الفرع السابع
نمط استجابة النظام السياسي للظاهرة
اتسم تعامل النظام السياسي (خلال الفترة موضع الدراسة) مع ظاهرة العنف بعدة سمات :
أولها: التقليل والتهوين من شأن أحداث العنف السياسي وعدم تحديد الحجم الطبيعي للظاهرة في المجتمع باستثناء أحداث الأمن المركزي وهنا تبرز بعض المسميات التي أطلقت على القوى والعناصر التي انخرطت في أعمال العنف السياسي مثل (قلة من المشاغبين) و ( القلة المنحرفة) و (القلة المتطرفة) و (الإرهابيين والمخربين)..الخ.
ثانيها: التأكيد على مقولة (المؤامرة الداخلية) وذلك بالقول بأن هناك بعض العناصر الحاقدة التي لا تريد الاستقرار لمصر ومن ثم تحرص على أعمال العنف، وهنا كثيرا ما أشارت أصابع الاتهام إلى الشيوعيين والملحدين الذين يمثلون العناصر المدسوسة في القاعدة الطلابية والعمالية وإلى بعض الشباب المهووسين دينيا .
ثالثها: مقولة ( المؤامرة الخارجية) حيث تعزو أحداث العنف الداخلي إلى قوى خارجية لها مصالح في ضرب الاستقرار والتنمية في مصر وهنا أشارت أصابع الاتهام إلى تارة ليبيا وتارة إيران والآن العراق .
رابعها: التحرك عقب وقوع الأحداث وانفجار الموقف وهذا يكشف العجز عن معالجة بؤر القلق والتوتر داخل النظام قبل أن تنفجر .
خامسها: كثيرا ما لا تجري محاولة فهم وتحقيق الأسباب الحقيقية والكامنة للأحداث ويكتفي فقط التركيز على أسبابها المباشرة .
في ضوء الملاحظات السابقة اتجه النظام السياسي إلى التعامل مع ظاهرة العنف السياسي من خلال التوليف ـ بدرجات متفاوتة ـ بين ثلاثة مسالك هي :
1 ـ المسلك الأمني
حيث تترك مهمة مواجهة أعمال العنف السياسي لقوات الأمن وفي هذا الإطار تتم حملات الاعتقال، كما تتهم جماعات المعارضة أجهزة الأمن بممارسة التعذيب ضد أعضائها المقبوض عليهم ومن المرجح أن استعمال النظام للعنف قد يولد عنفا شعبيا مضادا مما يدخل المجتمع في دائرة مفرغة من العنف، إن العقاب الصارم والردع الحاسم مطلوبان في مواجهة أعمال الإرهاب لا يختلف حول ذلك عاقل، ولكن الخطأ كل الخطأ أن يعتقد عاقل أنه بالردع وبالإجراءات الأمنية وحدها يتم القضاء على التطرف .
إن التطرف وأعمال العنف والإرهاب هي ظواهر لم تنبت أو تنم في المجتمع كهوايات مفضلة لدى بعض الشباب، ونعتقد نحن أنها هوايات فاسدة وبالتالي نصرفهم عنها إلى غيرها من الهوايات الصحيحة مثل الرياضة والسفر للخارج وخدمة البيئة، وإذا لم ينصرفوا عنه هواياتهم السيئة ( التطرف والعنف) فإننا نردعهم بالعقاب الصارم، ليت الأمر كان بهذه البساطة فكل ما نحتاجه في هذه الحالة هما وزارتا الشباب (للهوايات الصحية) والداخلية (للردع والعقاب)، لقد وجدت وزارة الشباب وتحولت إلى جهاز ثم إلى وزارة ثم إلى جهاز ووجدت منظمات شباب وأمانات شباب وأمناء شباب، وتوجد دائما وزارة داخلية والكل يشهد لها في السنوات الأخيرة بكفاءة تحسدها عليها الوزارات الأخرى !!..
وقد أعدمنا من أعدمنا وسجنا من سجنا عام (1974) ثم أعدمنا ضعف ذك وسجنا ضعف ذلك عام (1977) وأعدمنا أكثر منهم عام (1981) ومازالت بعض القضايا منظورا فيها أمام المحاكم ولم يبت فيها حتى كتابة هذه السطورـ مايو 2008 م ـ ومع ذلك لم ترتدع تلك الشريحة من الشباب عن تطرفها فهل سيستمر المسلسل؟؟..
