آخـــر الـــمـــشـــاركــــات
-
الرد المفحم علي شبهه سجود الشمس تحت العرش !
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
الأخوة والأخوات الأعزاء ..
الزملاء والزميلات أعضاء منتدى منتدى الفرقان ..
ينكر أهل الشهوات والشبهات آية طلوع الشمس من مغربها قبل يوم القيامة .. [وهى آية عظيمة الشأن .. خارقة لكل نواميس الكون .. لا علاقة لها بما إعتاد عليه الناس يومياً] .. ونحن هنا نُعلن للجميع .. أنه لا يلزمُنا نحن المسلمين أهل السنة والجماعة .. إلا ما أقره صحيح المنقول وصريح المعقول .. فلا الأوهام ولا الظنون .. هى ما تحدد للمسلمين ما يجب أن يعتقدوا فيه .. يقول شيخ الإسلام إبن تيمية .. شيخ الحنابلة فى عصره: [من تبحر فى المعقولات ووقف على أسرارها علم قطعاً أنه ليس فى العقل الصريح الذى لا يكذب قط .. ما يخالف مذهب السلف وأهل الحديث .. ولو فرض على سبيل التقدير أن العقل الصريح الذى لا يكذب يناقض بعض الأخبار .. (للزم إما تكذيب الناقل أو تأويل المنقول)] أهـ .. [مجموع الفتاوى: 33 /172/173] ..
وعليه فإن ما نعتقده حيال [طلوع الشمس من مغربها قبل يوم القيامة] .. هو على النحو التالى:
هل يُلزمنا نص الحديث القول بأن الشمس تغيب كلية عن الأرض وتقضى ليلتها تحت العرش فوق السبع سماوات .. ؟!
الإجابة هى: لا .. ولذلك أدلته من الكتاب والسنة:
الدليل الأول:
يقول الله تعالى فى كتابه العزيز: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} .. [إبراهيم: 33] ..
الآية الكريمة تشير إلى أن الشمس والقمر فى عمل مستمر لا ينقطع ليل نهار .. وهذا يتنافى مع السكون عن الحركة .. وإليكم طائفة من أقوال العلماء المفسرين:
الألوسى .. روح المعانى ..
أى دائمين فى الحركة لا يفتران إلى إنقضاء عمر الدنيا .. وأصل الدأب العادة المستمرة ..
الزمخشرى .. الكشاف ..
{دآئِبَينَ} يدأبان فى سيرهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات .. وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات ..
الرازى .. مفاتيح الغيب ..
وقوله: {دَآئِبَينِ} معنى الدؤب فى اللغة مرور الشىء فى العمل على عادة مطردة يقال دأب يدأب دأباً ودؤباً .. وقد ذكرنا هذا فى قوله:
{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا} .. [يوسف: 47] .. وقوله: {دَأَبًا} قال أهل اللغة: الدأب إستمرار الشىء على حالة واحدة وهو دائب بفعل كذا إذا استمر فى فعله ..
قال المفسرون .. قوله: {دآئِبَينِ} معناه يدأبان فى سيرهما وإنارتهما وتأثيرهما فى إزالة الظلمة وفى إصلاح النبات والحيوان فإن الشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل .. ولولا الشمس لما حصلت الفصول الأربعة .. ولولاها لاختلت مصالح العالم بالكلية ..
القرطبى .. الجامع لأحكام القرآن ..
أى فى إصلاح ما يصلحانه من النبات وغيره .. والدُّؤوب مرور الشىء فى العمل على عادة جارية .. وقيل: دائبين فى السير إمتثالاً لأمر الله .. والمعنى يجريان إلى يوم القيامة لا يفتران .. روى معناه عن ابن عباس ..
إبن كثير .. تفسير القرآن العظيم ..
أى: يسيران .. لا يفتران ليلاً ولا نهاراً ..
البيضاوى .. أنوار التنزيل وأسرار التأويل ..
يدأبان فى سيرهما وإنارتهما وإصلاح ما يصلحانه من المكونات ..
