كشف ستة شبهه للشيخ ابن باز رحمه الله
مجموع فتاوى ومقالات_الجزء الأول
كشف الشبه المذكورة في الكلام المنسوب إلى القائلين به
وقع في الكلام المنسوب إلى من قال بذلك ستة أمور شنيعة: الأول: القول بتناقض القرآن، وقد مثل لذلك بقوله تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا وقوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ
الثاني: إنكار قصة عصا موسى، وقصة أهل الكهف، والتصريح بأنها من الأساطير. الثالث: أن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم كان إنسانا بسيطا يسافر كثيرا عبر الصحراء العربية ويستمع إلى الخرافات البسيطة السائدة في ذلك الوقت، وقد نقل الخرافات إلى القرآن، مثال ذلك عصا موسى، وقصة أهل الكهف.
الرابع: إنكار إعطاء المرأة نصف ما يعطى الذكر في الميراث، والزعم أن ذلك ليس من المنطق، وأنه نقص يجب البدار إلى إزالته؛ لأنه لا يناسب تطور المجتمع، والذكر بأنه ينبغي للحكام أن يطوروا الأحكام حسب تطور المجتمع.
الخامس: إنكار تعدد النساء وحجره ذلك على بعض الناس؛ لأنه لا يناسب تطور المجتمع. السادس: القول بأن المسلمين وصلوا إلى تأليه الرسول محمد، فهم دائما يكررون: محمد صلى الله عليه وسلم، الله يصلي على محمد، وهذا تأليه لمحمد
-----
ونحن - إن شاء الله - نبين بطلان ما ذكر في هذه الأمور الستة، ونكشف الشبه بالأدلة القاطعة، وإن كان الأمر في ذلك واضحا، بحمد الله لكل من له أدنى بصيرة، ولكن مقصودنا من ذلك إنكار هذا المنكر وإيضاح الحق لمن قد تروج عليه بعض هذه الشبه ويحار في ردها، والله المستعان.
فنقول: القول بأن القرآن متناقض، فهذا من أقبح المنكرات، ومن الكفر الصريح - كما سبق بيانه - لأنه تنقص للقرآن، وسب له؛ لأن السب هو التنقص للمسبوب ووصفه بما لا يليق، وقد بينا فيما مضى بالأدلة القاطعة أن القرآن بريء من ذلك، وأنه بحمد الله في غاية الإحكام والإتقان، كما قال سبحانه: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ وقال: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ .
وقال عز وجل: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا إلى غير ذلك من الآيات السابقات الدالة على إحكامه وإتقانه، وأنه أحسن الحديث وأحسن القصص، وتقدم ذكر إجماع العلماء على ذلك، وعلى كفر من تنقصه أو جحد شيئا منه، أما الآيتان المذكورتان وما جاء في معناهما من الآيات الدالة على إثبات القدر، وعلى تعليق المسببات بأسبابها فليس بينها تناقض، وإنما أتي من زعم ذلك من جهة فساد فهمه، ونقص علمه، كما قال الشاعر:
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم
وقد أجمع كل من لديه علم وإنصاف وبصيرة باللغة العربية من علماء الإسلام وخصومه، أن كتاب الله في غاية من الإحكام والإتقان، وأنه خير كتاب وأفضل كتاب، وأنه لم ينزل كتاب أفضل منه، لما اشتمل عليه من العلوم النافعة والأحكام العادلة، والأخبار الصادقة، والشرائع القويمة، والأسلوب البليغ المقنع، كما قال الله سبحانه: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا أي صدقا في الأخبار، وعدلا في الشرائع والأحكام، وقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ الآية، قال العلماء: الهدى: هو ما فيه من العلوم النافعة والأخبار الصادقة، ودين الحق: هو ما فيه من الشرائع القويمة والأحكام الرشيدة.
---
إذا علم هذا فالجمع بين الآيتين المذكورتين وما في معناهما هو أن الله سبحانه قد قدر مقادير الخلائق، وعلم ما هم عاملون، وقدر أرزاقهم وآجالهم، وكتب ذلك كله لديه، كما قال تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا الآية... وقال سبحانه: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
وقال سبحانه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ والآيات في هذا المعنى كثيرة، وفي الصحيحين عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل فقال صلى الله عليه وسلم اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى
وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة - رضي الله عنهما - أن جبرائيل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال صلى الله عليه وسلم الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره هذا لفظ عمر، ولفظ أبي هريرة: أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث وتؤمن بالقدر كله
وفي صحيح مسلم - أيضا - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة قال وعرشه على الماء وفي صحيح مسلم - أيضا - عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس" .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وفي هذه الآيات والأحاديث الدلالة على أن الله سبحانه قد قدر الأشياء وعلمها وكتبها، وأن الإيمان بذلك أصل من أصول الإيمان الستة التي يجب على كل مسلم الإيمان بها، ويدخل في ذلك أنه سبحانه، خلق الأشياء كلها، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، كما قال عز وجل: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ وقال سبحانه: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ وقال سبحانه: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
فعلمه سبحانه، محيط بكل شيء، وقدرته شاملة لكل شيء، كما قال سبحانه: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وهو مع ذلك سبحانه قد أعطى العباد العقول والأسماع والأبصار والأدوات التي يستطيعون بها أن يفعلوا ما ينفعهم، ويتركوا ما يضرهم، وأن يعرفوا بها الضار والنافع، والخير والشر، والضلال والهدى، وغير ذلك من الأمور التي مكن الله العباد من إدراكها بعقولهم وأسماعهم وأبصارهم وسائر حواسهم.
وجعل لهم سبحانه عملا واختيارا ومشيئة، وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته وأمرهم بالأسباب، ووعدهم على طاعته الثواب الجزيل في الدنيا والآخرة، وعلى معاصيه العذاب الأليم، فهم يعملون ويكدحون، وتنسب إليهم أعمالهم وطاعاتهم ومعاصيهم؛ لأنهم فعلوها بالمشيئة والاختيار، كما قال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وقال سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ الآيات، وقال سبحانه: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ
وقال سبحانه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلًا
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وفي الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ما لا يحصى ولكنهم مع ذلك لا يخرجون عن مشيئة الله بهذه الأعمال وإرادته الكونية، كما قال عز وجل: كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ وقال سبحانه: وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وقال عز وجل: إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
وبما ذكرنا من هذه الآيات يتضح معنى قوله سبحانه: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا وقوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ
فالآية الأولى دلت على أن جميع ما يصيب العباد، مما يحبون ويكرهون، كله مكتوب عليهم، ودلت الثانية على أن الله سبحانه قد رتب على أعمال العباد وما يقع منهم من الأسباب، مسبباتها وموجباتها، فالمؤمن عند المصيبة، يفزع إلى القدر فيطمئن قلبه، وترتاح نفسه به، لإيمانه بأن الله سبحانه قد قدر كل شيء، وأنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، ويحارب الهموم والغموم والأوهام، ويصبر ويحتسب رجاء ما وعد الله به الصابرين بقوله سبحانه: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ .
ولا يمنعه ذلك من الأخذ بالأسباب والقيام بما أوجب الله عليه، وتركه ما حرم الله عليه عملا بقول الله عز وجل: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ الآية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء الله فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان" خرجه مسلم في صحيحه.
وبذلك يستحق المدح والثناء والثواب العاجل والآجل على أعماله الطيبة وأخذه بالأسباب النافعة، وابتعاده عن كل ما يضره، ويستحق الذم والوعيد وأنواع العقوبات في الدنيا والآخرة على ما يفعله من المعاصي والمخالفات، وعلى تفريطه في الأخذ بالأسباب وعدم إعداده لعدوه ما يستطيع من القوة.
وقد جرت سنة الله في عباده أنهم إذا استقاموا على دينه وتباعدوا عن غضبه وجاهدوا في سبيله أنه ينصرهم، ويجمع كلمتهم ويجعل لهم العاقبة الحميدة، كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وقال سبحانه: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ وقال عز وجل: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ وقال سبحانه: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ
أما إذا ضيعوا أمره وتابعوا الأهواء واختلفوا بينهم، فإن الله سبحانه يغير ما بهم، من عز واجتماع كلمة، ويسلط عليهم الأعداء، ويصيبهم بأنواع العقوبات من القتل والخوف ونقص الأموال والأنفس والثمرات وغير ذلك جزاء وفاقا وما ربك بظلام للعبيد، وهذا هو معنى قوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ .
والمعنى: أنه سبحانه لا يغير ما بالعباد، من عز ورغد عيش واتحاد كلمة وغير ذلك من صنوف النعم، إلا إذا غيروا ما بأنفسهم من طاعته والاستقامة على دينه، والأخذ بالأسباب النافعة، وإعداد المستطاع من القوة، والقيام بالجهاد، فإذا فعلوا ذلك غير الله ما بهم، فصاروا بعد العزة أذلة، وبعد الاجتماع والاتحاد متفرقين ومختلفين، وبعد رغد العيش وأمن السبل إلى فقر وحاجة واختلال أمن، إلى غير ذلك من أنواع العقوبات.
وهذا هو معنى قوله عز وجل في الآية الأخرى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ فإذا تابوا إلى الله سبحانه، وبادروا إلى الأعمال الصالحات والأخذ بالأسباب الشرعية والحسية، وأعدوا لعدوهم ما استطاعوا من القوة وجاهدوا في الله حق جهاده، أعطاهم الله العزة بعد الذلة، والقوة بعد الضعف، والاتحاد بعد الاختلاف، والغنى بعد الفقر، والأمن بعد الخوف إلى غير ذلك من أنواع النعم.
وكما أن النصوص من الكتاب والسنة، قد دلت على ما ذكرنا، فالواقع التأريخي شاهد بذلك، ومن تأمل أحوال هذه الأمة، في ماضيها وحاضرها، وما جرى عليها من أنواع التغير والاختلاف عرف ما ذكرنا واتضح له معنى الآيتين، وأوضح شاهد على ذلك ما جرى لصدر هذه الأمة من العز والتمكين والنصر على الأعداء بسبب قيامهم بأمر الله وتعاونهم على البر والتقوى، وصدقهم في الأخذ بالأسباب النافعة وجهاد الأعداء، فلما غيروا غير عليهم، وفي واقعة بدر وأحد شاهد لما ذكرنا، فإن المسلمين لما صدقوا مع نبيهم صلى الله عليه وسلم في جهاد العدو يوم بدر، نصرهم الله مع قلتهم وكثرة عدوهم، وصارت الدائرة على الكافرين.
ولما أخل الرماة يوم أحد بموقفهم، وفشلوا وتنازعوا وعصوا نبيهم صلى الله عليه وسلم في أمره لهم بلزوم موقفهم جرى ما جرى من الهزيمة، وقتل سبعون من المسلمين، وجرح عدد كثير منهم، ولما استنكر المسلمون ذلك واستغربوه أنزل قوله سبحانه: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
فإذا كان خير الأمة وأفضلهم، وفيهم سيد الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إذا غيروا غير عليهم، فكيف بغيرهم من الناس!، لا شك أن غيرهم من باب أولى أن يغير عليهم إذا غيروا، وهم في ذلك كله لم يخرجوا عن قدر الله وما كتبه عليهم؛ لقوله عز وجل: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ وقوله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وبهذا يتضح لطالب الحق معنى قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ
وقوله سبحانه: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا الآية، ويعلم أن كلا منهما حق وأنه ليس بينهما تناقض، مع العلم بأن الله عز وجل قد يبتلي عباده المؤمنين بالسراء والضراء، ليمتحن صبرهم وجهادهم، وليكونوا أسوة لغيرهم، ثم يجعل لهم العاقبة كما قال سبحانه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ وقال سبحانه: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وأما الثاني والثالث من الأمور المنكرة التي وقعت في الكلام المذكور، فهما: الزعم أن قصة موسى ، وقصة أهل الكهف من الأساطير، ومن الخرافات التي نقلها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى القرآن. لأنه صلى الله عليه وسلم في زعم هذا القائل - كان إنسانا بسيطا يسافر في الصحراء العربية، ويستمع إلى الخرافات البسيطة السائدة في ذلك الوقت، التي منها - بزعمه - القصتان المذكورتان.
ولا ريب أن هذا الكلام الشنيع مما يثقل على القلب واللسان ذكره، لما اشتمل عليه من أنواع الكفر الصريح، والردة الكبرى في الإسلام - كما تقدم بيان ذلك ونقلنا الإجماع عليه - ولكن لمسيس الحاجة إلى كشف شبهة قائله، اضطررنا إلى نقله وكتابته وشبهته فيما افتراه من هذا الزعم الباطل هي أن هاتين القصتين لا يقبلهما العقل.
لكون العصا جمادا لا تقبل الحياة، ولأن نوم أهل الكهف طويل جدا، وهذه الشبهة باطلة من وجوه، الوجه الأول: أن العقل لا مجال له في هذا المقام، وإنما الواجب على جميع العقلاء التصديق بما أخبر الله به ورسوله واتباعه، وعدم التكذيب بشيء منه، وليس لأحد أن يحكم عقله في الإيمان ببعض المنزل وإنكار بعضه.