في رأينا أن المطلوب هو رؤية جديدة يصدقها الشباب وتحديات جديدة تلهم خياله وبرامج جديدة تستوعب طاقاته وسياسات جديدة تستجيب لاحتياجاته الأساسية ، إن المطلوب ـ باختصار ـ هو أن ننهي هامشية هذا القطاع الهام من الشباب ولن تنتهي الهامشية بالردع وحده أو بالبرامج الاحتفالية أو بالوعظ والإرشاد من رجال الأزهر الشريف ، إن الشباب يعني طاقة وخيالا ومشكلات ولهفة وهذه العناصر معا تساوي ثورة كامنة أو ظاهرة إذا لم ينجح النظام السياسي في تأميمها لصالحه نجح التطرف في استقطابها لصالحه وفي استعدائها على النظام .
2 ـ المسلك القانوني
حيث يتم اللجوء إلى وضع الكثير من القوانين التي تجرم أعمال العنف وتعاقب عليها ، ففي الوقت الذي تلجأ فيه الدولة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية نجد أن مجلس الشعب ـ وهو السلطة التشريعية والذي هو وراء كل قانون تحكم به السلطة القضائية تنفذه السلطة التنفيذية ـ يصدر في مصر يوم 14 إبريل عام 1982 القانون رقم 29 لسنة 1982 بشأن تعديل بعض مواد قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية الصادر بالقانون رقم 150 لسنة 1950م وقانون الإجراءات الجنائية الصادر برقم 58 لسنة 1938م ، نجد أنه قانون يعد إلجاما لعلماء الدين أنفسهم وتطويقا لبيوت الله في أرضه ، فبعد أن كان المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ساحة للشورى وحصنا للقضاء ودارا لاستقبال الوفود ومقعدا لحلقات الدروس القرآنية وغيرها تماما كما كان دارا للعبادة وغرفة للعمليات العسكرية نجد أن المسجد اليوم يكبل بالأغلال الموجودة في المادة (201) والمادة (98 و) .
مادة (201)ـ(كل شخص ولو كان من رجال الدين أثناء تأدية وظيفته ألقى في أحد أماكن العبادة أو محفل ديني مقالة تضمنت قدحا أو ذما في الحكومة (المعصومة التي لا تخطئ أبدا) أو في قانون أو مرسوم أو قرار جمهوري أو في عمل من أعمال جهات الإدارة العمومية (وكلها من صنع البشر الذين يخطئون ويصيبون) أو أذاع أو نشر بصيغة نصائح أو تعليمات دينية رسالة مشتملة على شيء من ذلك يعاقب بالحبس وبغرامة لا تقل عن مائة جنيه ولا تزيد عن خمسمائة جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين فإذا استعملت القوة أو العنف أو التهديد تكون العقوبة السجن) .
مادة (98 و)ـ(يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تجاوز عن خمس سنوات أو بغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تجاوز عن ألف جنيه كل من استغل الدين في الترويج أو التجنيد بالقول أو الكتابة أو بأي وسيلة أخرى لأفكار متطرفة بقصد إثارة الفتنة أو تحقير أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها).
وأنت ترى أنه لو كان المراد هنا حماية الوحدة الوطنية لكتفينا بتعبير الوحدة الوطنية الذي درجنا عليه ولكن المراد هنا هو حماية اليهود والصهاينة والقرآن الكريم حافل بالحملة على اليهود وجرائمهم في مواقفهم من الله جل علاه ومن أبيهم يعقوب ومن أخيهم يوسف ومن عيسى وأمه ودينه وكتابه ومن محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته بل ومن موسى والتوراة أفإن تكلم أحد في مثل هذه الأمور من الذي جرى ويجري من الصهيونية يوصف بأنه استغل الدين في تحقير الصهاينة وازدرائهم ويحبس أو يغرم بينما يظل أكلة الربا في أمان وشاربو الخمر في سلام والمعربدون في منطلقاتهم والصهاينة في عدوانهم .
ولقد صرخ فضيلة الشيخ صلاح أبو إسماعيل ـ رحمه الله ـ في مجلس الشعب وتحت قبة البرلمان وراح يقول: (يا مجلس الشعب ـ يا أيتها اللجنة التشريعية في مجلس الشعب ـ يا رئيس اللجنة التشريعية في مجلس الشعب ـ يا رئيس مجلس الشعب ـ آمنا بالله وكتبه ورسله وكفرنا بما يناقض ذلك مما تصدرونه من قوانين والعاقبة للمتقين ، لقد خرجتم بهذا القانون على إقامة الاستخلاف في الأرض ونسأل الله أن يجعلنا من الذين قال فيهم الله (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز . الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور).