المحلى والسيوطى .. تفسير الجلالين ..
جاريين فى فلكهما لا يَفْتُران ..
الشوكانى .. فتح القدير ..
{دائبين}: فى السير إمتثالاً لأمر الله .. والمعنى: يجريان إلى يوم القيامة لا يفتران ولا ينقطع سيرهما ..
النسفى .. مدارك التنزيل وحقائق التأويل ..
دائمين وهو حال من الشمس والقمر .. أى يدأبان فى سيرهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات ..
الخازن .. لباب التأويل فى معانى التنزيل ..
الدأب العادة المستمرة دائماً على حالة واحدة ودأب فى السير داوم عليه .. والمعنى أن الله سخر الشمس والقمر .. يجريان دائماً فيما يعود إلى مصالح العباد لا يفتران إلى آخر الدهر .. وهو إنقضاء عمر الدنيا وذهابها ..
أبو حيان .. البحر المحيط ..
دائبين على الحال والمعنى: يدأبان فى سيرهما وإنارتهما وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات ..
البقاعى .. نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور ..
{دائبين}: أى فى سيرهما وإنارتهما وما ينشأ عنهما من الإصلاح ..
إسماعيل حقى .. روح البيان فى تفسير القرآن ..
{دائبين}: قال فى تهذيب المصادر الدأب .. فالمعنى دائمين متصلين فى سيرهما لا ينقطعان الى يوم القيامة .. وقال فى القاموس دأب فى عمله كمنع دأبا ويحرك ودؤوبا بالضم جدّ وتعب .. فالمعنى مجدين فى سيرهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات وإصلاحهما يصلحان الارض والأبدان والنبات لا يفتران أصلاً ..
إبن عجيبة .. البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد ..
{دائبينْ}: حال .. والدؤوب: الدوام على عمل واحد ..
الصابونى .. صفوة التفاسير ..
{دَآئِبَينَ}: الدؤب فى اللغة: مرورُ الشىء فى العمل على عادة مطردة يقال دأب دؤباً ..
ومما سبق يتبين أن القول بغياب الشمس عن الأرض بالكلية لتسجد تحت العرش هو .. ممتنع نقلاً .. ومستحيل عقلاً ..
الدليل الثانى:
يقول الله تعالى فى كتابه العزيز: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} .. [الأعراف: 137] ..
الآية الكريمة تقرر هنا أن لهذه الأرض التى نعيش عليها مشارق ومغارب .. وهذه المشارق والمغارب مكانية وليست زمانية .. وفى ذلك يقول الإمام القرطبى حول تفسير هذه الآية فى الجامع لأحكام القرآن: [ومشارقها ومغاربها جهاتُ الشرق والغرب بها .. فالأرض مخصوصة .. عن الحسن وقَتادة وغيرهما .. وقيل: أراد جميع الأرض .. لأنّ مِن بنى إسرائيل داود وسليمان وقد ملكا الأرض] أهـ ..
وبالرجوع إلى أصل الشبهة عند المعترضين .. نجد أنهم ينسبون .. الذهاب .. فى الحديث إلى إختفاء الشمس عن الأرض بالكلية .. وهذا باطل .. لأن الشمس لها مشارق ومغارب على الأرض .. فكيف تغيب عن الأرض وهى فى حالة .. دأب مستمر .. من شروق وغروب لا يتوقف .. !
