائد الإسلامية والعقائد النصرانيَّة ، وسائر العقائد والمبادئ المنتشرة في مختلف شعوب الأرض ، سواء أكان ذلك في بلدان الشعوب غير المسلمة ، أم في بلدان الشعوب المسلمة ، فمن شاء أن يناظر مناظرةً حرَّةً مفتوحةً ضمن أصول وقواعد المناظرات المنطقيَّة فمرحباً به ولدينا في بلدان المسلمين قاعات وصالات عامَّة كبرى تصلُح للمناظرة ، وفي كلّ بلدان شعوب الأرض مثل ذلك ، ولا نكون ضيِّقي الأفق ولا مُحْرِجين ولا مُتَعنِّتين في أن تكون هذه المناظرات في معابدهم الخاصة ، ولا في المُدن الدينيَّة الخاصة بهم كالفاتكان مثلاً ، بل نرضى أن تكون في أيّ مكان جامع يَصْلُح لعقد مناظرات عامَّة نعرض فيها مبادئنا ، ويعرض فيها الآخرون مبادئهم ، مع بيان أنَّنا لا ندخل عليهم كنائسهم ولا معابدهم ، ولا نُحرجهم بذلك ، يُضَاف إلى ذلك أننا لا نجدهم في واقع الأمر يسمحون بأن نكون دعاة للإسلام في كنائسهم أو مجامعهم العامَّة دعوةً علنيَّة.
ففي السؤال مغالطة إيهاميَّة لا تستند إلى واقع ، وهي محاولة لستر أعمال المبشرين النشيطة داخل بلاد العالم الإسلامي ، إذْ للمبشرين النصارى في البلدان الإسلامية آلاف البعثات والإرساليات والمنظمات والمؤسسات التعليميَّة والطبيَّة وغيرها ذات المهمّات التبشيريَّة ، وقد انتشرت في بلدان المسلمين بتسامح السلطات الإدارية وبتأثير الدول الاستعماريَّة النصرانية ، وليس للمسلمين بمقابل ذلك في بلدان الشعوب المسيحيَّة دعاة يبشرون بالإسلام إلاَّ العدد القليل جدّاً ، وبعض المراكز الإسلامية التي توجِّه نشاطها للأقليات المسلمة في هذه البلدان ، والمعاملة بالمثل التي يُطالِبُ بها السؤال تستدعي أن يكون للمسلمين في البلدان المسيحية مثلُ ما للمبشِّرين النصارى في بلدان المسلمين من مؤسسات تبشيريَّة ، مختلفة الأسماء ، ومختلفة التخصُّصات ومن بعثات تبشيريَّة تتخذ مختلف الوسائل الإغرائية غير الشريفة لتنصير المسلمين ومنها استغلال الأزمات والجوائح والمجاعات ، واستغلال الأموال التي توجّه للمساعدات الإنسانية العامَّة ، وتوجيهها لمهمَّات التنصير ، ومن هذه الأموال ما تبذله شعوب الأمَّة الإسلامية للمساعدات الإنسانية.
السؤال الرابع :
"كيف يكون منطقيّاً التأكيد بأنَّ الله قد منح الحريَّة بالتساوي للرجل والمرأة ثمَّ تمنع المرأة المسلمة من اختيار الرجل الذي ترغب في الزواج منه إنْ لم يكن مسلماً؟".
