الإنسان الذي يريده الإسلام

يتكيَّف سلوك الإنسان في الحياة حسب نظرته إليها،
فمن الناس مَن يرى أنَّ الحياة هي هذا الواقع المادي
الذي يدْرِكه بصره ويقع عليه حسه، وأنَّ ما وراء ذلك
من عالم الرُّوح وما جاءت به أنبياء الله من التعاليم الإلهية،
وما أخبرت به من عالَمِ ما وراء الطبيعة، فما هو إلا ضَرْب
من التخيُّل ابتدعه الوهْم، وحمَلَت عليه الظروف القاسية
التي كثيرًا ما يضْطر الإنسان إلى أن يَخْلق لنفسه عالمًا
حالمًا يعيش فيه، ويجد فيه مَسْلاة له
وعزاءً عما فاته من هناء.



وهذا الصِّنف من الناس، ممن شأنه أن يقْبِل
على اللَّذائذ يُشْبِع منها نهمه، ويعبُّ منها ما وَسِعه أن يعب،
دون أن يقيَّد بقيْد، أو يقف عند حد، إلا بالقدْر الذي يعينه على
إشباع غرائزه، وتحقيق آماله وأطماعه، وقديمًا قالوا:

﴿ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ﴾
[الجاثية: 24]،


ولا يختلف منطق هؤلاء لا في القديم ولا في الحديث،
فالنفس الإنسانية هي النفس الإنسانية في كل زمان ومكان.



وها هي ذي أمم الحضارة المعاصرة، تَرى هذا المنطق،
وتنظر هذه النظرة، وتعيش في حدود هذه الفكرة، فتسخِّر جميع
القوى لتحصلَ على أكبر قسط من اللَّذَّة، وأوفى حظٍّ من الشهوة،
ولو كان ذلك على حساب غيرها من الأمم والشعوب.

فكم من عزيز أذلَّتْه! وكم من حق أضاعته! وكم من دم سفَكَته!
وكم من عهْد نقضتْه! وكم من جُرْم اقترفته!

وصدق الله العظيم إذْ يقول:

﴿ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ﴾
[الأعراف: 102].




وكل ما نراه من الجرائم والمآثم إنما هو نتاج هذا التفكير المادي،
وثمرة الكفْر بذخائر النَّفْس الإنسانية، وأثَرٌ من آثار التنكُّر للحق،
والاستهانة بالمثُل.

ومن ثَم كانت هذه النظرة المادِّية للحياة نظرةً من شأنها
أن تُباعد بين الإنسان وبين فطرته الخيِّرة، وتَسْلخه من الطبيعة
والسماحة، وتَخْلق منه عدوًّا لنفسه وللإنسانية،
وتجعله شرَّ ما يدبُّ على الأرض.

﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ
عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾
[الأنفال: 22 - 23].


فالآية تقرِّر أنهم فقدوا مصادر المعرفة وقُوَى الإدراك،
فَهُم صُم عن الحق لا يستمعون إليه، وبُكْم لا ينطقون به؛
لأن قلوبهم في عمًى عن نور الله، وفي ضلال عن هدايته.



ما حظُّ الأصم مِن سماع الغناء الجميل؟
ونصيب الأعمى من المشاعل المضيئة؟

وإذا كان ذلك كذلك، فإن على الإنسان أن يصحِّح نظْرته
إلى الحياة، وأن يرتفع بها عن مستوى الشهوة واللذَّة، ويسلك
المسلك الذي يحقِّق إنسانيته، ويسمو بها إلى الأفق الأعلى،
دون أن ينسى نصيبه من الدنيا، وحظَّه المادِّي من هذه الحياة.

وسبيل ذلك أن يتجرَّد من السَّطْحية، ويتغلغل في فَهْم وجوده
ومعرفة شخصيته، وكل ما بين يديه إنما يأخذه برِفْق لِيَصل به
إلى هذه الحقيقة؛ فالكون كله - سماؤه وأرضه - مسخَّر لمنفعته،
ومذلَّل لخدمته، وجارٍ على السنن التي تُعِينه على
تحقيق أهدافه الكبرى.



وليس في هذا التجَرُّد والتغلغل شيء يتعارض وكمالَه
الذي يسعى في تحقيقه، ويجدُّ في الوصول إليه:

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي
الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾
[إبراهيم: 32 - 34].


وفي هذا تحقيق لسيادة الإنسان على هذا الكون المادي،
وهذه السِّيادة تقضي أن يجعلها أبدًا خاضعة له، مسخَّرة لعقله وإرادته،
لا أن تستبِدَّه ولا أن تستذلَّه فتنقلب الأوضاع، ويصبح الخادم مخدومًا،
والعبد سيِّدًا، وفي هذا ما فيه من المهانة، بله تغيير خلق الله.



وصيحات الحق تنبعث من خلال كتاب الله - عزَّ وجلَّ - تحرِّك فيه
إنسانيته، وتكشف له عن مواهب الله التي أودعها إياه؛ ليصل
بها إلى أقصى ما قَدَّره له من كمال.

فوحي الله - سبحانه - يقرِّر أنه خلَق الإنسان بيديه؛
تكريمًا له وتشريفًا، ونفخ فيه من روحه؛ ليبقى مصباح الحياة
فيه دائمًا لا ينطفئ، وأفاض عليه من الاستعداد العقلي ما يصل
به إلى الذروة في العلم والمعرفة، وهيَّأ الله نفسه لتلقِّي كلمة الله
والقيام بها؛ ليستقر النظام الذي يريده الله لإسعاده، وجعَلَه
خليفة عنه في إقامة الحق والعدل، ولم يجعل لكماله غاية
سوى لقائه والتمتُّع بالنظر إلى وجهه الكريم،

﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ
مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾
[الإسراء: 70].




﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً
قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ
عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *
قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ *
قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ
لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ
وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 30 - 33].


وما كان الله ليعلي من شأن الإنسان ويجعله سيدًا
لهذا الوجود، ويحرِّكَ فيه هذه المعاني إلاَّ ليكشف له عن
حكمةِ وجوده، وسرِّ الوظيفة التي خُلِق من أجلها، فيَمضي إلى
غايته في قوة دون تريُّث أو استرخاء، وهذه الغاية هي حمل
أمانة هذه الحياة والاضطلاع بتبعاتها.

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ
أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾
[الأحزاب: 72].




وكثيرًا ما تنحرف الفطرة عن هذه الغاية وتضلُّ العقول عن إدراكها،
إما بسبب البيئة الفاسدة، أو الجهل القاتل، أو التعب الأعمى، أو إيثارًا للَّذَّة
العاجلة، مما ينشأ عنه امتِهان كرامة الإنسان، ونسيان قيمته العليا.


ومِن ثَم كانتْ تعاليم الإسلام هي العاصمة للعقول من الضلال،
والحامية للفِطر من الانحراف، فإذا ترسَّمْنا خُطَا الإسلام، واتَّبَعنا منهجه
القويم، تحقَّقَت لنا الغايات الكبرى من تحقيق إنسانيَّتنا في هذه الحياة.


وكان لنا الحِسُّ المرهف، والضمير الحي،
والعاطفة الجيَّاشة، والإرادة المصمِّمة، واليد القوية،
وتوافرت لدينا عناصر البِنَاء الصحيح لأُمَّة تريد أن
تُسْهِم بنصيب وافر في تدعيم روابط الأُخُوَّة
وتقوية دعائم العدل والسلام.




منقول