يقول الإمام الرازى فى مفاتيح الغيب .. من خلال معرض حديثه عن تفسير آية سورة الكهف (فوجدها تغرب فى عين حمئة): [(ثبت بالدليل أن الأرض كرة .. وأن السماء محيطة بها .. ولا شك أن الشمس فى الفلك) .. وقال أيضاً: {وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً} .. ومعلوم أن جلوس قوم فى قرب الشمس غير موجود .. وأيضاً الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة فكيف يعقل دخولها فى عين من عيون الأرض] ثم يقول: [قال أهل الأخبار: إن الشمس تغيب فى عين كثيرة الماء والحمأة وهذا فى غاية البعد .. (وذلك لأنا إذا رصدنا كسوفاً قمرياً فإذا أعتبرناه ورأينا أن المغربيين قالوا: حصل هذا الكسوف فى أول الليل .. ورأينا المشرقيين قالوا: حصل فى أول النهار .. فعلمنا أن أول الليل عند أهل المغرب هو أول النهار الثانى عند أهل المشرق .. بل ذلك الوقت الذى هو أول الليل عندنا فهو وقت العصر فى بلد ووقت الظهر فى بلد آخر .. ووقت الضحوة فى بلد ثالث ووقت طلوع الشمس فى بلد رابع .. ونصف الليل فى بلد خامس .. وإذا كانت هذه الأحوال معلومة بعد الإستقراء والإعتبار .. وعلمنا أن الشمس طالعة ظاهرة فى كل هذه الأوقات .. كان الذى يقال: إنها تغيب فى الطين والحمأة كلاماً على خلاف اليقين وكلام الله تعالى مبرأ عن هذه التهمة) .. فلم يبق إلا أن يصار إلى التأويل الذى ذكرناه] أهـ ..
ولذلك يقول الإمام إبن عاشور فى التحرير والتنوير: [والمشارق والمغارب جُمع بإعتبار تعدد الجهات .. لأن الجهة أمر نسبى تتعد بتعدد الأمكنة المفروضة .. والمراد بهما إحاطة الأمكنة] أهـ ..
ويقول الإمام الشعراوى .. فى خواطره حول القرآن الكريم: [ونعلم أن كلمة {مَشَارِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} تقال بالنسبيات .. (فليس هناك مكان إسمه مشرق وآخر إسمه مغرب .. لكن هذه إتجاهات نسبية .. فيقال هذا مشرق بالنسبة لمكان ما .. وكذلك يقال له .. مغرب .. بالنسبة لمكان آخر) .. وحين ينتقل الإِنسان إلى مكان آخر يوجد مشرق آخر ومغرب آخر .. وعلى سبيل المثال نجد من يسكن في الهند واليابان يعلمون أن منطقة الشرق الأوسط بالنسبة لهم مغرب .. ومن يسكنون أوروبا يعرفون أن الشرق الأوسط بالنسبة لهم مشرق .. (وقلنا من قبل: إن الحق حين جاء (بالمشرق والمغرب) بصيغة الجمع كما هنا فذلك إنما يدل على أن لكل مكان مشرقاً .. ولكل مكان مغرباً .. فإذا غربت الشمس فى مكان فهى تشرق في مكان آخر) .. وفى رمضان نجد الشمس تغرب فى القاهرة قبل الإسكندرية بدقائق] أهـ ..
الدليل الثالث:
إن ذلك يتناقض مع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .. من أن العرش هو أكبر المخلوقات .. فهو أكبر من كل شىء .. ولا شىء أكبر منه البته وسبحان الله العظيم .. ففى الحديث الصحيح عن أبى ذر الغفارى رضى الله عنه .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
[يا أبا ذر .. ما السماوات السبع فى الكرسى إلا كحلقة بأرض فلاة .. وفضل العرش على الكرسى كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة] أهـ .. (السلسلة الصحيحة) .. وهذا يعنى أنه أينما وُجدت الشمس فهى تحت العرش دائماً .. وعليه فليس هناك ما يُلزمنا بالقول: [أن الشمس تغيب عن الأرض .. لتسجد تحت العرش] .. وأما سجودها فلا علم لنا به .. لأن الشمس فى عالم الشهادة .. والعرش فى عالم الغيب .. فكيف يصح إذن قياس عالم الغيب على عالم الشهادة .. !
يقول عبد الرحمن المعلمى فى الأنوار الكاشفة: [لا يلزم غيبوبة الشمس عن الأرض كلها .. ولا إستقرارها عن الحركة كل يوم بذاك الموضع الذى كُتب عليها أن تستقر فيه متى شاء ربها سبحانه] أهـ ..