وفي هذا السياق يمكن فهم استمرار العمل بقانون الطوارئ والقوانين الاستثنائية التي تشكل في التحليل النهائي قيودا على حريات وحقوق المواطنين .
3 ـ المسلك السياسي ـ الاقتصادي الاجتماعي
وهو الذي يقوم على البحث عن الجذور الاجتماعية والأسباب الاقتصادية والاجتماعية للعنف مع طرح حلول جذرية لها ، وبالرغم من أن هذا المسلك هو أفضل المسالك للتعامل مع الظاهرة إلا أنه لم يتم اللجوء إليه بشكل فعال .
وإلى جانب استخدام العنف (الرسمي) إلى جانب العنف (الشعبي) يحاول النظام تصحيح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تفرخ العنف السياسي، لكن يظل المسلكان الأمني والقانوني هما الأساس في تعامل النظام مع القوى التي تمارس العنف وإلى جانب قمع بعض الحركات والجماعات الإسلامية المسيسة انتهجت بعض الأجهزة سلك الدعوة والحوار الذي يقوم به عدد من العلماء مع شباب تلك الجماعات ولكن تظل المشكلة أعمق من مجرد سوء الفهم أو قصور في التصور أو خلل في التفسير لبعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية .
الفرع الثامن
ملاحظة ختامية
من خلال العرض السابق يمكن إستنتاج ما يلي :
أن السنوات الثلاث الأولى من فترة حكم الرئيس مبارك شهدت انخفاضا ملحوظا في أحداث العنف السياسي بل أنه خلال عامي (1982 ، 1983) لم تورد مصادر الدراسة أي أحداث للعنف السياسي نظرا للأسباب التي سبق ذكرها ، وشهدت السنوات الثلاث الأخيرة (1986 ، 1987 ، 1988) أعلى معدلات للعنف السياسي من زواية انتشار الأحداث وشدتها .
أن أغلب أحداث العنف السياسي خلال هذه الفترة كانت محدودة وجزئية كالمظاهرات المحدودة والإضرابات المحدودة وباستثناء تمرد الأمن المركزي عام (1986) فإن هذه الأحداث لم تشكل تهديدا لاستقرار النظام لذلك فإن مجرد انتشار أحداث معينة للعنف السياسي لا يعد مرادفا لعدم الاستقرار طالما أن شدة هذه الأحداث منخفضة ، ولم تعرف مصر خلال هذه الفترة أحداث العنف العامة ذات الطبيعة الحادة مثل أحداث الشغب العامة والمظاهرات العامة والمحاولات الانقلابية.
أن القوى السياسية الأساسية التي مارست العنف السياسي خلال هذه الفترة هي الطلبة وبعض الجماعات والتنظيمات الإسلامية والعمال وإلى حد ما بعض قوى وعناصر اليسار وهذه الفئات يغلب عليها الطابع الشبابي وتعمل خارج إطار المؤسسات القائمة وأكثر حساسية إزاء المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي يمر بها المجتمع .
بغض النظر عن الأسباب المباشرة والجزئية لبعض أحداث العنف السياسي فإنه لا يمكن تفسير ظاهرة العنف إلا في ضوء تفهم مظاهر وأسباب الأزمة الإجتماعية في مصر وزيادة الإحساس الشعبي العام بقصور أداء أجهزة الدولة إزاءها .
بالرغم من سعي النظام لمعالجة بعض المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تمثل مدخلات للعنف السياسي الشعبي إلا أنه يغلب المسلك القانوني والأمني على أسلوب التعامل مع أحداث العنف السياسي وبخاصة تلك التي تمارسها الجماعات الإسلامية.
أن العنف السياسي في مصر ليس سمة لصيقة بقوى سياسية واجتماعية دون غيرها أو بتيار سياسي وفكري دون سواه لكنه ظاهرة عامة مارستها قوى متعددة وتيارات سياسية مختلفة ، ومن هنا لابد من النظر إلى الظاهرة في إطار مجتمعي أوسع بحيث يمكن تحديد جذورها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية لأن التشخيص السليم للظاهرة مدخل أساسي لعلاجها.