بسم الله الرحمن الرحيم
عوامل نجاح الشيخ ديدات رحمه الله
من تابع حياة الشيخ، وتأمل في مسيرته، يرى أنه ـ رحمه الله تعالى ـ وُفِّق في امتلاك صفات وعوامل عدة مكنته من تحقيق هذا النجاح المثير، ولعل من أبرز ذلك:
1 - الغيرة على الدين، وتعظيم ثوابته: ومن نظر في سيرة الشيخ اتضح له مدى امتلاكه لهذا الباعث المحرك على الفعل. يقول ـ رحمه الله تعالى ـ مصوراً الحالة النفسية التي كان يعيشها من جراء هجوم طلبة كلية (آدمز مشين) التنصيرية على أصول الإسلام ما نصه: «وقد أحال هذا الهجوم على الإسلام حياتنا إلى بؤس وعذاب وشقاء، وأحدثت عندنا حيرة وقلقاً بسبب عدم معرفتنا شيئاً نرد به عليهم، وكنت أرغب في ترك المحل والهرب إلى مكان آخر، ولكن ذلك كان مستحيلاً لصعوبة وجود مكان آخر» يلجأ إليه.
2 - الإصرار وقوة العزيمة: ولعل هذه الصفة من أبرز ما يميز الشيخ؛ إذ على الرغم من أنه ترك الدراسة النظامية وهو في سن السادسة عشرة، إلا أن ذلك لم يحُل بينه وبين استمرار بناء النفس ومداومة القراءة والتعلُّم الذاتي؛ حتى إنه صار آية في فنه، يشهد له بذلك القاصي والداني قبل شهادة نتاجه العلمي المقروء والمرئي والمسموع، مما جعل بعض الجامعات تراه أهلاً لدرجة الأستاذية في تخصصه وتقوم بمنحه إياها، هذا في الجانب العلمي. أما في الجانب العملي فالأمر أكثر وضوحاً؛ إذ إنه ما إن قرأ كتاب «إظهار الحق» حتى بادر إلى تخصيص يوم إجازته لزيارة طلبة كلية (آدمز مشين) وأساتذتها في منازلهم ويقارع أباطيلهم بالبراهين والحجج الداحضة، ومع ازدياد عود الشيخ صلابةً نجد نشاطه يتجاوز مدينته، فيخرج إلى جوهانسبرج وكيب تاون، وفي عام 1959م نراه يترك وظيفته ليتفرغ للعمل الدعوي كلياً، واستمر في الذهاب والإياب في أرجاء البلاد دون أن تعرف نفسه الملل، ليبدأ عقب ذلك الخروج إلى بقية البلدان؛ حتى إنه حاضر أو ناظر في نيويورك وشيكاغو ولندن وكوبنهاجن وسيدني، وغيرها من كبريات مدن العالم.
3 - الشجاعة الأدبية: وهب الله ـ تعالى ـ الشيخ إقداماً ورباطة جأش وقبولاً للتحدي بصورة جعلته لا يهاب الصعاب، ولا يرهب مكر الآخرين وكيدهم على صغر سنه وفقره وقلة حيلته، في مقابل قوة المنصرين وكثرتهم وكون السلطة بأيديهم، وهو وإياهم في بلد عنصري لا يرى لغير الجنس الأوروبي كرامة ولا قيمة، واستمرت شجاعته الأدبية معه إلى أن توفاه الله تعالى إذ استمر في مناظرة أرباب التنصير من كافة المذاهب في بلدانهم واحداً تلو الآخر، دون أن يدخل إلى قلبه خوف أو وجل.
4 - الحلم والتواضع: إن من أهم ما تمتع به الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ صفتي الحِلْم والتواضع؛ فحلمه مكنه من الهدوء بصورة ملفتة أمام خصومه، ومن القدرة على تجاوز الإهانات التي لاقى كثيراً منها أثناء الحوار والمناظرة، وتواضعه الجم وبساطته الظاهرة وبعده عن مظاهر الترف والتكلف ـ رغم مكانته المرموقة وشهرته الواسعة ـ مما أكسبه القلوب وساعده على تقريب الناس منه وجذبهم إليه.
5 - الرفقة المعينة: كان إلى جانب الشيخ رفقة جردت نفسها للوقوف معه لنصرة الحق، وأسهمت بفاعلية في تشجيعه وإعانته وفتـح الآفـاق والفـرص أمامـه، والحـق يقـال إن الشـيخ ـ رحمه الله تعالى ـ رغم عصاميته الظاهرة ما كان ليبلغ ما بلغ لو لم يوفقه الله ـ تعالى ـ بصحبة مقتنعة بشخصيته، مؤمنة برسالته، ملازمة له في حله وترحاله، تمهد له دروب النجاح وتثبته أثناء مضيه فيها.
6 - وضوح الهدف: إذ منذ أن بدأ الشيخ ـ رحمه الله عز وجل ـ نشاطه الدعوي، وهدفه بيِّن متمثَّل في الدفاع عن الإسلام، ورد شبهات النصارى حول القرآن المجيد والنبي الكريم -صلى الله عليه وسلم - ، وذلك من خلال بيان عقائد الإسلام كما هي، ونشر ترجمة معاني القرآن كما هي، والانطلاق من قاعدة: «خير وسيلة للدفاع الهجوم»، ولذا فقد عمل على دراسة كتاب النصارى المقدس بعهديه، وإظهار ما فيه من تناقض مع مسلَّمات العقل، وما بين نسخه من اختلافات ضخمة ناتجة عن تبديـل وتحـريـف بشـري متكـرر ومتعمـد. وقد اسـتمـر الشـيخ ـ رحمه الله ـ منذ أكثر من سبعين عاماً مرتباً لأولوياته، مركِّزاً على هدفه هذا الجلي، متجهاً نحو تحقيقه بكل ما يملك من جهد وإمكانات، لم يحد عن ذلك إلى أن توفاه الله تعالى.
7 - التخصص الدعوي: لم يتجاوز الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ المجال الذي نذر نفسه له، من مقارعة أباطيل النصارى ودحض شبهاتهم حول الإسلام، وقد مكنه استمرار التركيز على هذا الجانب من تحقيق مزيد من العمق والإبداع فيه، حتى إنه ـ رحمه الله تعالى ـ بلغ من إتقانه له حداً لا يجارى. فماذا يا ترى ستكون النتائج لو أن كل فرقة من الدعاة تخصصت في مجال دعوي محدد؟
8 - خدمة جانب حيوي وبِكر: لعل من أهم العوامل التي ساهمت بفاعلية في نجاح الشيخ وبروزه توفيق الله ـ تعالى ـ له بالتركيز على جانب حيوي مهم، حاجة الأمة إليه ماسة، وبخاصة في زمن غربة الإسلام، وضعف إمكانات الداعين إليه في مقابل قوة إمكانات التنصير وهيمنة إرسالياته على كثير من المؤسسات التعليمية والصحية والإعلامية في أصقاع الأرض، ولذا فقد كان للمشاركات المتميزة التي أسهم بها الشيخ حضورها الفاعل في الصراع العقدي الدائر بين الإسلام والكنيسة اليوم.
وزاد من فرص الشيخ في النجاح أن هذا المجال ما يزال على المستوى الدعوي الإسلامي شبه بكر، الجهد فيه محدود وقليل، ولذا فقد كان تقديم أي إسهام متميز من الشيخ ملحوظاً ومؤثراً في الساحة الدعوية بصورة بينة جداً.
9 - تنمية المهارات والقدرات الذاتية: عمل الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ على صقل مواهبه، وتنمية قدراته منذ أن بدأ في سلوك هذا الطريق، فمع أن الشيخ توقف عن الدراسة النظامية في سن مبكرة جداً إلا أنه استمر في تنمية لغته الإنجليزية، ومعلوماته من خلال القراءة والبحث، وبعد أن اطمأن إلى جودة معلوماته أخذ في تحسين مهارة الإلقاء لديه، فحضر دروساً في ذلك عند متميز في هذا الجانب (لا يكاد السامع يمل حديثه)، ثم انضم إلى دروس تُمكِّن مَنْ يحضرها من استثمار تناقضات (الكتاب المقدس) فـي الدعـوة إلى الله تعالـى. وما فتـئ الشـيخ ـ رحمه الله تعالى ـ يوماً بعد آخر يحسِّن من قدراته على الإلقاء والمناظرة من خلال ممارسته العلمية المتكررة حتى بلغ فيها المبلغ الذي يعرفه الجميع.
10 - الـتركـيز علـى الإنجـاز: مـن تأمـل في حيـاة الفقيـد ـ رحمه الله تعالى ـ تجلى له بُعدُهُ عن التنظير الواهي، وتركيزه على تنفيذ الوسائل المحققة لهدفه الدعوي الذي ارتضاه لنفسه؛ فهو يناقش ويناظر ويحاضر وما زال يتعلم، وهو يقيم الدورس ويعقد الدورات ويصنف الرسائل وينتقل من مدينة إلى أخرى ليدعو الآخرين ويعلمهم ما تعلم، وهو يتفق مع رفيق دربه غلام حسن على تأسيس مكتب للدعوة لمقارعة الباطل وإقامة الحجة على المعاندين، وهو يترك وظيفته ليتفرغ لدعوته، وهو يدخل في شراكة دعوية مع بعض أغنياء المسلمين بغرض استثمار وجاهتهم وقدراتهم المالية في خدمة الدعوة إلى الله تعالى، وهو ينشئ المؤسسة تلو الأخرى لخدمة دعوته وتحقيق رسالته، وهو ينتقل من بلد إلى آخر ليثبِّت المسلمين ويقيم الحجة على خصومهم، وهو يعقد اللقاءات المتكررة مع المنصرين لمناقشتهم في أمور دينهم، ولفت نظرهم إلى جوانب القصور والضعف الموجودة في عقائدهم وكتبهم، وهو يوزع أكثر من: 20.000.000 مليون نسخة من رسائله وأشرطته المسموعة والمرئية، وأكثر من 400.000 نسخة من ترجمة معاني القرآن الكريم عبر المركز العالمي للدعوة الإسلامية الذي شارك مع إخوانه في تأسيسه في ديربان، وهو يرد على ما يرده من أسئلة من الآخـريـن مـع أنـه طـريح الفراش مشلول اللسان والأطراف لا يتحرك منه غير عينيه وحاجبيه لمدة تزيد على عشر سنين إلى أن وافاه الأجل المحتوم ـ جعله الله تعالى في عليين ـ مما يجعلنا نقول بصوت مرتفع: حقاً إن امتلاك المبادرة الفاعلة والتركيز على إنجاز الأهداف المختارة هو سبيل الناجحين.
ويبقى توفيق الله ـ تعالى ـ وعونه وتسديده قبل ذلك وبعده هو العامل الأهم في قبول الناس لجهود الشيخ واستفادتهم منها وسمو النجاحات التي حققها.
لقد كان الشيخ تجربة دعوية ناجحة، وأنموذجاً في العلم والعمل يستحق الدراسة والاحتذاء، وعسى الله ـ تعالى ـ أن يسخر العاملين في المؤسسات الدعوية لتبني أصحاب التجارب الناجحة من أمثال الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ ليزداد النجاح نجاحاً والإشراق إشراقاً، وأن يسخر من المؤسسات أو الدعاة من يعمل على تدوين تجـربة الشـيخ وأمثاله مـن المبدعـين، حتى لا تموت بموتهم وتتمكن الأجيال الدعوية القادمة من توارثها.
■ وختاماً:
فقد كانت جهود الشيخ وإسهاماته المتنوعة إضافة متميزة في التجربة الدعوية المعاصرة، يُعتَقَد بأن نجاحها الأكبر كان في بهت الذين كفروا، وفي تثبيت المسلمين الذين يعيشون في أجواء نصرانية طاغية وإشعارهم بالعزة والتفوق العقدي. والمأمول من تلاميذ الشيخ ومحبيه أن يطوروا هذه التجربة وينطلقوا من حيث انتهى الشيخ لا من حيث بدأ، فيركزوا على المعرفة المتعمقة بالشريعة الإسلامية والديانة النصرانية المحرفة على حد سواء، ويعملوا على المزج بصورة أظهر بين إرادة تثبيت المسلمين وبين الرغبة في دعوة النصارى، فيحسنوا في الأساليب ويطوروا في الوسائل بصورة ملموسة تخفف من الشعور لدى الفئات النصرانية المترددة بأن هدف المسلم من المناظرة هو إفحام خصمه فقط لا العمل على هدايته، وتبرز بصورة أكبر يسر الإسلام وسماحته، وكون ـ مولانا القدير ـ أنزله رحمة للعالمين.
اللهم بجودك وفضلك تقبل الشيخ، وتجاوز عنه، وارزقه مرافقة نبيك -صلى الله عليه وسلم - في جنات الخلد، يا إله الأولين والآخرين، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، وصلِّ اللهم وسلم على إمام المرسلين وعلى الآل والأصحاب أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
المفضلات