هل نص الحديث يلزمنا بالقول أن الشمس هى التى تدور وليس الأرض .. ؟!
الإجابة هى: لا .. ولذلك دليله من الكتاب .. يقول الله تعالى فى كتابه العزيز: [وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِى تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ] .. [النمل: 88] ..
يعترض البعض على تفسير الآية بأنها تدلل على دوران الأرض حول نفسها .. على إعتبار أن سياق الحديث هو عن يوم القيامة .. ولكن فى الآية (86) من نفس السورة .. يخبر الله تعالى عن آية من آياته فى الخلق وهى آية الليل: [أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] .. فتجد أن هذه الآية متناسبة تماماً مع الآية (88) محل النظر: [وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ] .. فى حين تتناسب الآية (87): [وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ] .. مع الآية (89): [مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ] فى معناها تماماً .. فالله تعالى يدعو الناس للتفكر فى آياته وفى الوقت نفسه يخبر عن مشاهد من يوم القيامة .. ليكون لذلك أعظم الأثر فى نفوسهم ..
فى نفس الوقت .. فإن دلالة كلمة: [مرور] تفيد .. (الإنتقال من مكان إلى آخر) .. فى حين أن دلالة كلمة: [التسيير] تعنى: (الذهاب - المضى - الزوال) .. ولذلك فإن آية سورة الكهف: [وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً] .. [الكهف: 47] .. وآية سورة الطور: [وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا] .. [الطور: 10] .. فلا يمكن فهمها إلا بإعتبار زوالهما يوم القيامة .. ولأن القرآن يفسر القرآن .. يقول الله تعالى فى سورة طه: [وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا .. فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا .. لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا] .. [طه: 105-107] .. كما يقول فى سورة القارعة: [وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ ٱلْمَنفُوشِ] .. [القارعة: 5] .. وهذا يفيد أن الجبال ستزول يوم القيامة وتتناثر وتتفتت وهذا شىء طبيعى ومنطقى .. وهذا يختلف عن سياق آية سورة النمل ..
ولذلك يقول الإمام إبن عاشور فى التحرير والتنوير: [هذا إستدعاء لأهل العلم والحكمة لتتوجه أنظارهم إلى ما فى هذا الكون من دقائق الحكمة وبديع الصنعة .. وهذا من العلم الذي أودع فى القرآن ليكون معجزة من الجانب العلمى يدركها أهل العلم .. كما كان معجزة للبلغاء من جانبه النظمى كما قدمناه فى الجهة الثانية من المقدمة العاشرة] ثم يقول .. [والقرآن يدمج فى ضمن دلائله الجمة وعقب دليل تكوين النور والظملة دليلاً رمز إليه رمزاً .. فلم يتناوله المفسرون أو تسمع لهم ركزاً .. وإنما ناط دلالة تحرك الأرض بتحرك الجبال منها لأن الجبال هى الأجزاء الناتئة من الكرة الأرضية فظهور تحرك ظلالها متناقصة قبل الزوال إلى منتهى نقصها .. ثم آخذة فى الزيادة بعد الزوال .. ومشاهدة تحرك تلك الظلال تحركاً يحاكى دبيب النمل أشد وضوحاً للراصد] أهـ ..
ويقول الإمام الشعراوى فى خواطره حول القرآن: [قوله تعالى {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} [النمل: 88] أى: تظنها ثابتة .. وتحكم عليها بعدم الحركة .. لذلك نسميها الرواسى والأوتاد {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ} .. [النمل: 88] أي: ليس الأمر كما تظن .. لأنها تتحرك وتمر كما يمرّ السحاب .. لكنك لا تشعر بهذه الحركة ولا تلاحظها لأنك تتحرك معها بنفس حركتها .. وهَبْ أننا فى هذا المجلس .. أنتم أمامى وأنا أمامكم .. وكان هذا المسجد على رحاية أو عجلة تدور بنا .. أيتغير وضعنا وموقعنا بالنسبة لبعضنا؟ .. إذن: لا تستطيع أن تلاحظ هذه الحركة إلا إذا كنتَ أنت خارج الشيء المتحرك .. ألاَ ترى أنك تركب القطار مثلاً ترى أن أعمدة التليفون هي التي تجرى وأنت ثابت .. ولأن هذه الظاهرة عجيبة سيقف عندها الخَلْق يزيل الله عنهم هذا العجب .. فيقول {صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىءٍ} .. [النمل: 88] يعنى: لا تتعجب .. فالمسألة من صُنع الله وهندسته وبديع خَلْقه .. واختار هنا من صفاته تعالى: {ٱلَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىءٍ} .. [النمل: 88] يعنى: كل خَلْق عنده بحساب دقيق مُتقَن .. البعض فهم الآية على أن مرَّ السحاب سيكون في الآخرة .. واستدل بقوله تعالى: {وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ ٱلْمَنفُوشِ} .. [القارعة: 5] .. وقد جانبه الصواب لأن معنى {كَٱلْعِهْنِ ٱلْمَنفُوشِ} .. أنها ستتفتت وتتناثر .. لا أنها تمر .. وتسير هذه واحدة .. والأخرى أن الكلام هنا مبنى على الظن {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً}.. [النمل: 88] .. وليس في القيامة ظن .. لأنها إذا قامتْ .. أحداثها مُتيقنةٌ .. ثم إن السحاب لا يتحرك بذاته .. وليس له موتور يُحركِّه .. إنما يُحرِّكه الهواء .. كذلك الجبال حركتها ليست ذاتيةٌ فيها .. فلم نَرَ جبلاَ تحرَّك من مكانه .. فحركة الجبال تابعة لحركة الأرض .. لأنها أوتاد عليها .. فحركة الوتد تابعة للموتود فيه .. لذلك لما تكلم الحق .. سبحانه وتعالى .. عن الجبال قال: {وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} .. [النحل: 15] .. ولو خُلِقتْ الأرض على هيئة السُّكون ما احتاجتْ لما يُثبِّتها .. فلا بُدَّ أنها مخلوقة على هيئة الحركة] ثم يقول .. [ومن الأدلة التى تثبت صحة ما نميل إليه فى معنى حركة الجبال .. أن قوله تعالى: {صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} .. [النمل: 88] .. إمتنان من الله تعالى بصنعته .. والله لا يمتنُّ بصنعته يوم القيامة .. إنما الامتنان علينا الآن ونحن فى الدنيا] أهـ ..
يقول على إبن نايف الشحود فى كتابه الرد على شبهات أعداء الاسلام: [فبإعتمادنا على الحساب وحده .. نحن نجهل حقيقة الواقع الحسي لحركة الشمس فصار عندنا الآن جهلين بحقيقة شيئين: جهل بحقيقة العرش الذي يحصل السجود تحته .. وجهل بحقيقة حركة الشمس الفاعلة للسجود .. وبناءً على هاتين المقدمتين يقال: يكفي في سجود الشمس واستئذانها القول بأن عدم العلم ليس بدليل على العدم وهي قاعدة مشهورة وأكثر عمل الجهال على خلافها .. فعدم الوقوف على حقيقة سجودها واستئذانها لا يلزم منه نفي إمكان السجود والاستئذان .. ولذلك يقال لمن ارتاب: إذا أوضحت لنا حقيقة سجود الشمس والقمر والنجوم والشجر في قوله تعالى: (الم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب) .. نقول إذا استطعت أن توضح لنا حقيقة ذلك .. فانتقل إلى إيضاح حقيقة الأخص وهو سجود الشمس تحت العرش .. ذلك أن تفسير الأعم في الأغلب أيسر من تفسير الأخص لما يكتنف الأخص من التقييدات والتحرزات التي لا يتفطن لها كثير من أرباب العلوم فضلاً عن عوام الناس .. فالجاهل يراها من المستحيلات الممتنعات .. والأعلم منه يراها من المحارات الممكنات .. والناس بين هؤلاء وهؤلاء درجات .. والحق أن الله قد اختص كل مخلوق بسجود يناسب هيئته وخِلقته لا يشترك فيه مع غيره إلا بموجب الاشتراك اللفظي لا الاشتراك الفعلي الحقيقي المطابق للفعل والهيئة .. وقد أخبرنا الله تعالى أن الشجر يسجد مع كونه أمام ناظرنا صباحاً ومساءً .. بل يقطف ثمره ويجلس في ظله ومع ذلك لا نقول الشجر لا يسجد .. مع أن هذا أدعى للاستنكار لقرب الشجر منا وملامستنا له و رؤيتنا له على الدوام وأكلنا من ثمره. فدل هذا على جهل بني آدم بحقيقة سجود هذه المخلوقات و حقيقة تسبيحها لله عز وجل .. قال تعالى: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) فحسم الخلاف وقطع الريب والجدال بنفي قدرتنا على إدراك حقيقة التسبيح .. فيصبح السؤال عن ذلك من أشد التكلف .. فإذا استقرت هذه المسألة في الأذهان .. إنقطع المستشكل عن بحث ما وراء ذلك والخوض فيه .. إذ كيف يُتوصل إلى نتيجة صحيحة دون القطع بفهم حقيقة مقدمات تلك النتيجة وهو الأمر المنتفي هنا .. ومن المعلوم أن صحة النتيجة هو ملزوم صحة المقدمات و صحة المقدمات هو ملزوم صحة إدراك وفهم المقدمات .. فإتهام الرأي البشري المحدود المتقلب يأتي قبل إتهام الحقائق الخارجية التي لا تتغير ولا تتبدل: (فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا)] أهـ ..
تحقيق روايات الحديث:
لهذا الحديث روايات كثيرة .. رويت كلها من طريق .. إبراهيم التيمى .. وقد قال الإمام الشافعى فى كتابه الرسالة .. وهو يتحدث عن شروط الراوى الثقة:
[أن يكون مَنْ حدَّثَ به ثِقَةً في دينه .. معروفاً بالصِّدق في حديثه .. عاقِلاَ لِمَا يُحَدِّثُ به .. عالمِاً بما يُحيل مَعَانِيَ الحديث مِنَ اللفظ .. وأن يكون ممن يُؤَدِّي الحديث بحروفه كما سَمِعَ .. لا يحدث به على المعنى .. لأنه إذا حدَّث على المعنى وهو غيرُ عالمٍ بما يُحِيلُ به معناه .. لم يَدْرِ لَعَلَّهُ يُحِيل الحَلاَلَ إلى الحرام .. وإذا أدَّاه بحروفه فلم يَبْقَ وجهٌ يُخاف فيه إحالتُهُ الحديثَ .. حافظاً إن حدَّث به مِنْ حِفْظِه .. حافظاً لكتابه إن حدَّث مِنْ كتابه] أهـ ..
فهو يشترط على من يروى الحديث بالمعنى .. أن يؤدى المعنى كما هو .. لا كما فهمه .. وأشهر روايات هذا الحديث هى:
الرواية الأولى: هى رواية وكيع عن الأعمش عن إبراهيم التيمى عن أبيه عن أبى ذر: [سألت النبى صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {والشمس تجرى لمستقر لها} .. قال: (مستقرها تحت العرش)] .. [رواه البخارى] ..
والحديث بهذا اللفظ لا إشكال فيه البته .. يقول عبد الدائم الكحيل حول حقيقة جريان الشمس فى الفضاء: [لقد وجد العلماء بعد دراسات معمقة أن الشمس تجرى باتجاه محدد أسموه مستقر الشمس أو Solar Apex .. ويعرفه الفلكيون كما يلى: (النقطة التى تتحرك الشمس مع كواكبها بإتجاهها .. أى بزاوية تميل 10 درجات جنوب غرب نجم النسر .. بسرعة تقدر بحدود 19.4 كيلو متر في الثانية)] أهـ ..