لقول الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ الآية، وقوله سبحانه: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وقال عز وجل: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ
وقد أثنى الله سبحانه على الرسول والمؤمنين بالتصديق بما أنزل إليهم من ربهم، ووصف المتقين بذلك، وأخبر أنهم هم أهل الهدى والفلاح، فقال سبحانه: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ
وقال سبحانه: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وحكم سبحانه على من آمن ببعض وكفر ببعض بأنه هو الكافر حقا، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا
وأنكر سبحانه على اليهود هذا التفريق وتوعدهم عليه، فقال سبحانه: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
الوجه الثاني: أن الله سبحانه لا أصدق منه، وهو العالم بكل ما كان وما سيكون، وكتابه هو أحسن الحديث، وأحسن القصص، وقد ضمن حفظه وأخبر أنه لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ كما قال عز وجل: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا وقال تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا وقال سبحانه: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا الآية.
ومعنى قوله مُتَشَابِهًا في هذه الآية: يشبه بعضه بعضا، ويصدق بعضه بعضا - كما سبق بيان ذلك - وقال جل وعلا: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ الآية، وقال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ وقال تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ وقال سبحانه:. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وقال تعالى: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا
فكيف يجوز - بعد هذا - لأحد من الناس أن يحكم عقله في التصديق ببعض الكتاب والكفر ببعضه، ثم الرسول صلى الله عليه وسلم هو أصدق الناس وأعلمهم بما أنزل عليه، وأكملهم عقلا وأزكاهم نفسا - بالنص والإجماع - وقد وصفه الله سبحانه بأزكى الصفات وأفضلها، وأخبر أنه لا ينطق عن الهوى، كما قال عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا وقال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ؟
وقال سبحانه: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى والآيات، وقد أجمع العلماء على أنه صلى الله عليه وسلم وجميع المرسلين معصومون في كل ما يبلغونه عن الله عز وجل من الكتب والشرائع، وقد توعده الله سبحانه بالوعيد الشديد لو تقول عليه ما لم يقل، فقال سبحانه: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ .
وقد حماه الله من ذلك وصانه وحفظه ونصره وأيده حتى بلغ الرسالة أجمل تبليغ، وأدى الأمانة أكمل أداء، فكيف بعد هذا كله يجوز لأحد من الناس أن ينكر شيئا مما جاء به صلى الله عليه وسلم من كتاب الله العظيم وشرعه الحكيم، ويزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أدخل في كتاب الله ما ليس منه!، سبحانك هذا بهتان عظيم، وكفر صريح عامل الله قائله بما يستحق. الوجه الثالث: أن وظيفة العقول هي التدبر للمنزل، والتعقل لما دل عليه من المعنى بقصد الاستفادة والعمل والاتباع. كما قال الله سبحانه: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ وقال سبحانه: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا أما تحكيمها في الإيمان ببعض المنزل ورد بعضه فهو خروج بها عن وظيفتها، وتجاوز لحدودها، وعدوان من فاعل ذلك كما سبق بيانه.
الوجه الرابع: أن العقول الصحيحة الصريحة لا تخالف المنقول الصحيح ولا تضاده لأن الرسل صلى الله عليهم وسلم لا يأتون بما تحيله العقول الصحيحة، ولكن قد يأتون بما تحار فيه العقول لقصورها وضعف إدراكها، فيجب عليها أن تسلم للصادق الحكيم العليم بكل شيء، خبره وحكمه، وأن تخضع لذلك وتؤمن به. وقصة عصا موسى ، وقصة أهل الكهف ليستا مما تحيله العقول؛ لأن قدرة الله سبحانه، عظيمة وشاملة، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، كما قال سبحانه: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وقال سبحانه: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ولما سبق من الآيات الكثيرات، في هذا المعنى وقد جعل الله هذه العصا معجزة باهرة لرسوله وكليمه موسى صلى الله عليه وسلم ، وأيده بها على عدوه فرعون ليقيم الحجة عليه وعلى قومه، فكانت من الآيات العظيمة التي خرق الله بها العادة من أجل تأييد الحق، وإبطال ما جاء به السحرة من السحر العظيم، الذي سحروا به أعين الناس واسترهبوهم، فلقفت هذه العصا في صورة ثعبان عظيم جميع حبالهم وعصيهم، وعرف السحرة أن هذا شيء من عند الله، لا طاقة لمخلوق به، فآمنوا برب موسى وهارون وخروا لله سجدا، كما قال سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ وقد ثبت بالنقل المعصوم والمشاهد المعلوم، ما هو من جنس قصة عصا موسى أو أعجب منها، فأما النقل المعصوم فهو ما ذكره الله سبحانه في قصة آدم والجان، وأن الله عز وجل خلق آدم من الطين، من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار، ثم نفخ في آدم من روحه، والطين جماد كالعصا، ولما نفخ الله فيه الروح صار إنسانا عاقلا، سميعا بصيرا، وهكذا النار جماد محرق، وقد خلق الله منها الجان، وجعله حيا سميعا بصيرا، فالذي قدر على ذلك هو الذي جعل في عصا موسى الحياة، حتى صارت بذلك حية تسعى، ولقفت ما ألقاه السحرة من العصي والحبال، وربك على كل شيء قدير، أما الشاهد المعلوم فجميع بني آدم كلهم مخلوقون من ماء مهين، كما قال الله عز وجل في سورة السجدة ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ وهذا الماء هو النطفة المكنونة من ماء الرجل وماء المرأة، ثم تكون بعد ذلك علقة، ثم مضغة وهي في أطوارها الثلاثة جماد، ثم ينفخ الله فيها الروح فتكون بعد ذلك خلقا آخر حيا ذا سمع وبصر وعقل، كما قال الله سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ففي خلق آدم وذريته آيات بينات على