المسيحية عندما تستقيم تتجه إلى الإسلام
(( قل يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا و بينكم الا نعبد
الا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا
بعضا اربابا من دون الله )).
(قران كريم )
من المعروف عند علماء السيرة ان يصفوا ذلك الجدال العنيف الذي استمر في يثرب بين النبي عليه الصلاة و السلام و بين اليهود و النصارى في موضوع العقيدة التي جاء بها الاسلام ... فاذا كانت قريش أنكرتها في مكة و لجأت الى العنف لإسكات صوت العقيدة فان اليهود وهم اصحاب كتاب و النصارى و هم اصحاب كتاب كذلك لجئوا الى اسلوب اخر في مقاومتها لم يكن اسلوب الحرب التي تشهر السلاح لان المسلمين أصبحوا في منعة عددية ،و في مدينة تؤويهم فتحسن الإيواء و تدافع عنهم فتستميت في الدفاع . و اذا كانت اليهودية منتشرة في ضواحي المدينة تكايد الاسلام و تدس المسلمين فان النصرانية لم يكن امرها ظاهرا في مدينة يثرب و انما كانت للنصارى جماعة في نجران التي تقع في شمل جزيرة العرب ... و لذلك لم يكن للنصارى جدال مستمر مع المسلمين الاولين سواء في المجال الفكري او في المجال العسكري كما كان مع اليهود الذين طالما نقضوا العهد ، و أساءوا الجوار و استخفوا بالاسلام و المسلمين .
و القران العظيم شرح العقيدة اليهودية و العقيدة المسيحية كما هما من قبل ان يحرفا عن دعوتهما وعن اسلوبهما و في فكرتهما الحق ـ اما ما يتعلق بالموسوية فقد جاءت تفاصيل عنها في سورة البقرة ، و اما ما يتعلق بالمسيحية ففي سورة ال عمران ، و في سورة مريم تحليل كاف لها ايضا .. و خلاصة ما يقرره الاسلام عنها ان المسيح عيسى بن مريم رجل كان معجزة منذ البداية خلقه ، فلم يلده اب كما هو الشان في الناس كافة و انما هو كلمة الله وروح منه .. و كانت معجزته الباهرة ان كلم الناس في المهد صبيا و احياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص ، و ان يجعل من الطين كهيأة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طائرا باذن الله ـ كما انزل عليه و على اصحابه مائدة من السماء كانت لأصحابه عيدا لاولهم و لاخرهم ... و قد جاء في القران وصف لتعنت اليهود و محاربتهم العنيفة مع الرومان ليصلبوه ... و لكنهم لم يصلوا الى شيء من ذلك بل شبه لهم ورفعه الله اليه و لكن المسيحيين من بعد حرفوا تعاليم المسيح عليه السلام . فقد الهته كثير من الفرق المسيحية او جعلته جزءا من الخالق عند بعضها فقالت بان الله ثالث ثلاثة ... و الاسلام حين يدافع عن المسيح و المسيحية و يرد دعاوي اليهود في عدم إقرار ولادته دون اب و يستدل على المسيحيين الذين حرفوا الكلم عن مواضعه .
لقد كان الجدال في هذه الموضوعات عنيفا حادا في يثرب بين المسيح و اليهود و بين المسلمين و النصارى ... اما بين المسلمين و اليهود فهو شيء معروف و غير متصل بموضوعنا من قريب او بعيد و اما بين المسلمين و النصارى فان اهل السيرة يذكرون ان وفدا من نصارى نجران عدتهم ستون راكبا منهم بعض المسيحيين المتفقهين في دينهم من الرهبان ... و قد جدا هذا الوفد الى المدينة و لا نعلم السبب الذي دعاهم الى المجئ الى المدينة و هم ليسوا اصحاب تجارة و ليس لهم صلات عائلية او اخرى تربطهم بسكان المدينة و لكن الزاهر انهم سمعوا بالدين الجديد الذي ظهر في مكة و يثرب و سمعوا بما عرض للمسيحية في تحليل و نقد ... و على ابلغ الفروض فربما سمعوا بهذا الخلاف الحاد بين الوثنية المكية و اليهودية في يثرب و بين الدين الجديد فجاءوا ليظهروا موقف دينهم من هذا الدين الجديد ، و لم يكن الا موقف النقد و ارجاع الاشياء الى نصابها كما نقول في هذا العصر ، و اما ليزيدوا في تصعيد هذه الحركة حتى تبلغ اشدها لتستريح النصرانية المناخمة في الشام و في اليمن غلواء الوثنية و دسائس اليهودية ...
وموقف الاسلام من المسيحية كان واضحا صريحا ... فهو لا ينكر نبوة عيسى كما يزعم اليهود و انما ينكر تحريفهم لحقيقة المسيحية و يدافع عنها بمنطق اقوى مما تدافع به النصارى عن انفسهم ...
و لذلك فلم يجد الوفد الحجة في مقارعة الدعوة الجديدة الا في تمسكه بالعناد الذي اضطره الى الرحيل عن يثرب ... و لكن النبي لاحقهم باسلوب المباهلة الغربية ( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع ابناءنا و ابناءكم و نساءنا و نساءكم و انفسنا و انفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) و ابى النصارى المباهلة و انما قرروا ان يتركوا المسلمين و يرجعوا الى ديارهم غير ان بعضهم اقر ما في الدين الجديد من وضوح الفكرة المسيحية فطلبوا من الرسول ان يبعث معهم رجلا يحكم بينهم في اشياء اختلفوا عليها في اقوالهم فبعث الرسول معهم ابا عبيدة ابن الجراح ليقضي بينهم فيما اختلفوا فيه ، و هكذا جامل وفد المجاملة المسلمين وهادنهم و اقر بجوانب في الدعوة لم يكن له حق رفضها و لا حق قبولها جملة و تفصيلا و يذكر علماء السيرة فيما يذكرون ان ابا حارثة اكثر نصارى نجران علما و دينا ادلى لبعض رفاقه باقتناعه بما يقول الرسول ، ولما ساله رفيقه عن سبب رفضه للاقتناع كان جوابه ان ما صنعه اليهود بد حفاوة و اتشاء يمنعه من الادعاء ... و هكذا انتهى الجدال مع الوفد المسيحي غير ان القران الكريم لم يتخذ من تحليل العقيدة المسيحية و نقدهما و من دعوة القارئ الى المباهلة اخر مواقفه ، بل امر الله نبيه ان يدعوا اهل الكتاب من النصارى و اليهود الى كلمة سواء بين المسلمين و بينهم تتلخص في اقرار التوحيد و نفي الشرك في مختلف مظاهره و اشكاله و نتائجه ، و هي خلاصة الدعوة الاسلامية التي بدات بابراهيم كلمة حنيفية مجملة ، و تلاحقت جوانبها التفاصيلية في عدوة النبي موسى عم النبي عيسى ، و باقي الانبياء عليهم السلام ، ثم انتهت واضحة متماسكة فكريا ووحدانيا و اجتماعيا في عهد اخر الانبياء محمد عليه الصلاة و السلام .
و لذلك حاج الاسلام اليهود و النصارى في ابراهيم واوضح لهم ان ابراهيم ليس يهوديا و لا نصرانيا و لكن كان حنيفا مسلما ، بل هو اب المسلمين . وهو الذي سمى المسلمين بهذا الاسم ، وان اولى الناس به هم الذين اتبعوه ، وهم المسلمون ، اما اليهود و النصارى فلا علاقة لهم به الا ما حرفوا من تعاليمه ، فلم يخالفوا اذن في ابراهيم ، و ما انزلت الثوراة و الانجيل الا من بعده.
و لا يهمنا في شيء ان نتابع خطوات و فد النصارى بعد رجوعهم الى بلادهم ، و لا عزمهم على محاربة الاسلام لاسباب سياسية و اقتصادية ترجع الى نفوذ البزنطين و تاثيرهم على الغساسنة الذين يقيمون على حدود الشام ، و تاثير هؤلاء على المسيحيين في جزيرة العرب و لا بداية الغزوات معهم في سرية موتة ، التي ابلى فيها خالد بن الوليد البلاء الحسن او غزوة تبوك التي حضرها الرسول (ص) فهذه الاشياء لا تتصل بالموضوع الذي نريده و هو الشرح العقائدي للاسلام و هدفه الانساسي و استيعابه لما في المسيحية و اليهودية و إخلاصه لنقطة الانطلاقة السليمة في الابراهيمية السمحة .
فالقضايا الاصلية التي يرتكز عليها الخلاف بين الاسلام و بين تحريفات المسيحيين للمسيحية مظهر في قضية التوحيد أي توحيد الإلوهية و توحيد القوامة ، و ما يتبع ذلك من نفي الشريك الواسطة و تاليه المسيح و استمرار الخطيئة و فداء الاب و عصمة حماة المسيحية و اعطائها صلاحية التغيير و التبديل كما تظهر في تحديد حقيقة الدين و مهمته الشمولية التي لا تفرق بين الدنيا و الاخرة و تعطي ما لقيصر لقيصر و ما لله لله و ما يتبع ذلك من اقامة نظام كهنوته و اعترافات لطائفة خاصة من الرهبان و قيام دولة ملحدة علمانية تتكامل من بعيد مع الكنيسة سياسيا و اجتماعيا و لذلك جاء الاسلام و اقر حقيقة المسيحية و انصفها و اجلى عنها التحريفات التي نتقرب بها من الشرك وما يتبعه من العبودية لغير الله ، و ما يتبع ذلك من نظام فاسد يفقد فيه المجتمع العدالة و المساواة .
فلذلك جاءت دعوة الاسلام منصفة داعية الى كلمة سواء يقف فيها الجميع موقفا واحدا متساويا لا يعلو بعضهم على بعض و لا يتعبد بعضهم بعضا , دعوة الرجوع الى نقطة الانطلاق من توحيد ابراهيم و تكامل دعوته مع الدعوات الموسوية و المسيحية و ختامها في دعوة النبي محمد صلى الله عليه و سلم.
و لهذا فليس من شاننا ان نعرض لتفاصيل عن فلسفة الاسلام و لو باختصار فهذا بالنسبة الينا كمسلمين من المكرر المعاد الذي لا يزيد تكراره تقررا ، و انما تهمنا النقط البارزة في هذا الانحراف عن الحقيقة الدينية او ما يتبع هذا الانحراف من افات لترى ان معجزة القران في استمرار دعوته الحقة به فهذه الاية الكريمة ما تزال تدعوا الى كلمة سواء ، و ما تزال تفتح باب الحوار النزيه المستقيم و ان جدلية التاريخ و حتمية الاحداث قد اضطرت الكنيسة ان ترجع عن انحرافاتها ، غير ان الرجوع تحت ضغط الاحداث لا يعطي للافكار قيمتها الحقيقية لانها تصبه تنقصها السماحة و الانصاف ، فتضيع في التحديات الخانقة ... و قد يجوز ان نلخص تراجع المسيحية عن انحرافاتها في الميادين العقيدية و الفنية و الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية .
لا اريد ان انقل باختصار تطور الافكار الدينية في الكنيسة ، بهذا الموضوع اخر علاقة لنا به ، و انما يهمنا ان نستعرض النقط التي تراجعت عنها الكنيسة عبر القرون الى المواقف الاسلامية سواء في عصر تاثرها بالفلسفة الاسلامية او في عصر تحيها للمذاهب الاقتصادية و الاشتراكية المادية . اما عن المجال العقيدي ، فان فكرة التثاليب في المسيحية ظهرت شكلها و عدم عمقها لكثير من الفلاسفة و العلماء الغربيين .
اول افة الانحرافات المسيحية و اليهويدية هي في ابتعادها بالانسان عن الفطرة السليمة التي جاء بها الاسلام ، و التي بدات منذ اخذ الله من بني ادم من ظهورهم ذرياتهم و اشهدهم على انفسهم ، اليت بربكم قالوا بلى ، ثم جاءت ملة ابراهيم تحمل الميادين الاولى لتطبيق النزعة الفطرية لان الانسان لم يكن في وسعه ان يستيسيغ المعطيات الدينية كلها لسبب بسيط جدا و هو بدائية الحضارة الانسانية و عدم قدرتها على تحديات الطبيعة لعدم وجود التعقيد الحضاري الذي ظهر بالتحدي و التجربة ، و لكن بعد قرون من تجربة الكهانة و السحر و القانون و الفلسفة و تعاقب الحضارات ذوي النزعات المختلفة ... رياضية كالفرعونية ، او فلكية كالبابلية او كهاتونية كاليهودية او فلسفية كالاغريقية ، و غير ذلك مما يطول ذكره فهذا التعاقب هو الذي معق التجربة الانسانية و فتح العقل و الفكر واسمح الوجدان فكان نهاية المطاف في العقيدة الاسلامية الخالصة التي تتم بداية الانطلاق ، و نعطي للانسان بعد موت الرسول مقدرة الفكر على الاجتهاد لمواجهة التطور الحضاري و كما يقول الرسول الكريم العلماء ورثة الانبياء .
ولعل اهم نقطة ترتكز عليها الفلسفة الاسلامية هي ( الاعتدال ) في كل شيء ختى لا تتصارع الارادات و تتبدد داخل الانسان نفسه او مع غيره ، و الاعتدال في الاسلام اعتدال شمولي في كل مظاهر الحياة و عمق التجارب ، هو اعتدال بين العقل و الوجدان ، و اعتدال بين الفرد و الجماعة و اعتدال بين الملكية الفردية و الملكية الجماعية و اعتدال في حقوق الوطن و حقوق المواطن ، و اعتدال في صلات الانسان مع الانسان الى اخر الاعتدالات ، و اذا كانت الفلسفة الاغريقية عرفت مبدا ( الوسائط ) فلم تعرفه كما هو في الاسلام و بذلك فقدت شمولية الاعتدال .
واذا كان افلاطون حاول ان يقيم مدينة فاضلة عن اساس مجتمعي طبقي قوي تتبدل فيه الاعتدالية فقد شعر بخيالية تفكيره ورجع الى سيادة القانون و دعوة خضوع الجميع له ، رغم ان افلاطون في دعوته الى طبقية قسرية لم يكن شيوعيا يقيم الفلسفة على الاقتصاد و لا درونيا يقيم بقاء الاصلح على الانتخاب الطبيعي ... فان اعتدالية الاسلام ذات فلسفة خاصة واقعية تقرر الواقع و تطوره في دائرته الكونية دون قسر و تكلف ، و قد جاء الماركسيون لياخذوا فكرة الصراع للانتخاب الطبيعي عن درون و الجدلية عن ( هجل ) و لكنهم اقاموا المجتمع على اعتدالية اقتصادية اكيدة لم يعد الانسان فيها اكثر من الة صماء .
و اذا كان الفرد هو اساس الفلسفات و المذاهب و موقعه في الجماعة اهم نقطة شغلت الفكر الانساني ، فمن الطبيعي ان نبدا الفلسفة و المذهب بالفرد لان المعرفة انبثقت من الفرد ، و على اساس ذلك انتقل المحللون للجانب النفسي و الاجتماعي للفرد ، فالاهتمام بالفرد و حالته العقلية و النفسية و الاقتصادية هو اساس العلوم التجريبية ، و الاهتمام بالتحليل النفسي و المجهول و المصير ، اساس الفلسفة و المذاهب الدينية القديمة ، و عن صلات الفرد بغيره تولدت المذاهب الاجتماعية الاشتراكية و الليبرالية و الشيوعية و الاعتدال و كلها فلسفات لا تستوعب الواقع الانساني من كل جوانبه كما فعل الاسلام .
اما الاسلام فالفرد فيه جزء من الوجود ومن فيضه وهو جزء من الكون كله ولم يبخل الاسلام على الفرد بحريته و لا على المجتمع بحقوقه ، وظل المجتمع الاسلامي ينمو في ظلال حرية الفرد و الجماعة على اساس فلسفة الاسلام الاعتدالية بين الوجود الفردي و الوجود الاجتماعي ، و الاعتدالية ظاهرة الوجود الاجتماعي و الذاتي ...
و قد فقدت اوربا هذا الاعتدال على يد الكنيسة التي حاربت الوجود الفردي فاتجه الفكر الغربي الى تنمية روح الفرد بعد الصراع مع الكنيسة فكان التطرف في الحرية ايضا على حساب الجماعة .
