هاهي الأحزان من جديد تهطل عليّ وتحيي بقطراتها نباتات الصمت في داخلي ...
ما أشد غبائي حين ظننت أن الحزن سيفارقني للأبد
كنت أردد ذلك مع السذج الذين يتشدقون بأقوال حماسية :
إن السعادة هي ما نقدمه لأنفسنا وأن الحزن ما يقدمه الآخرون لنا حين نتوقف نحن عن ذلك ..هه ...
لقد قدمت لنفسي كل شيء ثم ماذا بعد .. ؟
إنها تعود في كل مرة هموم مثل قطع الليل البهيم تتسلق ضلوعي وتندس بين أحشائي
وتخيط خيوطها بين جفوني أحس رعشتها في كل أطرافي أرقب دبيبها في جوانحي ...
صدقوني لقد فعلت كل شيء لأحصل على الوصفة السحرية ، رقصت في المطر ،
جريت خلف الأوهام مصدقا لها ، ضحكت بدون سبب ، رددت كالبلهاء : ( أنا سعيد ... أنا سعيد )
حتى أضحكت من يسمعني ...
والمحزن في الأمر أن جميع من حولي صدق هذه الأكذوبة ، بل إن بعضهم صار يحسدني على سعادتي .. !!!
كنت الوحيد الذي يعرف زيف هذه الحقيقة وتلك الشجرة الصامتة في باحة بيتي
التي اعتادت مراقبتي حتى أصبحت تشاركني همي وحزني .
وبالمناسبة فهي إحدى أفراد عائلتي أعني شجرة بيتنا العتيدة الصامتة
الناطحة بأغصانها الضخمة قرون السحاب وزرقة السماء ،
فمعها كنت أتشارك أجمل عاداتي ( الصمت ) ، أرقبها وترقبني حتى ألفنا بعضنا
وأصبحنا خليلين نفهم بعضنا ونفتقد الغائب منا .
هل أخبركم ببقية أفراد العائلة : هناك ( الجبل ) الذي يقع خلف حينا
وقد تعرفت عليه مؤخرا وهو أكبرنا سنا وأغنانا تجربة ، فمنه تعلمت مهارة التأمل والهدوء ،
أنه يظل قابعا مستغرقا في صمته بشكل رهيب ، وقد حسبته جامدا لا حياة فيه
للوهلة الأولى مثل كل الناس ولكن مع مرور الوقت اكتشفت سره الذي لا يبوحه إلا لأصدقائه ..
لله ما أطول صمته وما أعظم هيبته وما أكبر تحمله ،
لقد تعلمت منه أنا وبقية أفراد العائلة كيف ننسى مشاكلنا وننصرف عن همومنا ومشاغلنا ،
كيف نتأمل ذواتنا ونستخرج ما في دواخلنا .
وفرد آخر من أفراد عائلتي وهو ( القمر ) ، أكثرنا مرحا وحركة ،
يغيب عنا دائما لكني أجده إذا احتجته ناصعا براقا ، إذا حدثني التفت إلي بوجهه كاملا
حتى خلته ينزل من السماء لأجلي .
وعادة ما يترافق القمر مع فرد آخر من أفراد العائلة ألا وهو (الليل ) أمنا الرؤوم
الذي يشملنا بثوبه حتى يستر حياءنا ويذيب حواجزنا فتسيل الدموع وترتعش الشفاه
وتنطلق الهموم من الصدور مثل خفافيش الظلام ،
ما غشاني الليل إلا وجدت لساني ينطق بالبوح له ،
لا أسرار بيننا أنه يعرف كل شيء عني ، أحدثه بكل مشاكلي وهمومي ،
أستشيره في كل طارئ يعرض لي .
هذه هي عائلتي الحزينة لطالما اجتمعنا في أحايين كثيرة وتشاكينا همومنا وبحنا بأسرارنا ،
أنني أفتقد كل فرد من أفرادها إذا غاب عني ، أحس معهم بالأنس والراحة ،
وإن أثقلني همّ وجدتهم يحفون بي ويصغون إلى شكايتي ويتشاركون حزني وبكائي ،
لم أجد منهم تبدلا أوتبرما من صحبتي ، كانوا نعم الرفقة ونعم العائلة .
المفضلات