قدرة الخالق سبحانه، وأنه على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وأنه سبحانه لا يعجزه شيء، ومن المشاهد المعلوم - أيضا - البيضة، فإنها مخلوق جماد، ثم يجعل الله في ذلك الجماد الذي في داخلها - بالأسباب التي قدرها وعلمها عباده - طائر حيا سميعا بصيرا، والشواهد من مخلوقاته عز وجل على قدرته العظيمة وحكمته وعلمه الشامل كثيرة لا تحصى، وبما ذكرنا يتضح - لطالب الحق - بطلان هذه الشبهة التي شبه بها القائل في الكلام المنسوب إليه، ويعلم ذلك أنها من أبطل الباطل نقلا وعقلا، ومن الدلائل القطعية على بطلانها أن الله سبحانه قد خلق السماوات والأرض، وخلق جميع المخلوقات الجامدة والمتحركة بقدرته العظيمة وذلك أعظم وأكبر من جعل عصا موسى حية تسعى، كما قال الله سبحانه: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ وقال سبحانه: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
وأما قصة أهل الكهف فليس فيها بحمد الله ما تحيله العقول، بل أمرها أسهل وأيسر من قصة العصا، والله سبحانه قد أرانا شاهدا لها في أنفسنا، وذلك بما من به على العباد من النوم الذي قدره عليهم، وجعله رحمة لهم، لما يترتب عليه من إجمامهم من التعب، واستعادة قواهم بعد الكلال والمشقة وضعف القوى وجعل ذلك من آياته الدالة على قدرته العظيمة، وكمال إحسانه ولطفه بعباده، وجعله دليلا على الحياة بعد الموت، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وقال سبحانه: وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وقال عز وجل: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وقال تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقد أوضح فيها سبحانه أن النوم وفاة ونعمة ورحمة، وآية باهرة على قدرته العظيمة، فالذي قدر على ذلك وجعل ذلك نعمة عامة، ورحمة لجميع عباده، في ليلهم ونهارهم، عند الحاجة إليه، وجعله دليلا على البعث والنشور والحياة بعد الموت، هو الذي قدر على أهل الكهف النومة الطويلة، لحكم كثيرة، وأسرار عظيمة، وقد بين بعضها في كتابه العزيز حيث قال سبحانه في سورة الكهف: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا إلى قوله سبحانه: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا فذكر سبحانه في هذه الآية أن من الحكمة في إيوائهم إلى الكهف أن ينشر لهم من رحمته ويهيئ لهم من أمرهم مرفقا، لما اعتزلوا قومهم وهجروهم لله، بسبب شركهم وكفرهم، ثم قال عز وجل بعد آيات: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا الآية، فأبان سبحانه في هذه الآية أن في قصة أهل الكهف وإعثار الناس عليهم، إقامة الحجة على صدق وعد الله بالبعث والنشور وقيام الساعة. وأن الذي يحيي النائم بعد نومه الطويل ووفاته بالنوم هو الذي يحيي العباد بعد موتهم وتفرق أوصالهم، ومعلوم أن البعث والنشور قد أخبر به جميع الأنبياء ودل عليه كتاب الله في مواضع كثيرة، وأجمع عليه المسلمون وغيرهم، ممن آمن بالرسل الماضين، فالذي يقدر على إحياء الموتى ومجازاتهم بأعمالهم هو القادر سبحانه، على إنامة الأحياء ثم بعثهم من باب أولى، فكل واحدة من الوفاتين - وفاة النوم، ووفاة الموت - دليل على الأخرى، وقد بين الله سبحانه في سورة البقرة إحياء الموتى، في الدنيا قبل الآخرة في خمسة مواضع ليقيم الحجة على المنكرين للبعث والنشور، ويوضح لهم سبحانه أنه القادر على إحياء الموتى في الدنيا والآخرة.
الموضع الأول: قوله سبحانه: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
الموضع الثاني: قوله سبحانه: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ والمعنى: أن الله سبحانه أمرهم بضرب القتيل الذي اختلفوا في قاتله، ببعض البقرة التي أمر بنو إسرائيل بذبحها، فضربوه بجزء منها، فرد الله عليه روحه فتكلم وأخبرهم بقاتله، وبين سبحانه أن في هذه القصة دليلا على إحيائه الموتى لذوي العقول،
الموضع الثالث: قوله سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ
الموضع الرابع: قوله سبحانه: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ
الموضع الخامس: قوله سبحانه وتعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
ففي هذه المواضع الخمسة من كتاب الله، بيانه سبحانه لعباده إحياءه الموتى قبل يوم القيامة، فالذي قدر على ذلك هو القادر على إطالة مدة النائم ما شاء سبحانه من الوقت، ثم بعثه متى شاء من باب أولى وأحرى؛ لأن إطالة النوم ثم بعث النائم من نومه أسهل بكثير من إحياء الموتى بعد انقطاع مادة الحياة منهم، ومصيرهم جمادا لا إحساس فيه، كما أن ذلك أسهل وأيسر - أيضا - من إحياء الموتى يوم القيامة بعد تفرق أوصالهم، ومصيرهم رفاتا وترابا، وقد دلت الدلائل القطعية، والكتب السماوية، والعقول الصحيحة على البعث والنشور، كما جاءت به الرسل ونطق به أفضل الكتب وأفضل الرسل، وأجمع عليه المسلمون، فكيف يبقى - بعد ذلك - شبهة لمن لديه أدنى عقل في قصة أهل الكهف، وقدرة الله سبحانه على ما أخبر به عنهم، فنسأل الله العافية من زيغ القلوب، والضلال بعد الهدى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
---------
وأما الرابع والخامس من المنكرات الواقعة في ذلك الكلام حسب ما ذكرته صحيفة (الصباح) في عددها الصادر في 20 / 3 / 1974 م - فهما: الاعتراض على إعطاء الأنثى في الميراث نصف ما للذكر، والاعتراض على تعدد النساء، والزعم أن إعطاء المرأة - في الميراث - مثل نصف الذكر نقص يجب تداركه، وأن الواجب - في هذا العصر - مساواة المرأة للذكر في الميراث كما ساوته في المدرسة والمعمل والفلاحة والشرطة، أنه ليس من المنطق في هذا العصر أن يفضل الذكر على الأنثى، والزعم بأن هذا المبدأ يجد ما يبرره عندما يكون الرجل قواما على المرأة، حين كانت المرأة في مستوى اجتماعي لا يسمح لها بمساواة الذكر، حين كانت تدفن حية تحتقر، أما اليوم فقد اقتحمت ميدان العمل، وشاركت الرجال في ذلك، وجاء فيه: أن علينا أن نتوخى طريق الاجتهاد في تحليلنا لهذه المسألة، وأن نبادر بتطوير الأحكام التشريعية، بحسب ما يقتضيه تطور المجتمع، وقد سبق في بعض الجهات أن حجر تعدد الزوجات بالاجتهاد في مفهوم الآية الكريمة، وذكر أن من حق الحكام - بوصفهم أمراء المؤمنين - أن يطوروا الأحكام بحسب تطور الشعب وتطور مفهوم العدل ونمط الحياة وانتهى المقصود من هذا الكلام الذي نشرته صحيفة (الصباح) ولم تشر إليه صحيفة (الشهاب) فيما نقلته من الكلام المذكور. وفي هذا التصريح الخطير أنواع من الكفر والضلال، منها اتهام الله سبحانه في حكمه، والدعوة الصريحة للحكام إلى أن يتلاعبوا بأحكام الشريعة، حسب عقولهم، واجتهادهم، وتطور الشعوب، وأساليب الحياة في نظرهم، ولا شك أن هذا من أبطل الباطل، وفيه تشبه باليهود والنصارى في تلاعبهم بشرائع أنبيائهم، وافترائهم على الله سبحانه ما لم يشرعه، ونسبتهم إلى أحكامه - سبحانه - ما ليس منها، ومقتضى ما ذكره هذا الرجل أن الله سبحانه لم يعلم ما تنتهي إليه الشعوب في آخر الزمان، وما ستصل إليه مجتمعاتهم من التطور، فلهذا دعا الحكام إلى أن يبادروا لتطوير الأحكام، ومن المعلوم - بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة وإجماع الأمة - أن الله سبحانه يعلم ما كان وما سيكون، ويعلم أحوال عباده في ماضيهم وفي حاضرهم وقت التنزيل، وفيما سيصلون إليه في المستقبل، كما قال عز وجل: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وقال سبحانه: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ كما أن من المعلوم - أيضا - بالنص والإجماع أن الله سبحانه حكيم عليم، وأنه الرحمن الرحيم لا يظلم ولا يجور، بل هو الحكيم العليم بأحوال عباده واللطيف بهم، وقد شرع لهم من الأحكام ما فيه صلاحهم ورحمتهم وإقامة العدل بينهم، في المواريث وغيرها، فهو سبحانه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، وهو العالم بأحوال عباده وما يصلحهم في آخر الزمان، كما أنه العالم سبحانه بما يصلحهم في وقت التشريع، ومن زعم خلاف ذلك فقد اتهم الله في حكمته وعلمه، ولو أراد سبحانه أن يقوم الحكام أو العلماء بتطوير الأحكام في وقت من الأوقات، لبين ذلك لعباده في كتابه أو على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام. فلما لم يقع شيء من ذلك علم أن ما شرعه من الأحكام يجب الأخذ به والسير عليه، والحكم به في وقت التشريع وفيما يأتي من الزمان إلى قيام الساعة، كيف وقد بين الله في كتابه أن الواجب اتباع ما أنزل، والاستمساك به، والحكم بين الناس بذلك، والحذر من الخروج عنه، فقال تعالى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ وقال سبحانه: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وقال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ وقال تعالى يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أوجب سبحانه في هذه الآيات الكريمات الحكم بما أنزل، والحذر من مخالفته، كما حذر سبحانه من متابعة أهواء الناس في خلاف الحق، وأخبر أن حكمه هو أحسن الأحكام، وأنه لا حكم أحسن منه، وبين أن ما خالف حكمه فهو من حكم الجاهلية، وبين في آية أخرى أن ما خالف حكمه فهو من حكم الطاغوت، كما في قوله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ففي هذا أعظم بيان لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن كل ما خالف ما أنزل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الأحكام فهو من حكم الطاغوت، ومن عمل المنافقين، وأنه في غاية البعد عن الهدى، وحكم سبحانه في آيات على أن من لم يحكم بما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم فهو كافر ظالم فاسق، وأخبر تعالى - في موضع آخر من كتابه - أنه ليس لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، فقال عز وجل في سورة الأحزاب: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا فهل يجوز - بعد هذا البيان العظيم والتحذير الشديد - لحاكم أو عالم أو غيرهما أن يخالف ما أنزل الله وحكم به في المواريث أو غيرها، وهل يجوز له أن يدعو الحكام إلى تطوير الأحكام باجتهادهم وآرائهم، كلما تطورت الشعوب والمجتمعات، وهل هذا إلا الكفر والضلال والاعتراض على الله سبحانه واتهامه في حكمه، والخروج عن شريعته والتلاعب بدينه. ما أشنع هذا القول، وما أشد بعده عن الحق، وما أعظم كفر من استجازه أو استحسنه، أو دعا إليه، ثم يقال - أيضا - لهذا الرجل وأمثاله: قد أجمع علماء المسلمين - من عهد الصحابة - رضي الله عنهم إلى يومنا هذا - على أن الاجتهاد محله المسائل الفرعية التي لا نص فيها، أما العقيدة والأحكام التي فيها نص صريح من الكتاب، أو السنة الصحيحة، فليست محلا للاجتهاد، بل الواجب على الجميع الأخذ بالنص، وترك ما خالفه، وقد نص العلماء على ذلك في كل مذهب من المذاهب المتبعة، ثم الاجتهاد - حيث جاز - إنما يكون من أهل العلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الذين لهم قدم راسخ في معرفة أصول الأدلة الشرعية وأصول الفقه، والحديث، ولهم باع واسع في معرفة اللغة العربية، وليس ذلك لغيرهم من الحكام. لأنه ليس كل حاكم يكون عالما يصح منه الاجتهاد، كما أنه ليس كل حاكم - سواء كان ملكا أو رئيس جمهورية - يسمى أمير المؤمنين، وإنما أمير المؤمنين من يحكم بينهم بشرع الله ويلزمهم به، ويمنعهم من مخالفته، هذا هو المعلوم بين علماء الإسلام والمعروف بينهم، فليعلم من يقول بمثل هذا القول هذا الأمر على حقيقته، وليبادر بالتوبة إلى الله مما نسب إليه، وليرجع إلى طريق الهدى، فالرجوع إلى الحق شرف وفضيلة، بل واجب وفريضة، أما التمادي في الباطل فهو ذل وهوان واستكبار عن الحق وسير في ركاب الشيطان، والله سبحانه يتوب على التائبين، ويغفر زلات المذنبين إذا صدقوا في التوبة إليه، كما قال الله سبحانه: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ الآية، وقال في حق النصارى: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: الإسلام يهدم ما كان قبله والتوبة تهدم ما كان قبلها والله المستعان، وهو سبحانه ولي التوفيق والهادي إلى سواء السبيل.
-----------
قد علم بالأدلة الكثيرة - من الكتاب والسنة وبإجماع العلماء - أن الله سبحانه حكيم عليم في كل ما شرعه لعباده، كما أنه حكيم عليم في كل ما قضاه وقدره عليهم، ولذلك أكثر في كتابه العزيز من ذكر حكمته وعلمه ليعلم العقلاء من عباده أنه سبحانه عليم حكيم في كل ما قدر وشرع، فتطمئن قلوبهم للإيمان بذلك وتنشرح صدورهم للعمل بشريعته وحكمه، ولهذا - لما ذكر سبحانه ميراث الأولاد والأبوين، وتفضيل الذكر على الأنثى - ختم ذلك بقوله سبحانه : آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا فأوضح سبحانه في هذه الآية أنه العالم بأحوال عباده، أما العباد فلا يدرون أي أقاربهم أقرب نفعا لهم، وبين سبحانه أن تفصيل هذه المواريث صدر عن علم وحكمة، لا عن جهل وعبث، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ثم ختم ما ذكره من ميراث الزوجين وتفضيل الزوج على الزوجة وما ذكره من ميراث الإخوة من الأم والمساواة بينهم، بقوله سبحانه: وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ كما ختم تفضيله الذكر على الأنثى في ميراث الإخوة للأبوين أو لأب بالعلم، فقال: وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فبين بذلك أنه فصل هذه المواريث عن علم بأحوال عباده، وما هو لائق بهم، وأنه حليم لا يعاجل من عصى بالعقوبة لعله يندم ويتوب، ثم أخبر - عز وجل - بعد ما ذكر أحكام المواريث أن ذلك من حدوده، وتوعد من تعداها فقال سبحانه: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ .
ثم يقال لهذا الرجل وأمثاله: إن مساواة المرأة بالرجل في كل شيء لا يقره شرع ولا عقل صحيح، لأن الله سبحانه قد فاوت بينهما في الخلقة والعقل وفي أحكام كثيرة، وجعل الرجل أفضل منها، وقواما عليها؛ لكونه يتحمل من المشاق والأعمال ما لا تتحمله المرأة - غالبا - ولأن عقله أكمل من عقلها - غالبا - ولذلك جعله الله سبحانه قائما عليها حتى يصونها، ويحفظها مما يضرها ويدنس عرضها، وجعل شهادة المرأتين تعدل شهادة الرجل، لكونه أكمل عقلا وحفظا منها، وخصها سبحانه بأن تكون حرثا للرجل ومحل الحمل، والولادة والرضاع فهي - في هذه الأحوال - مطالبة بأمور لا يطالب بها الرجل، وهي في نفس الوقت تعجز عن الأعمال التي يقوم بها الرجل؛ لأن حملها وولادتها وما أوجب الله عليها من العناية بأطفالها وتربيتهم وإرضاعهم، عند ضرورتهم إلى إرضاعها لهم، يمنعها من الكثير من الأعمال، ولأن الرجل في حاجة شديدة إلى بقاء المرأة في البيت لتربية أطفالها، والعناية بشئون بيتها، وإعداد ما يحتاجه زوجها - في الغالب - وليس كل أحد يجد من يقوم مقام زوجته، في العناية بهذه الشئون، ثم المرأة هي موضع طمع الرجال للاستمتاع بها، وقضاء وطرهم الجنسي منها، فهي في أشد الحاجة إلى من يحميها من الرجال ويقف سدا منيعا دون عبث السفهاء بها.
أما ما ذكر من اختلاطها بالرجال، في المدرسة والمعمل والشرطة وغير ذلك، فليس أمرا جائزا على إطلاقه، بل فيه تفصيل، وهو أنه لا يجوز لها ذلك إلا في حدود الشريعة، حيث تأمن على نفسها وعرضها، وتتمكن من الحجاب الشرعي، وحيث تسلم من خلوة الرجل بها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلا رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما ولقوله صلى الله عليه وسلم: لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم ولأن الله سبحانه قد جعل الرجال قوامين على النساء بما فضلهم الله به عليهن في الخلق والخلق والعقل - كما تقدم - وبما ينفقونه من الأموال عليهن، كما قال سبحانه: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ الآية، فأطلق سبحانه في هذه الآية قيام الرجال على النساء، ولم يخص ذلك بوقت دون وقت، وهو سبحانه يعلم ما يكون في آخر الزمان، فلو كان الحكم يتغير لبين ذلك سبحانه ولم يهمله، أو لبينه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، فلما لم يقع شيء من ذلك علم أن قيام الرجال على النساء حكم مستمر إلى يوم القيامة، وقد علم كل من له أدنى بصيرة بأحوال العالم الحاضر، ما قد ترتب على اختلاط المرأة بالرجل في المدرسة والمعمل وغيرهما، من الفساد الكبير، والشر العظيم والعواقب الوخيمة، وكل ذلك يبين فضل ما جاءت به الشريعة، وأن الواجب هو الالتزام بأحكامها في جميع الأحوال، وفي كل زمان ومكان، والحذر من خلافها، ومما ينبغي أن يعلم أن هذا التفضيل إنما هو للجنس على الجنس، ولا يلزم من ذلك أن يكون كل فرد من أفراد الرجال أفضل من كل واحدة من أفراد النساء، بل قد يكون بعض النساء، أفضل من بعض الرجال من وجوه كثيرة - كما هو معلوم من النقل والواقع في كل زمن - فعائشة وخديجة وحفصة ، وغيرهن من أمهات المؤمنين - رضي الله عنهن جميعا - أفضل من كثير من الرجال، وهكذا في كل زمان يوجد في النساء من تفوق بعض الرجال، في عملها وعقلها ودينها، ولكن ذلك لا يلزم منه مساواة المرأة للرجل في كل شي، كما لا يلزم منه الدعوة إلى مساواتها في الميراث والأحكام، وقد سبق فيما ذكرنا من الأدلة عند الكلام على قصة عصا موسى وأهل الكهف، أن الواجب على جميع المكلفين هو الإيمان بالمنزل، والخضوع له والتصديق به، والعمل بمقتضاه، وأنه لا يجوز رده أو بعضه، أو التكذيب بشيء منه؛ لأن الله سبحانه هو أصدق قيلا من خلقه، وهو العالم بأحوال عباده وما يصلحهم، ولأنه سبحانه أمر باتباع المنزل، ولم يجعل لعباده الخيرة في رد شيء منه، ولأن رسوله صلى الله عليه وسلم هو أصدق الخلق وأكملهم عقلا وأزكاهم نفسا، وهو الأمين على وحيه سبحانه، وقد أخبر - عز وجل - أنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وقد بلغ كلام ربه كما أنزل، بلغ شريعته كما أمر بذلك فلا يجوز لأحد بعد ذلك مخالفة المنزل، أو تغيير المشروع برأي أو اجتهاد. وقد أجمع العلماء كافة على أنه لا يجوز لأحد التكذيب بشيء مما أنزل الله أو دفعه، وعدم الرضى به أو العدول عما شرع، وذكروا أن ذلك كفر صريح، وردة عن الإسلام؛ لما سبق من الأدلة، ولقوله سبحانه في هذا المعنى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ وقد سبق ما نقله الإمام الكبير إسحاق بن راهويه ، والقاضي عياض بن موسى ، وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمهم الله - من إجماع العلماء على ما ذكرنا فراجعه تجد ما يشفي ويكفي.
وأما الاعتراض على تعدد الزوجات وتأييد الحجر على بعض الناس بالجمع بين زوجتين فأكثر، والزعم بأنه فعل ذلك بالاجتهاد في مفهوم قوله تعالى: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ الآية، فجوابه أن يقال: هذا من الغلط الكبير، والجهل العظيم: لأنه ليس لأحد من الناس أن يفسر كتاب الله بما يخالف ما فسره به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أو فسره به أصحابه رضي الله عنهم أو أجمع عليه المسلمون؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعلم الناس بتفسير كتاب الله، وأنصحهم لله ولعباده، وقد أباح الجمع لنفسه ولأمته، وأمر بالعدل بين النساء، وحذر الرجال من الميل، وهكذا أصحابه رضي الله عنهم هم أعلم الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير كتاب الله عز وجل، كما أنهم أعلم الناس بسنته، وهم أنصح الناس للناس بعد الأنبياء، ولم يقل أحد منهم بتحريم الجمع، فكيف يجوز - بعد ذلك - لحاكم أو عالم أو أي شخص مهما كان أن يقدم على خلافهم، وأن يقول على الله خلاف ما علموه من شرع الله وأجمع عليه العلماء بعدهم، هذا من أبطل الباطل، ومن أقبح الكفر والضلال، ومن أعظم الجرأة على كتاب الله وعلى أحكام شريعته بغير حق، ثم إن من تأمل ما شرعه الله سبحانه، من إباحة التعدد، علم أن في ذلك مصالح كثيرة، للرجال والنساء وللمجتمع نفسه - كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله - وعلم أيضا أن ذلك من محاسن الشريعة الإسلامية التي بعث الله بها رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، وجعلها مشتملة على ما فيه صلاحهم وسعادتهم في المعاش والمعاد، واتضح له من ذلك - أيضا - أن إباحة التعدد من كمال إحسان الله لعباده ولطفه بهم، وله فيه الحكمة البالغة لمن تدبر هذا المقام، وعقل عن الله شرعه وأحكامه، وما ذلك إلا لأن المرأة عرضة لأشياء كثيرة، منها المرض والعقم وغير ذلك، فلو حرم التعدد لكان الزوج بين أمرين، إذا كانت زوجته عاقرا أو كبيرة السن، أو قد طال بها المرض وهو في حاجة إلى من يعفه ويصونه ويعينه على حاجاته، أو في حاجة إلى الولد أو غير ذلك، فإما أن يطلقها - وذلك مضرة عليه وعليها - وإما أن يبقيها في عصمته فيحصل له بذلك الضرر والتعب الكثير، والتعرض لما حرم الله من الفاحشة، وغير ذلك من الأمور التي لا تخفى على المتأمل، وكلا الأمرين شر لا يرضى بهما عاقل، وقد يكون الرجل - أيضا - لا تعفه المرأة الواحدة فيحتاج إلى ثانية أو أكثر، ليعف نفسه عما حرم الله، وقد تكون المرأة التي لديه قليلة النسل، وإن لم تكن عاقرا فيحتاج إلى زوجة ثانية أو أكثر لطلب تكثير النسل الذي حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم ورغب فيه الأمة، وقد تكون المرأة عاجزة عن الكسب وليس لها من يقوم عليها ويصونها فتحتاج إلى زوج يقوم عليها ويعفها، إلى غير ذلك من المصالح العظيمة للرجل والمرأة وللمجتمع نفسه في تعدد الزوجات، وقد تكثر النساء بسبب الحرب أو غيرها، فيقل من يقوم عليهن فيحتجن إلى زوج يعفهن ويرعى مصالحهن ويحصل لهن بسببه الولد الشرعي، وقد علمت - مما ذكرنا سابقا - أن الله سبحانه، هو الحكيم العليم في كل ما قضاه وقدره، فلا يجوز لأحد - كائنا من كان - أن يعترض عليه في حكمه، أو يتهمه في شرعه، كما أنه لا يجوز لأحد أن يزعم أن غير حكم الله أحسن من حكمه، أو أن غير هدي الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن من هديه، كما قال الله عز وجل: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبه: أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة. وقد كان بعض أهل الجاهلية يجمعون بين العدد الكثير من النساء، فجاء الإسلام وقصرهم على أربع، كما في قصة غيلان بن سلمة رضي الله عنه فإنه أسلم وتحته عشر نسوة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا ويفارق سائرهن، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن الله سبحانه أباح لنبييه الكريمين داود وسليمان عليهما السلام - أكثر من أربع، فجاءت الشريعة الإسلامية المحمدية الكاملة العامة لجميع البشر على يد أفضل الخلق وخاتم الرسل - عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام - بأمر وسط يجمع المصالح كلها، وهو إباحة الجمع بين أربع من النساء، ومنع ما زاد على ذلك، وقد أجمع العلماء - رحمهم الله - على إباحة الجمع بين أربع - كما تقدم - وأجمعوا - أيضا - على تحريم ما زاد على ذلك، وقد شذ عنهم في جواز الزيادة على ذلك من لا يعتد بخلافه، ما عدا النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله خصه بخصائص، منها جواز الجمع بين تسع نسوة، لأسباب وحكم كثيرة ليس هذا موضع ذكرها، ومن تأمل حال من أنكر التعدد، كالنصارى وأشباههم علم من واقع الكثير منهم أنهم وقعوا فيما حرم الله من الزنا، واتخذوا الخدينات الكثيرات، فاعتاضوا الحرام عن الحلال، والخبيث عن الطيب، وشابهوا من قال الله فيهم: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعلم الناس بتفسير كتاب الله، وقد فسر قوله تعالى: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ بأن المراد من ذلك إباحة الجمع بين أربع من النساء فأقل، دون ما زاد عن ذلك، وهكذا أصحابه رضي الله عنهم لم يحفظ أن أحدا منهم أنكر الجمع بين أربع أو نكح أكثر من أربع، وهم أعلم الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير كتاب الله، كما أنهم أعلم الناس بسنته صلى الله عليه وسلم كما سبق بيانه، وفي ذلك كفاية ومقنع لطالب الحق، والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به.
----------
وأما المنكر السادس من المنكرات الستة التي ذكرت، وهو الزعم أن المسلمين في إكثارهم من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألهوه بذلك، فجوابه أن هذا ليس من التأليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم والعبادة له، بل ذلك عبادة لله وحده، وامتثال لأمره عز وجل حيث قال في سورة الأحزاب: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا فقد أخبر سبحانه أنه وملائكته يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أمر المؤمنين بالصلاة والسلام عليه، فدل ذلك على شرعية الإكثار من الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم ، وأن ذلك من أفضل القربات، وقد أجمع علماء الإسلام على ذلك وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر بذلك ورغب فيه فقال: إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة ، وفي الصحيحين - واللفظ للبخاري - عن كعب ابن عجرة رضي الله عنه أن الصحابة - رضي الله عنهم - قالوا يا رسول الله أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك؟ فقال "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، والصلاة من الله سبحانه معناها: الثناء على عبده في الملأ الأعلى، بذكر صفاته الحميدة، وأعماله الجليلة، ومن العباد طلبهم ذلك من الله سبحانه، ويراد بالصلاة - أيضا - الثناء من الله سبحانه على عباده ورحمته إياهم، كما في قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ وهذه المسألة من أوضح المسائل لصغار طلبة العلم وعامة المسلمين، فكيف خفي هذا على هذا القائل؟ فالله المستعان.
------
فإن قيل: إذا كان الإكثار من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم ليس تأليها له، فما هو التأليه للرسول صلى الله عليه وسلم والعبادة له؟، قلنا: إن التأليه للرسول صلى الله عليه وسلم ولكثير ممن يسمون بالأولياء وغيرهم واقع من كثير من الجهال، ومنتشر في أنحاء الأرض، يعلم ذلك من خبر واقع الناس، وعرف دين الله الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه، وخلق الثقلين من أجله، وهذا التأليه الذي وقع من كثير من الجهال، هو صرف بعض العبادة للنبي صلى الله عليه وسلم أو لغيره من المخلوقين، كدعائه والاستغاثة به، وطلبه المدد والشفاء للمرضى، والنصر على الأعداء، ونحو ذلك من أنواع العبادة، والله سبحانه أوجب على عباده أن يخصوه بالعبادة، ونهاهم عن الشرك به، وبعث الرسل وأنزل الكتب لبيانها وبيان ما يضادها، كما قال عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ وقال سبحانه: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ الآية، وقال عز وجل: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ وقال سبحانه: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ والآيات في هذا المعنى كثيرة، فالله سبحانه هو الذي يشفي المرضى، وينصر على الأعداء ويكشف الكروب ويجيب المضطر، وينزل المدد على عباده - إذا لجئوا إليه واستغاثوا به - كما قال سبحانه: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وقال سبحانه: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وقال عز وجل: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وقال سبحانه وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ
وقد عرف المشركون ذلك في جاهليتهم، فكانوا يشركون في حال الرخاء، وأما في حال الشدائد فيخلصون لله العبادة، كما قال عز وجل: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ كما اعترفوا - أيضا - أن الله سبحانه هو الخالق الرزاق، النافع، الضار، المدبر لأمور العباد، وأنهم ما عبدوا غيره - من الأنبياء، والأولياء والملائكة والجن والأصنام والأوثان - إلا ليشفعوا لهم عند الله، وليقربوهم لديه زلفى، كما ذكر الله عنهم ذلك في كتابه المبين حيث قال عز وجل في سورة يونس: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ الآية، وقال في سورة الزمر: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ
ففي هذه الآيات وغيرها من الآيات الكثيرة، الدلالة الصريحة على أن الله سبحانه هو الإله الحق، المستحق للعبادة، وأنه لا يجوز تأليه غيره ولا صرف شيء من ذلك لسواه، كما قال عز وجل: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ وقال سبحانه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ وقد أخبر في غير موضع من كتابه، أنه حرم الشرك على عباده وأنه لا يغفر لمن لقيه به، كما أخبر أن صرف شيء من العبادة لغيره شرك به وعبادة لسواه، كما قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا وقال عز وجل في سورة المائدة: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ وقال تعالى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ فبين سبحانه في هذه الآية أن دعاء هم غيره شرك به عز وجل كما أوضح سبحانه أن ذلك من الكفر الأكبر فقال عز وجل: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ وأخبر عز وجل أنه لا أضل ممن دعا غير الله وأن المدعوين من دونه - من الملائكة والأنبياء وغيرهم - يتبرؤون من عابديهم وداعيهم، وأنهم غافلون عن ذلك لا شعور لهم به، فقال سبحانه: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ وقال سبحانه: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ
والآيات في هذا المعنى كثيرة معلومة، وفيما ذكرناه منها كفاية ودلالة صريحة على أن العبادة حق الله وحده، وأنه لا يجوز صرف شيء منها لغيره سبحانه، فالواجب على أهل العلم أن يبينوا ذلك للناس، وأن يشرحوا لهم حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ، ومن قبله من الرسل، وأن يعلموهم ما جهلوا من ذلك، وأن يحذروهم من الشرك بالله عز وجل، وعلى الحكام أن ينفذوا أمر الله في عباده، ويمنعوهم من عبادة غيره، ومخالفة شريعته، على ما جاء في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مستعينين بعلماء الحق على معرفة ما جهلوا من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك عزهم وشرفهم، ونجاتهم في الدنيا والآخرة، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وقال صلى الله عليه وسلم: خيركم من تعلم القرآن وعلمه وقال صلى الله عليه وسلم: من دل على خير فله مثل أجر فاعله وفي الأثر المشهور عن عثمان رضي الله عنه وهو مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه - أيضا - إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن وقال الإمام مالك رحمه الله:(لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها) وهذه الكلمة العظيمة هي قول جميع أهل العلم، والذي صلح به الأولون وصاروا به قادة الناس، وأئمة الهدى وحكام الأرض، هو اتباع كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام - ورد ما تنازعوا فيه إليهما، لا إلى آراء الناس واجتهاداتهم، ولن يصلح آخرهم إلا بهذا الأمر الذي صلح به أولهم، فنسأل الله أن يوفق أئمة المسلمين وعلماء هم لذلك، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن يصلح عامة المسلمين، ويمن عليهم بالفقه في الدين، ويولي عليهم خيارهم، إنه جواد كريم.