و هكذا ( فالاعتدالية الاسلامية ) دائما موفقة في التصالح بين مصالح الفرد و مصالح الجماعة ، غير ان فلاسفة اوربا تاثروا بمدرسة ابن رشد على يد طوماس الاقريني فحاربوا الصوفية الذين شجبوا العقل ، كما حاربوا النظرية المزدوجة التي ترى ان ما هو صحيح في اللهوت قد يكون صحيحا في العلم ، و هذا الاتجاه الرشدي يخالف الاعتدالية الاسلامية السنية السلفية و يساير النزعة الرشدية التي انتقدها المسلمون السلفيون .
و اذا كانت الفلسفة الاغريقية عرفت مبدا ( الوسائط ) فلم تعرفه متكاملا في كل وحدات الكون و بذلك فقدت شمولية الاعتدال بل فقدت الشمول الاساسي حتى في الفلسفة لان الفلسفة الاغريقية و العلم الاغريقي اهتما بالحياة الانسانية بالدرجة الاولى فكان العلم علما بيولوجيا لا علما رياضيا ، و لم تكن الفلسفة شمولية كذلك لتعدد الفلاسفة و النظريات الفلسفية فانحرفت عن الاعتدال بينما استوعب الاسلام سائر جوانبه ، بل ان أفلاطون حاول ان يقيم مدينة فضيلة على اساس مجتمع فاضل يحقق المساواة داخل الطبقات نفسها و لكن تبددت الاعتدالية مجتمعه ثم شغر بخيالية تفكيره فرجع الى سيادة القانون و دعوة خضوع الجميع له ... و لم تعد في فلسفة داعيا الى طبقية قسرية و لا شيوعيا يقيم فلسفته المتساوية على الاقتصاد ، و لا دارونيا يقيم الاعتدال على بقاء الأصلح و الانتخاب الطبيعي و انما عاد ليساير التجربة الانسانية العشوائية و لذلك فان اعتدالية الاسلام ذات فلسفة خاصة واقعية تقرر الواقع و تطوره في دائرته الكونية دون قسر و تكلف ، و قد جاء فلاسفة ماديون متأخرون ليأخذوا فكرة الصراع للانتخاب الطبيعي و الجدلي فأقاموا المجتمع على ( اعتدالية ) اقتصادية لم يعد الانسان فيها اكثر من الة صماء ، فقد الانسان انسانيته حين فقد الاعتدال ، ومن الطبيعي ان يخرج التفكير الانساني عن الاعتدال عندما لا يرتكز على هداية الله ، لان الفرد هو اساس الفلسفات و المذاهب ينظر الى العالم في خلال نفسه و موقعه في الجماعة و اهم نقطة تشغل فكره ووجدانه فكان من الطبيعي ان تبدا الفلسفة و المذاهب بالفرد لان المعرفة انبثقت من الفرد ، و على اساس ذلك انتقل المحللون للجانب النفسي و الاجتماعي للفرد فكان الاهتمام بالفرد و حالته العقلية و النفسية و الاقتصادية هو اساس العلوم التجريبية ، و كان الاهتمام بالتحليل النفسي و المجهول و المصير ، اساس للفلسفة و المذاهب القديمة ، و عن صلات الفرد بغيره فقط تولدت المذاهب الاجتماعية الاشتراكية لا تستوعب الواقع الانساني من كل جوانبه كما فعل الاسلام الذي انبثق مبادئه عن الشمول الكوني و عن العدل و الاعتدال .
ذلك ان الاسلام يرى ان الانسان جزء من الوجود ومن فيضه ، وهو جزء من الكون كله ، فاقر الاسلام تفكيره الفردي و حريته و صلاته المجتمع و لكنه ربطه بالكون و حقائقه التي لا يدركها الانسان فجاء المجتمع الاسلامي لينمو في ظلال حرية الفرد و الجماعة و الاتصال بالكون كله على اساس فلسفة الاسلام الاعتدالية بين الوجود الفردي و الوجود الاجتماعي ، و الاعتدالية بين ظاهرة الوجود الاجتماعي و الذاتي بينما فقد الفكر الفلسفي هذا الاعتدال الذي فقد على يد المحرفين ، من اهل الكتاب من قبل ، الذين حاربوا الوجود الفردي فاتجه الفكر الغربي الى تنمية روح الفرد فكان التطرف.