الرواية الثانية .. كما رواها الإمام الترمذى فى جامعه .. على النحو التالى: [يا أبا ذر .. أتدرى أين تذهب هذه ؟ .. قال .. قلت: الله ورسوله أعلم .. قال: فإنها تذهب تستأذن فى السجود فيؤذن لها .. وكأنها قد قيل لها أطلعى من حيث جئت .. فتطلع من مغربها] .. [رواه الترمذى] ..
والرواية بهذا اللفظ تأويلاً لقوله تعالى: [هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتى ربك .. أو يأتى بعض آيات ربك .. يوم يأتى بعض آيات ربك .. لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون] .. [الأنعام: 158] ..
ولذلك يقول عبد الرحمن المعلمى فى الأنوار الكاشفة: [وظاهر إختلاف سياق الروايتين أنهما حديثان .. كل منهما مستقل عن الآخر .. ولكن إبراهيم التيمى ظن إتفاق معناهما فجمع بينهما فى رواية ثالثة] أهـ ..
والظاهر من كلام الشيخ المعلمى أن إبراهيم التيمى .. راوى الحديث .. قد خلط بين حديثين مختلفين .. لا رابط بينهما .. وهذا هو الظاهر بالفعل بعد تتبع الروايات المختلفة للحديث .. وعليه فيلزمنا رد المتشابهات إلى المحكمات .. وهذه طريقة أهل السنة والجماعة ..
يلاحظ فى الرواية الأولى .. أنه ليس هناك أى تفصيل بخصوص موقف السؤال .. كما يلاحظ بوضوح أن أبى ذر هو الذى يسأل عن معنى قوله تعالى: (والشمس تجرى لمستقر لها) .. فكانت إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم مختصرة جداً ومحددة للغاية: (مستقرها تحت العرش) .. ويبدو من هذا الحديث أنه ذو معنى محدد تماماً لم يتطرق فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لآية طلوع الشمس من مغربها .. بل أن الحديث لا يستخلص منه أبداً سوى أن للشمس مستقراً ما تحت العرش (غير معلوم لنا) .. ولذلك يقول الإمام إبن عاشور فى التحرير والتنوير حول تفسير الآية: [وقد جعل الموضع الذى ينتهى إليه سيرها هو المعبر عنه بتحت العرش وهو سمت معيّن لا قبل للناس بمعرفته] ثم يقول .. [وعنده ينقطع سيرها فى إبان انقطاعه وذلك حين تطلع من مغربها .. (أى حين ينقطع سير الأرض حول شعاعها لأن حركة الأجرام التابعة لنظامها تنقطع تبعاً لإنقطاع حركتها هى وذلك نهاية بقاء هذا العالم الدنيوى)] أهـ ..
ويقول الإمام البيهقى فى تفسير الآية: [أن أهل التفسير وأصحاب المعاني قالوا فيه قولين .. قال بعضهم: معناه أن الشمس تجرى لمستقر لها .. أي: (لأجل أجل لها .. وقدر قدر لها .. يعنى إنقطاع مدة بقاء العالم) .. وأما قوله (مستقرها تحت العرش) .. (فلا ينكر أن يكون لها إستقرار ما تحت العرش من حيث لا ندركه ولا نشاهده .. وإنما أخبر عن غيب فلا نكذب به ولا نكيفه .. لأن علمنا لا يحيط به)] أهـ .. [الأسماء والصفات للبيهقى] ..
والذى يفصل معنى الرواية الثانية ويوضحه تماماً .. هذا الحديث المروى عن النبى صلى الله عليه وسلم .. من طريق أبى هريرة رضى الله عنه: [لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها .. فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون .. فذاك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا] .. [رواه البخارى ومسلم] ..
هناك رواية أخرى للحديث جاءت بصفة الجمع (أتدرون) .. ومن دون ذكر لوقت رواية الحديث .. أى عند غروب الشمس .. وهناك رواية رابعة رواها سفيان بن حسين .. وهو ضعيف .. جاءت بلفظة (فإنها تغرب فى عين حامئة) .. وهى رواية مردودة ضعيفة .. ردها العلماء ..