الجواب :
سبق في المقدّمات العامَّة بيان أنَّ الإسلام لم يجعل الحريَّة المطلقة مبدأً من مبادئه فالحريَّة المطلقة منافية لحكمة خلق الناس ممتَحَنِين بأوامر الله ونواهيه في هذه الحياة الدنيا ، وأُضيف هنا أنَّ التشكيك في حكمة الله بما يشرع لعباده وبما يوجب عليهم من واجبات ، وما يحرِّم عليهم من محرَّمات ، وما يُبيح لهم من مباحات ، هو مذهب إبليس حين رفض السجود لآدم ، زاعماً أنَّ عنصره الناريَّ أفضلُ من عنصر آدم الطينيّ ، مع أنَّ منطق العقل يرفض العنصريَّة أصلاً ، ويحكم على الكائن بما هو عليه ، لا بما كان قبل ذلك في عنصره وأصله ، وقد كان ما انتهى إليه تكوين آدم أن كرَّمه الله بالعلم ، وبأدوات المعرفة ، فأمَرَ اللهُ من تساءل عن الحكمة من خلقه بأن يسجدوا له ، وهم ملائكة ، بعد أن أظهر الله لهم أن هذا الإنسان مستعدٌّ أن يكون أعلم منهم ، ونظير النزعة العنصرية الفاسدة التي اعتمد عليها إبليس ، التسويةُ بين المتفاضلين في الخصائص والصفات وما ينجم عنها من نتائج وآثار، فادِّعاء المساواة بين صنفين مختلفين في الخصائص الجسديَّة والنفسيَّة ، ومختلفين في الوظائف الاجتماعية ، يتضمَّن قضيَّة فاسدة تناقض مبدأ الحق والعدل ، إنَّ من المعلوم في المشاهد والتجربة ، وفي المقرَّرات العلميَّة حتّى أحدث ما ظهر منها أنَّ المرأة ذات خصائص جسديَّة ونفسية مختلفة عن خصائص الرجل ، فخصائص المرأة تؤهلها لوظائف اجتماعيَّة أهمُّها الأمومة ، ثم حاجتها إلى رجل يكون هو صاحب القوامة عليها وعلى سائر أعضاء أسرته ، وصاحب القوامة الذي هو الرجل في أسرته ، قد يستخدم سلطة قوامته في حمل زوجته على ترك دينها ، من أجل ذلك فإنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يُبِحْ للمرأة المسلمة بأن تتزوَّج زوجاً غير مسلم ، حمايةً لها من ضغط الزوج وتأثيره عليها بإخراجها عن إسلامها ، وتعريضها لعذاب الله الأبديّ ، وفي المقابل فإننا لا نعترض على غير المسلمين إذا منعوا نساءهم من أن يتزوَّجْنَ بالمسلمين ، بل هذا يسرُّنا ، وبودّنا أن يُصْدِروا قرارات تحريميّة تمنع نساءهم من الزواج برجالٍ مسلمين ، فهذا أحفظ لرجالنا ، وأبعد عن الفتنة في الدين ، لكن ماذا نفعل إذا أباح غير المسلمين لنسائهم بأن يتزوَّجْنَ برجالٍ مسلمين؟
إنَّنا على كراهية وعدم رغبة نوافق على زوج الرجل المسلم بامرأة من أهل الكتاب بشرط أن يكون الزواج بينهما على وفق نظام الإسلام في أحكام الأحوال الشخصيَّة وأن تكون الولاية والقوامة للرَّجل ، وأن يكون الأولاد (ذكوراً وإناثاً) تابعين لآبائهم في الدين ، وأن يكون الميراث وفق أحكام الإسلام ، فإذا اختلت هذه الشروط ، أو اختلَّ بعضها ، فإنَّ الإسلام لا يُبِيحُ للرجل المسلم أن يتزوج بامرأة غير مسلمة ولو كانت كتابيَّة ، وتعاليم الإسلام تُرْشِدُ إلى اختيار المرأة المسلمة التقيَّة النقية ذات الدين والخلق القويم عند الرغبة في الزواج.
السؤال الخامس :
"كيف يمكننا تفسير العقوبات الجسديَّة كقطع يد السارق أو الجلد أو الرجم وهي المبيَّنة في بعض الآيات القرآنية؟!".
الجواب :
إجابتي على هذا السؤال تنطلق من منطلقات خمسة :
1 - الدين شريعة وأحكام ربّانية ، وحق الله على عباده أن يدينوا له وحده فيستمسكوا بشريعته ويعملوا بأحكامه ، وليس دين الله للناس من أوضاع الناس ، حتى يجري التفاوض عليها معهم ، والتشكيك في شريعة الله وأحكامه لعباده تشكيك في حكمته ورفضٌ لحقِّه جل وعلا في تنظيم أمورعباده بما يعلم أنَّه هو الأصلح والأنفع لهم ،وقد ثبت لدينا بالدليل القاطع أنَّ الإسلام الذي بلَّغه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقٌّ منزَّل من عند الله لا ريب فيه ، ومعجزةُ القرآن شاهد قائم دائم يشهد بأنه تنزيلٌ من عند الله.
2 -العقوبات الجسديَّة موجودة في الرسالات الرَّبانية المنزَّلة على المرسلين الصادقين المبعوثين من عند الله ، ومنهم رسل بني إسرائيل ، ومن هذه العقوبات عقوبة الرجم وأصحاب السؤال الذين يقولون : إنَّهم نصارى ، يؤمنون بأسفار العهد القديم ، وبما جاء فيها ، ويجعلونها ضمن كتابهم المقدَّس الجامع لأسفار العهد القديم ، وأسفار العهد الجديد ، ألم يقرؤوا سفر اللاّويّين ؟ ألم يدرسوا ما فيه ؟ ألم يبيِّن لهم رجال الكنيسة ما في كتب أهل الكتاب من عقوبات جسديَّة؟
إذا كانوا على علم بها ، فنقول لهم على طريقة سؤالهم : كيف يفسِّرونها؟
وإذا كانوا يجهلونها ، فنقول لهم : تعلَّموا دينكم أوَّلاً ، وادرسوا كُتُبَكُم ، ثم تعالوا إلى المناظرة وطرح الأسئلة التشكيكية إنْ شئتم ، ولا تطرحوا أسئلة من وجهة نظر العلمانيين ، أو الملحدين الذين لا يؤمنون بالله ورُسُله وكُتُبه.
3 - لقد تراجعت شعوب الأرض ، ودول العالم المتحضِّر عن أفكار إلغاء العقوبات الجسديَّة ، ولجأت في الآونة الأخيرة إلى إصدار قوانين بالعقوبات الجسديَّة حتى مستوى العقوبة القصوى ، كالجرائم المتعلقة بنشر المخدرات وترويجها ،مع إقرارهم جميعاً إستباحة ما تصنعه الحروبُ ذاتُ الأهداف المدفوعة بالأنانيات غير النبيلة ولا الشريفة ، من قتل وصور بشعةٍ جداً ، تحرم مَن يصابُ بها من بعض أعضائه وحواسه ، وتعطله في الحياة ، وتجعله من المعوقين ،مع ما تجلبه له من آلام جسيمة.
4 - على طارحي السؤال أن يراجعوا تاريخ النصارى المملوء بمآسي القتل والاضطهاد الشنيع بكلّ أنواع التعذيب والإذلال ، والتي منها قطع الأيدي والأرجل والأنوف والآذان ، ومنها سملُ العيون وإطفاء نورها بالحديد المحمى ، وغير ذلك لإكراه النصارى ولا سيما المسلمون على ترك دينهم ، والدخول في النصرانية ، وقد كان بين طوائفهم مثل ذلك أيضاً ، بسبب الخلافات الدينية ، ألا يذكرون ما صنعت محاكم التفتيش في أسبانيا؟
ألا يذكرون ما صنع رجال الكنيسة من حبس الألوف في أقبية مغلقة وجمعهم فيها كجمع سمك السردين في العلب ، وتركهم فيها حتى يموتوا وقوفاً متراصّين، مختنقين جياعاً ظماءً؟
ألا يذكرون القسوة الشديدة التي عاملوا بها المسلمين في المستعمرات التي استعمرتها بعض الدول المسيحية لبعض بلدان المسلمين في الشرق الأقصى ، واعترف بها بعض قادة المبشرين ، وقد بارك رجال الكنيسة هذه الأعمال؟
5 - لقد جرَّب المسلمون عبر تاريخهم العقوبات الجسديَّة الَّتي أمر الله بها ، كالقطع والجلد والرجم ، فكان من منافعها العظيمة حماية المجتمعات الإسلاميَّة من جرائم قتل شنيع فما دونه تعادل آلاف أضعاف ما تمَّ تنفيذه من عقوبات جسديّة ، بمعنى أن يداً واحدةً قُطِعت لسارق قد حمت آلافاً من الناس بريئين سويّين غير مجرمين ، كان من الممكن لولا هذه العقوبة الصارمة الحاسمة أن يتعرَّضوا للقتل وقطع الأيدي والأرجل وبقر البطون وإحداث عاهات مستديمات فيهم ، بأيدي مجرمين عدوانيين ، مع ما يسلبون وينهبون من أموال ويهتكون من أعراض ، ويحسن بطارحي السؤال أن يراجعوا إحصائيات دول العالم اليوم التي لا تعاقب السارقين بقطع الأيدي ، وما فيها من أرقام جرائم خيالية فيها قتل بأبشع الصور فما دون القتل من أعمال عدوانية إجرامية ، من أجل الحصول على المال الحرام بالسرقة أو السلب والنهب والقهر بالقوة.
كذلك نقول إن رجم عددٍ لا يتجاوز عدد أصابع اليدين لزناة متزوجين محصنين ثبت على الزاني منهم الزنى بشهادة أربعة شهود عدول شاهدوا بأعينهم فعلته ، أو قدموا أنفسهم للتطهير بإعتراف منهم لم يُكْرَهوا عليه ، ولم يُستدرَجوا إليه ، بأية وسيلة من وسائل الاستدراج ، قد حمى المجتمع الإسلامي قروناً متعددة من إنتشار فاحشة الزنى في الأسر المُحْصَنة ، وحماه مما تجر هذه الفاحشة من فسادٍ في المجتمع ، وإختلاطٍ في الأنساب ، ومآسٍ في الأسر ، ثم مما تجلُبُه من أمراض وبائية قد أحدثت طوفاناً وبائيّاً في الشعوب التي تهاونت بهذا الأمر ، وجعلت ممارسته من مظاهر الحرِّيَّة الشخصية ، وأقول لأصحاب السؤال الذين يقولون إنهم نصارى : هل أباحت شريعة من الشرائع الربانية الزنى المنتشر في عالم اليوم في الشعوب النصرانية بشكل معتاد غير منتقد ، بإعتباره ظاهرة من ظواهر الحريات الشخصية ، وقد سبب في شعوب الأرض مآسي تدوَّن بها بحوث ورسائل بل كتب كبيرة؟
إنَّ أصل الحكم الرَّبَّاني في شريعتهم هو الرجم ، وقد كانوا يفعلونه في عصورهم الأولى ، ثم دخل عليهم التحريف في الدين ، والتهاون بتطبيق أحكامه ، فليراجعوا تاريخهم ، أو فليقرؤوه إن كانوا جاهلين ، أفيعترضون على حكم هو من أحكام الإسلام وهو من أصول شريعتهم ، وأحكام دينهم ، ومنصوص عليه في الكتب التي يؤمنون بها ؟
إذا تحوَّلوا علمانيين فلينصروا العلمانية صراحةً ، وليخلعوا قناع مناصرةِ الديانة النصرانية ، وإذا كانوا ينصرون ما هو قائم في الشعوب النصرانية مما هو مخالف لأصول دينهم ، فليدعوا الأديان كلها جانباً ، وليتحدثوا عن واقع بشري بحت ، لا عن أديان ربَّانية منزَّلة من عند الله رب العالمين .

------------------
المصدر(عبدالرحمن الميداني ، أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها ، دمشق ، دار القلم ، الطبعة العاشرة سنة 2010م ، ص651-665