وعندما اهتم الفكر الغربي بالعلم اختلف في نوعية العلم بحسب العصور فكان في القرون الوسطى علم الاخلاق ، وكان في العصر الحديث علم طبيعة ، اما الاسلام فمازج بين الطبيعة و الاخلاق و البيولوجية ووفق بينهما على اساس فلسفته في الاعتدال واخذ كل شيء بالميزان .
و كم نلاحظ في الفلسفة الغربية في القرون الوسطى نظريات و اراء اسلامية تسربت الى فلسفة توما الا قويني سواء في الاجتماع او الاقتصاد و نادى بأفكار على الطريقة الاسلامية السلفية .
فدافع هذا الفيلسوف عن الملكية الخاصة بالاستناد الى فكرة الصالح العام ، و اصبح يرى ان على الانسان ان يتملك الأشياء الخارجة لا على انها ملكه الخاص . و لكن على انها ملكية عامة ، و ذلك ليكون مستعدا لان يشارك غيره من الناس في ساعة ضيقة و هذا هو المبدأ ألقراني المعروف في الاية الكريمة ( و في أموالهم حق للسائل و المحروم ) غير ان اراء هذا الفيلسوف كانت عديمة التاثير لان الكنيسة الغربية خلال تاريخها كانت مهتمة بإدارة أملاكها أكثر من اهتمامها بالحركة الاصلاحية فتركت مجالا لتسرب الاراء في الاقتصاد الصهيونية التي نشرت الربا ، و اذن لهم في ذلك ( فيليب او غست ) في القرن الثالث عشر على حساب مصلحة الجماعة المسيحية ، اما الاراء و النظريات الاسلامية التقدمية التي غزت الفكر الغربي فكانت محدودة المجال و لم يكن نفوذها بارزا الا في الجماعات العلمية و عقلية احرار الفكر الغربي .
و يطهر ان مرونة الفكر الاسلامي السني و الاعتزالي التي أقرت التأويل أثرت على ( امبروز ) الذي اعترف (( لاوغسطين )) معتمدا على سلطته الدينية لانه لا يجب الايمان حرفيا بما جاء من قصص في الإنجيل و كذلك ان الشرط العقلي في الايمان انتقل الى الغرب في عصر اياء الكنيسة وكان ( اسلم ) يقول في القرن الحادي عشر انه امن لكي يستطيع الفهم كما قال بعده ( ابيلار ) انه اراد ان يفهم لكي يستطيع الايمان .
و اخيرا جاء ( لونير ) ليظهر تاثره الواضح بالتفكير الاسلامي فترجم الانجيل ووضعه بين يدي المؤمنين و شدد اصحابه في التاويل الظاهري متمسكين بحرفية النص على طريقة مذهب ابي داود ، كما حجر كثير من الاباء في اسلوب المعرفة حتى يبقى ما يؤمن به المناس من اقتناع يبلغ حد اليقين ... و قد اتبع لوثر الاسلام حتى ترجم الانجيل ووضعه بيد الإتباع المسيحيين فأصبحت الثوراة كتاب اداب و تحليل لذى الامم الشاملة التي اتبعت مذهبه و لم يزد ان ردد العبارة القرانية : (( اقرا باسم ربك الذي خلق )) ...
ومبدا حرية الفكر و العقيدة أتاحت للعلم ان يخطو بعد ذلك خطوات و اسعادات بالفكر الانساني الى صورته الحاضرة لان الفكر هو عنصر الحضارة الخلاق ، وهو الذي يصلنا بالماضي و بالمستقبل اكثر مما نتصل بهما عن طريق الروابط العريقة و الطبيعية و المصالح المشتركة ، فالعقل وهو مزيج من العقائد و المثل العليا بل هو الذي يحرك البشرية لتنشا الحضارة و ليكون التاريخ و الاسلام اذ يعتمد على العقل يزوده بقوة الايمان و سلامة الموضوع لينتصر هذا الصراع الابدي بين المادة و الروح و الجسد والعقل ، و يرى الايمان اساس كل عمل لانه فلسفيا اقوى دعائم التوحيد ... و نحن نعرف ان العلم نفسه و ان الحقائق العلمية لا تنطق الا من الايمان . فهو مفتاح العلوم كلها ، فمثلا علم الفيزياء تبدا بفرضية و الهندسة بمبدأ و علم برأي فلا بد من البداية بشيء ثابت ليقوم عليه البحث ، و اليمان هو اليقين الاول و جماع شتات الفكر و التركيز عليه للانطلاق .
لقد كانت الكنيسة في الغرب من قبل لا تحلل موقف الانسان في الارض و لم تكن لها صورة كونية لبناء العالم و انما لها معلومات مفرقة ، و الغريب ان الكنيسة في المغرب على يد ( تارتوريان ) كانت كذلك تؤمن بالمستحيل و ترفض المعرفة الفكرية بصفة عامة ، بينما كان ( ارنوبيوس ) لا يجد فائدة لاية معرفة كانت ، لقد كان هذا الجمود الفكري في المغرب قبل مجئ الاسلام عندما كان ( كليمونطت ، و اورجين ، و اثناسيوس ) يضعون في الاسكندرية نظرية التثليث الخيالية ايضا ، و كم يلاحظ ان ( سيبريان و امبروز و اغطسن ) وجهوا عنايتهم وجهودهم الفكرية نحو كفاح الانسان الأخلاقي و مشاكل الخطيئة و التعميد ، حتى أصبح التدين المسيحي في المغرب رواقيا يؤمن ان محافظة الانسان على روحه صفائها و هدوئها فوق كل شيء . وظل الصراع دائما بين المعرفة عن طريق الايمان الخالص و الحدس ، او عن طريق5 التفكير الجدلي مما جعل الاسلام له حدا في ( الاعتدال ) في نظريته في المعرفة التي يرى انها مزيجه من البصيرة و الحدس و العقل و الفكر .
و اذا كانت الأخلاق المسيحية تبنى على المحبة و تحتاج لفلسفة إضافية فالأخلاق الاسلامية تبنى على العمل و الحرية و المسؤولية . و ليست في حاجة الى فلسفة لتفسير موقفها من الكون لانه واقع ، و الفلسفة تفسره ، و ليست جزءا منه او بنى على أراء فلسفية و الواقع ان المسيحية عندما تتقدم تتصل بالخط الاسلامي . و ( فبيكو ) في كتابه خطبة في كرامة الانسان عندما انتقد الاراء المسيحية متحررا عقليا ردد كثيرا من الاراء الاسلامية ، مقرا ان الله ءادم على صورته كما في الاسلام ، كما ان ( كلفان ) اعلن عداءه للتصوير في الكنائس لانها تشغل عن العبادة جريا على المذهب السني الاسلامي متأثرا بالاسلام الذي حرم الثقافية التصويرية لانها كانت استمرارا للثقافة الوثنية و مظهرا بارزا لها فجاء الاسلام ليحول الانسان من الانبهار بعالم الصور الخارجي الى التامل الداخلي ، فالايمان محله القلب وهو عملية داخلية بحتة ، و ليس محله جمال الصورة التي هي تناسق خارجي يبعد الانسان عن البحث العميق .
بل ينص الاسلام ان الأصنام كانت عملية فنية ، و خلق انساني ، و لكن الانسان تحول تفكيره عن عبادة خالقه الى عبادة مخلوقه .
ان القران الكريم تكلم عن التصوير في قوله تعالى : (( اخلق لكم من الطين كهياة الطير و انفخ فيه فيكون طائرا باذن الله )).
و هكذا اعطي المزج بين الصورة و الحياة و ما ينشا عن فكرة التصوير من مقدرة الخلق مما يستتبع إعجاب الفنان بفنه الى حد العبادة ، و قد استطاع رفائيل ان يسمو بالتعبير التصويري في فن النحت ، و لكنه لما اتم تمثال موسى عليه السلام ضربه بقوة فائقة : لما لا تتكلم ، فاظهر انحراف الفنان و إعجابه بالخلق .