التحقيق العلمى للفظ الحديث .. يقتضى القطع أن النبى صلى الله عليه وسلم .. إما قال (تذهب) أوقال (تغرب) .. ومن المحال أن يكون قد نطق بالكلمتين فى آن واحد .. فهذا ممتنع عقلاً .. والتعويل إنما يكون على ما نطق به الرسول صلى الله عليه وسلم .. وليس على ما فهمه الرواة .. والمرجح أنه قال (تذهب) وليس (تغرب) لأن:
أولاً: أن الشمس لا تغرب فى مكان حسى معين .. بل هى فى حالة شروق وغروب مستمرين .. كما سبق وأسلفنا ..
ثانياً: أن أكثر الروايات جاءت بلفظة (تذهب) ..
ثالثاً: أن ذهاب الشمس يختلف عن غروبها ..
وعليه فيتبين أن معنى شق الحديث الأول: (فإنها تذهب تستأذن فى السجود) .. أن الشمس تسجد لله تحت العرش .. وفى ذلك يقول الله تعالى: [وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ] .. [الرعد:15] .. وهو معنى غير ممتنع .. لأن الشمس أينما كانت .. فهى تحت العرش .. وهذا ما لا علاقة له بحركة الأفلاك الظاهرية .. لأن سيرها وسباحتها غير ممتنعة أيضاً .. كما سبق وأسلفنا .. ومثله فى قوله تعالى: (وقال إنى ذاهب إلى ربى سيهدين) .. [الصافات: 99] ..
الشق الثانى للحديث وهو: (وكأنها قد قيل لها أطلعى من حيث جئت .. فتطلع من مغربها) .. وفى رواية: (أطلعى من حيث غربت) .. وهو وصف تمثيلى وليس حقيقى كما يظهر من لفظ الحديث لآية طلوع الشمس من مغربها قبل يوم القيامة .. فكلمة (وكأنها) تفيد التمثيل المجازى .. لا التوصيف الحقيقى .. لأن الرسول كان يخاطب الناس على قدر عقولهم وبالقدر الذى يستعبون به كلامه .. تماماً كما جاء فى الأثر عن على إبن أبى طالب: (حدّثوا الناس بما يعقلون .. أتحبون أن يُكذَّب اللهُ ورسولُه .. ؟!) .. وكما روى عن إبن مسعود رضى الله عنه أيضا: (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم .. إلا كان لبعضهم فتنة) .. وورد أيضاً: (أمرنا معاشر الأنبياء أن نكلم الناس على قدر عقولهم) .. وبالجمع بين الروايتين: (وكأنها قد قيل لها أطلعى من حيث غربت .. فتطلع من مغربها) ..
إذن .. فلا يمكن فهم معنى الحديث على وجه التحقيق .. إلا بالجمع بين الروايات المختلفة والتوفيق بينها .. وعليه فيكون معنى الحديث .. معنى غيبى .. يتصل بآية من علامات الساعة الكبرى .. ولا علاقة له بالحركة الظاهرية للأفلاك .. ففى بعض الروايات: (لا يستنكر الناس منها شيئاً) ..
والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات ..
«« توقيع شقاوه »»
-
«« توقيع الكونت »»
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة ابو اسامه المصرى في المنتدى قسم الرد علي الشُبهات والأسئلة حول الإسلام
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 28-04-2010, 01:01 PM
-
بواسطة شقاوه في المنتدى قسم الرد علي الشُبهات والأسئلة حول الإسلام
مشاركات: 6
آخر مشاركة: 26-03-2010, 10:07 PM
-
بواسطة إن الباطل كان زهوقا في المنتدى قسم الرد علي الشُبهات والأسئلة حول الإسلام
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 28-09-2009, 03:24 PM
-
بواسطة جمال البليدي في المنتدى قسم الرد علي الشُبهات والأسئلة حول الإسلام
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 06-08-2007, 01:40 AM
-
بواسطة presage في المنتدى قسم الرد علي الشُبهات والأسئلة حول الإسلام
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 30-01-2004, 04:47 AM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات