أما بخصوص تكرار قول أن جهال العالم هم أتباع يسوع وحواريه فأقول:
يوجه الرسول أنظارنا إلى بركات الصليب، فإننا مدعوون أن نتمتع خلال الصليب بالحكمة والقوة والكرامة (شرفاء). كان اليهود يعتقدون بأن الروح الإلهي لن يستقر على إنسان ما لم يكن حكيمًا وقويًا وغنيًا. لقد تحقق هذا كله بالصليب لا حسب الجسد ولا حسب فكر العالم، بل صارت لنا حكمة اللَّه وقوته للخلاص وفيض غناه. هذه هي دعوة إنجيل الخلاص لكل البشرية.
"بل اختار الله جهال العالم ليخزي الحكماء،
واختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء" [27].
"واختار الله أدنياء العالم والمُزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود" [28].
يشير هنا إلى المختارين للخدمة ممن ينقصهم التعليم الزمني والغنى والسلطان والجاه فيبدو أنهم
أغبياء، وكانوا
محتقرين من العظماء والأغنياء. اختارهم لكي يُدرك من يظنوا في أنفسهم أنهم حكماء وأقوياء وعظماء أنهم محتاجون إلى العمل الإلهي. بالنعمة يصيرون أبناء اللَّه، فينالون كرامة حتى أمام السمائيين، ويغتنوا بكنوز إلهية لا تُقدر!
كان بولس غير متعلمٍ لكنه غلب أفلاطون، أقول كانت النصرة جلية. فإنه قد جذب الأول تلاميذ الأخير. مع أنه غير متعلم أقنعهم وأخذهم إلى صفِّه. من هذا يتضح أن الإنجيل لم يكن ثمرة حكمة بشرية بل نعمة اللَّه.
لنربحهم بحياتنا. فإن كثيرين من بين غير المتعلمين ادهشوا بهذا الأسلوب عقول الفلاسفة، مظهرين في أنفسهم أيضًا أن الفلسفة التي تكمن في الأعمال تُعطي صوتًا أعظم من اللسان.
إن كان ليس بحكمة الكلام، فلماذا أُرسل أبلوس البليغ؟ يجيب: ليس خلال الاعتماد على قوة الكلام، بل لأنه كان مقتدرًا في الكتب المقدسة (أع24:18، 29)، ويجادل اليهود... الآن فإن هذا (المسيح) القادر أن يعمل بدون الحاجة إلى أُناس متعلمين في البداية، أضاف إليهم أناس فصحاء، ليس لأنه محتاج إليهم وإنما يود أن لا يُوجد تمييزًا بين هؤلاء وأولئك. فإنه إذ لم يكن محتاجًا إلى حكماء ليحققوا ما يريده، فإنه فيما بعد إذ يوجد من هم هكذا لا يرفضهم بسبب فصاحتهم.
"ليس كثيرون أقوياء، ليس كثيرون شرفاء"، فإن هؤلاء أيضًا مشحونون بالكبرياء. ليس شيء يسبب فشلاً من جهة معرفة اللَّه الدقيقة مثل التشامخ والالتصاق بالغنى، فإن هذا يجذب الإنسان إلى الإعجاب بالأمور الحاضرة وعدم المبالاة بالأمور المستقبلة، ويسد الآذان خلال الاهتمامات الكثيرة. أما اللَّه فاختار جهلاء العالم، وهذه علامة عظيمة على النصرة إذ يغلب اللَّه بغير المتعلمين
لم يدع غير المتعلمين فقط بل ودعا المحتاجين
والمحتقرين والمجهولين لكي يخزي الذين في مراكز عالية.
صنع اللَّه كل شيء بهذا الهدف: أن يحطم المجد الباطل والكبرياء ويذل التشامخ. يقول: "هل أنتم أيضًا تشغلون أنفسكم بهذا العمل؟" لقد فعل كل شيء حتى لا نصنع بأنفسنا شيئًا لحسابنا، بل ننسب كل شيء للَّه. هل تعطون أنفسكم لهذا الشخص أو ذاك؟ أي غفران تنالونه؟
القديس يوحنا الذهبي الفم
انظر ماذا فعل الرب الذي يقول عنه الرسول: "اختار اللَّه الضعفاء..." الآن كلمات صيّادي السمك تُقرأ، وتنحني رقاب الخطباء (الفلاسفة). لتعبر الرياح الفارغة، ليُنزع الدخان ويتبدد.
ليُحتقر هؤلاء تمامًا عندما يكون السؤال خاصًا بهذا الخلاص.
حجر الزاوية هذا يجعل الاثنين لائقين به. لكي يؤكد ذلك اختار جهلاء العالم ليخزي الحكماء، ولم يدعُ الأبرار بل الخطاة، حتى لا يفتخر إنسان بنفسه على عظمته،
ولا ييأس أحد بسبب انحطاطه.
ليفكروا في ذاك الذي إذ نزل ليشفي بمثال تواضعه سرّ نفس الإنسان العظيم: الكبرياء! "اختار ضعفاء العالم ليخزي بهم الأقوياء وجهّال العالم ليخزي الحكماء - ليسوا بالحق حكماء بل يبدو كأنهم هكذا - واختار أدنياء العالم وغير الموجود ليخزي الموجود".
القديس أغسطينوس
كان عاموس النبي راعيًا للغنم، وبطرس صيّادًا للسمك، وأخوه أندراوس يمارس ذات العمل وأيضًا يوحنا؛ وبولس كان صانع خيام، ومتى عشّارًا، وهكذا بقية الرسل. لم يكونوا قناصله ولا وُلاة أو حكّام ولا رجال فلسفة وبلاغة، بل فقراء، ليسوا ذوي مهن سامية علميًّا، بل مبتدئين في أعمال وضيعة. ومع ذلك فإن أصواتهم قد بلغت الأرض كلها، وكلماتهم إلى أقاصي المسكونة.
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
اختار اللَّه "غير الموجود"... ماذا يعني؟ كان هذا التعبير شائعًا في الشرق (إش 17:40) يُستخدم عمن يبدو كأنه كلا شيء وبلا وجود. فاليهود كانوا يحتقرون الأمم ويحسبونهم كأنهم غير موجودين، كأنهم ليسوا شعبًا (هو 10:1؛ 23:2؛ رو25:9؛ 1 بط 10:2).
عندما يتحدث إنسان من الهندوس ذو مكانة عن أشخاصٍ محتقرين في نظره يقول "alla tha barkal" وتعني "غير الموجودين". وهو تعبير لا يشير إلى الوجود ذاته أو عدمه، وإنما إلى الاستخفاف بالشخص حتى يصير في عينيه كأنه عدم.
بقوله "ليبطل الموجود" يعني الشرفاء والأغنياء وأصحاب المراكز السامية الذين يشعرون كأن ليس في الوجود غيرهم.
ربما يشير الرسول هنا إلى الأمم، إذ كان اليهود يتطلعون إليهم كجهلاءٍ وضعفاءٍ وأدنياءٍ، لا وجود لهم. ومع هذا فقد اختار اللَّه منهم من يخزي قادة اليهود الذين يحسبون أنفسهم حكماء وأغنياء وشرفاء. كان اليهود يتطلعون إلى الأمم بأنهم ليسوا أفضل من الكلاب (مت 15 :27).
في القديم كان كثيرون يتطلعون إلى الزوفا أنه كلا شيء، لكن اللَّه كرَّمه كما كرَّم الأرز، أمر باستخدامه في الطقس الخاص بتطهير الأبرص، وفي محرقة البقرة الحمراء وفي رشم قوائم أبوابهم للخلاص (خر 22:12) فلا يحتقر اللَّه
الأمور المحتقرة عند البشر. لهذا لم يستخف سليمان بالزوفا بل تحدث عنه كما عن الأرز (1 مل 33:4).
"لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمامه" [29].
تشير كلمة "جسد" هنا إلى البشر كما جاء في مت 22:24؛ لو 6:3؛ يو 2:17؛ أع 17:2؛ 1 بط 24:1.
يدخل بنا إنجيل المسيح إلى التواضع أمام اللَّه، لا إلى التشامخ، حيث يتمتع الكل بذات البركات بلا تمييز بسبب الكرامة أو السلطة أو الغنى. اللَّه الذي لا يستخف
بالمحتقرين، صانعًا عجائب خلالهم، يحث المتكبرين ألا يتشامخوا بسبب عظمتهم أو حكمتهم أو غناهم، بل يفتخروا بالرب.
المفضلات