و عند تقلص الوثنية اجاز الاسلام التصوير ، فابن عباس اجازه بشرط عدم وجود الراس ، الذي هو مظهر الحياة ، مع إعطائه شكل الازهار للجسم مما ساعد على تطوير فن الزخرفة في الاسلام ، ذلك الفن الذي تولد عن الثقافة الاسلامية الجديدة التي اقرت عبادة الله و الوصول الى الحقيقة عن الاخلاص في محبته و عبادته في كونه و خلقه ، و اعتمد بعض الفقهاء جواز التصوير على ما جاء في القران من الانة الحديد للنبي سليمان عليه السلام حيث صنع التماثيل ، و بما ان المعتزلة من المجتهدين قد أجازوا التصوير لان علة الحرمة تدور مع المعلول وجودا و عدما و بما ان العبادة قد زالت فقد جاز التصوير .
و فرق بعض علماء السلفية كمحمد عبده بين الرسم و التصوير اذا كان خلقا ، او وضعا بشريا ، و اذن ففكرة المزج بين خلق الصورة و الحياة هو الذي دعا الاسلام الى تحريم الصورة ، بل ان الاديان السماوية كلها حاربت التصوير ، فالمسيحية الاولى كان بها مذهب قوي ضد ( الايقونات ) و تابعته البروتستانية التي تقرب كثيرا من نفحات الاسلام .
و تبدوا الاعتدالية الاسلامية في بناء سلوك المسلم ، فلا رهبانية في الاسلام بمفهوم الرهبانية الكنسي ، اما بالمفهوم الاسلامي الاولون رجال الحرب بعدم مهاجمة الرهبان لانهم سابرون في المجتمعات ، فالإسلام وسط بين الرهبانية و الفطاقورسية
و لقد اقر البروستات الايمان بالعقل و حققه الفرنسيون في الايمان ( الديكارتي ) وهم في1ذلك يتاثرون بالاعتزالية الاسلامية ...
اللوثيرية تعتقد بان لا صلة بين الخلاص و الإخلاص لان الإخلاص امر ديني محض لا ارتباط له بالكمال المطلق لانه شحنة الايمان لا شحنة الأعمال ، و الايمان ياتي من الله لا من الانسان . لتخرج من مشاكل ( الوجوب ) على الله متأثرة بالإسلام في اعتداليته الذي قرر العلاقة و فوض الامر لله تعالى ، بل ان اللوثرية لم تخرج عن نهج بعض الفرق الاسلامية في اعتقاداتها .
ويعتبر مذهب التطهير في المسيحية الكسل خطيئة . و يشدد بضروب الاستمتاع و هو في هذه المحاولة يقترب من الدعوة الاسلامية الى العمل و ترك التوكل و الكسل .
و من مقررات مجمع ( ترانت ) في قواعد تعلم الذين المسيحي ان الايمان التقليدي هو الايمان الصحيح على غرار الكلمة الاسلامية اللهم إيمانا كإيمان العجائز ... فاذا تركنا الكنيسة ورجعنا الى المفكرين الأحرار الذين انتقدوا الفكر بوضوح تقرير المذهب الاسلامي و على سبيل المثال اذكر ان (ديديرو ) عندما انتقد المسيحية ووصفها بالقسوة و الغموض و التخيل و الانقسام و الخطر على الامن العام انما انتقد الانحرافات المسيحية الحقة بل قال لو عاش المسيح لسانده في نقده مما اصابها على يد الرهبان ، بل يرى ( ديدرو ) ان اللوثرية أفضل من الكاتوليكية ، و يرى ان الكالفانية ) افضل من اللوثيرية و السوشيانية أفضل منها ، و عبادة الله في المعابد فقط أفضل من السوشيانية ... فهل يرى وصل الى غير ما دعا اليه الاسلام من عبادة الله المطلق الوجود الذي هو معكم أينما كنتم ؟
ومن هنا يبدوا ان المذهب الفلسفي و العلمي الذي سار يناهض الكنيسة انما كان يسير على الخط الاسلامي ، فمذهب ( لوك ) الحسي الذي تصدر منه الاسس اللازمة للديمقراطية ، و هو ان الناس يولدون متساوين ثم تختلف معارفهم بناء على التجارب الحية ، هو رأي إسلامي عريق ، فكل مولود يولد على الفطرة و أبواه يهودانه او يمجسانه او ينصرانه ... و انتزع الفكرة السياسية من هذه الفطرة الخليفة عمر رضي اله عنه حين قال : كيف استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا .