[frame="7 90"]السلام عليكم ورحمة الله وبركاته[/frame]
الحقيقة الصارخة
دراسة أعدها لكم
المهندس زهدي جمال الدين
مصر في 25 يناير 2013م
عرض للطباعة
[frame="7 90"]السلام عليكم ورحمة الله وبركاته[/frame]
الحقيقة الصارخة
دراسة أعدها لكم
المهندس زهدي جمال الدين
مصر في 25 يناير 2013م
[frame="15 98"]
تمهيدقامت الثورة بمصر يوم الثلاثاء الموافق 25 يناير 2010..فلماذا قامت الثورة؟..وما هو واقع حياتنا بعدها..أو يمكننا صياغة السؤال بطريقة أخرى:مصر إلى أين؟..حينما قامت الثورة ..فمن الذي أقامها؟؟..سؤال يحتاج إلى إجابة محددة..في الحقيقة قد تكون الإجابة صادمة للجميع..كيف؟..تابعوا معي[COLOR=window************************]شاهد النصاب بيرني لابلنت ( داستن هوفمان[/COLOR][COLOR=window************************]Dustin Hoffman [/COLOR])[COLOR=window************************]طائرة تسقط فجأة، فهب لنجدة ركابها ونجح بصعوبة في إنقاذهم، ونسى من شدة الإجهاد أن ينتشل فردة حذائه التي خلعت من قدمه وحشرت بين المقاعد.إليكم قصة فيلم البطل Hero إنتاج 1992
وأبلى هوفمان بطل فيلم «البطل» الأمريكي، بلاء حسنا حتى وصلت سيارات الإسعافات والشرطة، فهرب خوفا من اعتقاله.
وقد فشل الجميع في معرفة من أنقذ الركاب، فالمكان خالي، والبطل غادر الساحة ولم ينتظر حمدا ولا شكورا.
[/COLOR]ليلتقي بالصدفة احد المشردين ( [COLOR=window************************]اندي جارسيا[/COLOR]STARmeter
Down 13 this weekAndy Garcia ) في الشارع الذي يحكي له مأساته منذ عودته من حرب فيتنام، فما كان من النصاب المنقذ إلا أن منح فردة حذائه الثانية إلى المشرد.انتقلت وسائل الإعلام لموقع الطائرة لتكتشف فردة الحذاء، وتوقعت أن يكون المنقذ هو صاحب هذه الفردة، فأسرع المتشرد إلى الإعلام ليدعى انه المنقذ ويحكى روايات كاذبة عن بطولاته في إنقاذ الركاب ومدى ما عاناه من إجهاد في إخراجهم لبر الأمان.
في حين فشل المنقذ الحقيقي في إثبات صنيعه، لأنه لم يكن يمتلك الدليل وهو فردة الحذاء الثانية التي أعطاها للمتشرد الكاذب. ثم تظهر صحفية جيل جيلاي ( جينا دافيز Virginia Elizabeth Davis)وكانت بالطائرة المنكوبة، وتتذكر البطل الحقيقي، لتنتهي حبكة فيلم «البطل» حول التناقض بين الكذب والحقيقة، فالمنقذ لم يكن لديه دليل صدقه، في حين امتلك الكاذب دليله الوهمي وهو فردة الحذاء.
لقد أنسقنا وراء وهم كاذب عن إدعاء البطولة، وهو واقعنا منذ 25 يناير، فالكل يدعى البطولة ويُخون الآخر. وتوارى أبطال الثورة الحقيقيين، ليتصدر المشهد السياسي بكل صفاقة نصابون ومحتالون وأفاقون، فكلهم يدعون إنهم مفجرو الثورة، في حين إنهم استغلوها وأصبحوا الآن من المشاهير. لأن كل منهم يرفع الحذاء في وجه الأخر قائلاً أنا البطل..وتذكرنا واقعة نزع العلم الإسرائيلي من أعلى السفارة الإسرائيلية، بفيلم البطل، ليتسابق الإعلام في سرد حكايات وبطولات وهمية عن هذا الكاذب أو ذاك النصاب، لقد انشغلنا بمن أنزل العلم الإسرائيلي عن السفارة ولم يعلم أحد شيئاً عن الجندي الذي رفع العلم في سيناء يوم العبور ولقد تناسوا أن العمل الأهم في اللحظة الراهنة هو كيفية تأمين منطقة شبه جزيرة سيناء وإعمارها والتخلي عن السياسة القديمة بإهمالها وتركها فريسة للجهل والتخلف والمصالح الضيقة.خذ عندك حزب النور مثلاً أين كان أعضاءه قبل التحزب؟..لقد كانوا متقوقعين على أنفسهم ولا يجيزون الخروج على الحاكم ـ وهذا حق ـ ولكنهم لم يفقهوا الفرق بين الخروج عليه كجريمة بغي لها قواعدها وأصولها وأحكامها وبين الثورة والتي هي إرادة إدارة التغيير والتي تحكمها قواعد وأصول بينتها في دراستي (طلائع الرفض في المجتمع المصري) ولكل منهما قواعد وضعها فقهاء الفقه الدستوري حتى لا يحدث خلط بينهما ..فهناك فارق بين مفهوم المظاهرات ومفهوم الانقلاب على الحاكم والخروج عليه..ومفهوم الثورة.
نحن أهدرنا فرصة صناعة البطل الحقيقي، وما زلنا نعيش في زمن الجهل والتخلف ونبحث عن قضية فارغة لنصنع منها أبطالا مزيفين..وقديما قالوا:مما يزهدني في أرض أندلس *** ألقاب معتصم فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها *** كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
من الذي أقام الثورةتُعَرّفُ الثورة بأنها إدارة إرادة التغير..والله سبحانه وتعالى يقول:( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الأنفال: 53ويقول سبحانه وتعالى : (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)الرعد : 11من هذه الآيات يتبين لنا أن الله سبحانه وتعالى قد وضع في أنفسنا القدرة على التغير..بشرط أن تسبقها الإرادة..وإن لم نغير ما بأنفسنا فالقانون السماوي جاهز للتطبيق: (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)الرعد: 11ما المقصود بالسوء هنا؟..إنه التدمير..واي تدمير؟..إنه التدمير اللائق بجلال الله سبحانه وتعالى..يقول عز وجل:( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)الإسراء : 16ولكن الملاحظ هنا أن هذه الآية الكريمة ينطبق نصفها الأول على مجتمعنا مصر ولا ينطبق النصف الثاني عليه..لماذالأن النصف الثاني يتعارض مع الأمان الذي قطعه الله جل علاه لمصر:(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ)يوسف :99شأنها في ذلك كشأن بلد الله الحرام..(فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) آل عمران: 97إذن النصف الأول هو الذي ينطبق على مجتمع مصر..فماذا عن النصف الثاني[/frame]
[frame="15 98"]إذن النصف الأول هو الذي ينطبق على مجتمع مصر..
فماذا عن النصف الثاني
دققوا معي
يقول عز وجل:( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)الإسراء : 16
فما هو المعنى المقصود من وراء قوله تعالى(أَمَرْنَا):
له معان ثلاثة:
1 ـ إن معني (أَمَرْنَا) أي كثرنا. وليس بمعني فعل الأمر. جاء في لسان العرب .. خير الطرق الطرق المعبدة..أي الممهدة..وخير الإبل الإبل المأمورة ..أي الكثيرة الولد..
وعليه فالمعني هو إكثار المترفين أو النخبة أو الملأ أو السادة والكبراء.. وكل هؤلاء بمعني واحد وكلهم فسقة وفسدة.
وهذا ينطبق على الرئيس المخلوع وأولاده وكل بطانته..
2 ـ (أَمَرْنَا) ..
المتأمل في قوله تعالى : (فَفَسَقُوا فِيهَا)..نجد أن الفاء في قوله تعالى (فَفَسَقُوا )تأتي في كل عموم القرءان الكريم معطوفة على محذوف..كقوله تعالى:
(أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ
وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)البقرة: 184
فكلمة (فَعِدَّةٌ) الفاء معطوفة على محذوف تقديره (فأفطر) هكذا : أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ ـ فَأَفْطَرَ ـ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)البقرة : 184
وفي قوله تعالى:
(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا
أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)البقرة: 196
نجد أن قوله تعالى (فَفِدْيَةٌ معطوفة على محذوف تقديره (فحلق) وتصبح الآية الكريمة هكذا :
((وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ
أَذًى مِنْ رَأْسِهِ ـ فَحَلَقَ ـ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)البقرة: 196
وفي قوله تعالى:
(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ
وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)البقرة: 213
نجد أن قوله تعالى (فَبَعَثَ) معطوفة على محذوف تقديره (فَٱخْتَلَفُوا) وإلا فما الدعي لإرسال النبيين وكان يكفي نبياً واحداً والآية التالية
من سورة يونس توضح هذا الأمر:
(وَمَاوَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)يونس: 19
وعليه تصبح الآية الكريمة كالتالي:
(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ـ فَٱخْتَلَفُوا ـفَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ
وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي
مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)البقرة: 213
وبالعودة للآية الكريمة موضع الدراسة:
عز وجل:( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)الإسراء : 16
فقوله تعالى(فَفَسَقُوا) معطوف على محذوف هو أوامر الله سبحانه وتعالى فبماذا أمر الله جل علاه؟..
إن الله تعالي علواً كبيراً. لا يأمر بالفسق والإفساد. وإنما يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى.. وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي..
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ* قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)الأعراف:28
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)النحل: 90
وهذا الكلام ينطبق على كل رجال الرئيس المخلوع.
3 ـ قوله تعالى:(أَمَرْنَا)..نجده في إحدى القراءات(أَمَّـرْنَا)..أي جعلناهم أمراء عليكم..وهو ما يعرف بمصطلح الحديث (النخبة)..أو(الملأ)..
1 ـ (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ)القصص: 20
2 ـ (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي
رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ)يوسف :43
3 ـ (اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ)النمل: 29
4 ـ (قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) النمل: 38
5 ـ (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى
وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ) القصص: 38
6 ـ (قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ) الشعراء : 34
7 ـ (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا
مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ)هود:27 والمقصود هنا قوم نوح
8 ـ (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ)المؤمنون: 24
9 ـ (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ)يونس:75
والملاحظ أن لفظ الملأ تكرر كثيراً فيما يتعلق بمصر وملوكها وفراعينها علي مر الزمان ولم يرد الملأ أو النخبة أو السادة والكبراء والمترفين في
القرآن الكريم إلا مقرونين بالكفر والفساد.. وورد ذكرهم أيضاً بلفظ المترفين..
http://www9.0zz0.com/2013/01/30/06/208916289.jpg
فلقد كانت النخبة دائماً وعبر تاريخنا فاسدة مفسدة.. أفسدت الحاكم والمحكوم... وأفسدت البلاد والعباد.. وأفسدت الثورات.. ووقفت
دائماً في وجه الإصلاح والعلم والدين والخير والأنبياء والمصلحين..
كانت النخبة أو الملأ عندنا دائماً علي مر الأيام شياطين الإنس الذين يزينون للحاكم سوء عمله.. ويجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق.. ويضلون
الناس بعلم ووعي.. ويوحون إلي الحاكم وإلي بعضهم زخرف القول زوراً.. ويستخفوننا فنطيعهم لأننا قوم فاسقون بتعبير القرآن الكريم.
http://www9.0zz0.com/2013/01/30/06/519797012.jpg
ونحن نطلق اليوم علي الملأ ألفاظاً كثيرة تؤدي نفس المعني.. فنقول: النخبة والمثقفين والصفوة والإعلاميين والنجوم والمشاهير
والدعاة ورجال الدين المسيحي.. وكل هؤلاء هم ملأ الحاكم... أو ملأ النظام.. أو اللانظام.. أو ملأ الثورة.. ولا يهمنا المضاف إليه..
والمهم عندنا أن أي ملأ لابد أن يكونوا فاسدين ومفسدين.. كما أن النخبة دوماً لا تقول ولا تفعل خيراً وأنها دائماً تخشي علي
مواقعها ومصالحها.. ما هذا إلا بشر مثلكم.. يريد أن يتفضل عليكم.. فهم يخشون فقد الحظوة والموقع والتميز. ويرون في
كل إصلاح وفي كل ثورة تهديداً لمصالحهم..
ومصر طول عمرها لم تحكمها مؤسسات ولا قوانين.. وإنما حكمها وأدارها شخص حوله ملأ أو نخبة.. كل منهم يفعل ما يحلو له من فساد..
والملأ تتغير أسماؤهم مع العهود.. ولكن لا تتغير صفاتهم وأساليبهم في الفساد والإفساد والاستبداد.. بل إن الأسماء أحياناً لا تتغير لكنها
تغير الجلد المباركي.. إلي الجلد الثوري.. كما غيرت الجلد الملكي إلي الجلد الناصري,. إلي الجلد الساداتي.. وكل هذا يحدث لأن
مصر عبر تاريخها لم تعرف المؤسسات ولا القوانين.. واعتمدت في حياتها كلها علي مزاج الفرعون.
والملأ.. سواء سكن الفرعون قصر الحكم.. أو ميدان التحرير.. أو البرلمان.. كانت المؤسسات والقوانين في مصر دائماً
ورقية قشية ديكورية مسرحية.. ولم تكن يوماً حقيقية.. لذلك تقلب الوطن علي مزاج الحاكم والملأ.. أو النخبة.. وسار من
تخلف إلي تخلف.. ومن نكبة إلي نكبة.. واتسعت مساحة "أنت موش عارف بتكلم مين؟!".. واتسعت الحصانة والحظوة لتشمل النخبة
وخدمها وسائقيها وزباليها وعبيدها.. وصار سائق الباشا وخادمه يقولان أيضاً: "أنت موش عارف بتكلم مين؟!".. وهكذا يفعل سائقوا
وخدم وعبيد وبودي جاردات الثوار الآن.
والإعلاميون أسوأ صنوف الملأ والنخبة والصفوة عبر العصور في بلدنا.. وينضم إليهم من نسميهم المثقفين.. أو الفنانين
أو رجال الدين ونساءه.. كل هؤلاء يمارسون التضليل والإفساد.. في غياب النظام المؤسسي والقانوني.. الذي لم يكن له أي وجود في
مصر علي مر العهود.. والإعلاميون هم الاسم العصري لشعراء الجاهلية وصدر الإسلام.. وهم الذين
قال الله تعالي فيهم: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ)الشعراء: 224 ـ 225.. تستطيع وأنت
مرتاح الضمير أن تضع في تفسير معني الآية كلمة الإعلاميين بدلاً من الشعراء. ولن تجد أي اختلاف.. فالإعلاميون يتبعهم الغاوون..
والإعلاميون في كل واد.. ومع كل عهد يهيمون.. وعلي كل نغمة وإيقاع طبلة يرقصون.. والإعلاميون أكثر الذين
يقولون ما لا يفعلون.. والإعلاميون هم الذين ظلموا وسيعلمون أي منقلب ينقلبون.. والإعلاميون أول من تسعر
بهم النار يوم القيامة.. لأنهم يضلون الناس بعلم وقصد.. وسبق إصرار وترصد.. هم الذين تكبهم علي وجوههم في النار حصائد
ألسنتهم وأقلامهم.. ومصر تحصد دماً وفتنة وضلالاً.. وانفلاتاً زرعه الإعلاميون.. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
والإعلام أفسد كل صنوف وأطياف النخب أو الملأ.. أفسد الثوار. وأفسد البرلمان. وأفسد الإخوان. وأفسد السلفيين..
وأفسد من قبل أنظمة عبد الناصر. والسادات. ومبارك.. الإعلام أفسد الفنانين والأطباء والمحامين والقضاة. والدعاة والعلماء..
الأضواء مفسدة وليس بمقدور أحد أن يقاومها أو ينتصر عليها. خصوصاً المصريين الذين يتسمون بضعف المناعة أمام الأضواء..
ولا يكفون عن الكلام خصوصاً فيما لا يعرفون.. فنحن لا نعرف فقه "لا أدري"..[/frame]
[frame="15 98"]
ومصر الآن متخمة بالنخب.. لذلك هي على وشك الهلاك.. والذين ينسبون أنفسهم للنخبة يعترفون بفسادهم..
وهم يزكون أنفسهم مثل الشياطين تماماً.. والعاقل من إذا قيل له: أنت من النخبة.. قال: معاذ الله أن أكون من الفاسقين..
يا ناس.. إن الملأ يأتمرون بكم ليقتلوا وطنكم. وقيمكم. وعقولكم. ووعيكم.. فاخرجوا من أسرهم إني لكم من الناصحين.. يا ناس..
حصنوا عقولكم بالنقد.. بالشك في كل ما تقرؤون وتسمعون وتشاهدون لتنجوا.. إني أري عقولاً كاسدة وقلوباً فاسدة
وذباباً يتكاثر حول الأضواء.. ما دخل الإعلام أمراً إلا شانه. وما خرج من أمر إلا زانه..
المهم عود على الآية الكريمة والتي نحن بصدد الحديث عنها..
(وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)الإسراء : 16
نجد أن النصف الأول من الآية ينطبق علينا..( (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا)بناء على قانون النخبة..
ولكن النص الثاني منها (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) لم يتحقق فينا حتى الآن وإنما الذي قد تحقق هو عكس ذلك تماماً..
لم يتحقق نتيجة لوعد الله جل علاه لمصر بالأمان..(ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ)يوسف:99
وعليه فإن إرادة الله جلَّ علاه بتدمير مصر غير واقعة..ولكن إرادة الله جلّ علاه أُعملت في الملأ أو النخبة حينما زاد الطغيان..
هنا تدخلت السماء بدون حول منا ولا قوة..
دققوا معي في قوله تعالى:
(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُحَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)الحاقة:11 ـ 12
الحاقة:11 ـ 12
الخطاب للصحابة ولكل المؤمنين من بعدهم يحدثنا المولى عز وجل عن قوم نوح..
نلاحظ هنا انه جلّ علاه قد استعمل مصطلح الطغيان عند التقاء ماء الأرض بماء السماء.. وكنا نتوقع أن تكون تكملة الآية الكريمة
وهو سبحانه وتعالى يحدثنا عن قوم نوح أن يقول جلّ علاه:
(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ) .. حَمَلْنَاهُمْ..فلقد أنجاهم الله سبحانه وتعالى بفضله هو وليس لهم من الأمر شيئاً
ولكنه سبحانه وتعالى قال:( حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ)..
ليكون قانونا بعد ذلك نجاة المظلومين بقدرة الله سبحانه وتعالى في مواجهة الظالمين..
فالله سبحانه وتعالى حمل أهل مصر في الجارية..في سفينة النجاة..بعد ان أمسك بالرئيس الفرعون وولديه وكل الطغاة والملأ والصفوة فأذلهم وأحنى رقابهم..
(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُحَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)الحاقة:11 ـ 12
ويبقى على كل من في الجارية ان يحافظ عليها.. فهل حفظنا عليها؟..
بنظرة واحدة على الساحة نجد أن الكل قد رفع الأحذية.. وادعى البطولة وانه هو الذي أقام الثورة وكان له الفضل في حملنا في الجارية..
http://www9.0zz0.com/2013/01/30/06/650166931.jpg
كل جماعة وكل فئة لعبت دور ( اندي جارسيا STARmeter
Down 13 this week
[COLOR=window************************]View rank on IMDbPro[/COLOR] »
Andy Garcia ) البطل الصعلوك الذي رفع الحذاء ..فلقد سرق مجهود البطل الحقيقي ( داستن هوفمانDustinHoffman)..
فماذا نقول اليوم
مصر إلي أين؟
سؤال لم يكن طرحه , ممكنا في بدايات الثورة حيثالإجماع علي هدف أساسي هو إسقاط النظام لكن كثيرين في مصر
يجدون أنفسهم اليوم مضطرين لطرحه وليس ذلك لأن الآمال والرهانات علي المستقبل زادت؟؟
بل لأن صدام الخيارات دخل مرحلة خطيرة, وهي مرحلة يختلط فيها ما هو ضروري بما هوضار!..
الضروري هو النقاش حول شكل الدولة التي يجب أن تكون نقيض النظام الشمولي أوما يسمي الدولة الفرعونية التي هي دولة أمنية.
والضار هو أن يتحول الانقسام بينالقوي التي تحررت بسقوط الرئيس المخلوع إلي ما يهدد إكمال الثورة التي لم تسقط النظام بكامله,
مما يجعل بناء الدولة عملية عودة إلي الوراء عبر الصدام بين التيارات الليبرالية والإسلامية.
لقد كان سوء التفاهم في البداية أن الطرف الذي بدأ الثورة قد تصور أن ثورة25 يناير هي نوع من القطع مع أخطاء الماضي
الذي تمثله ثورة23 يوليو وما انتهت إليه علي يد الرئيس الساقط حسني مبارك اقله خلال السنواتالأخيرة..
والطرف الآخر وقعت السلطة في يده علي أساس أنه حمي الثورة من دون أن يشارك فيها ورأى في ثورة25 يناير نوعا
من إكمال أو تصحيح ثورة23 يوليو.
والنتيجة الطبيعية لسوء التفاهم والخطأ هي اتساع الخلاف بين القيادات الليبرالية واليسارية من جهة والإسلامية من جهة أخري..
الأولي ظلت تطالب بأولوية الدستور الجديد, والثانية تحصنت بالاستفتاء رافضة الفكرة, وقد وجد عدد من المفكرين مخرجا وسطا
سموه صوغ مبادئ حاكمة للدستور تلزم الهيئة التأسيسية المفترضة التي ينتخبها المجلس النيابي الجديد بان تسترشد بهذه المبادئ
خلال صوغ الدستور خوفا من أن تسيطر فئة واحدة علي المجلس النيابي, وبالتالي على صنع الدستور, لكن التيارات
الإسلامية رفضت الفكرة التي تحمس لها المجلس العسكري, محتجة بان ذلك يشكل وصاية على الشعب الذي وافق
على التعديلات الدستورية بأكثرية77% وعلى المجلس النيابي العتيد.
في النهاية ليس هناك ـ حتى الآن ـ جواب قاطع عن سؤال مصر إلي أين؟!..
لماذا قامت الثورة؟؟..
ووسط الأحداث المتلاحقة والتغيرات المتتالية على الصعيد السياسي داخل بلادنا مصر..نقول:
هل كان لدي الكثير منكم وقت وعقل ليوقف عجلة الزمن قليلا ويرجع بشريط الذكريات ومشاهد الثورة علي الظلم والفساد
منذ بدايتها في 25 ينايرويستعرض مع نفسه قائمة المطالب التي رفعها الشعب في بدايةالأمر من حرية وعدالة اجتماعية والقضاء
علي الفساد إلي أن وصل إلي مطلب تنحي مبارك عن الحكم..
هنا بعض المطالب ما تم تحقيقها وعلي رأسها تنحي حسني مبارك عن رئاسة الجمهورية والبعض الأخر من المطالب ذهب مع الريح..
فمع تنحي مبارك عن الحكم حتى انطلقت الأفراح والاحتفالات بميدان التحرير وما هي إلا ساعات حتى تم إخلاء الميدان بالكامل
مع نظافته وعودة الميدان إلي شكله الطبيعي المعتاد..فاستحق المصرين احترام العالم أجمع..
ولكن هذا ليس كل شيء..
فليس معنى تنحي مبارك عن الحكم أنها ثورة ناجحة..
الأهم هو ماذا حققت هذهالثورة؟؟؟؟
أو لماذاقامت الثورة لكي نحقق أهدافها؟؟؟؟..
تعالوا نناقش أساسيات ومبادئ الثورة التي طالب بها الشعب في بادئ الأمر..
بخلاف الحرية والعدالة الاجتماعية كانت هناك مطالب أساسية ليس هناك من داعي لثورة كي يتم تحقيقها فهي يجب أن تحدث من زمان الزمن..
وهي.......
ازدهار الاقتصاد وانتعاش الصناعة والقضاء علي البطالة وتدفق الاستثمارات الأجنبية والاهتمام بالزراعة لأنها من أسس تقدم وحضارةالشعوب..
ولكن حدث غير المتوقع والمؤسف وهو دمار الاقتصاد بشكل كبير..
[/frame]
ولكن حدث غير المتوقع والمؤسف وهو دمار الاقتصاد بشكل كبير..
فإذا بالعديد من الأغنياء يخسرون أموالهم ومشروعاتهم ويسحبون استثماراتهم..
والفقراء يزدادون فقرا كل يوم والاقتصاد يرجع بنا للخلف ولا أحديعرف كيف نرجع الاقتصاد لما كان عليه خصوصا عدم تأثر
الاقتصاد المصري بالأزمة العالمية وأزمة الديون الأوربية قبل 25يناير..
........................
158
مصنعا تم غلقهم واحداً تلو الأخر في زمن قياسي..هذا الرقم يستحق أن يدخل مصر في الموسوعة العالمية للأرقام القياسيةجينيس..
أراضينا الزراعية الخصبة التي يوجد بها طمي النيل تتحول بقدرة قادر إلي حوائط خراسانية وطوب..
الاستثمارات الأجنبية والمستثمرين يهربون على أول طائرة تغادر أرض الوطن إلي أي مكان بعيدا عن مصر..
والمتضرر بالطبع ليس من يسمو نفسهم الثوار ولكن المتضرر هو المواطن الغلبان الذي وجد نفسه في يوم وليلة
لا يجد قوت يومه في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار..
ساعدنا الله سبحانه وتعالى على قيام الثورة................
حتى نقضي على العشوائيات والجريمة ونزيد الأمن ونطبق شعار الشرطة في خدمة الشعب فإذا بالعشوائيات تصدر لنا البلطجية واللصوص
الذين يخطفون النساء في عز الظهر وعدم دعم الشرطة للقيام بواجباتها بل وإهانتهم بشكل مبالغ فيه..
لم ينئ الشارع المصري من هذه الكوارث فالسير عكس الاتجاه وارتفاع الأجرة وشتيمة ضباط المرور والصف الثاني أصبحت هي
السمة الأساسية للفوضى في الشارع المصري بوجه عام..
ساعدنا الله سبحانه وتعالى على قيام الثورة................
لكي نكسب احترام العالم أجمع علي أننا شعب متحضر ومتمسكين بحضارتنا ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن كما يقول المثل
فإذا بآثارنا العظيمة تسرق وتهرب للخارج ونقوم بحرق المجمع العلمي بشارع قصر العيني الذي يضم كتباً نادرة ومخطوطات
ذات قيمة نفيسة للغاية..وتدمير شوارعنا التي أصبحت في الحقيقة أشبة بساحة حرب.
ساعدنا الله سبحانه وتعالى على قيام الثورة................
لكي نضمن مستقبل أفضل لأولادنا في ظل التعليم المتخلف جدامنذ أيام محمد علي باشا مؤسس دولة مصر الحديثة..
ولكن الآن في ظل حالة الفزع والهلع نقرأ المصحف ونمسك السبحة رافعين الأيادي للمولي عز وجل أن يعيد الأبناء من المدرسة بسلام.
ساعدنا الله سبحانه وتعالى على قيام الثورة................
لمساندة الجيش المصري العظيم في حماية البلاد من الداخل والخارج فتحمل الجيش المصري الكثير من طاقته التي حدثت له بخلاف
طبيعة العسكرية المصرية الصارمة فتهريب السلاح من ليبيا والسودان والأنفاق علي حدود قطاع غزة التي تهرب منها الأسلحة والسيارات
المسروقة من مصر يبدو أنها وكالة من غيربواب..
ساعدنا الله سبحانه وتعالى على قيام الثورة................
لمساندة المجلس العسكري علي مساعدة مصر في التحول الديمقراطي فإذا بنا نتمرد علي جيشنا المصري وقيادته ونكيل لهم الاتهامات
فما معني يسقط حكم العسكر !؟؟ فإذا تخلي الجيش عن السلطة فمن يحكم مصر ؟..
هذا يأتي تنفيذا لمؤامرات خبيثة تهدف إلي ضرب استقرار مصر منالداخل و الخارج.
ساعدنا الله سبحانه وتعالى على قيام الثورة................
لكي نأتي برجل اقتصادي خبير يستطيع إنقاذ مصر من هذه الكارثة وتمت إقالة حكومة الفريق أحمد شفيق ولم ندعله أي فرصة للعمل..
فتم ترشيح الدكتور عصام شرف من قبل من يزعمون أنهم الشرعية الثورية من التحرير فحمل عصام شرف علي الأعناق في التحرير
كأنه فاتح عكا وخرج من منصبة خروج مهين بسبب التحرير أيضا..
تم ترشيح رئيس وزراء الفقراء الكفء دكتور كمال الجنزوري فلاقى إقبالاً شديداً من الشارع المصري ودعم كامل له فإذا
بمجموعة قليلة تعتصم أمام مجلس الوزراء رافضين دخوله مقر عمله..منهم هؤلاء حتى يعلنوا باسم الشعب المصري رفضهم للدكتور كمال الجنزوري؟!..
المعروف أن الاعتصام من الممكن أن يكون شرعي إذا لم يعطل المصالح ولاينتج عنه الفوضى
ولكن حدث الاعتصام في شارع قصر العيني أحد أهم الشوارع الرئيسية بوسط البلد الذي يوجد به العديد من المؤسسات
الحكومية الهامة والتي تعطلت..وأيضا علي أطراف شارع قصر العيني يوجد بنك باركليز العالمي المتخصص في مجالات الخدمات
البنكية والقابضة..خسارة خدمات بنك باركليز وفقدان البورصة للمليارات كل يوم سيبشرنا بمجاعة لا تقل عن مجاعة الصومال..
أليس هذاهو واقع حياتنا بعد الثورة ؟؟؟
كل هذه التساؤلات والأجوبة هي الحقيقة التي نجهلها حتى الآن..
وإن غفلنا عنها سوف ينطبق علينا الناموس العام ناموس التغيير الجاري على الأمم :
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)الأنفال:53
(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ
وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)الرعد:11
ويتحقق فينا النصف الثاني من الآية الكريمة: (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)..
(وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)الإسراء : 16
ندعوالله عز وجل أن يحمي مصر ويرحمنا برحمته..فنحن نحتاج لمعجزة حقيقية في زمن لايعترف بالمعجزات..ولكن تبقي إرادة الله ومشيئته
هي الحل وفوق كل شيء ..فالله وحده هو الوحيد القادر علي حماية أرض الكنانة وشعبها.
أتعرفون لماذا كل هذا التخبط؟..
لأننا في واقع الأمر نعيش في تخبط الإجابة عن السؤال الذي بدأت به دراستي هذه..من الذي أقام الثورة
من هو البطل الحقيقي الذي فجرها وأقامها..
ويبقى السؤال
من الذي له الفضل في إقامة الثورة
إنه الله سبحانه وتعالى وحده..
جمال يصلح من رابطة عنق أبيه قبل تسجيل خطاب التخلي عن السلطة
والسؤال هل هي رابطة عنق أم هي حبل المشنقة لفها النجل بيديه حول رقبة أبيه؟..
شاهدوا ورقة النتيجة المصرية ـ مطبعة الشمرلي ـ يوم تخلي الرئيس حسني مبارك عن السلطة..
http://www9.0zz0.com/2013/01/30/06/909800764.jpg
والدراسة التي بين يديك تشتمل على الموضوعات التالية
تمهيد
المقدمة
الفصل الأول: الدستور وفقه غياب المصطلحات
الفصل الثاني:شهادتي للتاريخ
الفصل الثالث:مصادر التشريع الإسلامي مفاهيم يجب أن تصحح
الفصل الرابع:الدولة المدنية والدولة الدينية
الفصل الخامس:الأقليات غير مسلمة في الدولة المدنية الإسلامية
الفصل السادس:مبادئ نظام الحكم في الإسلام
الفصل السابع:المبادئ والنظريات
المطلب الأول:من مبادئ نظام الحكم في الإسلام مبدأ المساواة
المطلب الثاني :من مبادئ الشريعة الإسلامية العامة:مبدأ الحرية
المطلب الثالث:من مبادئ الشريعة الإسلامية العامة:مبدأ الشورى
الفرع الأول:الشورى كمبدأ من مبادئ نظام الحكم في الإسلام
الفرع الثاني:نظام الحكم الإسلامي بين الشّورى والديمقراطية
المبحث الأول:المقصود بالديمقراطيّة في المجتمعات المعاصرة وعلاقة ذلك بأصولها الفلسفيّة
المبحث الثاني; حقيقة الشّورى في النظر الإسلامي وأدلتها وتطبيقاتها
المبحث الثالث:الحكم على الصيغ الديمقراطيّة من وجهة نظر إسلامية
المطلب الرابع:من مبادئ الشريعة الإسلامية العامة:مبدأ العدل
المطلب الخامس:من مبادئ الشريعة الإسلامية العامة:مبدأ السيادة العليا Sovereignty
ونظرية تقييد سلطة الحاكم
الفرع الأول: مسألة السيادة المدنية للشعب المسلم على دولته
الفرع الثاني: أساس سلطان الحاكم في الدولة الإسلامية
الفرع الثالث: نظرية تقييد سلطة الحاكم
الفصل الثامن:ماذا عن تطبيق الشريعة الإسلامية الآن، وليس قبل الآن
هذا والله ولي التوفيق
زهدي جمال الدين
مقدمة
إن السير بموجب تنظيم الشريعة الإسلامية والوقوف عند حدودها والالتزام بأحكامها يؤدى إلى السعادة
الحقة في الدنيا والآخرة لان الهدى محصور فيها وغير موجود في غيرها قال تعالى (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى )النجم:24 ..
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا )النساء:١٧٤
ورفض الاهتداء بهدى الشريعة الإسلامية والانحراف عن مناهجها وقواعدها في السلوك وعصيان أوامرها يؤدى ذلك كله
قطعا إلى الشقاوة والحياة التعيسة ونزول العقاب بالرافضين المنحرفين
وعقاب العصاة في الشرع الإسلامي للعصاة المنحرفين عن مناهجه وأحكامه نوعان:
النوع الأول:عقاب أخروي يتولاه الله جل جلاله في الآخرة (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ
بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ آل عمران..
والعقاب الأخروي هو الأصل في الشريعة الإسلامية لأنه يتم بعد انتهاء مدة الامتحان وإتمام الإنسان رحلته على الأرض
وطي صحيفة أعماله.ثم تقويم هذه الأعمال من قبل رب العالمين ثم محاسبة الله للناس في الآخرة على أساس هذا التقويم لهذا سميت
الآخرة بيوم الدين أي يوم حساب , وبالتالي ينال المحسن ما يستحقه من ثواب وينال المسئ ما يستحقه من عقاب.
النوع الثاني:عقاب دنيوي وهذا النوع قسمان:
القسم الأول:عقاب جرت به سنة الله الكونية ويقوم على قانون السبب والمسبب وربط النتائج بالمقدمات ويصيب الأفراد والجماعات
في حالة انحرافهم عن شرع الله ويأخذ هذا النوع من العقاب أشكالا مختلفة .فقد يكون بالهلاك للأمة أو بتشتت كلمتها وتسليط
الأعداء عليها أو بضرب المهانة والذلة عليها أو بإصابة الناس بالضنك أو الخوف أو القلق ونقص في الأموال والأنفس
والثمرات أو بغير ذلك من إشكال العقاب وأنواعه.
وقد أشار القران في كثير من آياته إلى سنته الثابتة في هذا النوع من العقاب من ذلك:
ا.سنة الله التي قد خلت من قبل (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا( 44 ) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا
مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا
( 45 ) )فاطر: 44 ـ 45
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ *هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ *
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (.آل عمران:137 ـ 140
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ).غافر: 82 ـ 85
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ
اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ *ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ)غافر:21 ـ 22
فسنة الله لا تتبدل ولا تتغير في المنحرفين عن شرعه يصيبهم الدمار وهو من عقاب الله الذي جرت به سنته الكونية في الناس
القائمة على ربط السبب بالمسبب والمقدمة بالنتيجة ولا يمكن أن يتخلف هذا القانون أو يتعطل وإنما تتأخر النتيجة لمانع
ب.( وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا )الكهف : 59
وقال تعالى: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ( النمل: 52ـ 53
فشيوع الظلم في جماعة سبب لهلاكها.
ج.إن الفرقة والاختلاف عذاب وعقوبة من الله عز وجل للأمة حينما تعصيه, أما الاجتماع والائتلاف فهو رحمة بالأمة ونعمة من الله على عباده المؤمنين.
لقد أمر الله عباده المؤمنين أن يلزموا الجماعة ويلتزموا السمع والطاعة, وبين سبحانه أن النجاة تكون بالتمسك والاعتصام
بحبله سبحانه الذي هو الجماعة .كما قال سبحانهواعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَاللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً
فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْفَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَالنَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).
(وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)آل عمران : 103..
ومتى ما عملت الأمة بأمر الله وأمر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاشت بخير واستطاعت أن تبلغ دينها وتعلي كلمته
واستطاعت أن تقود البشرية إلى كل خير في الدنيا والآخرة.
والمتأمل للقرون الماضية في تاريخ الأمة الإسلامية يجد هذا الأمر جلياً واضحاً أنه متى ما تمسكت الأمة بكتاب ربها وسنة نبيها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
واجتمعت على الحق وائتلفت قلوبها قويت هذه الجماعة وسادت وقادت وهذا رحمة من الله بها وما إن تدب الفرقة في
صفوف الأمة وتتخلى عن بعض ما أمرت به وتتهاون في تطبيق سنة نبيها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تضعف وتهون وتصبح لقمة سائغة في
أيدي الأعداء وما ذاك إلا لأن الجماعة رحمة من الله بالأمة أما الفرقة فهي عذاب وعقوبة من الله عز وجل يعاقب بها الأمة حينما
تعصيه ففي الحديث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ).
وفي الحديث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (سألت ربي ثلاثا فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة, سألت ربي أن لا يهلك
أمتي بالسنة فأعطانيها, وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها, وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها) .
وفي الحديث عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنه قال: (لما نزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا
قال : أعوذ بوجهك. أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قال أعوذ بوجهك. فلما نزلت: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ
قال: هاتان أهون أو أيسر).
قال علي بن خلف بن بطال رحمه الله: "أجاب الله دعاء نبيه في عدم استئصال أمته بالعذاب ولم يجبه في أن لا يلبسهم شيعا أي
فرقا مختلفين وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض أي : بالحرب والقتل بسبب ذلك وإن كان ذلك من عذاب الله لكنه أخف من الاستئصال وفيه للمؤمنين كفارة.
ويقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قوله: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً قال: الأهواء والاختلاف" وقال في قوله: وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ قال:
يسلط بعضكم على بعض بالقتل والعذاب.
وكما بين الله عز وجل فيما مضى من نصوص أن هذه الفرقة عقوبة وعذاب امتن الله عز وجل على المؤمنين بتأليف قلوبهم
وذكرهم نعمته عليهم بأن جمع شملهم ووحد كلمتهم بهذا الدين العظيم وبقيام الأخوة الإيمانية بينهم وقد كانوا في جاهلية وشر
وكفر بالله عز وجل وفرقة لا يعلمها إلا الله فجاء الله سبحانه بدينه ونبيه وجمع بينهم, وفي هذا تنبيه للمسلمين على أهمية الجماعة
وأنها من نعم الله العظمية وآلائه الجزيلة, وفيه تنفير من الفرقة التي هي عقوبة وعذاب.
وفي قول الله عز وجل: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم
بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) آل عمران: 103.
يقول الطبري في تأويل قوله سبحانه: (وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) يقول:
"واذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم التي أنعم بها عليكم حين كنتم أعداء أي: بشرككم يقتل بعضكم بعضا عصبية في غير طاعة الله،
ولا طاعة رسوله فألف الله بالإسلام بين قلوبكم فجعل بعضكم لبعض إخوانا بعد إذ كنتم أعداء تتواصلون بألفة الإسلام واجتماع كلمتكم عليه
وعن قتادة بن دعامة السدوسي قوله: " كنتم تذابحون فيها يأكل شديدكم ضعيفكم حتى جاء الله بالإسلام فآخى به بينكم
وألف به بينكم أما والله الذي لا إله إلا هو إن الألفة لرحمة وإن الفرقة لعذاب
وأما قوله: " فأصبحتم بنعمته إخوانا" فإنه يعني فأصبحتم بتأليف الله عز وجل بينكم بالإسلام وكلمة الحق والتعاون على نصرة
أهل الإيمان والتآزر على من خالفكم من أهل الكفر إخوانا متصادقين لا ضغائن بينكم ولا تحاسد. وقال رجل لعبد الله بن مسعود:
كيف أصبحتم؟ قال: أصبحنا بنعمة الله إخوانا نعم هذه صفة الجماعة المسلمة وحال أفرادها:
متحابين بجلال الله متواصلين في ذات الله متعاونين على البر والتقوى
ولقد نصر الله عز وجل نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنصره المؤزر وبالمؤمنين المجتمعين على طاعة الله وطاعة رسوله وهذا مما
امتن الله به على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنعم الله به على المؤمنين إذ يقول الله تعالى: (وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ
اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ
وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )الأنفال:62-63بالألفة والمحبة بين المسلمين وبرباط الأخوة الإيمانية تتحد الجماعة المسلمة
وتقوى وتسود لتنشر هذا الدين العظيم.
وأما إذا نزعت ورفعت هذه الألفة حل محلها العداوة والبغضاء ودبت الفرقة والخصومات بين الناس وضعفت الجماعة الإسلامية
وعاشت العذاب بالفرقة إلا أن يرحمها ربها بالجماعة
فالفشل وذهاب القوة نتيجة للنزاع وعصيان أوامر الله ورسوله.كمان أن التفرق وعدم الاعتصام بشرع الله يؤديان إلى العذاب
وفى الحديث الشريف(الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ).
د.(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً *
قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) طه: 124 ـ 125 فالمعيشة الضنك بمختلف أشكالها وأنواعها سواء
كان الضنك ماديا أو معنويا يصيب الأفراد والجماعات في حالة انحرافهم عن ذكر الله أي عن شرعه.
ﻫ. وفى الحديث الشريف عن النبي صلى الله علية وسلم حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ ح وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ
أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ
كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ
يَدَهَا وَفِي حَدِيثِ ابْنِ رُمْحٍ إِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)صحيح مسلم ـ كتاب الحدود ـ بَاب قَطْعِ السَّارِقِ الشَّرِيفِ وَغَيْرِهِ
وَالنَّهْيِ عَنْ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ ـ حديث رقم 1688
فالمحاباة في إقامة الحدود وعدم المساواة أمام القانون سبب لهلاك الجماعة.
ويلاحظ أن هذا النوع من العقاب الدنيوي لا يرفع العقاب الأخروي عن مستحقيه وان أصابهم العقاب في الدنيا بمقتضى
سنة الله الكونية وللاعتبار والاتعاظ.قال تعالى : (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى
وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. )يوسف:111.
القسم الثاني :من العقاب الدنيوي ويشمل العقوبات التي نصت عليها الشريعة الإسلامية وأمرت ولاة الأمور بتنفيذها بحق
المخالفين لأحكامها بارتكاب ما حرمته أو ترك ما أوجبته أي بارتكابهم ما يعتبر جريمة في الشريعة ,
مثل قطع يد السارق في السرقة والقصاص في القتل العمد وهكذا.
1-أنها لا تمنع الأخروي عمن أقيمت علية,لأن العقاب الأخروي يرفع بالتوبة النصوح لا بإقامة العقوبة الدنيوية ،قال تعالى
إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ
مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)المائدة : 33.
وجاء في الحديث الشريف أن السارق إذا تاب سبقته يده إلى الجنة وان لم يتب سبقت يده إلى النار )فالسارق لا ترفع عنه العقوبة
في الآخرة وان عوقب في الدنيا إلا إذا تاب توبة نصوحا .
2-أن تشريع هذه العقوبات هو من مظاهر شمول الشريعة الذي هو من خصائصها.
والأساس الذي تقوم عليه العقوبات الشرعية هو الأساس الذي تقوم علية الشريعة الإسلامية لان العقوبات الشرعية جزء من الشريعة
وجانب منها والشريعة الإسلامية متماسكة الجوانب منسجمة الأجزاء لا تنافر بينها ولا تضاد.تقوم على أساس واحد نجده
في قوله سبحانه (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )والرحمة تقضى إيصال المنافع أو المصالح ودرء المفاسد والأضرار عنهم قال الفقيه العز ابن عبد السلام
إن الشريعة كلها مصالح إما درء مفاسد أو جلب مصالح) .
وما شهدت له الشريعة بالصلاح والنصح فهو المصلحة قطعا وما شهدت له بالفساد فهو المفسدة قطعا والخروج من هذا الميزان يعنى
إتباع الهوى (يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله).
والحق هو ما انزل الله فليس هناك إلا الحق أو الهوى والحق هو ما شرع الله لعباده وما عداه هو الهوى والهوى باطل وفية الفساد
والضرر للناس, فالمصلحة إذن في إتباع ما انزله الله لعباده وهجر ما سوى ذلك.
ومصالح الناس الحقيقية وتتمثل في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
والشريعة الإسلامية تصل إلى مقصودها في حفظ هذه المصالح الضرورية للناس عن طريق إصلاح الفرد إصلاحا من داخل
نفسه على أساس العقيدة الإسلامية وأصولها القائمة على الإيمان بالله ومراقبته وخشيته ودوام الاتصال به،وجعل الإنسان في إحساس
دائم بان الله يراه ويعلم ما توسوس به نفسه وما ترتكبه جوارحه وان خفي أمره على الناس وان الله تعالى يحصى علية أعماله
ويحاسبه عليها يوم القيامة فلا فائدة من إفلاته من عقاب الدنيا ومحاسبة الناس مادام ذلك لا ينجيه من المسئولية أمام الله ثم يترقى
به الحال في إصلاح الفرد على أساس العقيدة الإسلامية فلا يقف عند حد منزلة الخوف من الله بل يتجاوزها أو يقرن معها مرتبة
المحبة لله وما يترتب عليها من المسارعة إلى طاعة الله وعدم عصيانه.
ولا شك أن هذه التربية للفرد القائمة على أساس العقيدة الإسلامية ستجعله مطواعا لفعل الخير كارها لفعل الشر بعيدا عن مخالفة
الشرع وارتكاب محظوراته وفى هذا اكبر ضمانة للمحافظة على المصالح الضرورية له وللناس .
وبالإضافة إلى إصلاح الفرد تعنى الشريعة الإسلامية عناية كبرى بإصلاح المجتمع وطهارته وإزالة الفساد عنه.
ومن هنا جاء الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ولا شك أن المجتمع الطاهر النقي يساعد كثيرا على إتمام عملية إصلاح الفرد
ويساعد كثيرا على منع وقوع الإجرام وما يترتب علية من فوات مصالح المجتمع والأفراد.
فإصلاح الفرد من داخل نفسه وإصلاح المجتمع هما الدعامتان الكبيرتان اللتان تستند إليهما الشريعة في تحقيق المصالح للناس ودفع المفاسد عنهم.
ولكن مع ذلك كله تبقى بعض النفوس ضعيفة لا ينفع معها منهاج الإسلام في الإصلاح والتقويم فتطلع إلى الإجرام
والاعتداء على الآخرين وتفويت مصالحهم الضرورية.لذلك كان لابد من منهاج أخر لإصلاح الأفراد فكان تشريع
العقوبات في الشريعة الإسلامية فأساسها إذن هو ذات الأساس الذي قامت علية الشريعة الإسلامية كلها وهو الرحمة بين
الناس وصدق الله العظيم إذ يقول في محكم كتابه وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)..
سيذكر التاريخ لرئيس الجمهورية محمد أنور السادات أنه في عهده قد تم تقنين الشريعة الإسلامية وجعلها المصدر الرئيس
للتشريع كما هو منصوص عليها في المادة الثانية من الدستور..والتي تنص على:
مادة2: الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعةالإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع.
حيث أنه قد وافق المجلس على تشكيل خمس لجان وكان بين هذه اللجان الخمسة لجنة لتقنين الشريعة الإسلامية وعملت
هذه اللجنة أربعين شهراً أي ثلاث سنوات ونصف حتى أتمت المشروع..
ولكن المنية واتته قبل تجهيز المجتمع للتطبيق..
وسيذكر التاريخ أن رئيس الجمهورية المخلوع محمد حسني مبارك هو الذي قام بحجب التطبيق وتعطل العمل بالمبادئ..
وسيذكر التاريخ للرئيس الحالي محمد مرسي أنه قام بإعادة بعث القوانين لتخرج من الأدراج لتصبح نافذة المفعول..
ولا يحق لأي فرد في الجمعية التأسيسية لوضع مشروع الدستور والذي تمت الموافقة عليه
في يوم الجمعة الموافق 16 من المحرم 1434 هجرية الموافق 30 من نوفمبر 2012 ميلادي الادعاء بأن له اليد العليا وراء التقنين...
والذي حدث هو أنه تم تعديل بعض المواد داخل الدستور لتتناسب مع المرحلة الجديدة بعد الثورة والتي قامت في يوم الثلاثاء الموافق 25 يناير 2011م..
فمثلاً ينص الدستور المصري في مواده الخاصة بالحريات على أن:
المادة 1: جمهورية مصر العربيةدولة نظامها اشتراكي ديمقراطي يقوم على تحالف قوى الشعب العاملة. والشعب المصري جزءمن
الأمة العربية يعمل على تحقيق وحدتها الشاملة.
فمثلاً ينص الدستور المصري في مواده الخاصة بالحريات على أن:
المادة 1: جمهورية مصر العربيةدولة نظامها اشتراكي ديمقراطي يقوم على تحالف قوى الشعب العاملة. والشعب المصري جزء
من الأمة العربية يعمل على تحقيق وحدتها الشاملة.
نجد أنه في الإعلان الدستوري الجديد تم تعديل هذه المادة إلى التالي:
المادة 1: جمهورية مصر العربية دولة مستقلة ذات سيادة موحدة لا تقبل التجزئة، ونظامها ديمقراطي.والشعب المصري جزء من
الأمتين العربية والإسلامية، ويشارك بإيجابية في الحضارة الإنسانية.
لماذا لأنه مستحيل وجود نظام يجمع ين فكرين متناقضين الفكر الاشتراكي والفكر الديمقراطي في آن واحد ثم نقول أن مبادئ
الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس لتشريع في المادة رقم 2..قمة التناقض وهو ما تم الانتباه له وتصحيحه.
مادة2: الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعةالإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع...
هذه المادة تم تعديلها في الدستور حيث كانت تنص على:
مادة2:الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، والشريعةالإسلامية مصدر من مصادر التشريع...
وفارق كبير بين أن تكون (مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع)..وبين أن تكون (الشريعة الإسلامية مصدراً من مصادر التشريع)..
لقد تم تعديل المادة في عصر السادات للتوائم مع مشروع التقنين..وقامت اللجنة المشكلة في الجمعية التأسيسية لوضع
مشروع الدستور في عهد الرئيس مرسي بالإبقاء عليها كما هي.. لأنه طبقاً لهذه المبادئ تم إعادة صياغة القوانين الوضعية
لتتناسب مع النص الدستوري الجديد وذلك في عهد الرئيس السابق محمد أنور السادات حيث اتخذ مجلس الشعب
في 17 من ديسمبر سنة 1978م قراره بالبدء في تقنين الشريعة وتم الانتهاء منها والموافقة عليها في جلسته المنعقدة في 20 يونيو 1982
كما هو وارد في مضبطة الجلسة السبعين ( دورة الانعقاد العادي الثالث من الفصل التشريعي الثالث) المعقودة بتاريخ الأول من يوليو 1982م.
وعليه لا يوجد فضل لأي عضو من أعضاء اللجنة التأسيسية لوضع الدستور حول المادة الثانية..وليس من حق أي عضو
أو جماعة أن تدعي البطولة أمام أتباعها بأنهم هم حماة الشريعة الإسلامية..
http://www6.0zz0.com/2013/01/30/13/228033686.jpg
ولقد ناقشنا من ناقشنا وجادلنا من جادلنا في حدود المتاح من دائرة النقاش..ولكن أصحاب الفضائحيات كان لهم قسبة السبق
بالترويج لأرائهم وحدث لغط كبير في المجتمع يتحمل وزره كل من شارك فيه..
وسبب اللغط للأسف الشديد كان مبعثه تصريحات خطيرة أدلى بها الدكتور ياسر برهامي نائب رئيس الدعوة السلفية مؤداها أن
الدستور يشمل قيوداً غير مسبوقة تخص الشريعة.
هذه التصريحات أثارت جدلاً واسعاً داخل كافة المؤسسات.. وأنه هو الذي كان من وراء وضع نص البند الثاني من الدستور
والذي تم شرحه فيما بعد بالمادة رقم219 من الدستور تحت عنوان أحكام عامة من الفصل الثاني من الباب
الخامس ص 61 المعنون بـ (الأحكام الختامية والانتقالية )والتي تنص على:
(مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية من مصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة)..
فلقد جاء في منطوق المادة الحديث عن مبادئ الشريعة الإسلامية..وعليه فما الدعي لذكرها في الصفحة قبل الأخيرة (ص61)
وقد ذكرت تحديدا في الصفحة الأولى من الباب الأول ـ الفصل الأول تحت عنوان (المقومات السياسية)
والتي تنص على التاليالإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية. ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع)..
الفيديو الموجود على موقع «أنا السلفي» http://www.youtube.com/watch?v=YFl2ohdHEHc
قال فيه: «إن هيئة كبار العلماء فسرت مبادئ الشريعة أنها تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية وأنه طلب
إضافة كلمة و«مصادرها»، مضيفا «النصارى والعلمانيون مش كانوا فاهمين» وأنه طلب بعد ذلك حذف كلمة الكلية
ووضع «مصادرها» المعتبرة على مذاهب أهل السنة والجماعة».
http://www6.0zz0.com/2013/01/30/13/144091907.jpg
وأضاف برهامي قائلاً: «إن الورقة التي وقع عليها 36 شخصاً من النصارى والليبراليين والأزهر،كان بها عدم قابلية شيخ الأزهر للعزل،
حتى تمرر المادة الحاكمة للدستور وهى المادة الثانية، وهذا أفضل من مادة الشريعة وحدها»، و أنه في الجلسة المغلقة طرح عزل شيخ الأزهر،
فهاج ممثلو الأزهر، لذلك تغاضينا عنها، حتى لا يهيج علينا الشارع، لكن بعد تشكيل هيئة كبار العلماء،
ووضع القانون يمكن أن نعزل شيخ الأزهر بالقانون».
يذكر أنه رداً على هذه التصريحات فإن الأزهر قد دعا إلى اجتماع لبحث التصريحات التي أدلى بها القيادي السلفي حول عزل شيخ الأزهر
وتحفظاته على المادة الثانية للدستور والمادة الشارحة لها
وعرفنا فيما بعد أنه دارت معركة حامية داخل اللجنة بسبب التوقيع على هذه المادة تحديدا..حيث أنه قد ذُكر أن
المقصود بـ (أهل السنة والجماعة) أي السلفية و جماعة الإخوان المسلمين..
في الوقت نفسه اتهمت الكنائس المصرية برهامى، بـ«الغش والتدليس» وارتكاب جريمة تستوجب المحاكمة، بعد أن تفاخر في
كلمته بخداع ممثلي الكنائس في الجمعية التأسيسية للدستور، ومهاجمة بابا الكنيسة.
وحقيقة الأمر غير ذلك..ولا حول ولا قوة إلا بالله..
مادة 3: مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيس للتشريعات المنظِّمة لأحوالهم الشخصية وشئونهم الدينية, واختيار قيادتهم الروحية.
وفي الباب الثاني من الدستور تحت عنوان: الحقوق والحريات
المادة 40:المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييزبينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة.
وتم تعديلها في الدستور الجديد كالتالي:
المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييزبينهم في ذلك.
المادة 46:تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية.
تم تعديلها كالتالي:
المادة43: حرية الاعتقاد مصونة..وتكفل الدولة حرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة للأديان السماوية, وذلك على النحو الذي ينظمه القانون.
المادة 47 :حرية الرأي مكفولة،ولكل إنسان التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير في
حدود القانون، والنقد الذاتي والنقد البناء ضمان لسلامة البناءالوطني.
ولكن في الدولة الدينية التي لا تُحترم فيها الأقليات العقائدية ولا حريةالاعتقاد ولا المواثيق الدولية ولا الميثاق العالمي لحقوق الإنسان
ويأخذ التمييزوالإقصاء والاضطهاد أشكال عدة في الكم وفي الكيف إلى أن يصل إلى التمييز بين مذاهب الدين الواحد.
فتطبيق المادة الثانية من الدستور المصري يحمل تبعيات ونتائج وهي :
أولاً: تلزم المشرع بالالتجاء إلى أحكام الشريعةالإسلامية للبحث عن بغيته فيها مع إلزامه بعدم الالتجاء إلى غيرها.
ثانياً: إن لميجد في الشريعة الإسلامية حكماً صريحاً فإن وسائل استنباط الأحكام من المصادرالاجتهادية في الشريعة الإسلامية
تمكن المشرع من الوصول إلى الأحكام التي يريدوضعها في القانون بحيث لا تخالف الأصول والمبادئ العامة للشريعة الإسلامية.
وعليه فمبادئ الشريعة الإسلامية ( المادة الثانية من الدستور) هي عبارة عن صياغة قوانين الدولة طبقاً لمقاصد الشريعة الإسلامية..
ومن ثم فإن المعركة التي قام بها السلفيون داخل اللجنة والتي يريدون من خلالها عدم الاعتراف بالمبادئ ولكن بالأحكام.
تنبئ عن عدم فهم للقضية والخلط بين أحكام الشريعة الإسلامية.. ومبادئ الشريعة الإسلامية..ومقاصد الشريعة الإسلامية..
والسؤال: كيف يطالبون بأحكام الشريعة الإسلامية بدلاً من مبادئ الشريعة الإسلامية وهم الذين يدعون بان لهم اليد الطولى في المادة الثانية من الدستور؟...
وظهرت العناوين الرئيسية في الصحف اليومية تقول: الخلافات بدأت على مواد الدستور..
http://www6.0zz0.com/2013/01/30/13/659849242.jpg
وفهم الشعب أن الذي صاغ مواد الدستور هم الإخوان والسلفيون..وأن الدستور يسعى لأخونة الدولة..أو لأسلفتها..
وأصبح كل فرد في المجتمع فقيه دستوري..وحدثت الفرقة وانقسم المجتمع..
معنى الدستور( constitution):يثير فقهاء القانون الدستوري جدلا طويلا حول المذهب الموضوعي – والمذهب الشكلي في
معني القانون الدستوري. وليس يعنينا هنا أن نعالج هذه القضية بتفصيل، وإنما يعنينا منها القدر الذي يتعلق بموضوعنا،
فالدستور ـ على أي حال ـ هو القانون الأساسي في دولة ما ـ هو قمة التنظيم القانوني في أي دولة.
ولا يتصور وجود قاعدة قانونية تسمو على الدستور وإنما يتصور العكس بمعني سمو الدستور على كل قواعد القوانين الأخرى.
والدستور يتعلق بتنظيم الدولة باعتبارها مؤسسة المؤسسات السياسية أوالمؤسسة ألام لكل المؤسسات داخل الدولة من حيث كيفية تكوينها
واختصاصها وكيفية مباشرتها لهذه الاختصاصات وحدود وضوابط هذه الاختصاصات، كذلك علاقة سلطات الدولة ببعضها،
وعلاقتها بالمواطنين، كذلك فان الدستور لابد وان يعني بحقوق المواطنين فيم واجهة السلطات العامة وكيفية حماية هذه الحقوق .
هذا هو المعني العام الموجزللدستور .
وإذا استرجعنا المفهوم الواسع الدستور. . فإننا سنري انه هو الذي يضم القواعد الأساسية التي تحددسلطات الدولة واختصاصها،
وعلاقاتها بالأفراد.. ومن ثم فان الرقابة علي دستورية القوانين لابد وأن يتولاها قضاء دستوري متخصص..وهو ما يعرف بالمحكمة الدستورية العليا.
فموضوع القضاء الدستوري والرقابة علي دستورية القوانين مهم جداً لأننا لا نستطيع إلا أن نتوقف عند الوثيقة الدستورية،
وكل نص ورد فيها فهو نص دستور بصرف النظر عن موضوع الحكم الذي يتضمنه ذلك النص. وكل نص لم يرد في الوثيقة الدستورية
فانه لا تنسحب عليه الحماية التي قررها الدستور عندما يقرر رقابة دستورية القوانين.
المعيار إذن هو الوثيقة الدستورية: أو كل نص يأخذ حكمها ومرتبتها ودرجتها..
هذا هو ما يقوله فقهاء القانون الدستوري ـ وقليل ما هم ـ وهم الذين يعدون الدستور ويقومون بصياغته في أي بلد من البلدان..
وليس أي مجموعة من الهواة أو الدعاة..
الفصل الأول
الدستور وفقه غياب المصطلحات
مقدمة
لا يخلو مجتمع، صغر حجم أفراده أو كبر، قلّ باعه في المدنية أو كثر، من شريعة وقانون ينظم مسيرة أبنائه، يسلك بهم سبل التعاون على الخير،
ويبين حدود كل واحد منهم، وما له من حقوق وما عليه من واجبات، ضمن منظومة مجتمعية حاكمة لها سلطة القانون،
وحتى في المجتمعات الصغيرة المتناثرة التي انقطع عنها حبل المدنية والحضارة، أو لم يصل إليها نور الشرائع روحها، فإنها تعيش
في إطار شبكة من الشرائع التي تبنتها على مدار الزمن ودونتها عقليات هذا المجتمع وان تدانت في المدنية من وجهة نظر الآخرين.
وتصاغ الشريعة في صورة قوانين ..والقانون، في السياسة وعلم التشريع، هو مجموعة قواعد التصرف التي تجيز وتحدد حدود العلاقات
و الحقوق بين الناس والمنظمات، والعلاقة التبادلية بين الفرد والدولة ؛ بالإضافة إلى العقوبات لأولئك الذين لا يلتزمون بالقواعدَ المؤسسة للقانون..
أي أن القانون لكي يمكن تطبيقه واحترامه يجب أن يتكون من قواعد واضحة ليس فيها لبس.. ولهذا السبب استقر الرأي في
كل الدول الحديثة أنه لا يتم سن أي قوانين إلا من خلال مجلس واحد وهو المجلس التشريعي المنتخب ولا يتم تعديله
إلا من خلال هذا المجلس.. ليكون القانون واضحا يسهل علي القضاة الحكم به.. ويسهل علي الدولة تطبيقه.. ويسهل علي الأفراد
حكاما ومحكومين احترامه.. واتفق ببساطة أن التشريع يعني سن القوانين..
وتقابل الشريعة أو القانون، اللاقانون والفوضى، حتى إذا ما أريد وصف الحالة الفوضوية المؤدية إلى خراب البلد، قيل في مثل
هذا البلد والمجتمع أن شريعة الغاب تحكمه وتتحكم في أفراده، في إشارة إلى الحياة السبعية في الغابات والأدغال، على إن الحياة السبعية هي
الأخرى تحكمها قوانين خاصة بها، وإلا لما أُطلق عليها شريعة الغاب، بل إن بني البشر في بعض الأحيان تسوقه الفوضى
والخراب إلى الدرجة التي يتفوق فيها في اللاقانون على سكان الغابة من الوحوش الكاسرة، فلا يصدق معه مفهوم شريعة الغابة،
ولا الشريعة المدنية، فيكون هو أقرب إلى شريعة القتل وهتك الحرمات منه إلى شريعة الغاب.
الدستور والجدل القائم حوله
في مشروع دستور جمهورية مصر العربية الصادر في يوم الجمعة 16 من المحرم 1434 هجرية الموافق 30 من نوفمبر 2012 ميلادية
والمعد بمعرفة الجمعية التأسيسية لوضع الدستور..ورد في مادته الثانية النص التالي:
(الإسلام دين الدولة, واللغة العربية لغتها الرسمية, ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع).
وفي مادته الثالثة:
(مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيس للتشريعات المنظِّمة لأحوالهم الشخصية, وشئونهم الدينية, واختيار قيادتهم الروحية).
ونظراً لأن عبارة (مبادئ الشريعة الإسلامية)عبارة عامة يندرج تحتها الفقه الإيباضي والقادياني والشيعي وهو ما يتنافي مع المادة الرابعة
من الدستور والتي تنص على أن الأزهر الشريف هو الجهة الوحيدة المنوطة بالتشريع..كان لابد من توضيح مفهوم المقصود
من عبارة(مبادئ الشريعة الإسلامية) وذلك في المادة 219 في الفصل الثاني تحت عنوان أحكام عامة ما نصه:
( مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة).
ونظرا لغياب فقه المصطلحات وجدنا بعضاً من قادة الجماعات المعتبرة يدلون بتصريحات تنم على عدم الفهم للمادة(219) والشارحة
للمادة الثانية فراحوا يرجون أن المقصود بعبارة (مذاهب أهل السنة والجماعة) الواردة في النص المقصود بها الجماعة السلفية
وجماعة الإخوان المسلمين..وأن الأزهر وافق عليها بعدما تم رشوة شيخ الأزهر في المادة الرابعة والتي تنص على دور الأزهر في التشريع
حيث ورد في المادة عبارة ( شيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل, ويحدد القانون طريقة اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء)..
يعني واحدة بواحدة..
هكذا قالوا في خطبهم ومحاضراتهم..وناقشناهم وجادلناهم..ولكن وسائل الإعلام قد أتاحت لهم مساحات أوسع
للتعبير عن آرائهم فحدثت الفتنة في مصر حول الدستور..
لأن المقصود بعبارة (مذاهب أهل السنة والجماعة)الواردة في نص المادة 219 يعرف المفهوم من وراءها طالب الصف الأول في المرحلة الإعدادية الأزهرية.
فأهل السنة يقصد بهم أهل الفقه على المذاهب الأربعة وأضيف إليهم الفقه الظاهري وذلك في مواجهة الفقه الشيعي والقادياني
وأن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم عدول فلا نسب منهم أحداً..
والمقصود بالجماعة..أي الأشعرية والماتردية في مواجهة فكر المعتزلة بقيادة واصل بن عطاء..ولا علاقة أبداً بالجماعة السلفية ولا الإخوان بهذه المادة نهائياً..
ومما زاد الطين بلة حينما أعلنت قيادات جماعة الإخوان أن الدستور جاهز في الأدراج ولن يحتاج إلى مدة كبيرة لصياغته..
الأمر الذي فهم منه أنهم هم الذين كانوا من وراء إعداد الدستور.. والحقيقة غير ذلك،الأمر الذي جعل المظاهرات
تخرج منددة للإعلان الدستوري..وانشق المجتمع نصفين..
نصف مؤيد للإعلان الدستوري وهو لا يفهم منه شيئاً..سوى الثقة في قيادته العالمة بما فيه..حدث ذلك حينما خرجت المظاهرات
تؤيد القارات الصادرة في الإعلان الدستوري وذلك في مواجهة المظاهرات المناهضة له..فلما نزلت القيادات على رأي
المعارضة وألغت الإعلان الدستوري خرجت نفس الظاهرات لتؤيد الإلغاء..شيئ مؤلم ومحزن..
ونصف أخر معارض للإعلان الدستوري وهو لا يفهم منه شيئاً.. سوى الكره للجماعات الإسلامية والتي فشل قيادتها في إدارة أزمة
صنعوها بأيديهم ولم يستطيعوا منها فكاكاً..
كيف؟..
دعوني أوضح لكم الخلط
http://www6.0zz0.com/2013/01/30/14/940085235.jpg
بالرغم من تمايز الشرائع ما بين شريعة سماوية وأخرى بشرية، فان قاسم الشرائع جميعها منصب على خلق النظام في صفوف
المجتمع الواحد أو الطائفة أو الأمة، ولكن ما يميز شريعة الإسلام الخاتم لجميع الأديان السماوية، عن غيره، أنها شريعة متكاملة
ومتطورة ومواكبة لتحولات العصور والدهور، ومنسجمة تماما مع ناموس الحياة والكون، لا يعجز الفقيه الحاذق من إيجاد الفتوى
والرأي الفقهي من بين ثنايا نصوص القرآن الكريم والسنّة الشريفة، للمرونة المتوفرة في الفقه الإسلامي والسعة القانونية
التي تتصف بها شريعة الإسلام، ما جعلها قائمة إلى يومنا هذا، وتنعقد عليها العشرات من الحكومات والإمبراطوريات،
وتتصدر المادة الأولى من دستور أية دولة، بغض النظر عن حجم التطبيق والممارسة.
ولبيان معالم التشريع الإسلامي ومصادره، وقراءة معرفية لأصوله لدى المذاهب الإسلامية المختلفة..
والفقه الإسلامي بمرونته وحيويته قادر على حلّ كل المشكلات مهما تجددت الحوادث وتشعبت مذاهب الحياة فيها،
وهذا يعود إلى طبيعة الشرع الإسلامي المتجدد بذاته، والى باب الاجتهاد المفتوح أمام الفقهاء العدول للبت في مستحدثات الحياة،
فيما لا نص فيه، قطعيا في صدوره كان أو ظنيا.
ولأن مصادر التشريع تشعبت بمرور الزمن، فكثيرا ما تلتقي المذاهب الإسلامية في أمور وتختلف في غيرها، وذلك لأن مصادر
التشريع بعد الكتاب والسنة لم تنتظم في سلك واحد لدى الفقهاء جميعاً، فمنهم من عمل ببعضها ومنهم من أخذ بغيرها.
فالتشريع هو الدين بنصه وحكمه وآياته وتنزيله.
وأما الفقه، فهو فهمنا للدين، وقدرتنا على إتباعه، والاستفادة من أدلته. فالفقيه إذن ليس مشرعا بذاته، وإنما فاهماً وشارحاً ومفسراً ومبيناً لأمور الشرع.
وهؤلاء الفقهاء وان استقلوا بفتاواهم أو علومهم، فإنهم يأخذون عن غيرهم من العلماء، ومن هنا كنت تجد العلماء
يعتمدون نصوص بعضهم ويتتلمذ الواحد منهم على الآخر، حتى قال الشافعي رحمه الله (كلنا عيال على أبي حنيفة)".
وصح تواتر القول عن الإمام أبي حنيفة النعمان: (لولا السنتان لهلك النعمان)، وهو بذلك يشير إلى السنتين اللتين جلس
فيهما يأخذ العلم عن الإمام جعفر بن محمد الصادق.
ولكن هل يصدق القول على كل من لبس العمة والجبة،أو من أطال اللحية وقصر الجلباب أنه دخل سلك الفقهاء وصار منهم؟.مستحيل..
إن الفقيه هو من أتقن علوم الدين من كتاب وسنة وتفسير وعقيدة ولغة، وأصبحت لديه الملكة المؤهلة للخوض والاجتهاد في أمور الدين..
وعلى هذا فيمكننا أن نحدد أن الفقيه من استطاع أن يستنبط الأحكام ليقرّب أمور الدنيا من أمور الدين، وجعل أمور الدنيا ومستجداتها
تدور في دائرة الشرع ولا تخرج عنها مستعينا بما يملك من إمكانيات ووسائل تعينه في ذلك.
إذن، فان مصالح الناس، هي محور عمل الفقيه واجتهاده.
إذن "مصادر التشريع" هي: "السبل التي يستخدمها المجتهد لاستنباط الأحكام الشرعية، ويعتمد عليها في الوصول إلى مبتغاه".
وبالطبع ليس الأحكام كلها، لأنه في الشريعة الإسلامية وربما في غيرها ثوابت ومتغيرات وإن شئت فسمّها بالساكن والمتحرك،
فهناك ضرورات لا تطالها يد الاجتهاد، وهي التي تشمل جميع الأحكام المبينة من المحكمات وما ورد فيه نص إلهي أو نص نبوي
أو نص إمام من الأئمة الأربعة، مما لا خلاف عليه فلا يمكن تعديه..
هذا هو الثابت من الشريعة وما تبقى خارج هذه الدائرة فهو المتحرك من هذه الشريعة، والمتغير من القانون، حيث تُرك المجال مفتوحاً
أمام الفقيه أو الحاكم ليملأه حسب الحاجة طبقا للكتاب والسنة.
على أن الفقيه يبحث في التشريع المختص بالأحكام الشرعية لا العقائدية، لان موضوع التشريع هو الفقه وليس الكلام.
كما أن للتشريع مادتين أساسيتين وهما: القرآن الكريم والسنّة النبوية، ووقع الخلاف بين المذاهب الإسلامية، في أربعة عشر موردا،
وهي: الإجماع، العقل، القياس، الاستحسان، المصالح المرسلة، فتح الذرائع وسدّها، العرف، شرع مّن قبلنا، مذهب الصحابي،
القرعة، الحيل الشرعية، الشهرة، السيرة، والأصول العملية.
أصول الشريعة المتفق عليها:
التشريع أو الفقه الإسلامي هو مجموعة الأحكام الشرعية التي أمر الله عباده بها، ومصادره أربعة وهي التالية:
1ـ القرآن:
وهو كلام الله تعالى وهو المصدر و المرجع لأحكام الفقه الإسلامي، فإذا عرضت لنا مسألة رجعنا قبل كل شيء إلى كتاب الله عز وجل
لنبحث عن حكمها فيه، فإن وجدنا فيه الحكم أخذنا به، ولم نرجع إلى غيره. ولكن القرآن لم يقصد بآياته كل جزئيات المسائل وتبيين
أحكامها والنص عليها، وإنما نص القرآن الكريم على العقائد تفصيلاً، والعبادات والمعاملات إجمالاً ورسم الخطوط العامة لحياة المسلمين،
وجعل تفصيل ذلك للسنة النبوية. فمثلاً: أمَرَ القرآن بالصلاة، ولم يبين كيفياتها، ولا عدد ركعاتها. لذلك كان القرآن مرتبطاً بالسنة النبوية
لتبيين تلك الخطوط العامة وتفصيل ما فيه من المسائل المجملة.
2ـ السُنَّة النبوية:
وهي كل ما نقل عن النبي صلى الله عليه و سلم من قول أو فعل أو تقرير. وتُعَدُّ في المنزلة الثانية بعد القرآن الكريم، شريطة
أن تكون ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم بسند صحيح، والعمل بها واجب، وهي ضرورية لفهم القرآن و العمل به.
3ـ الإجماع:
هو اتفاق جميع العلماء المجتهدين من أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في عصر من العصور على حكم شرعي، فإذا اتفق هؤلاء العلماء
- سواء كانوا في عصر الصحابة أو بعدهم - على حكم من الأحكام الشرعية كان اتفاقهم هذا إجماعاً وكان العمل بما أجمعوا عليه واجباً.
ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن علماء المسلمين لا يجتمعون على ضلالة، فما اتفقوا عليه كان حقاً.
روى أحمد في مسنده عن أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " سألتُ الله عز وجل أن لا يَجمَعَ أمَّتي على ضلالةٍ فأعطانيها ".
والإجماع يأتي في المرتبة الثالثة من حيث الرجوع إليه، فإذا لم نجد الحكم في القرآن، ولا في السنة، نظرنا هل أجمع علماء المسلمين عليه، فإن وجدنا ذلك أخذنا وعملنا به.
مثاله، إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم على أن الجد يأخذ سدس التركة مع الولد الذكر، عند عدم وجود الأب.
4- القياس:
وهو إلحاق أمر ليس فيه حكم شرعي بآخر منصوص على حكمه لاتحاد العلة بينهما. وهذا القياس نرجع إليه إذا لم نجد نصاً على
حكم مسألة من المسائل في القرآن ولا في السنة ولا في الإجماع. فالقياس إذاً في المرتبة الرابعة من حيث الرجوع إليه.
أركان القياس أربعة: أصل مقيس عليه، وفرع مقيس، وحكم الأصل المنصوص عليه، وعلة تجمع بين الأصل والفرع.
ودليله قوله عز وجل: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، أي لا تجمدوا أمام مسألة ما، بل قيسوا وقائعكم الآتية على سنَّة الله الماضية.
وروى مسلم وغيره عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر ".
وروى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة أن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أرسله رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم إلى اليمن
ليُعَلِّمَ الناس دينهم، فقال: يا معاذ بما تقضي؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله ؟ قال: فبسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
قال: فإن لم تجد؟ قال: أقيس الأمور بمشبهاتها ( وهذا هو الاجتهاد )، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تهلل وجهه سروراً:
الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله، وفي رواية أخرى قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله ؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو (أي أجتهد و لا أترك).
مثاله: إن الله تعالى حرَّم الخمر بنص القرآن الكريم، و العلة في تحريمه: هي أنه مسكر يُذهِب العقل، فإذا وجدنا شراباً آخر له اسم غير الخمر،
ووجدنا هذا الشراب مسكراً حَكَمنا بتحريمه قياساً على الخمر، لأن علة التحريم ـ وهي الإسكار ـ موجودة في هذا الشراب؛ فيكون حراماً قياساً على الخمر.
الأصول المختلف عليها:
1ـ الإجماع، الذي يعني عند أهل اللغة، الاتفاق، وعند أهل الفقه والأصول هو اتفاق الأمة أو الصحابة أو العلماء،
فالإجماع بالإجمال أسلوب حضاري سبق المسلمون غيرهم إلى الأخذ بآراء أرباب العلم.
وبعيدا عن الخلافات حول متعلق الإجماع فانه بالإجمال حجة عند جميع المذاهب وهو أحد الأصول المعتمدة في التشريع"، على إنه ليس أصلا بذاته.
2ـ العقل، وهو الذي يوصف بأنه: القوة التي يدرك بها الإنسان ويحكم من خلالها على مدركاتها، وإنما سمي بالعقل لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك". وعليه فيجب على الفقيه المجتهد الجامع للشرائط أن يتحلى بعقلية قريبة من الفطرة الإنسانية والواقع المعاش والمذاق الإسلامي، بلحاظ أن للبيئة تأثيرا على نمط الفتوى والحكم وهذه النظرية جديرة بالاهتمام حيث أنها تتوافق مع صلب الإسلام من جهة، كما والتطور الاجتماعي وكلّ ملابساته من جهة أخرى.
3ـ القياس: والذي وردت فيه تعريفات عدة، والذي يعني فيما يعني التعرف على حكم النظير من خلال علة مظنونة في نظيره، وفيما إذا لم يرد بذلك الحكم نص من الكتاب والسنة. على إن القياس واحد من الأصول المتنازع عليها بين المذاهب.
4ـ الاستحسان: وهو عد الشيء حسناً، مع اختلاف الفقهاء الأصوليين في تعريفه والاستدلال عليه، فان: "الاستحسان: في الواقع لا يغني عن الحق شيئاً وانه مجرد عد الشيء حسناً كما عرّفه اللغويون وهذا هو الرأي بعينه وربما أضاف بعضهم بعض الشروط ليقيدها بما يلائم القواعد الأصولية". وهو لا يعد دليلا في قبال الكتاب والسنة والعقل والإجماع.
5ـ المصالح المرسلة: المصطلح مركب من كلمتين: المصالح وهي جمع المصلحة وتعني كل ما في فعله أو تركه منفعة، والمرسلة، وهي مؤنث المرسل وهو الذي لم يحدد ولم يقيد.
والمصالح المرسلة: إما مردّها إلى الدليل العقلي أو إلى النص الإلهي أو النبوي، فلا معنى لعدها دليلا مستقلا ووصفها في قبال الكتاب والسنة والعقل، وأما إن كان خلفيتها الرأي والقياس وما إلى ذلك فهو مرفوض .
6ـ الذرائع: أو سد الذرائع وفتحها، أي بمعنى الوسيلة، كما أنها ليست أصلا برأسها.
7ـ العُرف: الذي يعني في اللغة: ما استقر في النفوس من جهة شهادات العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول.
ويعنى في الأصول: ما تبناه المجتمع من دون إنكار..كما أن العرف ليس أصلا برأسه ليضاهي الكتاب والسنة بل مآله إما إلى العقل أو إلى السنة.
8 ـ الشرائع السابقة: أو ما اصطلح عليه بـ "شرع من قبلنا شرع لنا"، وهي الشرائع المنزلة على أنبياء الله، وهي ليست بأصل قائم لوحده بل مرجعه إلى الكتاب والسنّة.
9ـ مذهب الصحابي: أو ما يعبر عنه بقول الصحابي أو رأيه أو فتواه. والاعتماد على مذهب الصحابي كأصل في التشريع بل لا يمكن الركون إليه في قبول روايته أيضا بمجرد كونه صحابيا إلا بعد التثبت من عدالته.
10ـ الحيل الشرعية: أي الحذق وجودة النظر والقدرة على التصرف. فدور الفقيه كدور المحامي،حيث يسلك طريقا قانونيا ليخلص موكله من المأزق الذي وقع فيه، ويسمى بالتحايل على القانون، ولكنه في إطار القانون.
فالحيلة الشرعية إن كانت من هذا النوع بمعنى سلوك طريق شرعي آخر دون أن يصطدم بحكم شرعي آخر أو يضيع حقاً أو ما شابه ذلك فلا إشكال فيه، ولكنه ليس مصدرا مستقلا بذاته.
11ـ الشهرة: والتي تعني في اللغة الذيوع والوضوح، وعند المحدثين بالشهرة الروائية دلالة على استفاضة رواة الحديث، وعند الفقهاء بالشهرة الفتوائية، دلالة على شيوع الفتوى وذيوعها، وخلاصة الأمر أن: "الشهرة ليست أصلاً بل من المسائل المرتبطة إما بالسنة وعلومها أو بالإجماع وفروعه.
12ـ السيرة: والتي تعني السلوكية وحسن السيرة بين الناس، فما خص عقلاء الناس سمي سيرة العقلاء، وما خص الفقهاء سمي سيرة المتشرعة، وهي ليست أصلا من الأصول التشريعية.
13ـ القرعة: وتعني السهم والنصيب، وإجالة شيء بين أطراف مشتبهة لاستخراج الحق من بينها..
14ـ الأصول العملية: أي أساس الشيء، وبتعبير الأصوليين، القواعد التي يستندون إليها في استنباط الأحكام، مثل أصالة الإطلاق والعموم والظهور وغيرها.
لذلك كله قلت نعم للدستور ..
أما من قالوا لا للدستور ممن يطلقون علي أنفسهم الصفوة وجروا ورائهم طبقة من الشعب لا تدرك تلك المعاني السابقة فراحوا ينساقون ورائهم..
هؤلاء قالوا لا للدستور..فلماذا قالوا لا...
وهؤلاء قلن لا للدستور
يمسكن بيد هون ويحدثن الصخب وينددن بالدستور..
ولا ننسى فنانات مصر حينما ذهبن للميدان ليلن لا للدستور..
أما هذه فطبقاً لتعليمات الصفوة والنخبة رأيناها تقص شعرها اعتراضاً على كل ما ورد بالدستور
وأخرى تتجرد من ملابسها عارية.
نعم لقد رأينا ناشطة مثل عليا المهدي وهي طالبة تبلغ 20 عاماً،من حركة 6 إبريل.. نشرت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي2012م صورا في مدونتها الشخصية، وهي عارية قالت إنها "احتجاجا على القيود على حرية التعبير" في مصر.
ثم ظهرت عارية تماما أمام السفارة المصرية في ستوكهولم قبل يوم من الاستفتاء النهائي على الدستور وذلك لدعم المعارضة ضد "الدستور الديكتاتوري" على حد وصفها.
وقالت عليا المهدي أن ما فعلته يمثل كل من يرفضون الدستور".
وكانت منظمة "فيمن" الأوكرانية أكدت في بيان لها أنها تضامنت مع علياء المهدي..
ووصفت صحيفة الدستور المصرية ما قامت به علياء بأنه عمل احتجاجي ضد الدستور التي يجري الاستفتاء عليه.. بينما قالت صحيفة الوفد ذات التوجه الليبرالي إن المهدي "ابتكرت طريقة جديدة للاحتجاج".
تظاهرت الناشطة المصرية علياء المهدي عارية مع ناشطتين من مجموعة "Femen" النسوية، أمام مبنى السفارة المصرية في ستوكهولم، ضد حكم "الإخوان المسلمين" في مصر وفرض دستور إسلامي على البلاد. المهدي التي كانت نشرت صوراً لها عارية على مدوّنتها وأثارت جدلاً وتلقت تهديدات من متشددين إسلاميين، أخفت "المنطقة الحساسة" من جسدها بكرتونة كُتب عليها "القرآن". ووقفت في إحدى الصور حاملة هذه الكرتونة، فيما حملت ناشطتان أوروبيتان كرتونتين كتُب عليهما "الإنجيل" و"التوراة". ونشرت صفحة "Femen" صورة ثانية على الفايسبوك، أرفقتها بتعليق عنوانه "نهاية محمد" يُرجح أنها تقصد فيه الرئيس المصري، إذ كتبت ناشطة أخرى كلمة "نهاية مرسي" على جسدها. كما كتبت علياء على جسدها العاري جملة "الشريعة ليست دستوراً".
وإلى جانب الصورة، كتبت صفحة "المجموعة النسوية العالمية" أنّها تدعو "شعب مصر العظيمة إلى منع هذا الاسترقاق الديني على أيدي النبي الجديد مرسي، لمنح فرصة لمصر كي تحصل على التنمية الديمقراطية الصحيحة، كما كتُب على الجسد العاري لعلياء: "الشريعة ليست دستوراً"، وعمدت إلى تغطية عضوها التناسلي بكرتونة على شكل القرآن الكريم.
اليافطات الثلاث في أيدي الناشطات تُمثل الكتب الدينية الرمزية. بهذه الطريقة، تُحذر "Femen" العالم حيال خطر تحويل دستور علماني إلى ديني، وتحذر الـ"إخوانجي" مرسي من أنه لو أعطى الأوامر بإطلاق النار على شعبه، فإن نهايته ستكون مع التماسيح في النيل وليس الأهرامات. تباً للعبودية الدينية، وتحيا الحرية وحقوق الإنسان"، وفق ما ورد على الصفحة
وظهرت الصفحات التي تنادي بالعري تحت شعار الحرية للمرأة..
ومن يروجون للدعارة الجسدية تحت شعار كلّنا عليا المهدي We are all Aliaa El Mahdi فينكرون علينا الدستور الجديد..لهم العذر كل العذر..فهم لم يتذوقوا طعم الفضيلة..لأن الرذيلة هي مستنقعهم الذي يعيشون فيه..
هذه هي المرأة المصرية في الماضي حينما كانت تخرج للتظاهر
قمة الاحتشام
أما من روج للدعارة الفكرية من أمثال من وصفوا أنفسهم بالنخبة..فماذا نقول لهم وقد قسموا المجتمع نصفين بالكذب والنفاق والتضليل..
فهذا هو مصطفى بكري ينحني أمام جمال مبارك بالأمس واليوم يقول لا للدستور..
فإذا كانت تلك هي مفاهيم وآراء الرافضون للدستور..فليذهبوا جميعاً إلى الجحيم..
الفصل الثاني
شهادتي للتاريخ
قبل اغتيال الرئيس المصري محمد أنور السادات بعام وتحديداً عام 1980م جاءني الأستاذ إبراهيم خطاب عضو مجلس الشورى رحمه الله بنسخة من قوانين تقنين الشريعة الإسلامية وعليها خاتم مجلس الشعب، وكان ضمن الكلام الذي دار بيننا أن الرئيس السادات ـ رحمه الله ـ كان قد عهد للدكتور صوفي أبو طالب رئيس مجلس الشعب بمسئولية إعادة تقنين كافة القوانين المعمول بها في مصر طبقاً للشريعة الإسلامية ، ولقد تم بدأ العمل الفعلي للتقنين في عام 1978 وتمت الاستعانة بصفوة من العلماء المتخصصين من الأزهر والقضاة وأساتذة كليات الحقوق وبعض الخبراء من المسلمين والمسيحيين، وتم تقسيم العمل إلى لجان يرأس كل لجنة أحد أعضاء مجلس الشعب المتخصصين في المجال، إلى جانب هؤلاء الخبراء. وكانت الخطة تقوم على عدم التقيد بالراجح في مذهب معين، بل الأخذ بالرأي المناسب من أي مذهب من المذاهب الفقهية.
وشرعوا في التقنين على أبواب الفقه وتقسيماته، وما لم يجدوه في كتب الفقه يلجئون إلى مقاصد الشريعة في استنباط الأحكام، وفي حالة تعدد الآراء الفقهية للمسألة الواحدة كانوا يختارون واحداً منها مع ذكر الآراء الأخرى ومصادرها على هامش الصفحة ليرجع إليها من يشاء.
كانت هذه هي خطة العمل كما هو مدون في مقدمة ذلك العمل الجبار..
هذا هو السادات الذي اتهم بالردة والخيانة والكفر..ومن ثم تم استباحة دمه ..
لماذا؟.. لأنه لا يطبق شرع الله..وكأن شرع الله تعالي مجرد ورقة وقلم..
وفي حواره مع الدكتور صوفي أبو طالب المنشور على الموقع التالي:
http://www.islamonline.net/servlet/S...ArticleA_C&cid
وذلك يوم الثلاثاء. مايو. 22, 2007..
سأل الأستاذ عاطف مظهر الدكتور صوفي أبو طالب رئيس مجلس الشعب الأسبق ـ ضمن ما سأل فقال:
* هل يعني هذا الكلام أن مشروع تقنين الشريعة كانت تتبناه مجموعة أفراد في السلطة.. أم كان مشروعا للدولة المصرية؟
- الوصف الأدق له أنه كان مشروعا يساير (توجه) الدولة، وليس (مشروعا) للدولة، لأنه توقف بالفعل بعد أن غيرت الدولة سياستها منه!!، ولأن الدولة أحيانا إذا أرادت شيئا تجعل أحد أعضاء المجلس يقدم الاقتراح بقانون بإيعاز منها وبالنيابة عنها، وكان الرئيس السادات في كل الاجتماعات يحثنا على الإسراع لإنجاز مشروع التقنين.. وكان يطالبنا بعدم الانتظار حتى يكتمل تقنين كل القوانين، واقترح مرة أن ندفع بما ننجزه أولا بأول إلى مجلس الشعب لأخذ الموافقة عليه تمهيدا لتطبيقه وسريانه في المنظومة القانونية.
* هذا كلام جديد على الناس.. فهل كان السادات جادا فعلا في هذا الشأن وينوي تطبيق الشريعة في مصر؟ وهل أجهض حادث اغتياله تحقيق هذا المشروع؟
ـ استطيع أن أجزم أن الرئيس السادات (رحمه الله) كان جادا في مسألة تطبيق الشريعة، وكان سلوكه وكلامه يقطعان بذلك.. ولو قدرت له الحياة عاما أو عامين آخرين لرأينا تقنين الشريعة مطبقا على أرض الواقع. وكان الرئيس السادات في كل الاجتماعات يحثنا على الإسراع لإنجاز مشروع التقنين.. وكان يطالبنا بعدم الانتظار حتى يكتمل تقنين كل القوانين، واقترح مرة أن ندفع بما ننجزه أولا بأول إلى مجلس الشعب لأخذ الموافقة عليه تمهيدا لتطبيقه وسريانه في المنظومة القانونية.
والحديث منشور بتمامه في نهاية الدراسة..
وتحتفظ مكتبتي بنسخة أصلية من هذه القوانين وعليها خاتم مجلس الشعب، فهذه النسخة الوثيقة هي التي تبرأ ساحة الرئيس المصري محمد أنور السادات وكل من ساهم في إخراجها شهود عليها وكل أعضاء مجلسي الشعب والشورى الذين كانوا يعدون أنفسهم بالموافقة سواء من كان يرتضيها أو من يرفضها، كل هؤلاء شهود عليها.
هذه النسخة الوثيقة سوف يقابل بها السادات ربه باعتباره أول رئيس يقنن لمبادئ الشريعة الإسلامية بمصر وكأن دمه سال عليها من الخارجين عليه والذين أباحوا دمه.. مثل ما سال دم عثمان بن عفان على المصحف الذي كتبه وذلك من الخارجين عليه كذلك..
وهذه القوانين التي صاغها كبار رجال الفقه الجنائي والمدني والاقتصادي مطبوعة طباعة فاخرة في دول الخليج وعندي منها أيضاً نسخة في مكتبتي..
ولم يمت العمل في تقنين الشريعة بموت السادات رحمه الله ولكنه استمر حتى تم الانتهاء من كافة القوانين سواء الجنائية منها أو المدنية أو الاقتصادية..
يقول الدكتور صوفي :
(ومع حلول عام 1983 تم الانتهاء من جميع أعمال التقنين، وقمنا بطباعتها وعرضها على مجلس الشعب، وحظي بالموافقة عليه بالإجماع من أعضاء المجلس المسلمين والمسيحيين.. ومضابط المجلس مازالت موجودة وثابتة، وتشير إلى مدى تحمس المسيحيين لتطبيق الشريعة الإسلامية.).أ.ھ.
المشروع بالكامل على الرابط التالي:
ومن مضبطة مجلس الشعب الجلسة الحادية والستين ( دور الانعقاد العادي الثالث من الفصل التشريعي الثالث) المعقودة بتاريخ 20 يونيو 1982م أنقل لكم التالي:
http://www8.0zz0.com/2013/01/31/06/504937247.jpg
اقتراح بمشروع قانون
بإصدار قانون العقوبات
باسم الشعب
رئيس الجمهورية
قرر مجلس الشعب للقانون الآتي نصه وقد أصدرناه:
(المادة الأولى)
يلغى القانون رقم 58 لسنة 1937 بإصدار قانون العقوبات ويستعاض عنه بأحكام القانون المرافق الصادر طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية.
(المادة الثانية)
ينشر هذا القانون في الجريدة الرسمية , ويعمل به اعتبارا من ..................
يبصم هذا القانون بخاتم الدولة وينفذ كقانون من قوانينها .
مشروعات تقنين أحكام الشريعة الإسلامية
أولاً: تشكيل لجان خاصة للنظر في أعمال لجان تقنين أحكام الشريعة الإسلامية
( مضبطة الجلسة الحادية والستين ـ دور الانعقاد العادي الثالث من الفصل التشريعي الثالث ) المعقودة بتاريخ 20 يونيو 1982م.
رئيس المجلس:
يسعدنا أن أعرض على المجلس ما تم انجازه في موضوع تقنين الشريعة الإسلامية الذي طال انتظار الشعب له.
كان المجلس_إعمالا لحكم المادة الثانية من الدستور_قد وافق بجلسته المعقودة في 17 من ديسمبر سنة 1978 ,على تشكيل لجنة
خاصة لدراسة الاقتراحات الخاصة بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وتقنينها, وقد رخص للجنة في أن تستهدى بكل الدراسات والتقنينات
والقوانين الخاصة بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية ,سواء في مصر أو في الخارج, كما رخص المجلس لها في الاستعانة بمن تراه من
الخبراء والمتخصصين في الشريعة الإسلامية وفى القانون.
واستنادا إلى هذا القرار, ضم إلى اللجنة الخاصة بعض أساتذة الشريعة الإسلامية والقانون وبعض رجال القضاء, وعقدت اللجنة
أول اجتماع لها 20 من ديسمبر سنة 1978. وقد بدأت اللجنة ـ تيسيرا للعمل ورغبة في الإسراع
وانجاز مهمتها ـ بتشكيل سبع لجان فرعية , هي لجان: التقاضي , والقوانين الاجتماعية, والمعاملات المالية والاقتصادية, والقانون المدني ,
والعقوبات , والتجارة, والتجارة البحرية .
وقد أنجزت هذه اللجان معظم أعمالها. وعرضتها على اللجنة الخاصة التي رأت أن تستأنس برأي الأزهر الشريف والجامعات
والجهات القضائية فبعثت إليها بهذه الأعمال لإبداء الرأي في شأنها.
وقد روجعت بعض المشروعات المقترحة في ضوء ما انتهى إليه من رأي أو اقتراح من تلك الجهات واكتملت صياغتها النهائية.
كما أحطت المجلس علما في 12 من يوليه سنة 1980 في بياني إليه عن نشاطه خلال دور الانعقاد العادي الأول بمناسبة فض هذا الدور,
بما انتهت إليه لجان تقنين أحكام الشريعة الإسلامية وما أنجزت من عمل.
وفى 29 من ابريل سنة 1981 أحيط المجلس علما بذلك وأقر تشكيل اللجنة الخاصة, ولجانها الفرعية بعد أن أحيط
علما بكل ما أنجزته هذه اللجنة ولجانها الفرعية.
وأحطته كذلك ـ في بياني إليه في 12 من أغسطس سنة 1981 عن نشاط المجلس، فإني أقترح على حضراتكم الموافقة على إعادة
تشكيل اللجنة الخاصة على أن تعاونها سبع لجان فرعية، وتتولى اللجنة الخاصة وضع خطة العمل ومتابعة أعمال اللجان الفرعية
والتنسيق بين ما تنجزه من أعمال، وتتولى كل لجنة من اللجان الفرعية دراسة أحد المشروعات التي أنجزتها اللجنة الفنية السابقة وهي:
1. لجنة التقاضي.
2. لجنة القوانين الاجتماعية.
3. لجنة المعاملات المالية والاقتصادية.
4. لجنة المعاملات المدنية.
5. لجنة العقوبات.
6. لجنة التجارة العامة.
7. لجنة التجارة البحرية.
وللجنة الخاصة وغيرها من اللجان الفرعية الاستعانة بمن ترى الاستعانة به من الخبراء والمتخصصين في الشريعة الإسلامية والقانون.
ومعنى ذلك أن هناك مشروعات تمت صياغتها بعد استطلاع رأي كل الجهات المسئولة المختصة، ولما كان الأمر يقتضي تشكيل
لجان خاصة طبقاً للدستور واللائحة لعرض الموضوع على المجلس في صيغته النهائية، فإنني أقترح على حضراتكم هذا الأسلوب
حتى يتسنى لنا نظر ذلك في الاجتماع المقبل إن شاء الله تعالى.
فهل توافقون حضراتكم على مبدأ تشكيل اللجان؟.
(موافقة).
رئيس المجلس:
استناداً إلى نص الفقرة الثانية من المادة 82 من اللائحة الداخلية للمجلس فإني اقترح على حضراتكم الموافقة على أن
يكون تشكيل هذه اللجان على النحو التالي:
أولاً: الجنة الخاصة:
الدكتور صوفي أبو طالب رئيساً
الأعضاء
الأستاذ حافظ بدوي
الأستاذ إبراهيم شكري
الأستاذ أحمد على موسى
الأستاذ كامل ليلة
الأستاذ جمال العطيفي
الأستاذ طلبة عويضة
الأستاذ ممتاز نصار
الأستاذ حنا ناروز
الدكتور محمد على محجوب
وينضم إليهم من الأساتذة والمتخصصين السادة:
فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر
وزير العدل
وزير الأوقاف
رئيس جامعة الأزهر
فضيلة امفتي
رئيس محكمة النقض
رئيس مجلس الدولة
النائب العام
رئيس إدارة قضايا الحكومة
رئيس محكمة استئناف القاهرة
مدير عام النيابة الإدارية
عبد العزيز عيسى وزير شئون الأزهر سابقاً
عبد المنعم النمر وزير الأوقاف سابقاً
زكريا البري وزير الأوقاف سابقاً
عبد المنعم فرج الصدة نائب رئيس جامعة القاهرة سابقاً
عبد الحليم الجندي رئيس إدارة قضايا الحكومة سابقا
إبراهيم القليوبي النائب العام سابقاً
أحمد ثابت عويضة نائب رئيس مجلس الدولة
أحمد فتحي مرسي نائب رئيس محكمة النقض سابقا وعضو مجلس الشورى
عبد الله المشد عضو مجمع البحوث الإسلامية
عطية صقر عضو مجمع البحوث الإسلامية
إبراهيم الوقفي عضو مجمع البحوث الإسلامية
محمد أنيس عبادة رئيس قسم الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون سابقاً
حسين حامد رئيس قسم الشريعة بكلية الحقوق جامعة القاهرة
إبراهيم صالح نائب رئيس محكمة النقض
أحمد السيد سليمان نائب الأمين العام السابق لمجلس الشعب ومستشار ورئيس المجلس
الدكتور جمال الدين محمود أمين عام المجلس الأعلى للشئون الإسلامية
الدكتور فتحي سرور أستاذ ورئيس قسم القانون الجنائي بحقوق القاهرة
نقيب المحامين
عمداء كليات الحقوق
عميد كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر
اللجان الفرعية
1 ـ لجنة التقاضي
الأستاذ ممتاز نصار رئيسا
الأعضاء
الأستاذ عبد الرحمن توفيق خشبة
الأستاذ عبد الله على حسن
الأستاذ فتحي زكي الصادق محمد على
الأستاذة بثينة الطويل
الأستاذ حامد على كريم
الأستاذة عنايات أبو اليزيد يوسف
الأستاذ إبراهيم الزاهد
الأستاذ على السيد هلال
2 ـ لجنة القوانين الجنائية:
الأستاذ حافظ بدوى.................رئيسا
الأعضاء
كمال خير الله
وديع داود فريد
حسين مهدي
طارق عبد الحميد الجندي
حازم أبو ستيت
محمد عبد الغفور السوداني
محمد عبد الحميد المراكبي
3_لجنة المعاملات الدينية :
الرؤساء
الدكتور جمال العطيفي ..................رئيسا
الأعضاء
الأستاذ عبد الباري سليمان
صلاح الطاروطي
جورج روفائيل رزق
عبد الرحيم عبد الرحمن حمادي
علي علي الزقم
محي الدين عبد الغفار محرم
عويس عبد الحفيظ عليوة
الأستاذة سماء الحاج ادهم محمد عليوة
4-لجنة التجارة البحرية :
الأستاذ احمد على موسى ..................رئيسا
الأعضاء
حنا ناروز
مصطفى غباشي
عبد الغفار أبو طالب
حسين أبو هيف
عبد السميع عبد السلام مبروك
5-لجنة القانون التجاري
دكتور محمد كامل ليلة ...................رئيسا
الأعضاء
الأستاذ حسين وشاحي
احمد أبو زيد الوكيل
سعد أحمد بهنساوي قناوي
عدلي عبد الشهيد
6_لجنة القوانين الاجتماعية:
الدكتور محمد محجوب........................رئيسا
الأعضاء:
الأستاذ محمد على أبو زيد
الأستاذة فايده كامل
الأستاذ أحمد محمد أبو زيد
محمود نافع
محمود أحمد سلام أبو عقيل
إسماعيل أبو المجد رضوان
أبو المكارم عبد العزيز عبد الرحيم
نشأت كامل برسوم
محمود الفران
7_لجنة القوانين المالية والاقتصادية:
الدكتور طلبة عويضة.........................رئيسا
الأستاذ حسن وزيرى السيد
مصطفى محمد سليمان
اسطفان باسيلي
محمد عامر جاب الله
شاكر السعيد قزميل
محمود محمد عبد الرحمن دبور
الشيخ صلاح أبو إسماعيل
وهذه اللجان وظيفتها النظر في المشروعات التي أنجزت وإعداد تقرير عنها بصلاحيتها أو بتعديلها حسبما ترى اللجنة الخاصة
لكي يعرض على المجلس تمهيدا لإحالتها إلى لجنة الشئون الدستورية والتشريعية لمناقشتها واستطلاع الرأي فيها تمهيدا لعرضها على المجلس.
فهل توافقون حضراتكم على هذا التشكيل.
(موافقة).
ثانياً: بيان السيد الدكتور رئيس مجلس الشعب عن مشروعات تقنين الشريعة الإسلامية والموجود في مضبطة الجلسة السبعين
( دور الانعقاد العادي الثالث من الفصل التشريعي الثالث) المعقود بتاريخ الأول من يوليو 1982م.
رئيس المجلس:
الإخوة والأخوات أعضاء المجلس:
يسعدني اليوم ونحن نختتم هذه الدورة من أدوار انعقاد المجلس الموقر، أن يكون حسن الختام بفضل الله تعالى وتوفيقه عملاً خارقاً
وهو إنجاز عمل تاريخي ضخم ـ إعمالاً للتعديل الدستوري للمادة الثانية من الدستور ـ التي تقضي بأن تكون
مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع.
ولقد وافقتم حضراتكم بجلسة 20 يونيو 1982 على تشكيل اللجنة الخاصة واللجان الفرعية التي ستتولى تقديم مشروعات
تقنيني الشريعة الإسلامية التي تم انجازها ولعل حضراتكم تذكرون ما عرضته على المجلس عن المراحل المختلفة التي مر بها هذا
العمل الجليل منذ اتخذ المجلس في 17 ديسمبر سنة 1978م قراره بالبدء في تقنين الشريعة، ولست بحاجة إلى الحديث عن الجهود
أو الصعوبات التي اكتنفت إعداد هذه التشريعات فحسبنا اليوم أن الأمل والرجاء قد تحولا إلى عمل جليل بناء.
إنه وإن كان الزملاء رؤساء اللجان الفرعية، سيقدمون لحضراتكم بيانا عن كل من هذه المشروعات إلا انه يجدر بي، أن أشير
بادئ ي بدء إلى أن وضع الشريعة الإسلامية موضع التطبيق والنزول على أحكامها هو عودة بالشعب المصري، بل بالأمة العربية
والإسلامية كلها إلى ذاتها العربية بعد اغتراب عشناه في ظل القوانين الأجنبية أكثر من قرن من الزمان.
إنه إنهاء للتناقض بين القيم الأخلاقية ـ نبت هذه الأرض الطيبة ـ والسياج الحضاري الذي يربط شعبنا بين القوانين الوضعية
كما يتضح من النظرة الدينية والأخلاقية في شأن بعض الأعمال كالزنا وشرب الخمر والربا، وبين النظرة إليها وفقاً للقوانين
الوضعية القائمة في هذا الخصوص، وما يترتب على ذلك من تمزق نفسي، بل إحباط، للتناقض بين ما يؤمن به الإنسان المصري والقوانين التي تحكمه.
ويجدر بي في هذا المقام وقبل أن أعرض للسمات والملامح الأساسية لهذه التشريعات، أن أسجل أمامكم، أن هذا العمل
الذي أنجزناه إعمالاً للمادة الثانية من الدستور، قد روعي في إعداده وسيراعى في تطبيقه أحكام الشريعة الإسلامية
والمبادئ الدستورية على السواء، بمعنى أننا كلنا يعلم أن الإسلام يكفل حرية العقيدة لغير المسلمين من أهل الكتاب
إعمالاً لمبدأ (لا إكراه في الدين)كما يكفل المساواة بين المسلمين وغير المسلمين في الحقوق والواجبات إعمالاً لمبدأ( لهم ما لنا وعليهم ما علينا).
ويجدر بنا هنا أن نؤكد أن الدستور المصري قد أفرد العديد من المواد لتطبيق هذين المبدأين، ومن ذلك المادة 40 من الدستور التي نصت على أن:
( المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة).
كما صت المادة 46 على أن:
( تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية).
وهذان النصان الدستوريان قاطعان وحاسمان في تقرير المبدأين الإسلاميين (لا إكراه في الدين) و
( ولأهل الكتاب ما للمسلمين ولهم ما عليهم).
وفضلاً عما سبق، فمن المسلمات أنه يتعين تفسير أي نص في الدستور بما يتفق مع باقي نصوصه وليس بمعزل عن أي منها، وهذا
ما يخضع له تفسير النص المعدل للمادة الثانية من الدستور مثل باقي نصوصه
كما أنه من المسلمات أيضاً أن مبادئ الشريعة الإسلامية السمحاء تقرر أن غير المسلمين من أهل الكتاب يخضعون في أمور أحوالهم الشخصية من زواج وطلاق وغيرهما لشرائع ملتهم، وقد استقر على ذلك رأي فقهاء الشريعة منذ أقدم العصور نزولاً على ما ورد في الكتاب والسنة ولذلك روعي في التقنينات خضوع غير المسلمين في مسائل الأحوال الشخصية لقوانين ملتهم.
وأهم الملامح الأساسية للتقنينات الجديدة تظهر فيما يلي:
1 ـ أن هذه التقنينات مأخوذة من الشريعة الإسلامية نصاً أو مخرجة على حكم شرعي، أو أصل من أصولها وذلك دون التقيد بمذهب فقهي معين، ومن هنا استنبطت الحكام من آراء الفقهاء التي تتفق وظروف المجتمع، ولست في حاجة إلى أن اذكر لحضراتكم أن الأحكام الشرعية تنقسم إلى قسمين:
النوع الأول: أحكام قطعية الثبوت والدلالة، وهذه لا مجال للاجتهاد فيها.
النوع الثاني: أحكام اجتهادية، إما لأنها ظنية الثبوت وإما لكونها ظنية الدلالة.
ومن المسلم به بالنسبة للأحكام الاجتهادية أنها تتغير بتغير الزمان والمكان الأمر الذي أدى معه إلى تعدد المذاهب الإسلامية بل والآراء داخل المذهب الواحد، وهو ما أعطى للفقه الإسلامي مرونة وحيوية أمكن معها القول بأن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان.
2 ـ حرصت اللجان الفنية التي تولت إعداد هذه التشريعات على بيان الأصل الشرعي لكل نص من نصوص أو الأصل أو المبدأ الذي خرجت الحكم عليه حتى يكون الرجوع في التفسير والتأويل إلى مراجع الفقه الإسلامي بدلا من الالتجاء دائماً إلى الفقه الأجنبي.
3 ـ أما بالنسبة للعلاقات الاجتماعية والمعاملات المالية الجديدة التي استحدثت ولم يتطرق لها فقهاء الشريعة فقد اجتهدت اللجان في استنباط الأحكام التي تتفق وظروف المجتمع وروح العصر بشرط مطابقتها لروح الشريعة الإسلامية وأصولها، ومن أمثلة ذلك معاملات البنوك والتأمينات وطرق استثمار المال...الخ.
4 ـ إنه في سبيل الحفاظ على التراث الفقهي المصري ومبادئ القضاء التي استقرت طوال القرن الماضي فقد حرصت اللجان على الأخذ بالمصطلحات القانونية المألوفة ولم تخرج عليها في الصياغة إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك..
أما المضمون والمعاني فهما مطابقان للفقه الإسلامي.
والتشريعات التي تم انجازها هي:
1 ـ مشروع قانون المعاملات المدنية: ويقع في أكثر من 1000 مادة.
2 ـ مشروع قانون الإثبات: ويقع في 181 مادة.
3 ـ مشروع قانون التقاضي: ويقع في 513 مادة.
4 : مشروع قانون العقوبات: القسم العام والحدود والتعزيرات: ويقع في 630 مادة.
5 ـ مشروع قانون التجارة البحرية: ويقع في 443 مادة.
6 ـ مشروع قانون التجارة: ويقع في 776 مادة.
الإخوة والأخوات:
إن هذا العمل التاريخي الذي كانت إشارة البدء فيه من مجلسكم الموقر مازال بحاجة إلى جهد جهيد يتعين أن يسعى إليه كل الذين يريدون للشريعة الازدهار، كل في مجال تخصصه وهذا يقتضينا أن نبدأ منذ الآن بما يأتي:
(1) تهيئة المناخ الاجتماعي لقبول التقنينات الجديدة ويكون ذلك من خلال وسائل الإعلام المتعددة وعقد جلسة استطلاع في الموضوعات التي جدت في المجتمع بعد إقفال باب الاجتهاد، وتبنت اللجنة بعض الآراء فيها مثل أعمال البنوك ونظم التأمينات ونظم استثمار الأموال..الخ.
(2) يتعين تنظيم دورات تدريبية حتى ينفسح المجال أمام القضاة لدراسة واستيعاب التشريعات الجديدة.
(3) يتعين تغيير برامج الدراسة في كليات الحقوق في الجامعات المصرية بما يتمشى مع التقنينات الجديدة.
بهذا يكون مجلسكم الموقر قد وفى بما وعد به في مدة تعتبر قياسية، ففي أربعين شهراً أنجز مجلسكم الموقر هذا العمل الذي سيكون خالداً بإذن الله تعالى.
وكلنا نعلم أن القانون المدني الذي صدر عام 1948 تم انجازه في أثنى عشر عاماً، وفي هذا المجلس تم انجاز خمس مجموعات كاملة خلال أربعين شهراً.
فباسمكم أقدم خالص الشكر والتقدير للإخوة أعضاء اللجان الفنية من أساتذة ومستشارين، وللإخوة الذين عملوا معهم هنا من العاملين بالأمانة العامة للمجلس، على هذا الجهد الذي أتموه، بعيداً عن الضواء أو أية ضجة إعلامية، ولم يتقاضوا عليه أجراً.
فباسمكم جميعاً أقدم لهم الشكر والتقدير.
حفظ الله أمتنا وسدد خطاها على طريق العزة والنصر.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ثالثا: كلمة السيد العضو حافظ بدوي
رئيس لجنة القوانين الجنائية عن مشروع قانون العقوبات
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الإخوة:
إن الذي نبحثه الآن ليس أمراً عاديا ولكنه أمر يجب أن نحتفي به لأنه أمل كبير لشعبنا، ولأنه أمنية غالية لكل فرد في بلدنا، ومن وجهة نظري ـ وأرجو أن أكون معبراً عن أرائكم جميعاً ـ نحن نعتبر هذا اليوم عيداً لنا، لأنه حقق أكبر أمل لكل فرد في شعبنا، وإنني أذكر في سنة ألف وتسعمائة وواحد وسبعين إبان وضع مشروع الدستور الدائم وكنا نجول بين أرجاء مصرنا من أقصاها إلى أقصاها, وكان النداء الأول في كل قرية من قرانا وفي كل مدينة من مدننا وفي كل مجتمع من مجتمعنا وفي كل جامعة من جامعاتنا أن تكون الشريعة الإسلامية مصدراً أساسياً لتشريعاتنا ومن أجل ذلك نصت المادة الثانية من دستور سنة ألف وتسعمائة وواحد وسبعين على أن ( الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع).
وقبل التعديل الأخير وفي سنة ألف وتسعمائة وثمانية وسبعين قال الأستاذ الفاضل الدكتور صوفي أبو طالب/ وكما ذكرت ليس ذلك مجاملة له ، قال لقد آن الأوان ـ وهنا وفي هذا المجلس الموقر ـ لأن توضع المادة الثانية من الدستور موضع التنفيذ، واقترح ووافق المجلس على اقتراحه بأن تشكل لجان فنية لتقنين الشريعة الإسلامية الأمر الذي أجد لزاما علىّ أن أقول له شكراً وتقديراً وعرفاناً بذلك الفضل الكبير الذي سيسجله له التاريخ.
السيد الأستاذ الفاضل رئيس المجلس:
لقد وافق المجلس على تشكيل خمس لجان وكان بين هذه اللجان الخمسة لجنة لتقنين الشريعة الإسلامية خاصة بقانون العقوبات وعملت هذه اللجنة أربعين شهراً أي ثلاث سنوات ونصف، واشهد أنها عملت ليلها ونهارها وكانت مكونة من صفوة من علماء الأزهر الشريف وأساتذة الجامعات ورجال القضاء وفي مقدمتهم:
1 ـ الأستاذ الفاضل الشيخ جاد الحق علي جاد الحق الذي كان مفتياً لجمهورية مصر العربية في ذلك الوقت.
2 ـ الأستاذ المستشار أحمد حسن هيكل ، رئيس محكمة النقض الأسبق.
3 ـ الأستاذ الدكتور محمد أنيس عبادة، الأستاذ بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر الشريف.
4 ـ الأستاذ المستشار السيد عبد العزيز هندي، المستشار بمحكمة النقض.
5 ـ الأستاذ الدكتور أحمد فتحي سرور، أستاذ قانون العقوبات بكلية الحقوق جامعة القاهرة.
6 ـ الأستاذ المستشار صلاح يونس، نائب رئيس محكمة النقض.
7 ـ الأستاذ الدكتور جمال الدين محمود، أمين عام المجلس الأعلى للشئون الإسلامية والمستشار بمحكمة النقض.
8 ـ الأستاذ المستشار محمد رفيق البسطويسي، المستشار بمحكمة النقض، أستاذ الشريعة بكلية الحقوق جامعة القاهرة.
9 ـ الأستاذ المستشار مسعود سعداوي، المحامي العام لدى محكمة النقض.
كما شارك في جانب من اجتماعات هذه اللجنة السادة:
· الأستاذ الدكتور محمد محي الدين عوض، نائب رئيس جامعة المنصورة.
· الأستاذ الدكتور عبد العزيز عامر، الأستاذ السابق للشريعة الإسلامية بكلية الحقوق جامعة القاهرة.
· الأستاذ الدكتور محمد السعيد عبد ربه، عميد كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر الشريف.
· الأستاذ الدكتور محمود طنطاوي، أستاذ الشريعة بكلية الحقوق جامعة عين شمس.
· الأستاذ الدكتور عبد العظيم مرسي وزير، أستاذ مساعد القانون الجنائي بحقوق المنصورة.
· الأستاذ الدكتور تيمور فوزي مصطفى كامل ، المستشار بمجلس الدولة.
وقد قام بأعمال أمانة اللجنة طيلة هذه الفترة وبذل جهوداً غير عادية تذكرها لهما بالتقدير الأستاذ محمد البحيري وكيل الوزارة بالمجلس والأستاذ شبل السيد بدوي الباحث الفني.
ويجدر بنا أن نشير إلى أن مشروع قانون العقوبات (ملحق رقم 19 )كبير وهو مظهر مشرف ـ وأن نعرف أن الشريعة الإسلامية ليست رقاباً ولا أيدي تقطع ولكنها الرحمة والعدل والمساواة ـ يجب أن أشير إلى أن القانون الذي أعدته اللجنة وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية يتألف من:
(1) الكتاب الأول: ويضم الأحكام العامة لقانون العقوبات.
(2) الكتاب الثاني: ويتضمن الأحكام الخاصة بالحدود الشرعية والقصاص في النفس، والقصاص فيما دون النفس.
(3) الكتاب الثالث: ويضم الأحكام الخاصة بالعقوبات التعزيرية.
وفيما يلي بيان موجز عن بعض الأحكام التي تضمنتها الكتب الثلاثة التي يتألف منها مشروع قانون العقوبات..
الكتاب الأول الذي يضم النظرية العامة يوضح النظرية العامة للعقوبات في الشريعة الإسلامية وهي نظرية كلها عدل ورحمة ولين وينقسم إلى سبعة أبواب بيانها على النحو التالي:
الباب الأول: ويشمل قانون العقوبات ونطاق تطبيقه من حيث الزمان والمكان.
الباب الثاني: عن الجريمة وأنواعها وقد نص في هذا الباب على أن الجرائم الحدية تعد جنايات..أما الجرائم التعزيرية فإنها تحدد وفق العقوبة المقررة قانوناً.
كما تضمن هذا الباب أركان الجريمة وأحكام الشروع فيها أو أسباب الإباحة وموانع العقاب.
الباب الثالث: يتضمن الأحكام الخاصة بالمساهمة الجنائية والأهلية الجنائية.
الباب الرابع: ويتضمن أنواع العقوبات الأصلية والتبعية، كما يتضمن كيفية تطبيق العقوبات وأحكام العود.
الباب الخامس:يختص بتنفيذ العقوبة.
الباب السادس: ويشمل أحكام العفو عن العقوبة والعفو الشامل.
الباب السابع: يتضمن الأحكام المشتركة بين الحدود.
ويرتكز الكتاب الأول على الأسس الآتية:
1. التمييز بين الجرائم الحدية والجرائم التعزيرية ..ويقصد بالجرائم ابحدية وهي الجرائم الموجبة لعقوبة مقدرة شرعا على النحو الذي تتضمنه أحكام هذا المشروع ، أما ما عدا ذلك فإنه يعد جريمة تعزيرية.
2. يقوم المشروع على أن الهدف من توقيع العقوبة هو إصلاح حال المجرم وبالتالي إصلاح حال المجتمع، كما أنه يعتمد أساساً على سياسة الأب الرحيم الذي يقسو للإصلاح ويحذر للعبرة فالعقوبات في الشريعة الإسلامية زواجر قبل الفعل روادع بعده.
3. الالتزام بمبدأ شرعية الجريمة والعقوبة.
4. الالتزام بمبدأ المسئولية الشخصية،إعمالاً لقول الله تعالى: (كل نفس بما كسبت رهينة).
5. الأخذ بالعقوبات البدنية والتدابير، كنوع من العقوبات التعزيرية.
6. تقييد العقوبة حسب جسامة الجريمة وخطورة مرتكبها.
الكتاب الثاني ويتضمن الحدود.
ويشتمل هذا الكتاب على ثمانية أبواب
يختص كل منها بالأحكام المتعلقة بكل حد على حدة .
· الباب الأول يشتمل على الأحكام المتعلقة بحد السرقة.
· أما الباب الثاني فيشتمل على الأحكام الخاصة بحد الحرابة.
· والباب الثالث عن حد الزنا.
· والباب الرابع عن حد القذف.
· والباب الخامس عن حد الشرب وتحريم الخمر.
· والباب السادس عن حد الردة.
· والباب السابع عن القصاص في النفس.
· والباب الثامن عن القصاص فيما دون النفس.
ويحتوي كل باب من هذه البواب على تعريف الجريمة الحدية وكيفية ارتكابها وإثباتها وشروط توقيع العقوبة الحدية وكذلك شروط الإعفاء منها ودر الحد.
كما يتضمن النص على توقيع العقوبة التعزيرية المقررة في حالة عدم توافر أحد الشروط اللازمة لتوقيع العقوبة الحدية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن اللجنة قد رأت الأخذ بالأحكام الفقهية التي يتفق عليها جمهور الفقهاء والعلماء ولا تتعارض مع ظروف الحال في بلادنا، كما رأت أن تكون الأحكام الخاصة بالحدود واضحة حتى تتيح لكل مطلع عليها أن يتبين مقصدها دون غموض أو تجهيل.
أما الكتاب الثالث فيختص بالتعازير.
ويشتمل هذا الكتاب على أربعة عشر باباً.
· الباب الأول ويختص بالجرائم الماسة بأمن الوطن الخارجي والداخلي.
· الباب الثاني ويتضمن الجرائم الماسة بالاقتصاد الوطني.
· الباب الثالث عن الجرائم المخلة بواجبات العمل والنيابة عن الغير.
· الباب الرابع عن الجرائم الواقعة على السلطات العامة.
· الباب الخامس عن الجرائم المخلة بسير العمل.
· الباب السادس عن الجرائم المخلة بالثقة العامة.
· الباب السابع عن الجرائم ذات الخطر والضرر العام.
· الباب الثامن عن الجرائم الماسة بحرمة الأديان.
· الباب التاسع عن الجرائم الواقعة على الأشخاص.
· الباب العاشر عن الجرائم التي تقع بواسطة الصحف وغيرها من طرق العلانية.
· الباب الحادي عشر عن الجرائم الماسة بالاعتبار والآداب العامة واستراق السمع وإفشاء الأسرار,
· الباب الثاني عشر عن الجرائم الواقعة على المال.
· الباب الثالث عشر عن القمار وأوراق اليانصيب.
· الباب الرابع عشر عن الجرائم المتعلقة بالصحة العامة والمقلقة للراحة والمعرضة للخطر.
ويرتكز الكتاب الثالث على المبادئ التالية:
1. وضع عقوبة تعزيرية للجرائم الحدية التي لم تتوافر لها شروط إقامة الحد وذلك للحيلولة دون إفلات المجرم من العقاب عن جريمة اقترفها.
2. تجريم الأفعال التي يرى ولي الأمر ضرورة تجريمها صوناً للمجتمع وحمايته لأمنه وأمان مواطنيه وتسييراً للحياة العامة.
3. تجريم الأفعال التي لم يرد لها ذكر في الكتاب والسنة ويرى ولي الأمر أن تجريمها ضروري لكي لا تمتد يد العابثين إلى مصالح الناس وحتى يطمئن كل مواطن على يومه وغده.
وأخيراً انتهت اللجنة الفنية منذ أيام فقط وأعضاؤها هم الذين كرتهم وأستأذن في تكرار الشكر لهم لأنهم عاشوا أياماً صعبة ورغم كبر سنهم فإنهم كانوا يأتون من أقصى القاهرة إلى هذا المجلس ليؤدوا هذا الواجب الديني إرضاء لربهم ودينهم ووطنهم ولشعبهم.
لقد أنهت هذه اللجنة الفنية عملها وقدمت لنا تقريراً وافياً وأعضاؤها من صفوة العلماء والمستشارين وأساتذة القانون ومن العاملين بالكتاب والسنة في كل مكان.
وأخيراً وافق المجلس الموقر على تشكيل لجان برلمانية ومن هذه اللجان البرلمانية لجنة العقوبات التي راجعت هذه المبادئ وهذه الأحكام ورأت أنها صالحة للعرض على المجلس.
تحية لكم أيها الإخوة الأعضاء وتهنئة لكم أيضاً بأن تطبيق الشريعة الإسلامية تحقق بوجودكم في هذا المكان فحققتم أغلى أمل لهذا الشعب العظيم ، حقق الله عز وجل كل آمالنا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
http://www8.0zz0.com/2013/01/31/06/110327187.jpg
التصويت النهائي على مشروع الدستور
كلمة أخيرة بهذا الخصوص
الدكتور صوفي أبو طالب ـ رحمه الله تعالى ـ يرد على ياسر برهامي نائب الحزب السلفي فيقول: مشروع تقنين الشريعة جاهز منذ 1983..
وما يدعيه اليوم السيد ياسر كذب وتضليل..
http://www8.0zz0.com/2013/01/31/06/956312984.jpg
حوار - عاطف مظهر ـ إسلام أوت لاين. الثلاثاء. مايو. 22, 2007
http://www8.0zz0.com/2013/01/31/06/319220737.jpg
صوفي أبو طالب
كشف الدكتور "صوفي أبو طالب" رئيس مجلس الشعب المصري الأسبق في حوار "لإسلام أون لاين" عن مفاجآت مثيرة ومعلومات تنشر للمرة الأولى.. منها أن الرئيس الراحل أنور السادات كان هو المحرك الحقيقي لمشروع تقنين الشريعة الذي عملت فيه لجان مجلس الشعب في أواخر السبعينيات، وانتهت منه تماما في أوائل الثمانينيات.
واعتبر أبو طالب أن حادثة اغتيال السادات هي التي عطلت فعليا تطبيق قوانين الشريعة في مصر؛ لأن المشروع تم ركنه في أدراج مجلس الشعب بعد ذلك، مع عدم وجود قرار من القيادة السياسية لتفعيلها مرة أخرى.
وحول السجال الدائر عن تعديل المادة الثانية من الدستور، قال: إن أحدا أيا كان في مصر لن يستطيع الاقتراب منها لأنها في حماية الشعب؛ وأكد أن خوف بعض الأقباط من الشريعة غير مبرر؛ لأن الإسلام يكفل لهم المساواة التامة ويضمن لهم كافة حقوق المواطنة، موضحا أن رموزا وشخصيات قبطية بارزة شاركت بفاعلية في أعمال لجان التقنين، ولم يكن هناك مثل هذه النعرات المتعصبة والجديدة على طبيعة الشعب المصري.
وفي موضوع التوريث أكد أنه لا يتوقع نجاح مشروع التوريث، وقال: إن تمريره ليس بالسهولة التي يتصورها البعض؛ فهناك عراقيل قد تتسبب في فشل الخطة في اللحظات الأخيرة!!
وإلى نص الحوار:
*نلاحظ منذ فترة طويلة عزوفك عن الفعاليات السياسية والإعلامية.. فما أسباب ذلك؟ وماذا تفعل الآن؟
- بعد انتهاء فترة رئاستي لمجلس الشعب، آثرت العودة مرة أخرى لممارسة عملي الأصلي كأستاذ للقانون في جامعة القاهرة، للإسهام في تخريج أجيال جديدة من القانونيين، وفضلت الابتعاد تماما عن العمل السياسي؛ لأن لكل فترة رجالها، وأنا أشعر أنني قد أديت دوري السياسي بقدر المستطاع.
* عاصرت حقبتي السادات ومبارك، وكنت من الرموز المشاركة في مؤسسة الحكم في كلا العهدين.. فما الفروق السياسية التي لاحظتها بين الرجلين؟
- هناك بالطبع فروق واضحة وملموسة تتبدى في نوعية القرارات السياسية المتخذة، وكيفية التفاعل مع الأحداث، ولكن هناك أيضا سمات مشتركة تجمع بينهما، فيجب ألا ننسى أن الرجلين كليهما جاءا من معينٍ واحد(!!).
**مشروع تقنين الشريعة "مركون" في أدراجمجلس الشعب وجاهز للتطبيق منذ عام 1983
* كنت أحد الداعين لتطبيق الشريعة الإسلامية، وتبنيت خلال فترة رئاستك لمجلس الشعب مشروعا لتقنين الشريعة.. فما أسباب حماسك الشديد لهذا الأمر؟
- نعم كنت وما زلت من الداعين لتطبيق الشريعة، حتى نعود لذاتنا وهويتنا، والعودة للشريعة ليس ترفا، بل هو وضع للأمور في نصابها وضرورة للنهضة والتقدم التي لا تقوم إلا على الوحدة بين المسلمين، ولن يتوحد المسلمون إلا تحت راية الإسلام والشريعة، وعندما ابتعدنا عن هذه الراية والمظلة الموحدة للصف الإسلامي تفرقنا شيعا وأحزابا وطوائف، وبدأنا نتعارك مع بعضنا ولم نعتصم بحبل الله جميعاً كما أمرنا المولى سبحانه وتعالى.
كما أنها مطلب عزيز لغالبية الشعب، وهذه حقيقة لا يجادل فيها أحد ولا ينكرها إلا جاحد أو جهول، فلكل شعب خصائص تميزه، ولكل حضارة في الدنيا جانبها المعنوي الذي يمثل خصوصيتها، ويشمل اللغة والفنون والثقافة بصفة عامة بما فيها الدين، والأمة التي تتخلى عن الجانب المعنوي لحضارتها تذوب في الأمة التي تنقل عنها..
انظر إلى دستور الاتحاد الأوروبي وتأكيده على أن الحضارة الأوروبية الحديثة هي امتداد للحضارة الرومانية، وينص على أن المشرع الأوروبي يجب أن يستلهم فيما يصدره من تشريعات وقوانين مبادئ وقيم الحضارة الكلاسيكية، أي الفلسفة الإغريقية والقانون الروماني، وعليه ألا يخرج عنهما.. فلماذا يستكثرون علينا هذا الأمر؟!.
* البعض يتساءل عن الفائدة العملية لتطبيق الشريعة، ويقولون إن القوانين الوضعية والاتفاقات والمعاهدات الدولية فيها الكفاية.. فما تقييمك لهذا الكلام؟
- الفائدة أن نحقق الاستقلال القانوني والقضائي حتى يتفاعل الناس مع القوانين ولا يلقون بها وراء ظهورهم ويتحايلون من أجل عدم تطبيقها فتشيع الفوضى.. وسأضرب لك مثلا على ذلك: كان هناك نص في القانون المدني الذي صدر عام 1883 يقول بأن على الزوجة أن تنفق على زوجها وحماتها وأخت زوجها.. ومن وضع هذا النص نقل نقلاً أعمى عن القانون الفرنسي والقانون الروماني، فبقي غير مطبق لأنه بعيد عن عاداتنا وتقاليدنا.. فالقانون مرآة المجتمع.
وميزة الشريعة أن الجميع سيلتزم بها في السر والعلن، لأنها من عند الله تعالى، بخلاف القانون الوضعي الذي يلتزم به الناس خوفاً من العقوبة الدنيوية، فإذا استطاع أن يفلت من تلك العقوبة فلن يلتزم به ولن يطبقه، والدليل على ذلك أن هناك بعض مقاولي البناء الذين يغشون في كميات ونسب مواد البناء لتحقيق أكبر مكاسب مادية ممكنة، وقد تسقط العمارات التي يقومون ببنائها بسبب ذلك، ولكننا نجد نفس المقاول يحرص على أداء العمرة والحج مرات ومرات ودفع الزكاة، فهو يعتبر الغش والتحايل على القانون الوضعي شطارة، أما الحج والعمرة ودفع الزكاة فهي تغفر الذنوب وأوامر شرعية وليست وضعية.
**عدم تطبيق تقنينات الشريعة الآنيرجع لعدم رغبة القيادة السياسية في مصر.. والأغرب هو عدم تقدم عضو واحد بطلب إخراجالمشروع من أدراج المجلس طيلة هذه السنوات(!!) .
*لكن هناك من يعترض على مفهوم تقنين الشريعة زاعما أن الشريعة موجودة في كتب الفقه.. فهل الشريعة تحتاج فعلا إلى تقنين؟
- بالفعل الشريعة تحتاج إلى التقنين لأن فيها آراء متعددة، وتعدد الآراء جاء إثراء للشريعة، فمثلا كان سن الحضانة في الماضي ينتهي عند بلوغ الصبي سبع سنين والبنت تسع سنين لأن كليهما يستغني عن خدمة أبويه في هذه السن، وهذا ما قال به المذهب الحنفي.
وفي أيامنا هذه امتد سن الحضانة حتى التخرج من الجامعة، بسبب تغير وتبدل ظروف الحياة، وهذا هو معنى تغير الأحكام بتغير الزمان.. الأمر الذي يبرر الحاجة إلى اجتهاد جديد واستنباط أحكام فقهية تناسب العصر، كما أن اختلافات المذاهب الفقهية نفسها سهلت علينا العمل لتوحيد المسائل الفقهية والقانونية، وإدماجها في المنظومة القانونية السارية وصياغتها في مواد قانونية عامة.
* تربط دائما في كلامك بين الشأن السياسي والجانب التشريعي الذي تعتبره مؤشرا على استقلال القرار الوطني.. فهل المسألة برأيك تحتاج إلى هذا الربط؟
- طوال 14 قرنا كانت الشريعة هي الحاكمة في جميع بلاد المسلمين وعلى كافة المواطنين مسلمين وغير مسلمين، وطنيين وأجانب إلى أن جاء القرن التاسع عشر الميلادي فتغيرت الظروف والأوضاع بقدوم الاستعمار الأوروبي إلى بلادنا، وجرى تنصيب حكام جاءوا بإرادة واختيار المستعمر، فبات همهم وواجبهم الأول البقاء في الحكم بأي طريقة كانت، وحاولوا إرضاء القوى الأجنبية بإبعاد الشريعة عن التطبيق حتى نتشبه بأوروبا.
وإذا لم يكن الحاكم الذي يحكم الدولة الإسلامية في ظل الاستعمار الأوروبي (خواجة) فإن المستشار الخاص به غالباً ما كان (خواجة أوروبي) يشير عليه باستبعاد الشريعة من التحاكم إليها وينصحه باستخدام القوانين الأوروبية.. هذا التحول من التطبيق الكامل للشريعة على مدى القرون الماضية إلى إحلال القوانين الأوروبية محل الشريعة لم يحدث إلا في القرن التاسع عشر رغم رفض الناس لهذه القوانين المستوردة.
ومع تنامي شعور الوطنية تم النص في أول دستور للبلاد عام 1923 على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام.. وفي دستور عام 1971 تغير النص إلى أن الشريعة مصدر رئيسي للتشريع. وفي عام 1980 جرى استفتاء شعبي لتعديل المادة الثانية وجعل الشريعة من مصدر رئيسي للتشريع إلى (المصدر الرئيسي للتشريع) من باب استجلاء النص وتأكيده، وكان هذا كله نتيجة ضغوط شعبية، وقد كتبت في المذكرة الإيضاحية لهذه المادة بخط يدي أنه في حالة عدم وجود نص في الشريعة، نأخذ من القوانين الأخرى بشرط ألا يتعارض ذلك مع أحكام الشريعة الإسلامية.
وقد أرادت مصر بذلك أن تعود إلى وجهها الإسلامي، فتم تشكيل لجنة لتقنين الشريعة الإسلامية، وكنت رئيسا لها منذ توليتي رئاسة مجلس الشعب في السبعينيات.
* هناك تصريح منشور لوزير الأوقاف الأسبق الشيخ "إبراهيم الدسوقي" في أحد اجتماعات لجنة الشئون الدينية بمجلس الشعب عام 1982 أكد فيه أنه تم الانتهاء من 95% من قوانين الشريعة ويجري العمل على الانتهاء من النسبة المتبقية، هذا الكلام قيل منذ 25 عاما.. فلماذا لم نسمع عنه شيئا بعد ذلك؟
- لقد بدأنا العمل الفعلي للتقنين في عام 1978 وقمنا بالاستعانة بصفوة من العلماء المتخصصين من الأزهر والقضاة وأساتذة كليات الحقوق وبعض الخبراء من المسلمين والمسيحيين، وقسمنا العمل إلى لجان يرأس كل لجنة أحد أعضاء مجلس الشعب إلى جانب هؤلاء الخبراء. وكانت الخطة تقوم على عدم التقيد بالراجح في مذهب معين، بل الأخذ بالرأي المناسب من أي مذهب من المذاهب الفقهية.
وشرعنا في التقنين على أبواب الفقه وتقسيماته، وما لم نجده في كتب الفقه نلجأ إلى مقاصد الشريعة في استنباط الأحكام، وفي حالة تعدد الآراء الفقهية للمسألة الواحدة نختار واحداً منها مع ذكر الآراء الأخرى ومصادرها على هامش الصفحة ليرجع إليها من يشاء.
ومع حلول عام 1983 تم الانتهاء من جميع أعمال التقنين، وقمنا بطباعتها وعرضها على مجلس الشعب، وحظي بالموافقة عليه بالإجماع من أعضاء المجلس المسلمين والمسيحيين.. ومضابط المجلس مازالت موجودة وثابتة، وتشير إلى مدى تحمس المسيحيين لتطبيق الشريعة الإسلامية.
* هل يعني هذا الكلام أن مشروع تقنين الشريعة كانت تتبناه مجموعة أفراد في السلطة.. أم كان مشروعا للدولة المصرية؟
- الوصف الأدق له أنه كان مشروعا يساير (توجه) الدولة، وليس (مشروعا) للدولة، لأنه توقف بالفعل بعد أن غيرت الدولة سياستها منه!!، ولأن الدولة أحيانا إذا أرادت شيئا تجعل أحد أعضاء المجلس يقدم الاقتراح بقانون بإيعاز منها وبالنيابة عنها، وكان الرئيس السادات في كل الاجتماعات يحثنا على الإسراع لإنجاز مشروع التقنين.. وكان يطالبنا بعدم الانتظار حتى يكتمل تقنين كل القوانين، واقترح مرة أن ندفع بما ننجزه أولا بأول إلى مجلس الشعب لأخذ الموافقة عليه تمهيدا لتطبيقه وسريانه في المنظومة القانونية.
*هذا كلام جديد على الناس.. فهل كان السادات جادا فعلا في هذا الشأن وينوي تطبيق الشريعة في مصر؟ وهل أجهض حادث اغتياله تحقيق هذا المشروع؟
- استطيع أن أجزم أن الرئيس السادات (رحمه الله) كان جادا في مسألة تطبيق الشريعة، وكان سلوكه وكلامه يقطعان بذلك.. ولو قدرت له الحياة عاما أو عامين آخرين لرأينا تقنين الشريعة مطبقا على أرض الواقع.
أما بخصوص حادثة اغتياله، فلا أنا ولا أنت نعرف الجناة الحقيقيين الذين ارتكبوا هذه الجريمة(!!!).
**طبعنا آلاف النسخ من أعمالالتقنين ووزعناها على مكتبات الجامعات والمراكز البحثية وعلى كبار الشخصيات.. لكنهااختفت فجأة بطريقة غامضة!! .
* ما الذي حدث بعد اغتيال السادات وأوقف تطبيق أحكام الشريعة التي قمتم بتقنينها؟
- هذه قصة كبيرة.. ولكن باختصار يوجد في لائحة مجلس الشعب ما يسمى بمشروع القانون وهو الذي تقدمه الدولة، واقتراح بقانون وهو الذي يقدمه عضو المجلس من خلال لجنة الاقتراحات والشكاوى التي تحكم على مدى صلاحيته. ولأن الاقتراح بتقنين الشريعة لم يكن مشروعا مقدما من الحكومة إنما تم تقديمه من جانبنا باعتباري رئيسا لمجلس الشعب؛ وبالتالي هذا الاقتراح بتعديل القوانين القائمة وتغييرها بأحكام الشريعة كان لا بد من موافقة لجنة الاقتراحات والشكاوى عليه، وتمت الموافقة وأحيل إلى اللجنة التشريعية بالمجلس وبدأت اللجنة التشريعية في دراسته ومرت سنة ولم ينته فيه الرأي بالرفض أو القبول إلى أن انتهى الفصل التشريعي.
وطبقاً للائحة يسقط الاقتراح بانتهاء الفصل التشريعي للمجلس وينبغي تقديمه من جديد ولم يتقدم أحد بالمشروع مرة أخرى عقب خروجي عام 1983 من المجلس.. وأذكر أن رئيس المجلس الدكتور رفعت المحجوب قال لي إنه ليس لديه مشروع قانون أو اقتراح بقانون إنما ما لديه هو أوراق مكتوبة!!.
* ولماذا لم يقم أحد أعضاء المجلس بتقديم طلب جديد حتى تأخذ قوانين الشريعة دورتها ويتم المصادقة عليها من مجلس الشعب.. وهل كان هناك قرار من القيادة السياسية بإيقاف هذا المشروع؟
- للأسف لم يتقدم أحد من أعضاء المجلس بتقديم اقتراح بقانون لإقرار قوانين الشريعة.. وقد سألت الدكتور رفعت المحجوب في ذلك الوقت، وكانت إجابته أن الظروف السياسية والوضع العام لا يسمحان بذلك، وهذا معناه أن القيادة السياسية لا ترغب في الموضوع(!!)، وظلت القوانين في أدراج المجلس حتى الآن منذ عام 1983.
لكن الأغرب من ذلك أن كثيرين من الغيورين والراغبين في تطبيق الشريعة من أعضاء المجلس جاءوني، فقلت لهم تقدموا أنتم باقتراح بقانون، ونرى ماذا يفعلون، لكن أحدا منهم لم يتقدم.. والأشد غرابة أننا طبعنا آلاف النسخ من هذا التقنين، وقمنا بتوزيعها على مكتبات الجامعات والمراكز البحثية ومكاتب أساتذة كليات الحقوق والقضاة العاملين بالمحاكم والصحافة وكبار الشخصيات، وكل من له اهتمام بالموضوع، لكنها اختفت كلها بطريقة غامضة بيد جهة مجهولة!!.
* هل توجد بالفعل ضغوط خارجية لتعطيل مشروع تقنين الشريعة.. أم أنه قرار داخلي برأيك؟
- الأمور متداخلة وغير واضحة أمامي.. والقرار السياسي قد يتأثر بكلا العاملين معا؛ فالدولة كانت تساعد، وفجأة توقف الموضوع، وقد حدث أمران خارجيان قد يكونان السبب في التعطيل: الأول الثورة الإيرانية عام 1979 وتهديدات إيران بتصدير الثورة، والبعض فهم أن تطبيق الشريعة سيجعل مصر إمارة إسلامية..
والحدث الثاني وهو تطبيق الشريعة في السودان وكان هذا محل جدل بيني وبين النميري رئيس السودان، فقد أخذ بالمبادئ والأحكام المتطرفة في محاولة لتقنين الشريعة وتطبيقها.. مثل رأي الإمام مالك الذي يحرم شرب الخمر على الإطلاق، في حين أن رأي أبي حنيفة يسمح بشرب الخمر لغير المسلمين طالما أن دينهم يسمح بذلك ومعلوم أن أبناء الجنوب يشربون الخمر، وكان ذلك سببا لإشعال التمرد ضده وتدخل مجلس الكنائس العالمي وانتهى الأمر بالانقلاب عليه.
* هل نوعية أعضاء مجلس الشعب في الثمانينيات لعبت دورا في دفع مشروع تقنين الشريعة للأمام.. وما الفرق بينهم وبين أعضاء مجلس الشعب اليوم؟
- بالطبع فقد كان المجلس يضم مجموعة متميزة من الأعضاء المميزين.. أذكر منهم الشيخ صلاح أبو إسماعيل والمستشار ممتاز نصار وغيرهم.. أما الآن فقد دخل عدد من الأعضاء المجلس "بفلوسهم" وهم يريدون فقط استعادة هذه الفلوس أو زيادتها!!.
* ما رأيك في زعم البعض من أن إقدام السادات على الإفراج عن الإسلاميين المعتقلين وإعطائهم الحرية كان للتخلص من اليساريين؟
- هذا الكلام غير صحيح بالمرة وهي شائعات مختلقة، فالسادات أطلق سراح الإسلاميين المعتقلين وحررهم من القيود التي كانوا فيها بعد أن كان اليسار مسيطرا تماما على الساحة.. كل ما في الأمر أنه سمح لهم بالتمتع بحقوق المواطنة المسلوبة منهم كنوع من تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، ولأن اليساريين ليس لهم وزن في الشارع أطلقوا مثل هذه الأكاذيب المغلوطة.
* وما رأيك في السجال الدائر الآن ومطالبة البعض بتغيير المادة الثانية من الدستور؟.. وهل يمكن أن يحدث ذلك؟
- أشك كثيرا في أن يحقق المطالبون بتغيير المادة الثانية هدفهم؛ لأن اليسار لا حياة ولا مستقبل له في مصر، وزعماء هذا التيار معزولون عن الناس، وهناك حقيقة لا بد من التأكيد عليها وهي أن الابتعاد عن الدين في مصر خطر وخطأ.. لأن الشعب المصري متدين بطبيعته، والتيار العلماني الذي يدعو لفصل الدين عن الدولة -كما حدث في تركيا- هو أيضا لا حياة ولا مستقبل له في مصر.
* ولكن هل يمكن أن تُعقد صفقة ما مع السلطة تفضي إلى تغيير المادة الثانية والإجهاز عليها؟
- لا يمكن هذا أيضا لأنهم لن يجدوا عضواً واحداً يساير هذا الاتجاه، ولعل ما حدث مؤخرا من هجوم وانتقادات حادة ضد وزير الثقافة بسبب تصريحاته حول موضوع الحجاب وقيام أعضاء من الحزب الوطني بقيادة هذا الهجوم مما يؤكد ذلك، كما أن مؤسسة الرئاسة ليس في مصلحتها تبني هذا الاتجاه والاصطدام مع مشاعر الناس.
* ولكن مع تزايد الضغوط من جانب العلمانيين واليساريين، بل ومن الأمريكان، قد ترضخ الدولة وتقوم بتغيير تلك المادة؟
- ضغوط العلمانيين واليساريين لا قيمة لها.. كما أن الإدارة الأمريكية غارقة في المشاكل وهي ليست على استعداد للتورط أكثر بإدخال نفسها في هذا الأمر.
* يقول العلمانيون في معرض رفضهم للمادة الثانية إن الدولة كيان محايد، لا ينبغي وصفه بالإسلامي أو الكونفشيوسي أو البوذي أو أي صفة أخرى، حتى تحقق مبدأ المواطنة.. فما رأيكم في هذا الطرح؟
- هؤلاء يتكلمون وفق مفاهيم غربية مقطوعة الصلة بخصوصيتنا وهويتنا.. فهم لا يدركون أن هناك فروقا محددة تفصل بين الدين والكهنوت، فأوروبا اليوم تفصل بين الدولة والدين بمفهومه الأوروبي (الكهنوتي).. بينما الإسلام يجمع بين الدين والدولة ولا يوجد فيه كهنوت.
وحين نصف الدولة بأنها إسلامية فإن ذلك يعني أنها تستمد ثقافتها وتشريعاتها من تراثها الإسلامي، وهذا التراث شارك في وضعه المسلمون وغير المسلمين، وعليه فإن النص على أن دين الدولة هو الإسلام هو الذي يضمن لغير المسلمين حقوقهم ويجعله واجبا شرعيا وليس مجرد نصوص قانونية وضعية يسهل التلاعب بها والخروج عليها.
**لن يستطيع أحد أيا كان في مصرتغيير المادة الثانية من الدستور لأنها في حمايةالشعب.
* لو ألغينا المادة الثانية من الدستور التي تنص على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة.. فما المصدر البديل الذي نستقي منه القوانين؟
- لن يكون أمامنا في هذه الحالة إلا القوانين الوضعية الغربية المستمدة من القانون الروماني متمثلة في التشريعات الفرنسية والإيطالية والإسبانية.. فكأننا نتخلى عن هويتنا واستقلالنا القضائي والقانوني لصالح قوانين الدول التي احتلت بلادنا ونهبت ثرواتنا.
ومن يقولون بأن المرجعية الدولية المتمثلة في الاتفاقيات والمعاهدات الدولية تكفي بديلاً عن الشريعة الإسلامية، نرد عليهم بأن هذه الاتفاقات والمعاهدات التي تصدر عن الأمم المتحدة تعبر عن فلسفة مادية غربية لا تتناسب مع ثقافتنا، ومن يراهنون على تلك المعاهدات لتوفير حقوق المواطنة في البلدان العربية والإسلامية، نسألهم: وهل ساوت المجتمعات الأوروبية والأمريكية بين المواطنين فيها!!.. أليس هناك تمييز عنصري وتهميش للمسلمين المقيمين في الغرب؟.. ألم تسمح تلك المعاهدات والاتفاقيات الدولية بزواج الرجل من الرجل والمرأة من المرأة فهل نأخذ بهذه القوانين ونرفض الشريعة؟!.
* ثمة تكهنات تقول إن إدخال مادة المواطنة يستهدف إلغاء المادة الثانية فما رأيكم؟
- من يطلق هذا الكلام يفهم المواطنة على أنها استبعاد للشريعة وإلغاء للمادة الثانية، وينسى أن المواطنة كحقوق وواجبات هي مفهوم إسلامي وإن كانت كمصطلح أصلها إغريقي، والإسلام أقام أول دولة على مبدأ المواطنة والمساواة التامة بين المواطنين بصرف النظر عن دينهم أو لونهم وهي دولة المدينة التي وضع دستورها الرسول صلى الله عليه وسلم فيما سمي (الصحيفة) وهي أول دستور يحدد حقوق وواجبات المواطنين ويساوي بينهم، على عكس الوضع الذي كان سائداً في أوروبا حيث القانون ينص على أن الناس على دين ملوكهم، وإلا فلا حق لمن يخالف ذلك في المواطنة والحقوق المترتبة عليها.
* هناك من يزعم بأن تطبيق الشريعة ينتقص من حقوق المسيحيين؟
- هذا كلام يمزج بين الخطأ والجهل؛ لأن الشريعة الإسلامية التي طبقت على مدى قرون طويلة من الزمان أنصفت غير المسلمين في البلاد الإسلامية بأكثر مما فعلت أي حضارة أخرى في العالم؛ ويكفي تلك القاعدة الذهبية التي تجسد حقوق المواطنة لكل من يقيم في البلدان الإسلامية (لهم ما لنا وعليهم ما علينا).
* ولكن بعض المسيحيين يبدون تخوفات ويثيرون اعتراضات تستند على حجج تبدو منطقية.. فكيف تنظرون إليها؟
- هذا الموضوع كان مثار نقاش بيني وبين البابا شنودة، الذي أبدى تخوفه من بضعة أمور: منها شهادة غير المسلم على المسلم، وقضاء غير المسلم على المسلم، وهو مبدأ مطبق حاليا في القضاء المصري، ويستند على رأي الإمام أبي حنيفة الذي أجاز ذلك.. وكان تخوف البابا شنودة من أن يأتي حاكم يأخذ بالرأي الآخر الذي لا يبيح ذلك، فقلت له إن هذا لو حدث فسيكون كارثة على الجميع، المسيحي والمسلم على السواء(!!).
* سمعنا مؤخرا من يطالب بمعادلة المادة الثانية للدستور وتضمينها نصاً يضيف الشريعة المسيحية كمصدر للتشريع للإخوة المسيحيين كنوع من الترضية لهم؟
- المسيحية ديانة سماوية عظيمة، ولكن ليس فيها شريعة تنظم حياة البشر كما هو الحال في الإسلام.. فالمسيح عليه السلام كان يردد "مملكتي ليست هنا إنما في السماء" وأعلى درجات الكمال عند المسيحي، هي الرهبنة.
أما الإسلام فهو عقيدة وشريعة ودين ودولة، ووقت ظهور المسيحية كان هناك قانون بلغ أعلى درجات كماله، وهو القانون الروماني؛ فالناس في ذلك الوقت لم يكونوا في حاجة إلى حماية قانونية.. ولكنهم كانوا في حاجة إلى هداية روحية وأخلاقية فجاءت المسيحية لتعويض هذا النقص.
وحين جاء الإسلام لم يغرق في التفاصيل كما فعلت الشريعة اليهودية؛ لأن اليهودية هي أيضاً عقيدة وشريعة، ولأن الشريعة التي جاء بها الإسلام هي خاتم الرسالات السماوية فقد سمح بالاجتهاد فيما لا نص فيه.. فالقرآن الكريم يقول (أحل الله البيع) وترك عملية البيع بدون تفاصيل ليسمح مع تقدم العصور بأنواع من البيع لم تكن موجودة زمن نزول الرسالة.
ووضع الفقهاء قاعدة ذهبية تقول (تتغير الأحكام بتغير الزمان).. وهذا الزمان يتضمن المعنى الفلكي والمكاني الثقافي، وهي قاعدة تفتح الباب واسعاً للاجتهاد بشروطه فيما لا نص فيه من القرآن الكريم والسنة النبوية.
المرجع
http://www.islamonline.net/servlet/S...ah%2FSRALayout
الفصل الثالث
مصادر التشريع الإسلامي
مفاهيم يجب أن تصحح
غياب المصطلحات
إن غياب المصطلحات المتخصصة وعدم إدراك مدلولاتها يوقع الكل في أخطاء جسيمة لا يُحمد عقباها..
خذ على سبيل المثال مصطلح: (نظام الحكم في الإسلام) و (مبادئ نظام الحكم في الإسلام). والخلط بينهما.. ثم مصطلح( مقاصد الشريعة الإسلامية )
إن معرفة دلالة كل لفظ له أهميته من حيث النتائج والآثار المترتبة عليها..
فالإسلام في نظام الحكم مثلاً لم يأت بنظام معين أو بصورة معينة أو قالب معين مفروض على الأمة وقال هذا هو نظام الحكم في الإسلام فطبِقوه.أبداً.. لم يحدث هذا..فالحكم الملكي صورة من صور الحكم، والحكم السلطاني صورة من صور الحكم، والحكم الجمهوري صورة من صور الحكم، والخلافة صورة من صور الحكم. كل هذه صور من صور الحكم تخضع لدستور الدولة والذي يحكمه مجموعة من مبادئ نظام الحكم..
فالإسلام في نظام الحكم إنما جاء بمجموعة من المبادئ والنظريات تصلح للتطبيق في كل مكان وفي كل زمان ، على أن تترك صور الحكم تبعاً لكل بلد طالما التزم النظام بمبادئ الحكم في الإسلام..
يراجع بالتفصيل كتاب " مبادئ نظام الحكم في الإسلام" للدكتور عبد الحميد متولي..ومن الضروري جداً قراءة المقدمة والتي لأهميتها طبعها منفصلة عن الكتاب..
هذا عن مصطلح( نظام الحكم في الإسلام ) والخلط بينه وبين (مبادئ نظام الحكم في الإسلام).
أما الحديث عن مقاصد الشريعة الإسلامية والمحددة في المادية الثانية من الدستور الرسمي للدولة فالأمر فيها مختلف تماماً، ولا شك أن دستور الدولة يعكس فلسفتها السياسية والاجتماعية أيا كانت تلك الفلسفة ومن ثم فانه على ذلك يعتبر الأساسي الشرعي لكل الأنظمة القانونية في الدولة .
ومن ثم يجب على دعاة الفكر أن يفهموا المصطلح الفقهي لمفهوم: مقاصد الشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان..وهو موضوع المبحث التالي..
مقاصد الشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان
يرتبط إحقاق حقوق الإنسان بالإصلاح الاجتماعي، فلا إحقاق للحقوق في ظِلِّ الفسادوالإفساد القائم على الجور والظلم، ولذلك فإن الشريعة الإسلامية الغراء قد أقرَّت المقاصد الشرعية الإسلامية لتحقيق الإصلاح الاجتماعي القائم على إنصاف الإنسان وإعطائه كامل حقوقه في ظلِّ العدل والمساواة، وبناءً على ذلك تتطابق نتائج حِكْمَةِ الْحُكم وعلته، ويتجلى ذلك في المقصد الذي ترمي إليه الأحكام من خلال درء المفاسد،وجلب المصالح للمخلوقات.
وإن استقراء المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية يوضح أن الشريعة قد جاءت من أجل حماية الكون، وفي مقدمته إنصاف الإنسان، وتحريره من الظلم، وفرضت أحكام الحلال والحرام، وأباحت الرخص بشروطها المعقولة في حالات استثنائية من أجل حفظ المهجة، ورعاية المصالح العامة والخاصة، واعتماد تقعيد العموم والخصوص، وإقرار فقه الحقوق الإنسانية العامة والخاصة عملا بقاعدة "لا ضرر ولا ضرار".
ومَن يستقرئ أصول الأحكام الشرعية وفروعها يجد توافقاً عقلياًّ وشرعياًّ على ضرورة توفر الشروط الخاصة بكل حُكم، والشرطُ العامّ هو توفر الأهلية باعتبارها مناط التكليف الشرعي القائم على الأمرِ بطاعةٍ،والنهي عن معصيةٍ، واشتراطُ الأهلية لوجوب التكليف هو الضمان الأساسي لحقوق الإنسان لأن انعدام الأهلية يُسقط التكليف لعدم وجود الاستطاعة.
وبمعنى آخر :إن طاعة الحاكم الشرعي، أو غير الشرعي لا تقتضي ظلم الرعية لأن ظلمها يتعارض مع مقاصد الشريعة الشرعية، ومع شرعة حقوق الإنسان الوضعية، والفارق كبير بين طاعة الخالق، وطاعة المخلوق، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنما تجب طاعة المخلوق من أجل طاعة الخالق، وبناء على ذلك يتضح الواجب الشرعي القاضي بالإنصاف، والناهي عن الظلم، وميزان تقييم تأدية الواجب هو مدى التزام الحكام عامةً وخاصّةً بتطبيقِ العدل المأمور به شرعاً وعقلاً ونقلاً، وتَجَنُّبِ الْجَور المنهي عنه شرعاً وأخلاقياًّ وإنسانياًّ وفلسفياًّ.
إن رصد وقائع الأحداث في عالمنا المعاصر يوضِحُ وجود حراك وجدال ومناظرات في الميادين الفكرية والتشريعية والسياسية والفلسفية، وكل فريق يدعي أنه يمتلك الحل السحري للمعضلات البشرية، ويضمن حقوق الإنسان من العدوان، ويتمسك بالديمقراطية التي تخدمه، ولو ألغت الفريق المعارض له، وفي خضم الجدال نجد بعض المجادلين الناقمين على الإسلام يعادون أفكار الآخرين بسبب التعصب الذاتي، وبسبب جهلهم ما عند الآخر،والإنسان عدو ما يجهل بالغريزة،ومن هنا نجد من يعادي الشريعةالإسلامية ويعتبرها خطراً على حقوق الإنسان لأنه يجهل أحكام الشريعة وأسبابها وشروطها وعللها.
وهنالك مَن يدعي مسّ الشريعة الإسلامية بحقوق الإنسان، وسبب الادعاءات هو أن ذلك الْمُدّعي لم يقرأ التراث الشرعي الإسلامي، ويهاجم بدوافع الحقد والكراهية، والأحكام المسبقة دون اعتبار للأدلة الواضحة للمنصفين، ولكن المنصف الذي درس التراث، واعتنى بتأصيل العلوم، ومعرفة سياقها التاريخي بشكل دقيق يعلم عدالتها، ويتأكد من شرعيتها بإسنادها إلى المصدر الأول في عهد النبوة، إذ أنالعمل بما هو شرعي يقتضي النصَّ قولاً أو عملاً أو إقراراً، ولدى استقراء ما وصلنامن عهد النبوة والخلافة الراشدة، ثم الخلافة الأموية فالعباسية فالعثمانية نجد تسلسل انتقال العلوم من التأصيل إلى التفريع، ومن الإجمال إلى التفصيل، وفي استقراء وقائع الأحداث في جميع المراحل التاريخية منذ فجر الإسلامحتى الآن نجد أن حفظ حقوق الإنسان منوط بالتمسك بمقاصد الشريعة التي يُعبَّرُ عنها بالمصالح، وقد وصلتنا نصوص مخطوطة لعلماء أجلاء تدعم الروايات الشفوية المتواترة بالسماع الصحيح الذي أخذه الخلف عن السلف.
ومن العلماء المؤلفين الذين تركوالنا نصوصا مضيئة حول المصالح الإنسانيةالإمام العزّ بن عبدالسلام المتوفى عام 660 ﻫ / 1262م،وضمّنها كتابه (قواعد الأحكام في مصالحالأنام) وبيَّن كيفية "جَلْبِ مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ، وَدَرْءِ مَفَاسِدِهِمَا"،وقال: "لِلدارَيْنِ مَصَالِحُ إذَا فَاتَتْ فَسَدَ أَمْرُهُمَا، وَمَفَاسِدُ إذَا تَحَقَّقَتْ هَلَكَ أَهْلُهُمَا" وفي هذا الكلام إشارة إلى حفظ حقوق الإنسان في الدنيا والآخرة.
ومن كتب التراث الإسلامي الرائدة في إيضاح حقوق الإنسان كتاب الموافقات الذي ألفه الإمام الشاطبي المالكي،وضمَّنه مقاصد الشريعة الإسلامية التي تضمن حقوق الإنسان، وكانت وفاة الشاطبي سنة 790 ﻫ / 1388م في عهد السلطان العثماني مراد الأول الذي استشهد بعدالانتصار في معركة كوسوفو، ومصطلح المقاصد عند الأصوليين مُواز لمصطلح المصالح، ومافيه مقصد للشريعة فيه مصلحة للبشر، ومجيء المصالح بمعنى المقاصد وارد عندالإمام الزركشي الشافعي
( 745 - 794 ﻫ / 1344 - 1392م) حيث يستخدم مصطلح المصالح بدل مصطلح المقاصد، وهذا واضح في كتاب البحر المحيط في أصول الفقه حيث يقول:
"قَالَ أَصْحَابُنَا: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الأَحْكَامَ كُلَّهَا شَرْعِيَّةٌ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ, إجْمَاعُ الأُمَّةِ عَلَى ذَلِكَ, إمَّا عَلَى جِهَةِ اللُّطْفِ وَالْفَضْلِ عَلَى أَصْلِنَا, أَوْ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ عَلَى أَصْلِ الْمُعْتَزِلَةِ, فَنَحْنُ نَقُولُ: هِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الشَّرْعِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ, وَلا لأَنَّ خُلُوَّ الأَحْكَامِ مِنْ الْمَصَالِحِ يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ كَمَا يَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ, وَإِنَّمَا نَقُولُ: رِعَايَةُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ أَمْرٌ وَاقِعٌ فِي الشَّرْعِ, وَكَانَ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ أَنْ لا يَقَعَ كَسَائِرِالأُمُورِ الْعَادِيَّةِ".
ويستخدم الزركشي مصطلح الاستصلاح في قوله: "وَلَكِنَّ الَّذِي عَرَفْنَاهُ مِنْ الشَّرَائِعِ أَنَّهَا وُضِعَتْ عَلَى الاسْتِصْلَاحِ , ودَلَّتْ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الأُمَّةِ عَلَى مُلاءَمَةِ الشَّرْعِ لِلْعِبَادَاتِ الْجِبِلِيَّةِ،وَالسِّيَاسَاتِ الْفَاضِلَةِ، وَأَنَّهَا لا تَنْفَكُّ عَنْ مَصْلَحَةٍ عَاجِلَةٍ وَآجِلَةٍ"، وتتعدد المصطلحات المرتبة بالمقاصد والمصالح عند الأصوليين المسلمين،وهذا واضح عند الزركشي في معرض البحث في موضوع "[ الْمَسْلَكُ ] الْخَامِسُ فِي إثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ [الْمُنَاسَبَةُ]" حيث يقول الزركشي:
"وَهِيَ مِنْ الطُّرُقِ الْمَعْقُولَةِ , وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِـ "الإِخَالَةِ "وَبِـ" الْمَصْلَحَةِ " وَبِـ " الاسْتِدْلالِ " وَبِـ " رِعَايَةِ الْمَقَاصِدِ ". وَيُسَمَّى اسْتِخْرَاجُهَا " تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ" لأَنَّهُ إبْدَاءُ مَنَاطِ الْحُكْمِ. وَهِيَ عُمْدَةُ كِتَابِ الْقِيَاسِ،وَغَمْرَتُهُ، وَمَحَلُّ غُمُوضِهِ وَوُضُوحِهِ. وَهُوَ تَعْيِينُ الْعِلَّةِ بِمُجَرَّدِ إبْدَاءِ الْمُنَاسَبَةِ , أَيْ : الْمُنَاسَبَةِ اللُّغَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْمُلاءَمَةُ" وفي هذا الكلام إيضاح عدد من المرادفات التي استعملها العلماء للتعبير عن مراعاة المقاصد الشرعية ورعاية المصالح الإنسانية، وهذا دليلعلى قِدَم الاهتمام بالمقاصد والمصالح رغم تنوع المصطلحات المعبرة عنها عبر القرون التي سبقت القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، ومازالت معتبرة حتى العصرالحاضر.
لاشك أن العلوم قد تطورت، وتفرعت عن الأصول فروع كثيرة، ولم تتخلف الشريعة الإسلامية عن مواكبة العصر حسبما يراه بعض المتخلفين الذين لم يفهمواالشريعة، فللشريعة مقاصد حيوية مناسبة لكل عصر، والمقاصد تتعلق بالفرد وبالمجتمع،وهي بذلك تحفظ حقوق الإنسان الفرد الضرورية المتمثلة بحفظ النفس، وحفظ الدين، وحفظ العرض، وحفظ العقل، وحفظ المال، كما تحفظ الشريعةالإسلامية حقوق الجماعة الإنسانية التي تبدأ بالأسرة،وتتسع لتشمل الإنسانية عامة، وتبدأ بحفظ الحقوق الإنسانية ابتداءً بالعلاقات الأُسَريّة التي تشمل حفظ النوع البشري بتنظيم العلاقة بين الجنسين، وحفظ النسب، وتحقيق السكن والمودة والرحمة جراء التعاون علمياًّ وعملياًّ في كافة المناشط الإنسانية العاطفية والدينية والاقتصادية، وبالإضافة للعلاقات الأسرية أوجبت الشريعة في حلقة أوسع حقوق الأُمّة، وفرضت قيام مؤسسات الدولة لإقامة العدل بين الناس، ولحفظ الأمن والأمان، ورعاية مكارم الأخلاق، وإقرار التكافل الاجتماعي ، ونشر العلوم، ومكافحة الجهل، والمحافظة على المال الخاص والعام، والتعاون مع الأمم الأخرى لتحقيق إعمار الأرض المأمور به شرعاً، ومكافحة التدمير والتخريب المنهي عنه شرعا، والأدلة الشرعية على ذلك ثابتة بنصوص القرآن الكريم، والسُّنّة النبوية المطهرة، وأدلة إجماع السلف الصالح، وما يتضمنه التراث الشرعي الإسلامي من المنقول والمعقول
ولا تقتصر حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية على الضروريات، بل تتجاوزها إلى الحاجيات والتحسينيات والتكميليات.
فأماالحاجيّات فهي ما يُفْتَقَرُ إليه من حيث التَّوْسِعة على الناس، ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، وتشمل ما يتعلق بالحاجات العامة، ولا يصل إلى مرتبة الضروريات.
وأماالتحسينات فتشمل مكارم الأخلاق، ومُستحسَن العادات والتقاليد، وتستبعد ما يؤذي الذوق العام مما يأنفه العاقلون، واستقراء ما تضمنته الشريعة الإسلامية من مقاصد الشريعة وماانطوت عليه من الضروريات والحاجيات والتحسينيات والتكميليات يُوضح لنا أن الشريعة الإسلامية قد ضمنت حقوق الإنسان كأفضل ما يكون، وأن دعاوى النقاد المعادين ما هي إلا غمامة صيف لا مطر فيها ولا خير للإنسانية، بل هي دعاوى شاذة تقوم على الجهل والتجني.
وتضمنت الشريعة الإسلامية آلية لحفظ الحقوق الإنسانية، وذلك بفرض العقوبات على المخالفين لتردعهم عن إلحاق الأذى بغيرهم،وتناسبت الحدود الشرعية مع نوعية المخالفة وما تنتجه من ضرر خاص أو عام، فهنالك حَدُّ الردة لحفظ الدين، وحَدُّ القتل العمد العدوان قصاصاً لحفظ النفس، وحَدُّالزنا لحفظ النسب أو النسل، وحَدُّ شرب الخمر لحفظ نعمة العقل، وحَدُّ قطع السارق لحفظ المال، وحَدُّ القذف لحفظ العِرْض والسُّمعة من افتراء المفترين، وتطبيق هذه الحدود هو من أجل ردع من تسول له نفسه تدمير القيم الإنسانية، وليست من أجل التنكيل بالمجرم.
إن المنقول والمعقول الشرعي الإسلامي قد نصَّ على حفظ حقوق الإنسان في الحياة، والدليل قوله تعالى:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ }المائدة32
وحق الإنسان في الحرية التي أشار إليها الخليفة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بقوله لابن الأكرمين: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" وحق المساواة بين الناس والحكم بالعدل، والدليل قوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}سورة النساء، الآية:58.
وحق الدفاع عن النفس والعرض والمال، وذلك بالرد على المعتدي، والدليل قوله تعالى:
{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} سورة البقرة، الآية: 194.
وهنالك حقوق كثيرة ضمنها الشريعة لكي يحيا الإنسان حياة حرة كريمة دون أن يؤذى، أو يُلحق الأذى بالآخرين عملا بالقاعدة الشرعية التي تقول: " درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة" ويكون ذلك بالحكمة، وليس اعتباطاً.
لقد أوضح الإمام ابن تيمية الطريقة القويمة والمنهاج الواضح في كيفية التعامل مع كافة القضايا حيث يقول: "والمؤمن ينبغي له أن يَعْرف الشرور الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة، كما يَعْرف الخيرات الواقعة، ومراتبها في الكتاب والسنة، فيُفَرِّق بين أحكام الأمور الواقعة الكائنة، والتي يُراد إيقاعها في الكتاب والسنة، ليقدِّم ما هو أكثر خيراً وأقل شراً على ماهو دونه، ويَدْفع أعظم الشرين باحتمال أدناهما، ويَجْتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما، فإنّ من لم يَعْرف الواقع في الخلق، والواجب في الدين: لم يَعْرف أحكام الله في عباده، وإذا لم يَعْرف ذلك كان قوله وعمله بجهل، ومَن عبدَ الله بغير علم كان ما يُفْسِد أكثر مما يُصْلِح" ومن هنا وجب على مَن يتصدى للحديث في شؤون الأمة بشكل عامّ ، وحقوق الإنسان بشكل خاص أن يعلم مضمون الشريعة، وكيفية تعاملها في الحقوق والواجبات كي يستطيع أن يكون مُنصفا، وليس مُتجنياًّ كما هو حال الكثيرين الذين يتشدقون بحقوق الإنسان، ويدعون أن الشريعة الإسلامية هي السبب، والراجح أن الذي يدفعهم إلى اتخاذ تلك المواقف هو سبب واحد من اثنين لا ثالث لهما: إما الحقد على الإسلام والمسلمين، وإما الجهل المطلق بمضمون الشريعة الإسلامية الصالحة لكل زمان ومكان.
الفصل الرابع
الدولة المدنية والدولة الدينية
نتحدث في هذا الفصل عن مصطلح (الدولة المدنية) والخلط بينه وبين مصطلح (الدولة الدينية)
إذ أن الدولة المدنية المسلمة تسمح بوجود أقليات عرقية غير مسلمة ..في حين أن الدولة الدينية لا تسمح إطلاقاً بوجود مثل هذه الأقليات..
خذ مثلاً دولة دينية كإسبانيا المسيحية فماذا بعد سقوط غرناطة المسلمة وسيطرة الدولة الدينية المسيحية عليها؟..لقد ظهرت محاكم التفتيش؟..فما هي محاكم التفتيش؟..
محاكم التفتيش
1ـ سقطت غرناطة ـ آخر قلاع المسلمين في إسبانيا ـ سنة (897 ﻫ=1492م)، وكان ذلك نذيرًا بسقوط صرح الأمة الأندلسية الديني والاجتماعي، وتبدد تراثها الفكري والأدبي، وكانت مأساة المسلمين هناك من أفظع مآسي التاريخ؛ حيث شهدت تلك الفترة أعمالاً بربرية وحشية ارتكبتها محاكم التحقيق (التفتيش)؛ لتطهير أسبانيا من آثار الإسلام والمسلمين، وإبادة تراثهم الذي ازدهر في هذه البلاد زهاء ثمانية قرون من الزمان.
وهاجر كثير من مسلمي الأندلس إلى الشمال الإفريقي بعد سقوط مملكتهم؛ فرارًا بدينهم وحريتهم من اضطهاد النصارى الأسبان لهم، وعادت أسبانيا إلى دينها القديم، أما من بقي من المسلمين فقد أجبر على التنصر أو الرحيل، وأفضت هذه الروح النصرانية المتعصبة إلى مطاردة وظلم وترويع المسلمين العزل، انتهى بتنفيذ حكم الإعدام ضد أمة ودين على أرض أسبانيا.
ونشط ديوان التحقيق أو الديوان المقدس الذي يدعمه العرش والكنيسة في ارتكاب الفظائع ضد الموريسكيين (المسلمين المتنصرين)، وصدرت عشرات القرارات التي تحول بين هؤلاء المسلمين ودينهم ولغتهم وعاداتهم وثقافتهم، فقد أحرق الكردينال "خمينيث" عشرات الآلاف من كتب الدين والشريعة الإسلامية، وصدر أمر ملكي يوم (22 ربيع أول 917 ﻫ /20 يونيو 1511) يلزم جميع السكان الذي تنصروا حديثًا أن يسلموا سائر الكتب العربية التي لديهم، ثم تتابعت المراسيم والأوامر الملكية التي منعت التخاطب باللغة العربية وانتهت بفرض التنصير الإجباري على المسلمين، فحمل التعلق بالأرض وخوف الفقر كثيرًا من المسلمين على قبول التنصر ملاذًا للنجاة، ورأى آخرون أن الموت خير ألف مرة من أن يصبح الوطن العزيز مهدًا للكفر، وفر آخرون بدينهم، وكتبت نهايات متعددة لمأساة واحدة هي رحيل الإسلام عن الأندلس.
2ـ توفي فرناندو الخامس ملك إسبانيا في (17 ذي الحجة 921 ﻫ =23 يناير 1516م) وأوصى حفيده شارل الخامس بحماية الكاثوليكية والكنيسة واختيار المحققين ذوي الضمائر الذين يخشون الله لكي يعملوا في عدل وحزم لخدمة الله، وتوطيد الدين الكاثوليكي، كما يجب أن يسحقوا طائفة محمد!.
وقد لبث "فرناندو" زهاء عشرين عامًا بعد سقوط الأندلس ينزل العذاب والاضطهاد بمن بقي من المسلمين في أسبانيا، وكانت أداته في ذلك محاكم التحقيق التي أنشئت بمرسوم بابوي صدر في (رمضان 888 ﻫ = أكتوبر 1483م) وعين القس "توماس دي تركيمادا" محققًا عامًا لها ووضع دستورًا لهذه المحاكم الجديدة وعددًا من اللوائح والقرارات.
وقد مورست في هذه المحاكم معظم أنواع التعذيب المعروفة في العصور الوسطى، وأزهقت آلاف الأرواح تحت وطأة التعذيب، وقلما أصدرت هذه المحاكم حكمًا بالبراءة، بل كان الموت والتعذيب الوحشي هو نصيب وقسمة ضحاياها، حتى إن بعض ضحاياها كان ينفذ فيه حكم الحرق في احتفال يشهده الملك والأحبار، وكانت احتفالات الحرق جماعية، تبلغ في بعض الأحيان عشرات الأفراد، وكان فرناندو الخامس من عشاق هذه الحفلات، وكان يمتدح الأحبار المحققين كلما نظمت حفلة منها. وبث هذا الديوان منذ قيامه جوًا من الرهبة والخوف في قلوب الناس، فعمد بعض هؤلاء الموريسكيين إلى الفرار، أما الباقي فأبت الكنيسة الكاثوليكية أن تؤمن بإخلاصهم لدينهم الذي أجبروا على اعتناقه؛ لأنها لم تقتنع بتنصير المسلمين الظاهري، بل كانت ترمي إلى إبادتهم.
3ـ شارل الخامس والتنصير الإجباري
تنفس الموريسكيون الصعداء بعد موت فرناندو وهبت عليهم رياح جديدة من الأمل، ورجوا أن يكون عهد "شارل الخامس" خيرًا من سابقه، وأبدى الملك الجديد ـ في البداية ـ شيئًا من اللين والتسامح نحو المسلمين والموريسكيين، وجنحت محاكم التحقيق إلى نوع من الاعتدال في مطاردتهم، وكفت عن التعرض لهم في أراجون بسعي النبلاء والسادة الذين يعمل المسلمون في ضياعهم، ولكن هذه السياسة المعتدلة لم تدم سوى بضعة أعوام، وعادت العناصر الرجعية المتعصبة في البلاط وفي الكنيسة، فغلبت كلمتها، وصدر مرسوم في (16 جمادى الأولى 931 ﻫ =12 مارس 1524م) يحتم تنصير كل مسلم بقي على دينه، وإخراج كل من أبى النصرانية من إسبانيا، وأن يعاقب كل مسلم أبى التنصر أو الخروج في المهلة الممنوحة بالرق مدى الحياة، وأن تحول جميع المساجد الباقية إلى كنائس.
ولما رأى الموريسكيون هذا التطرف من الدولة الإسبانية، استغاثوا بالإمبراطور شارل الخامس، وبعثوا وفدًا منهم إلى مدريد ليشرح له مظالمهم، فندب شارل محكمة كبرى من النواب والأحبار والقادة وقضاة التحقيق، برئاسة المحقق العام لتنظر في شكوى المسلمين، ولتقرر ما إذا كان التنصير الذي وقع على المسلمين بالإكراه، يعتبر صحيحًا ملزمًا، بمعنى أنه يحتم عقاب المخالف بالموت.
وقد أصدرت المحكمة قرارها بعد مناقشات طويلة، بأن التنصير الذي وقع على المسلمين صحيح لا تشوبه شائبة؛ لأن هؤلاء الموريسكيين سارعوا بقبوله اتقاء لما هو شر منه، فكانوا بذلك أحرارًا في قبوله.
وعلى أثر ذلك صدر أمر ملكي بأن يرغم سائر المسلمين الذين تنصروا كرهًا على البقاء في أسبانيا، باعتبارهم نصارى، وأن ينصر كل أولادهم، فإذا ارتدوا عن النصرانية، قضى عليهم بالموت أو المصادرة، وقضى الأمر في الوقت نفسه، بأن تحول جميع المساجد الباقية في الحالة إلى كنائس.
وكان قدر هؤلاء المسلمين أن يعيشوا في تلك الأيام الرهيبة التي ساد فيها إرهاب محاكم التحقيق، وكانت لوائح الممنوعات ترد تباعًا، وحوت أوامر غريبة منها: حظر الختان، وحظر الوقوف تجاه القبلة، وحظر الاستحمام والاغتسال، وحظر ارتداء الملابس العربية.
ولما وجدت محكمة تفتيش غرناطة بعض المخالفات لهذه اللوائح، عمدت إلى إثبات تهديدها بالفعل، وأحرقت اثنين من المخالفين في (شوال 936 ﻫ /مايو 1529م) في احتفال ديني.
كان لقرارات هذا الإمبراطور أسوأ وقع لدى المسلمين، وما لبثت أن نشبت الثورة في معظم الأنحاء التي يقطنونها في سرقسطة وبلنسية وغيرهما، واعتزم المسلمون على الموت في سبيل الدين والحرية، إلا أن الأسبان كانوا يملكون السلاح والعتاد فاستطاعوا أن يخمدوا هذه الثورات المحلية باستثناء بلنسية التي كانت تضم حشدًا كبيرًا من المسلمين يبلغ زهاء (27) ألف أسرة، فإنها استعصت عليهم، لوقوعها على البحر واتصالها بمسلمي المغرب.
وقد أبدى مسلمو بلنسية مقاومة عنيفة لقرارات التنصير، ولجأت جموع كبيرة منهم إلى ضاحية (بني وزير)، فجردت الحكومة عليهم قوة كبيرة مزودة بالمدافع، وأرغمت المسلمين في النهاية على التسليم والخضوع، وأرسل إليهم الإمبراطور إعلان الأمان على أن يتنصروا، وعدلت عقوبة الرق إلى الغرامة، وافتدى الأندلسيون من الإمبراطور حق ارتداء ملابسهم القومية بمبلغ طائل.
وكانت سياسة التهدئة من شارل الخامس محاولة لتهدئة الأوضاع في جنوب الأندلس حتى يتفرغ للاضطرابات التي اندلعت في ألمانيا وهولندا بعد ظهور مارتن لوثر وأطروحاته الدينية لإصلاح الكنيسة وانتشار البروتستانتية؛ لذلك كان بحاجة إلى توجيه كل اهتمامه واهتمام محاكم التحقيق إلى "الهراطقة" في شمال أوروبا، كما أن قيام محاكم التحقيق بما يفترض أن تقوم به كان يعني إحراق جميع الأندلسيين؛ لأن الكنيسة تدرك أن تنصرهم شكلي لا قيمة له، يضاف إلى ذلك أن معظم المزارعين الأندلسيين كانوا يعملون لحساب النبلاء أو الكنيسة، وكان من مصلحة هؤلاء الإبقاء على هؤلاء المزارعين وعدم إبادتهم،وكان الإمبراطور شارل الخامس حينما أصدر قراره بتنصير المسلمين، وعد بتحقيق المساواة بينهم وبين النصارى في الحقوق والواجبات، ولكن هذه المساواة لم تتحقق قط، وشعر هؤلاء أنهم ما زالوا موضع الريب والاضطهاد، ففرضت عليم ضرائب كثيرة لا يخضع لها النصارى، وكانت وطأة الحياة تثقل عليهم شيئًا فشيئًا، حتى أصبحوا أشبه بالرقيق والعبيد، ولما شعرت السلطات بميل الموريسكيين إلى الهجرة، صدر قرار في سنة (948 ﻫ =1514م)، يحرم عليهم تغيير مساكنهم، كما حرم عليهم النزوح إلى بلنسية التي كانت دائمًا طريقهم المفضل إلى الهجرة، ثم صدر قرار بتحريم الهجرة من هذه الثغور إلا بترخيص ملكي، نظير رسوم فادحة. وكان ديوان التحقيق يسهر على حركة الهجرة ويعمل على قمعها بشدة. ولم تمنع هذه الشدة من ظهور اعتدال من الإمبراطور في بعض الأوقات، ففي سنة (950 ﻫ =1543م) أصدر عفوًا عن بعض المسلمين المتنصرين؛ تحقيقًا لرغبة مطران طليطلة، وأن يسمح لهم بتزويج أبنائهم وبناتهم من النصارى الخلص، ولا تصادر المهور التي دفعوها للخزينة بسبب الذنوب التي ارتكبوها، وهكذا لبثت السياسة الأسبانية أيام الإمبراطور شارل الخامس (922 ﻫ =1516م) حتى (963 ﻫ =1555م) إزاء الموريسكيين تتردد بين الشدة والقسوة، وبين بعض مظاهر اللين والعفو، إلا أن هؤلاء المسلمين تعرضوا للإرهاق والمطاردة والقتل ووجدت فيهم محاكم التحقيق الكنسية مجالاً مفضلاً لتعصبها وإرهابها.
الألخميادو
4ـ وكانت الأمة الأندلسية خلال هذا الاستشهاد المحزن، الذي فرض عليها تحاول بكل وسيلة أن تستبقي دينها وتراثها، فكان الموريسيكيون بالرغم من دخولهم في النصرانية يتعلقون سرًا بالإسلام، وكثير منهم يؤدون شعائر الإسلام خفية، وكانوا يحافظون على لغتهم العربية، إلا أن السياسة الإسبانية فطنت إلى أهمية اللغة في تدعيم الروح القومية؛ لذلك أصدر الإمبراطور شارل الخامس سنة( 932ﻫ =1526م) أول قانون يحرم التخاطب بالعربية على الموريسكيين، ولكنه لم يطبق بشدة؛ لأن هؤلاء الموريسكيين دفعوا له (100) ألف دوقة حتى يسمح لهم بالتحدث بالعربية، ثم أصدر الإمبراطور فيليب الثاني سنة (964 ﻫ /1566م) قانونًا جديدًا يحرم التخاطب بالعربية، وطبق بمنتهى الشدة والصرامة، وفرضت القشتالية كلغة للتخاطب والتعامل، ومع ذلك وجد الموريسكيون في القشتالية متنفسًا لتفكيرهم وأدبهم، فكانوا يكتبونها سرًا بأحرف عربية، وأسفر ذلك بمضي الزمن عن خلق لغة جديدة هي "ألخميادو" وهي تحريف إسباني لكلمة "الأعجمية"، ولبثت هذه اللغة قرنين من الزمان سرًا مطمورًا، وبذلك استطاعوا أن يحتفظوا بعقيدتهم الإسلامية، وألف بها بعض الفقهاء والعلماء كتبًا عما يجب أن يعتقد المسلم ويفعله حتى يحتفظ بإسلامه، وشرحوا آيات القرآن باللغة الألخميادية وكذلك سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من أشهر كتاب هذه اللغة الفقيه المسمى "فتى أبيرالو" وهو مؤلف لكتب التفسير، وتلخيص السنة، ومن الشعراء محمد ربدان الذي نظم كثيرًا من القصائد والأغنيات الدينية؛ وبذلك تحصن الموريسيكيون بمبدأ "التقية" فصمدوا في وجه مساعي المنصرين الذين لم تنجح جهودهم التبشيرية والتعليمية والإرهابية في الوصول إلى تنصير كامل لهؤلاء الموريسيكيين، فجاء قرار الطرد بعد هذه الإخفاقات.
ولم تفلح مساعي الموريسيكيين في الحصول على دعم خارجي فعال من الدولة العثمانية أو المماليك في مصر، رغم حملات الإغارة والقرصنة التي قام بها العثمانيون والجزائريون والأندلسيون على السفن والشواطئ الأسبانية، ودعم الثوار الموريسيكيين.
واستمرت محاكم التحقيق في محاربة هؤلاء المسلمين طوال القرن السادس عشر الميلادي، وهو ما يدل على أن آثار الإسلام الراسخة في النفوس بقيت بالرغم من المحن الرهيبة وتعاقب السنين، ولعل من المفيد أن نذكر أن رجلاً أسبانيًا يدعى "بدية" توجه إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج سنة (1222 ﻫ =1807م) أي بعد 329 سنة من قيام محاكم التحقيق.
وبعد مرور أربعة قرون على سقوط الأندلس، أرسل نابليون حملته إلى أسبانيا وأصدر مرسوماً سنة 1808 م بإلغاء دواوين التفتيش في المملكة الأسبانية.
ولنستمع إلى هذه القصة التي يرويها لنا أحد ضباط الجيش الفرنسي الذي دخل إلى إسبانيا بعد الثورة الفرنسية ( كتب (الكولونيل ليموتسكي) أحد ضباط الحملة الفرنسية في إسبانيا قال: " كنت سنة 1809 ملحقاً بالجيش الفرنسي الذي يقاتل في إسبانيا وكانت فرقتي بين فرق الجيش الذي احتل (مدريد) العاصمة وكان الإمبراطور نابيلون أصدر مرسوماً سنة 1808 بإلغاء دواوين التفتيش في المملكة الإسبانية غير أن هذا الأمر أهمل العمل به للحالة والاضطرابات السياسية التي سادت وقتئذ.
وصمم الرهبان الجزوبت أصحاب الديوان الملغى على قتل وتعذيب كل فرنسي يقع في أيديهم انتقاماً من القرار الصادر وإلقاءً للرعب في قلوب الفرنسيين حتى يضطروا إلى إخلاء البلاد فيخلوا لهم الجو.
وبينما أسير في إحدى الليالي أجتاز شاراً يقل المرور فيه من شوارع مدريد إذ باثنين مسلحين قد هجما عليّ يبغيان قتلي فدافعت عن حياتي دفاعاً شديداً ولم ينجني من القتل إلا قدوم سرية من جيشنا مكلفة بالتطواف في المدينة وهي كوكبة من الفرسان تحمل المصابيح وتبيت الليل ساهرة على حفظ النظام فما أن شاهدها القاتلان حتى لاذا بالهرب. وتبين من ملابسهما أنهما من جنود ديوان التفتيش فأسرعت إلى (المارشال سولت) الحاكم العسكري لمدريد وقصصت عليه النبأ وقال لا شك بأن من يقتل من جنودنا كل ليلة إنما هو من صنع أولئك الأشرار لا بد من معاقبتهم وتنفيذ قرار الإمبراطور بحل ديوانهم والآن خذ معك ألف جندي وأربع مدافع وهاجم دير الديوان واقبض على هؤلاء الرهبان الأبالسة .. "
حدث إطلاق نار من اليسوعيين حتى دخلوا عنوة ثم يتابع قائلاً " أصدرتُ الأمر لجنودي بالقبض على أولئك القساوسة جميعاً وعلى جنودهم الحراس توطئة لتقديمهم إلى مجلس عسكري ثم أخذنا نبحث بين قاعات وكراس هزازة وسجاجيد فارسية وصور ومكاتب كبيرة وقد صنعت أرض هذه الغرفة من الخشب المصقول المدهون بالشمع وكان شذى العطر يعبق أرجاء الغرف فتبدو الساحة كلها أشبه بأبهاء القصور الفخمة التي لا يسكنها إلا ملوك قصروا حياتهم على الترف واللهو، وعلمنا بعد أنَّ تلك الروائح المعطرة تنبعث من شمع يوقد أمام صور الرهبان ويظهر أن هذا الشمع قد خلط به ماء الورد " .
" وكادت جهودنا وكادت جهودنا تذهب سدى ونحن نحاول العثور على قاعات التعذيب، إننا فحصنا الدير وممراته وأقبيته كلها. فلم نجد شيئاً يدل على وجود ديوان للتفتيش. فعزمنا على الخروج من الدير يائسين، كان الرهبان أثناء التفتيش يقسمون ويؤكدون أن ما شاع عن ديرهم ليس إلا تهماً باطلة، وأنشأ زعيمهم يؤكد لنا براءته وبراءة أتباعه بصوت خافت وهو خاشع الرأس، توشك عيناه أن تطفر بالدموع، فأعطيت الأوامر للجنود بالاستعداد لمغادرة الدير، لكن اللفتنانت "دي ليل" استمهلني قائلاً: أيسمح لي الكولونيل أن أخبره أن مهمتنا لم تنته حتى الآن؟!!. قلت له: فتشنا الدير كله، ولم نكتشف شيئاً مريباً. فماذا تريد يا لفتنانت؟!.. قال: إنني أرغب أن أفحص أرضية هذه الغرف فإن قلبي يحدثني بأن السر تحتها.
عند ذلك نظر الرهبان إلينا نظرات قلقة، فأذنت للضابط بالبحث، فأمر الجنود أن يرفعوا السجاجيد الفاخرة عن الأرض، ثم أمرهم أن يصبوا الماء بكثرة في أرض كل غرفة على حدة – وكنا نرقب الماء – فإذا بالأرض قد ابتلعته في إحدى الغرف. فصفق الضابط "دي ليل" من شدة فرحه، وقال ها هو الباب، انظروا، فنظرنا فإذا بالباب قد انكشف، كان قطعة من أرض الغرفة، يُفتح بطريقة ماكرة بواسطة حلقة صغيرة وضعت إلى جانب رجل مكتب رئيس الدير.
أخذ الجنود يكسرون الباب بقحوف البنادق، فاصفرت وجوه الرهبان، وعلتها الغبرة.
وفُتح الباب، فظهر لنا سلم يؤدي إلى باطن الأرض، فأسرعت إلى شمعة كبيرة يزيد طولها على متر، كانت تضئ أمام صورة أحد رؤساء محاكم التفتيش السابقين، ولما هممت بالنزول، وضع راهب يسوعي يده على كتفي متلطفاً، وقال لي: يا بني: لا تحمل هذه الشمعة بيدك الملوثة بدم القتال، إنها شمعة مقدسة.
قلت له، يا هذا إنه لا يليق بيدي أن تتنجس بلمس شمعتكم الملطخة بدم الأبرياء، وسنرى من النجس فينا، ومن القاتل السفاك!؟!.
وهبطت على درج السلم يتبعني سائر الضباط والجنود، شاهرين سيوفهم حتى وصلنا إلى آخر الدرج، فإذا نحن في غرفة كبيرة مرعبة، وهي عندهم قاعة المحكمة، في وسطها عمود من الرخام، به حلقة حديدية ضخمة، وربطت بها سلاسل من أجل تقييد المحاكمين بها.
وأمام هذا العمود كانت المصطبة التي يجلس عليها رئيس ديوان التفتيش والقضاة لمحاكمة الأبرياء. ثم توجهنا إلى غرف التعذيب وتمزيق الأجسام البشرية التي امتدت على مسافات كبيرة تحت الأرض. رأيت فيها ما يستفز نفسي، ويدعوني إلى القشعريرة والتـقزز طوال حياتي.
رأينا غرفاً صغيرةً في حجم جسم الإنسان، بعضها عمودي وبعضها أفقي، فيبقى سجين الغرف العمودية واقفاً على رجليه مدة سجنه حتى يموت، ويبقى سجين الغرف الأفقية ممداً بها حتى الموت، وتبقى الجثث في السجن الضيق حتى تبلى، ويتساقط اللحم عن العظم، وتأكله الديدان، ولتصريف الروائح الكريهة المنبعثة من جثث الموتى فتحوا نافذة صغيرة إلى الفضاء الخارجي. وقد عثرنا في هذه الغرف على هياكل بشرية ما زالت في أغلالها.
كان السجناء رجالاً ونساءً، تتراوح أعمارهم ما بين الرابعة عشرة والسبعين، وقد استطعنا إنقاذ عدد من السجناء الأحياء، وتحطيم أغلالهم ، وهم في الرمق الأخير من الحياة.
كان بعضهم قد أصابه الجنون من كثرة ما صبوا عليه من عذاب، وكان السجناء جميعاً عرايا، حتى اضطر جنودنا إلى أن يخلعوا أرديتهم ويستروا بها بعض السجناء.
أخرجنا السجناء إلى النور تدريجياً حتى لا تذهب أبصارهم، كانوا يبكون فرحاً، وهم يقبّلون أيدي الجنود وأرجلهم الذين أنقذوهم من العذاب الرهيب، وأعادوهم إلى الحياة، كان مشهداً يبكي الصخور.
ثم انتقلنا إلى غرف أخرى، فرأينا فيها ما تقشعر لهوله الأبدان، عثرنا على آلات رهيبة للتعذيب، منها آلات لتكسير العظام، وسحق الجسم البشري، كانوا يبدؤون بسحق عظام الأرجل، ثم عظام الصدر والرأس واليدين تدريجيا، حتى يهشم الجسم كله، ويخرج من الجانب الآخر كتلة من العظام المسحوقة، والدماء الممزوجة باللحم المفروم، هكذا كانوا يفعلون بالسجناء الأبرياء المساكين، ثم عثرنا على صندوقٍ في حجم جسم رأس الإنسان تماماً، يوضع فيه رأس الذي يريدون تعذيبه بعد أن يربطوا يديه ورجليه بالسلاسل والأغلال حتى لا يستطيع الحركة، وفي أعلى الصندوق ثقب تتقاطر منه نقط الماء البارد على رأس المسكين بانتظام، في كل دقيقة نقطة، وقد جُنّ الكثيرون من هذا اللون من العذاب، ويبقى المعذب على حاله تلك حتى يموت.
وآلة أخرى للتعذيب على شكل تابوت تثبت فيه سكاكين حادة.
كانوا يلقون الشاب المعذب في هذا التابوت، ثم يطبقون بابه بسكاكينه وخناجره. فإذا أغلق مزق جسم المعذب المسكين، وقطعه إرباً إرباً.
كما عثرنا على آلات كالكلاليب تغرز في لسان المعذب ثم تشد ليخرج اللسان معها، ليقص قطعة قطعة، وكلاليب تغرس في أثداء النساء وتسحب بعنفٍ حتى تتقطع الأثداء أو تبتر بالسكاكين.
وعثرنا على سياط من الحديد الشائك يُضرب بها المعذبون وهم عراة حتى تتفتت عظامهم، وتتناثر لحومهم.وصل الخبر إلى مدريد فهب الألوف ليروا وسائل التعذيب فأمسكوا برئيس اليسوعيين ووضعوه في آلة تكسير العظام فدقت عظامه دقاً وسحقها سحقاً وأمسكوا كاتم سره وزفوه إلى السيدة الجميلة وأطبقوا عليه الأبواب فمزقته السكاكين شر ممزق ثم أخرجوا الجثتين وفعلوا بسائر العصابة وبقية الرهبان كذلك. ولم تمض نصف ساعة حتى قضى الشعب على حياة ثلاثة عشر راهباً ثم أخذ ينهب ما بالدير.
قال الله تعالى: (وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)[سورة البروج].
وقال الله تعالى : ( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) [سورة التوبة: 7ـ 10].
[ وعَنْ أبي عبد اللَّه خباب بن الأرت رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: شكونا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وهو متوسد بردة له في طل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان مِنْ قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمِنْشار فيوضع عَلَى رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عَنْ دينه! واللَّه ليتمن اللَّه هذا الأمر حتى يسير الراكب مِنْ صنعاء إِلَى حضرموت لا يخاف إلا اللَّه والذئب عَلَى غنمه ولكنكم تستعجلون!]. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
هذا هو نموذج لوضع الأقليات المسلمة في الدولة الدينية المسيحية.
الفصل الخامس
الأقليات غير مسلمة في الدولة المدنية الإسلامية
فماذا عن جود الأقليات غير مسلمة في الدولة المدنية الإسلامية؟..
توضّح الإحصائيات أن الدول العربية يقطنها مسلمون إما بنسبة100% أو 99%في حالات عديدة، كما يوجد في حالات أخرى
أقلّيات غير إسلامية بنسبة 3 و4%. وفي مصر يمثل غير المسلمين نسبة ما بين 5%، كما تظهر بعض الإحصائيات الرسمية، و10%،
كما يرى بعض المسيحيين، والدولة العربية الوحيـدة التي تشذّ عن هذا هي لبنان إذ تبلغ نسبة غيـر المسلمين ما يماثل 40%.
وعندما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة كان من أعماله الأولى أن وضع وثيقة أطلق عليها المفكرون المحدثون "دستور المدينة"،
وظهرت في المراجع القديمة باسم "صحيفة الموادعة".
قرّرت هذه الوثيقة أن الأنصارـ وهم السكان الأصليون للمدينة ـ والمهاجرين وهم من أهل مكّة أصلاً آمنوا بالإسلام
وهاجروا إلى المدينة فراراً من اضطهاد المشركين لهم وتقبلهم الأنصار على الرحب والسعة. واليهود الذين كان لهم جالية كبيرة
في المدينة استوطنوها في قديم وبنو لأنفسهم "الآطام" أي الحصون واشتغلوا بالتجارة والصناعة وأقاموا بينهم وبين بعض قبائل الأنصار حلفاً،
قرّرت الوثيقة أن هذه الفئات الثلاث"أمة واحدة"، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم وأنهم يتكافلون بالمعروف ولا يحارب
بعضهم بعضاً كما يشتركون في الدفاع عن المدينة معاً..
أقامت هذه الوثيقة ـ لأوّل مرّة ـ حق المواطنة ـعلى أساس الأرض.وليس على أساس الدين..
فكل من يتخذ من الأرض وطناً له يصبح مواطناً له الحقوق والواجبات التي تمنح لكل الذين يقيمون في هذا الوطن على اختلاف أصولهم وأديانهم وأجناسهم.
لم يلتزم اليهود ببنود هذه الإتّفاقية، أو يقدّروا ما فيها من كرم، لهيمنة فكرة أنهم الشعب المختار وأن النبوّات محصورة فيهم،
فضلاً عن نظرتهم الدونية إلى العرب، أبناء إسماعيل بن الجارية، والذي يده على كل الناس ويد كل الناس عليه.. وكان النقض الأعظم
عندما تحالفوا مع المشركين في أشدّ حملاتهم ضراوة على المسلمين، حملة الخندق، فحكم عليهم من اختاروه بأنفسهم..
وبعد فترة النبوّة وعندما انطلقت الفتوح وانتصر فيها المسلمون وجدوا أنهم يهيمنون على أراض شاسعة، وعلى مجموعات غفيرة
من السكان من ذوى الأديان المختلفة، فوجدوا أن الحل الذي يتفق مع الإسلام ويحقق أفضل النتائج أن يدعو هؤلاء السكان
على ما هم عليه وأن يفسحوا لهم في الحرية الدينية بحيث يحتفظون بدياناتهم وعاداتهم وتقاليدهم مع المحافظة على كنائسهم
ومعابدهم وأديارهم ورجال دينهم وأن يقوموا بحمايتهم وكفالة الأمن والسلام والدفاع عنهم لقاء ضريبة هي "الجزية" ويُعَدّون أهل ذمّة،
أي أن حمايتهم والحفاظ عليهم هي ذمّة المسلمين، وكانت تلك صفقة سعيدة للطرفين. وتمتعت هذه الأقليات في ظلها بحرياتهم
الدينية ونشاطاتهم المدنية والاقتصادية ومع الزمن تقلّد بعض أفرادهم مناصب في الدولة الإسلامية أو شغلوا مراكز رفيعة فئ مجال العلوم.
كان أخذ الجزية من الأقلّيات هو الأمر المقرر في كل الدول في هذه العصور، وقد دفع السيد المسيح نفسه الجزية للرومان.
فالمسلمون لم يبدعوا هذا النظام ولكنهم وجدوه مقرّراً، وما جاءوا به هو أنهم خفّفوه إلى أقصى درجة وجعلوه مقصوراً على
الرجال دون النساء ودون الأطفال كما اُستثنى منه الشيوخ وكل رجال الدين أو الرهبان.. وكان ذلك بمقاييس العصر تقدّماً
ملحوظا جعل الأقلّيات تفضل أن تعيش في ظل الحكم الإسلامي عن العيش في ظل حكم آخر، إذا وجدت مثل
هذا الحكم لأن النظام المقرّر في أوروبا كان لا يسمح بوجود أقلّيات أو حتى أفراد يدينون بغير دين الملك. حتى لو كانوا من الدين نفسه
ولكن من مذهب يخالف مذهب الملك، والمذابح والحروب ما بين البروتستانت والجزويت معروفه.
كان مسيحيو مصر يدينون بغير المذهب الذي تدين به بيزنطة ولهذا اضطهدتهم بيزنطية اضطهاداً رهيباً بحيث أنه عندما دخل عمرو بن العاص
مصر كان البطريرك القبطي مختبئاً في مكان ما، هارباً من الاضطهاد البيزنطي. ولما تم النصر لـعمرو بن العاص، إلى حد
ما بمساعدة من الأقباط، فإنه أعاد البطريرك وأعاد له كل سلطاته بحيث يمكن القول أن ميلاد الكنيسة القبطية في هذه اللحظة تم على يدي عمرو بن العاص.
وكان أقباط مصر قد تخصصوا في مهن معينة مثل تحصيل ضرائب الأراضي والعقارات فكان الجباة من أصغر جابي في قرية حتى
رئيس الجباية التي يشرف عليها في عموم القطر من الأقباط، وقد سلم لهم الحكام المسلمون بممارسة هذه المهمة
حتى أيام محمد علي وأبنائه، كما شمل حكام مصر من الأسرة العلوية بطريرك الأقباط بنوع خاص من الرعاية وأحاطوه بتوقير
واحترام وتبرعوا بمئات الفدادين والمعونات المالية لإقامة مدارس قبطية أو مشروعات خيرية..
من الصحيح أنهم تعرضوا في بعض الفترات لعربدات بعض الحكام وتصرفاتهم الشاذة، ولكن من الصحيح أنهم في ظل حكام آخرين
وصلوا إلى مناصب الوزارة وكانت لهم حظوة حتى وجد المسلمون أنهم قد ظلموا مع العلم أن نزق بعض الحكام وبطشهم
لم يكن مقصوراً على الأقلّيات ولكن على كل الشعب، مسلمين وغير مسلمين.. وأنه كان طابع العصر في كل العالم القديم...
من هنا لم يحدث بين الأقباط وبين حكام مصر توتّرات وساد الصفاء علاقتهم بالمسلمين وعاشوا في القرية جنباً إلى جنب إخوانهم
المسلمين لا يفرّق بينهم إلا أن بعضهم يقصد المسجد يوم الجمعة بينما يقصد البعض الآخر الكنيسة يوم الأحد.
أما حالات التوتّر فكانت استثناء لا يتصوّر انتفاءه مع تطاول الأمد وامتداد الرقعة وبالنسبة لمجموعات كبيرة بمئات الألوف
أو الملايين بحيث لابد أن يوجد الشارد أو المنحرف في المجموعتين، ولا يؤبه له لأنه أحد الظواهر الاجتماعية الطبيعية.
قد ورثت مصر من العهد العثماني "فرماناً" يضع القيود على بناء الكنائس وكان من مبرراته حسم الحساسيّات التي يمكن أن تؤدّي
إلى احتكاكات إذا تُرِكَ الأمر على علاته، قد وجد عدد كبير من الأقباط أن هذا يتضمن نوعاً من الحجر على حرّية التعبير
واستجابت لهم الدولة بقدر ما يسمح "الهاجس الأمني" الذي يسيطر عليها ويتحكم فيها في كل شيء ونحن نرى أن بناء الكنائس
أو المساجد أمر يجب أن يُتْرَك لأصحابه حتى لو بنوا مائة كنيسة، ففي هذا المجال قد لا يكون مفرّ من اتباع التجربة والخطأ بمعنى
ترك الحرية حتى تثبت التجربة خطأ ممارسة ما وعندئذ يكون الإقلاع عنها أمراً طبيعياً. ومع أن هذا حلّ باهظ التكلفة فإنه يسدّ باب
الادّعاءات التي يكون مبعثها الغرض أو سوء الفهم، ولا يمكن إصلاحها بالمنطق.
المهمّ فيما نحن بصدده أن مخاوف المسيحيين ليس لها أساس، أولاً: لأننا استبعدنا الدولة الدينية ، وثانياً: لأن تطبيق الشريعة لن يكون
إلا مشروعاً لإحلال مبادئ عامة على رأسها العدل وجعله محوراً في عالم العلاقات والقيم والتي تحكم المجتمع.
وأن يتمّ هذا بالشكل الديمقراطي أي عندما تريد ذلك الأغلبية وتسلك إلى تطبيقه عبر الطرق المشروعة – أي الانتخابات،
ولعلّي لو كنت مسيحياً لا يساورني بعض الخوف من ذلك ولأثرت التمسك بإعمال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الثابتة التي تحرم
تحريماً قاطعاً المساس بحقوق الأقليات غير المسلمة بحيث لا يمكن حتى للأغلبية في المجلس التشريعي أن تمسها والأمر في النهاية إليهم.
الفصل السادس
مبادئ نظام الحكم في الإسلام
ماذا يعني تطبيق الشريعة الإسلامية؟..
هناك فارق كبير بين التطبيق والتدوين..فمرحلة التدوين ـ أي تدوين الشريعة ـ سابقة بداهة عن التطبيق, وتستلزم جهداً كبيراً من
العلماء والفقهاء وجهابذة القانون وكل منهم متخصص في فرع من فروع القانون سواء الجنائي أو المدني أو الاقتصادي أو الدولي..
ومرحلة التطبيق يسبقها مرحلة الإعداد ـ أي إعداد المجتمع لتقبل هذه القوانين ومعه دول الجوارـ وهذه هي أصعب المراحل..
وعليه فإن تدوين الشريعة الإسلامية في صورة قوانين ومواد وشروحات ليست بالأمر الهين..
فماذا نعني حينما نقول ـ على سبيل المثال ـ أن القرآن الكريم هو المصدر الرئيس من مصادر الشريعة الإسلامية؟..
خذ مثلاً آية الدين الواردة في سورة البقرة فهذه الآية عبارة عن مجموعة من النظريات التي جاءت بها الشريعة الإسلامية في الإثبات والتعاقد:
حيث اشتملت الآية الكريمة من الناحية القانونية على خمس نظريات في قضية الإثبات والتعاقد فقط وهي :
1ـ نظرية الإثبات بالكتابة
2 ـ نظرية إثبات الدين التجاري
3ـ نظرية حق الملتزم في إملاء العقد
4ـ نظرية تحريم الامتناع عن تحمل الشهادات
5ـ أحكام أخرى في آية الدين
فهذه مجموعة من النظريات التي جاءت بها الشريعة الغراء نعرضها تحت عنوان واحد (الإثبات والتعاقد)، لأن القرآن الكريم جاء بها جميعاً في آية واحدة هي آية الدين، ولأن بعضها يتصل بالبعض الآخر اتصالاً وثيقاً،ولأننا سنتكلم عنها فقط بالقدر الذي يبرز فيها مميزات الشريعة الإسلامية.
يقول سبحانه وتعالى:
[ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] البقرة{282}
فنص الآية الكريمة يشمل عدداً من المبادئ التشريعية والنظريات الفقهية وسنبين أهمها فيما يلي:
1ـ نظرية الإثبات بالكتابة:
فرضت الشريعة الإسلامية الكتابة وسيلة لإثبات الدين المؤجل سواء كبرت قيمة الدين أو صغرت، وذلك قوله تعالى: [ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ]..
وقوله تعالى: [وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ]..ويدخل تحت لفظ الدين كل التزام أيًّا كان نوعه، لأن الالتزام ليس إلا دينا في ذمة الملتزم له، فيدخل تحت لفظ الدين القرض والرهن والبيع بثمن مؤجل والتعهد بعمل وغير ذلك، كذلك يمكن قياس أي التزام على الدين إذا احتفظ لكلمة الدين بمعنى القرض لأن كليهما شيء مقوم التزام به بعد أجل معين.
أما التصرفات التي تتم في الحال فليس من الواجب كتابتها ما دام كل متعاقد قد وفى بالتزاماته واستوفى حقوقه كمن يشتري شيئاً من آخر ويتسلمه ويسلمه الثمن في الحال، ومثل هذه التصرفات يجوز إثباتها بغير الكتابة مهما بلغت قيمتها إذا أثبتت باعتبارها وقائع لا باعتبارها التزامات لأن الوقائع المادية يجوز إثباتها بكل طرق الإثبات.
وظاهر من النص الذي فرض الكتابة أنه نص عام ومرن إلى حد بعيد وأنه يصلح للتطبيق اليوم كما كان صالحاً من خمسة عشر قرناً، وكما سيكون صالحاً للمستقبل البعيد، وهذه إحدى مميزات الشريعة التي هيأتها لتكون غير قابلة للتعديل والتبديل.
ويم نزل هذا النص على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان العرب أميين يعيشون في أعماق البادية وفي خشونة من العيش، وأمثال هؤلاء تقل بيتهم المعاملات بحيث لا تحتاج إلى تشريع خاص، ولو أن الشريعة كانت كالقانون تأتي على قد حاجة الناس لما جاء بها شيء خاص بإثبات الالتزامات، أو لجأ بها من الأحكام ما يتفق مع أمية العرب وجهالتهم، أما أن تجيء الشريعة على هذا الوجه فتفرض عل الأميين كتابة الصغير والكبير فذلك هو السمو الذي تتميز به الشريعة الكاملة الدائمة.
فرضت الشريعة الإسلامية الكتابة بين الأميين لتحملهم على أن يتعلموا فتتسع مداركهم وتتثقف عقولهم، ويحسنوا فهم هذه الحياة الدنيا فيصبحوا ـ وقد تعلموا ـ أهلاً لمنافسة الأمم الأخرى وللتفوق والسيطرة عليها، وهذه أغراض اجتماعية وسياسية بحته، أما الغرض القانوني فهو حفظ الحقوق وإقامة الشهادات ولابتعاد عن الريب والشكوك.
فالشريعة حين أوجبت الكتابة في الصغير والكبير جاءتنا بنظرية عظيمة ذات وجوه سياسية واجتماعية وقانونية، وهذه النظرية التي نزل بها القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم في القرن السابع الميلادي هي من أحدث النظريات في القوانين الوضعية وفي المذاهب الاجتماعية الحديثة، فالدول قد بدأت من أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن الحالي تفرض على شعوبها أن يتعلموا تعليماً إجبارياً رجالاً ونساء، وهذا الذي تفرضه الدول على الشعوب إنما هو تطبيق للنظرية الإسلامية في ناحيتها السياسية والاجتماعية.
وقد بدأت الدول تأخذ بالناحية القانونية من النظرية في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر حين افترض القانون الفرنسي الذي أخذت عنه القوانين الأوربية أن يكون مكتوباً إذا زاد عن مقدار معين، وكن شرّاح القانون رأوا أن نظرية الإثبات بالكتابة تكون أكمل وأكثر توفيقاً لو اشترطت الكتابة في الصغير والكبير وظلوا ينادون برأيهم به ويأملون تحقيقه.
وإذن فأحدث نظريات الإثبات في عصرنا الحاضر هي نفس نظرية الشريعة الإسلامية أخذت بها القوانين الوضعية ولا يزال الشراح في بعض الدول يطالبون دولهم أن تأخذ بها..
2 ـ نظرية إثبات الدين التجاري.
اشترطت الشريعة ـ كما بينا ـ الكتابة لإثبات الدين سواء كان الدين صغيراً أو كبيراً، ولكنها استثنت من هذا المبدأ العام الدين التجاري وأباحت إثباته بغير الكتابة من طرق الإثبات وذلك قوله تعالى: [إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا] والعلة في استثناء الديون التجارية من شرط الكتابة أن الصفقات التجارية تقتضي السرعة ولا تحتما الانتظار، ولأن المعاملات التجارية أكثر عدداً وتكراراً وتنوعاً، فاشتراط الكتابة فيها يؤدي إلى الحرج وقد يضيع فرصة الكسب على المشتري أو يعرض البائع للخسارة، ومن أجل هذا لم تقيد الشريعة المعاملات التجارية بما قيدت به المعاملات المدنية من اشتراط الكتابة.
والنص المقرر لهذه النظرية عام ومَرِنٌ إلى آخر الحدود بحيث لا يحتاج على مَرِّ الأزمان تعديلاً أو تبديلاًن وليس أدل على ذلك من صلاحيته لوقتنا الحاضر مع أنه نزل منذ أكثر من خمسة عشر قرنا.
ومن يعرف شيئاً عن تاريخ العرب وحالهم وقت نزول النص يعلم أن النص لم ينزل مجاراة لحال الجماعة أو تمشياً مع ما وصلت إليه، وإنما كان نزول النص ضرورة لتكميل الشريعة الدائمة الكاملة ولرفع مستوى الجماعة وتوجيههم الوجهة الصالحة.
واستثنت الشريعة الإسلامية أيضاً من الإثبات بالكتابة حالة الضرورة وذلك قوله تعالى:
[وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ].
وليس أدل على سمو الشريعة وكمالها من أن نظرياتها في إثبات الدين التجاري هي نفس النظرية السائدة اليوم في القوانين الوضعية الحديثة، وإنها تعتبر أحدث ما وصل إليه القانون الوضعي في عصرنا الحاضر.
3ـ نظرية حق الملتزم في إملاء العقد:
جاءت الشريعة الإسلامية بمبدأ عام أوجبته في كتابة العقود وهو أن يملي العقد الشخص الذي عليه الحق أو بمعنى آخر أضعف الطرفين، والمقصود من هذا المبدأ العام هو حماية الضعيف من القوي، فكثيراً ما يستغل القوي مركزه فيشترط على الضعيف شروطاً قاسية، فإن كان دائناً مثلاً قسا على المدين، وإن كان صاحب عمل سلب العمل كل حق واحتفظ لنفسه بكل حق، ولا يستطيع المدين أو العامل أن يشترطا لنفسيهما أو يحتفظا بحقوقهما لضعفهما، فجاءت الشريعة وجعلت إملاء العقد معلومة له حق العلم، وليقدر ما التزم به حق قدره.
وهذه الحالة التي عالجتها الشريعة من يوم نزولها هي من أهم المشاكل القانونية في عصرنا الحاضر، وقد برزت في أوروبا في القرون الماضية على أثر النهضة الصناعية وتعدد الشركات وكثرة العمال وأرباب الأعمال، وكان أظهر صور المشكلة أن يستغل رب العمل حاجة العامل إلى العمل أو حاجة الجمهور إلى منتجاته فيفرض على العامل أو على المستهلك شروطاً قاسية يتقبلها العمل أو المستهلك وهو صاغر، إذ يقد يقدم عقد العمل أو عقد الاستهلاك مكتوباً مطبوعاً فيوقعه تحت تأثير حاجته للعمل أو حاجته للسلعة، بينما العقد يعطى لصاحب العمل كل الحقوق ويرتب على العامل أو المستهلك كل التبعات.
ذلك العقد الذي نسميه اليوم في اصطلاحنا القانوني( عقد الإذعان).
وقد حاولت القوانين الوضعية أن تحل هذا المشكل، فاستطاعت أن تحله بين المنتج والمستهلك بفرض شروط تحمي المستهلك من المنتج وبتعيين سعر السلعة، ولكنها لم تستطع أن تحل إلا بعض نواحي المشكلة بين أصحاب العمل والعمال، مثل إصابات العمال والتعويضات التي يستحقها العمل إذا أصيب أو طرد من عمله، لأن التدخل بين صاحب العمل والعمال في كل شروط العمل مما يضر بسير العمل والإنتاج، وبقيت من المشكلة نواح هامة كأجر العمل وساعات العمل ومدة الإجازات وغيرها,يحاول العمال من ناحيتهم حلها بتأليف النقابات والاتحادات وتنظيم الإضرابات، ويرى العمال من ناحيتهم أن حل مشاكلهم لن يتأتى إلا إذا كان لهم حق إملاء شروط عقد العمل، ويظاهرهم على ذلك بعض المفكرين والكتاب، فهذا الحق الذي يطالب به العمال في كل أنحاء العالم والذي أضرب العمال من أجله وهددوا السلم والنظام في دول كثيرة في سبيل تحقيقه، هذا الحق الذي حقق القانون الوضعي بعضه ولم يحقق بعضه الآخر والذي يأمل العمال أن يتحقق كله وللملتزمين على الملتزم لهم وجاء به القرآن الكريم في آية الدين [وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ]..
وظاهر أن صيغة النص بلغت من العموم والمرونة كل مبلغ.
وهذا هو الذي جعل الشريعة تمتاز بأنها لا تقبل التغيير والتبديل.
ووجود هذا النص في الشريعة تمتاز دليل بذاته على سموِّها وكمالها وعدالتها فقد جاءت به منذ أكثر من خمسة عشر قرناً، بينما القوانين الوضعية لم تصل إلى تقرير مثله حتى الآن مع ما يدعي لها من الرقي والسمو.
4ـ نظرية تحريم الامتناع عن تحمل الشهادات:
حرمت الشريعة على الإنسان أن يدعى للشهادة فيمتنع عنها، أو أن يشهد واقعة فيكتمها، أو يذكرها على غير حقيقتها، وقد نص على الحالة الأولى في آية الدين في قوله تعالى:[ وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ] والمقصود إباؤهم حينما يدعون ليشهدوا تصرفاً مَّا أو واقعة معينة، فالنص جاء بتحمل الشهادة وليس خاصاً بأدائها.
أما الحالتان الثانية والثالثة فقد نص عليهما في قوله تعالى:[ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ] ..وقوله تعالى: [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ] النساء{135}.
والنصان الأخيران خاصان بتحريم كتمان الشهادة أو الامتناع عن أدائها وبتحريم شهادة الزور.
والقوانين الوضعية اليوم تأخذ بنظرية الشريعة في تحريم شهادات الزور أو كتمان الشهادة، ولكنها لم تصل بَعْدُ إلى تحريم الامتناع عن تحمل الشهادة ولا شك أن الشريعة تتفوق على القوانين الوضعية من هذه الجهة.
إذن فإن المصلحة العامة تقتضي بالتعاون على حفظ الحقوق وبتسهيل المعاملات بين الناس ولامتناع عن تحمل الشهادة يقضي إلى تضييع الحقوق، ويؤدي إلى تعقيد المعاملات وبطئها وهناك عقود لابد فيها من حضور الشهود كعقد الزواج..
فإذا كان الامتناع عن تحمل الشهادات مباحاً تعطلت هذه العقود..
ومن ير النصوص التي جاءت في تحريم الامتناع عن تحمل الشهادة أو في تحريم كتمانها أو تغييرها يعلم مدى ما بلغته هذه النصوص من العموم والمرونة ويفهم العلة في أن الشريعة لا تقبل التعديل أو التبديل..
ومن يقارن الشريعة الإسلامية بالقوانين الوضعية يعلم مدى ما وصلت إليه الشريعة من السمو والكمال، ويتبين أن نصوص الشريعة لم ترد مسايرة لحال الجماعة وإنما وردت لتكمل الشريعة بما تحتاج إليه الشريعة الكاملة الدائمة، ولترفع مستوى الجماعة حتى تقترب من مستوى الشريعة الكامل..
5ـ أحكام أخرى في آية الدين:
هذه أربع نظريات جاءت بها آية واحدة من القرآن الكريم هي آية الدين، أخذت القوانين الوضعية الحديثة باثنين وبدأت تأخذ بالثالثة ولم تأخذ بَعْدُ بالرابعة، وليست هذه القوانين الأربع هي كل أحكام آية الدين، وإنما هي بعض أحكامها، فالآية تشترط أن يكون الكاتب محايداً عدلاً عالماً بأحكام الشريعة فيما يكتبه، وتوجب عليه أن لا يمتنع عن الكتابة وتشترط أن يشهد على سند الدين رجلان أو رجل عدل وامرأتان، وتوجب عدم الإضرار بالكاتب أو الشاهد ، وهذه كلها مبادئ عامة لا نستطيع أن نستعرضها جميعاً في هذه الدراسة.
وإذا كنا قد تكلما عن نظريات دستورية واجتماعية وإدارية ومدنية فإنما قصدنا من ذلك أن نبين أن نصوص الشريعة في كل ما جاءت فيه تتميز بالكمال والسمو والدوام حتى لا يظن البعض أن هذه المميزات تتوفر في قسم دون آخر من الشريعة.
الفصل السابع
المبادئ والنظريات
http://www10.0zz0.com/2013/01/31/18/545578327.jpg
سبق وأن قلت أن الخلط عند الكل يظهر نتيجة للخلل والخلط بين المصطلحات...
فهناك فارق كبير بين( نظام الحكم في الإسلام ) و( مبادئ نظام الحكم في الإسلام )..
فالإسلام في نظام الحكم لم يأت بنظام معين أو بصورة معينة أو قالب معين مفروض على الأمة وقال هذا هو نظام الحكم في الإسلام فطبِقوه.أبداً.. لم يحدث هذا..فالحكم الملكي صورة من صور الحكم، والحكم السلطاني صورة من صور الحكم، والحكم الجمهوري صورة من صور الحكم، والخلافة صورة من صور الحكم. كل هذه صور من صور الحكم تخضع لدستور الدولة والذي يحكمه مجموعة من مبادئ نظام الحكم..
فالإسلام في نظام الحكم إنما جاء بمجموعة من المبادئ والنظريات تصلح للتطبيق في كل مكان وفي كل زمان ، على أن تترك صور الحكم تبعاً لكل بلد طالما التزم النظام بمبادئ الحكم في الإسلام..
وسوف نعرض الآن طائفة من النظريات والمبادئ الشرعية التي لم تعرفها القوانين الوضعية إلا أخيراً، أو لم تعرفها بعدُ، تتوفر فيها جميعاً كل المميزات التي تسمو بها الشريعة الإسلامية على باقي القوانين الوضعية، والتي تنحصر في خمسة مبادئ نعرض لها على الترتيب التالي:
أولاً: مبدأ المساواة
ثانياً: مبدأ الحرية
ثالثاً: مبدأ الشورى
رابعاً: العدل
خامساً: مبدأ السيادة العليا Sovereigntyونظرية تقييد سلطة الحاكم
والحديث على مطالب كالتالي:
المطلب الأول
من مبادئ نظام الحكم في الإسلام
مبدأ المساواة
أ ـ جاءت الشريعة الإسلامية من وقت نزولها بنصوص صريحة تقرر نظرية المساواة وتفرضها فرضاً، فالقرآن الكريم يقرر المساواة ويفرضها على الماس جميعاً في قوله تعالى:
[ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)] الحجرات : 13
والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكرر هذا المعنى في قوله:" الناس سواسية كأسنان المشط الواحد لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى".ثم يؤكد هذا المعنى تأكيداً في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"إن الله قد أذهب بالإسلام نخوة الجاهلية وتفاخرهم بآبائهم لأن الناس من آدم وآدم من تراب وأكرمكم عند الله أتقاكم".
ويلاحظ على هذه النصوص أنه فرضت المساواة بصفة مطلقة، فلا قيود ولا استثناءات، وأنها المساواة على الناس كافة أي على العالم بصفة مطلقة، فلا فضل لفرد على فرد، ولا لجماعة على جماعة، ولا لجنس على جنس، ولا للون على لون، ولا لسيد على مسود، ولا لحاكم على محكوم..
وهذا هو نص القرآن الكريم يذكر الناس أنهم خلقوا من أصل واحد من ذكر وأنثى ولا تفاضل إذا استوت الأصول وإنما مساواة، وهذا هو قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يذكر الناس أنهم جميعاً ينتمون لرجل واحد خلق من تراب فهم متساوون ويشبههم في تساويهم بأسنان المشط الواحد، ولم يعرف أن سنًّا من مشط فضلت على سنة أخرى..
وقد نزلت نظرية المساواة على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يعيش في قوم أساس حياتهم وقوامها التفاضل فه يتفاضلون بالمال والجاه، والشرف واللون، ويفاخرون بالآباء والأمهات، والقبائل والأجناس، فلم تكن الحياة الاجتماعية وحاجة الجماعة هي الدافعة لتقرير نظرية المساواة، وإنما كان الدافع لتقريرها من وجه آخر ضرورة تكميل الشريعة بما تقتضيه الشريعة الكاملة الدائمة من مبادئ ونظريات..
ولا جدال في أن عبارة النصوص جاءت عامة مرنة إلى آخر درجات العموم والمرونة، فلا يمكن مهما تغيرت ظروف الزمان والمكان والأشخاص أن تضيق عبارة النصوص بما يستجد من الظروف والتطورات، والعلة في وضع نصوص الشريعة على هذا الشكل أن الشريعة لا تقبل التعديل والتبديل فوجب أن تكون نصوصها بحيث لا تحتاج إلى تعديل أو تبديل.
وإذا كانت نظرية المساواة قد عرفت في الشريعة الإسلامية من خمسة عشر قرناً فإن القوانين الوضعية لم تعرفها إلا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر.
إذن فقد سبقت الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية في تقرير المساواة بثلاثة عشر قرناَ ،ولم تأت القوانين الوضعية بجديد حين قررت المساواة، وإنما سارت في أثر الشريعة واهتدت بهداها، وسيرى القارئ فيما بعد أن القوانين الوضعية تطبق نظرية المساواة تطبيقاً محدوداً بالنسبة للشريعة الإسلامية التي توسعت في تطبيق النظرية إلى أقصى حد.
أما مصطلح المساواة (Equality) في الفكر العلماني، فيشير إلى حالة التماثل بين الأفراد في المجتمع.
والمساواة بالمفهوم البرجوازي تعني المساواة بين المواطنين أمام القانون، بينما يبقى الاستغلال والتفاوت بين أفراد الشعب دون مساس.
أما الماركسية فترى أن المساواة الاقتصادية والثقافية مستحيلة بدون الغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وتصفية الطبقات المستغِلة.
ويشيع أيضاً مصطلح (التفاوت)، أو عدم المساواة ( Inequality )، الذي يعني التفرقة بين الأفراد على أساس العنصر، أو الجنس، أو اللغة، أو الرأي السياسي، أو أسس التمييز الأخرى في التعليم والعمل وأمام القانون، وغيرها من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
وينظر إلى التفاوت الاجتماعي على أنه نتيجة للفروق بين الخصائص الشخصية للأسر (كالقوة والذكاء والحافز)، ولإنتاجية أعضاء الأسرة, كما يظهر التفاوت بسبب وراثة الثروة Wealth والقوة (النفوذ) Power والهيبة Prestige داخل الأسرة، وبسبب أن الجماعات المسيطرة في كل المجتمعات الطبقية تكوّن أفكاراً ومعتقدات تبرر لها الأوضاع الاقتصادية والسياسية القائمة.
هذه هي نظرية المساواة كما تطلع علينا بها القوانين الوضعية الحديثة لا تزال مهيضة الجناح، مقصوفة الأطراف، لم تسمو بين الرؤساء والمرءوسين، والحاكمين والمحكومين، لم تسو بين الأفراد، ولا بين الجماعات ، ولا بين الغني والفقير.
وقد يدهش بعض الذين لا يعلمون أن نظرية المساواة التي لم يتم نضجها وتكوينها في القانون الوضعي الحديث قد نضجت تمام النضج، وتكونت تمام التكوين ووصلت إلى أقصى مداها في الشريعة الإسلامية ولا تمتاز الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية بهذا فقط، بل تتميز عليها أيضاً بأنها عرفت نظرية المساواة على هذا الوجه منذ خمسة عشر قرناً، بينما لم تبدأ القوانين الوضعية بمعرفتها إلا في آخر القرن الثامن عشر.
ب ـ المساواة بين رؤساء الدول والرعايا: ونطبق الشريعة الإسلامية مبدأ المساواة إلى أوسع مدى يتصوره العقل البشري، ولهذا لا تفرق نصوصها بين الرؤساء والمرءوسين، ولا بين الملوك والسوقة، ولا بين ممثلي الدول السياسيين والرعايا العاديين، ولا بين ممثلي الشعب وأفراده ولا بين الغني ولا الفقير، وسنبين فيما يلي حكم هذه الحالات التي جعلناها أمثلة على انعدام المساواة في القوانين..
1ـ تسوي الشريعة بين رؤساء الدول والرعايا في سريان القانون، ومسئولية الجميع عن جرائمهم، ومن أجل ذلك كان رؤساء الدول في الشريعة أشخاصاً لا قداسة لهم، ولا يمتازون على غيرهم، وإذا ارتكب أحدهم جريمة عوقب عليها كما يعاقب أي فرد.
ولقد كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو نبي ورئيس دولة لا يدعي لنفسه قداسة ولا امتيازاً، وكان يقول دائماً:[إنما أنا بشر يوحى إلى] ، [وهل كنت إلا بشراً رسولا].
وكان قدوة لخلفائه وللمسلمين في توكيد معاني المساواة بين الرؤساء والمرءوسين..
دخل عليه أعرابي فأخذته هيبة الرسول، فقال له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( هون عليك، فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد) وتقاضاه غريم له دينا فأغلظ عليه، فهم به عمر بن الخطاب، فقال له الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مه يا عمر، كنت أحوج إلى أن تأمرني بالوفاء، وكان أحوج إلى أن تأمره بالصبر).
وخرج أثناء مرضه الأخير بين الفضل بن عباس وعلى حتى جلس على المنبر، ثم قال:
( أيها الناس من كنت جلت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه، ومن أخذت له مالاً فليأخذ منه ،ولا يخش الشحناء من قبلي فإنها ليست من شأني، ألا وإن أحبكم إلى من أخذ مني حقاً إن كان له، أو حللني فلقيت ربي وأنا طيب النفس) ..ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع إلى المنبر فعاد لمقالته الأولى..ـ تاريخ ابن الأثير ج2 ص 154ـ.
وجاء خلفاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بعده رضي الله تعالى عنهم فنسجوا على منواله، واهتدوا بهديه، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يصعد المنبر بعد أن بويع بالخلافة، فتكون أول كلمة يقولها توكيداً لمعنى المساواة، ونفياً لمعنى الامتياز..
قال: أيها الناس، قد وليت عليكم ولست بخيركم،أن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني..ثم يعلن في آخر كلمته أن من حق الشعب الذي اختاره أن يعزاه..فيقول: أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم..ـ تاريخ ابن الأثير ج2 ص 160ـ.
وهذا عمر بن الخطاب يولي الخلافة فيكون أكثر تمسكاً بهذه المعاني، حتى إنه ليرى قتل الخليفة الظالم..خطب يوما فقال: لوددت أني وإياكم في سفينة في لجة البحر تذهب بنا شرقاً وغرباً، فلن يعجز الناس أن يولوا رجلاً منهم، فإن استقام اتبعوه، وإن جنف قتلوه.فقال طلحة : وما عليك لو قلت وإن تعوج عزلوه، فقال : لا ، القتل أنكل لمن بعده. ـ تاريخ ابن الأثير ج 3 ص 30ـ.
وأخذ عمر الولاة بما أخذ به نفسه، فما ظلم وال رعيته إلا أقاد من الوالي للمظلوم، وأعلن على رءوس الأشهاد مبدأه هذا في موسم الحج، حيث طلب من ولاة الأمصار أن يوافوه في الموسم، فلما اجتمعوا خطبهم وخطب الناس فقال: أيها الناس ، أني ما أرسل إليكم عمالاً ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، وإنما أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم، وسنة نبيكم، فمن فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إلىّ فوالدي نفس عمر بيده لأقصنه منه..
فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين أرأيتك إن كان رجل من المسلمين على رعيته فأدب بعض رعيته إنك لتقصنه منه؟.
فقال : أي والذي نفس عمر بيده، إذن لأقصنه منه، وكيف لا أقصنه منه! وقد رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقص من نفسه. ـ تاريخ ابن الأثير ج3 ص 208 وكتاب الخراج لأبي يوسف ص 66ـ. ويقص علينا التاريخ أن المأمون وهو خليفة المسلمين اختصم مع رجل بين يدي يحيى بن أكثم قاضي بغداد، فدخل المأمون إلى مجلس يحيى وخلفه خادم يحمل طنفسة لجلوس الخليفة، فرفض يحيى أن يميز الخليفة على أحد أفراد رعيته، وقال : يا أمير المؤمنين لا تأخذ على صاحبك شرف المجلس دونه، فاستحيا المأمون، ودعا للرجل بطنفسة أخرى.
وفقهاء الشريعة الإسلامية وإن كانوا يشترطون في الإمام أي رئيس الدولة الإسلامية شروطاً لا تتوفر في كل شخص، إلا أنهم يسوونه بجمهور الناس أمام الشريعة، ولا يميزونه عنهم في شيء، وهذا متفق عليه فيما يختص بالولاة والحكام والسلاطين والملوك الذين يخضعون للخليفة أو يستمدون سلطتهم منه.
ج ـ رؤساء الدول الأجنبية: وإذا كانت الشريعة لا تميز رئيس الدولة الإسلامية الأعلى فهي من باب أولى لا تميز رئيس دولة أجنبية، وإذن فالشريعة تسري على رؤساء الدول الأجنبية، وعلى رجال حاشيتهم، فإذا ارتكبوا أية جريمة عوقبوا عليها.
د ـ رجال السلك السياسي:
تسري الشريعة على رجال السلك السياسي فيما يرتكبون من جرائم، سواء تعلقت الجرائم بحقوق الجماعة أو بحقوق الأفراد، وليس في قواعد الشريعة ما يسمح بإعفائهم من تطبيق الشريعة عليهم وليس في أخذ رجال السلك السياسي بجرائمهم ما يعيب الشريعة، مادامت الشريعة تسوي بينهم وبين غيرهم من رعايا الدولة، وتجعل حكمهم حكم رئيس الدولة، ولكن العيب في التفرقة التي تأخذ بها القوانين الوضعية بحجة حمايتهم، وتمكينهم من أداء وظائفهم، لأن الممثل السياسي الذي يرتكب الجرائم لا يستحق الحماية، ولا يصلح لأداء وظيفته.
ھ ـ أعضاء الهيئة التشريعية:
لا تسمح قواعد الشريعة بإعفاء أعضاء البرلمان من العقاب على الجرائم القولية التي يرتكبونها في دار البرلمان،لأن الشريعة تأبى أن تميز فرداً على فرد، أو جماعة على جماعة، ولأنها تأبى أن تسمح لفرد أو هيئة بارتكاب الجرائم مهما كانت وظيفة الفرد أو صفة الجماعة, وعليه فلا مجال للحصانة البرلمانية هنا فالكل سواسية أمام القانون..
و ـ المسلمون وغيرهم من أرباب الديانات الأخرى:
وتسوي الشريعة الإسلامية بين المسلمين وغيرهم في تطبيق نصوص الشريعة في كل ما كانوا فيه متساوين، أما ما يختلفون فيه فلا تسوي بينهم فيه، لأن المساواة في هذه الحالة تؤدي إلي ظلم غير المسلمين والذين لا يختلفون عن المسلمين إلا فيما يتعلق بالعقيدة، ولذلك كان كل ما يتصل بالعقيدة لا مساواة فيه، والواقع أنه إذا كانت المساواة بين المتساوين عدل خالص فإن المساواة بين المتخالفين ظلم واضح، ولا يمكن أن يعتبر هذا استثناء من قاعدة المساواة، بل هو تأكيد للمساواة، إذ المساواة لم يقصد بها إلا تحقيق العدالة، ولا يمكن أن تتحقق العدالة إذا سوي بين المسلمين وغيرهم فيما يتصل بالعقيدة الدينية، لأن معنى ذلك هو حمل المسلمين على ما يتفق مع عقيدتهم، وحمل غيرهم على ما يختلف مع عقيدتهم، ومعناه أيضاً عدم التعرض للمسلمين فيما يعتقدون، والتعرض لغير المسلمين فيما يعتقدون وإكراههم على غير ما يدينون،ـ ومعناه أخيراً الخروج على نص القرآن الصريح :[ لا إكراه في الدين] البقرة : 256.
والجرائم التي تفرق فيها الشريعة بين المسلمين وغيرهم هي الجرائم القائمة على أساس ديني محض كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير، فالشريعة الإسلامية تحرم شرب الخمر وأكل لحم الخنزير ، ومن العدل أن يطبق هذا التحريم على المسلم الذي يعتقد طبقاً لدينه بحرمة شرب الخمر وأكل لحم الخنزير ، ولكن من الظلم أن يطبق هذا التحريم على غير المسلم الذي يعتقد بأن شرب الخمر غي محرم وأن أكل لحم الخنزير لا حرمة فيه. ولكن يعاقب غير المسلمين على الجرائم القائمة على أساس ديني إذا كان إتيانها محرماً في عقيدتهم، أو يعتبرونها رذيلة، أو كان إتيان الفعل مفسداً للأخلاق العامة، أو ماساً بشعور الآخرين، فمثلاً شرب الخمر ليس محرماً عند غير المسلمين ولكن السكر محرماً عندهم، أو هو رذيلة، فضلاً عن أنه مفسد للأخلاق العامة، ومن ثم شرب كان غير المسلمين معاقبين على السكر دون الشرب، فمن شرب حتى سكر عوقب، ومن شرب ولم يسكر فلا عقوبة عليه.
ويترتب على التفرقة في تطبيق نصوص الشريعة بين المسلمين وغيرهم أن تكون الجرائم في الشريعة قسمين:
قسم عام يعاقب على إتيانه كل المقيمين داخل الدولة..
وقسم خاص يعاقب على إتيانه المسلمون دون غيرهم، ولا يمكن أن يقع إلا منهم، وأساس هذا القسم هو الدين.
والخلط بين القسمين هو الذي جعل المنظمات العلمانية تقع في خطأ فاحش حينما أرادوا أن يحققوا المساواة ويطبقوا مبدأ حرية الاعتقاد، فلم يروا وسيلة لتطبيق هذين المبدأين معاً إلا أن يجردوا القانون من كل ما يمس العقائد والأخلاق والأديان فأدى بهم هذا التطبيق السيئ إلى هذه النتائج المحزنة، ولو أنهم أخذوا بطريقة الشريعة الإسلامية لضمنوا ما شاءوا من مبادئ ولمنعوا من وقوع هذه المساوئ.
ولعل عذر المشرعين الوضعيين فيما حدث أن القوانين الوضعية كانت إلى ما قبل الثورة الفرنسية تقوم على أساس ديني يراعى فيه مذهب الحاكم واعتقاده، لا مذهب المحكومين جميعاً وعقائدهم.
ومن هنا نشأت نظرية المواطنة.
ومن هنا نشأت نظرية المواطنة.
ز ـ نظرية المواطنة:
فالمواطنة ‹‹ كلمة مستحدثة في اللغة العربية اختارهاالمعربون للتعبير عن كلمة Polieteia اليونانية، Citoyenneté الفرنسية،
Citizenship الإنجليزية ، والوطنية من المواطنوالوطن، وحسب ابن منظور في لسان العربي، فالوطن يعني "المنزل تقيم به، وهو موطن الإنسان ومحله".
كما أن المواطنة مصطلح يحمل مدلولات تاريخية، تحكمت ظروف بروزه في تحديدها، فهذا المفهوم لا علاقة له بروما، ولا أثينا ولا المجتمع الإسلامي، إنهنتاج صراع بين الإمبراطورية الإيطالية، والإمبراطورية المقدسة من جهة، وإفرازات عصرالنهضة في القرن الثامن عشر، نتيجة ذلك، فإن موضوع المواطنة كماتبلورت في السياق الأوروبي لا نجد له قياس في الموروث الإسلامي فالمواطنة كلمة حديثة نسبياً في التاريخ ولم تتبلور إلا مع الثورة الفرنسية (1789)، ذلك أن المواطن في أثينا وفى روما قديما هو ذلك الذي ينحدر من الصفوة (الأشراف، والنبلاء، والفرسان..) في مقابل العبيد والأقنان والأتباع والرعايا وظل الأمر كذلك رغم التعاليم الدينية مسيحية وإسلامية التحى تنادى بالمساواة بين البشر.
وأما مصطلح "المواطنة" بمعنى المساواة القانونية بين أبناء الوطن الواحد فلم يتبلور إلا مع مبادئ الثورة الفرنسية في إعلان 1789 الخاص بأن البشر يولدون أحراراً ويظلون أحراراً ومتساوين في الحقوق، وإعلان 1793 بشأن الحفاظ على الحقوق الطبيعية الأبدية للإنسان واعتبار المواطن تحت حماية الدولة بشكل متساو مع الجميع طبقا للقانون وفى ظل الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية انتهى تعريف المواطنة بأنها تعنى تمتع كل المواطنين بالحقوق نفسها وعليهم الوفاء بالالتزامات نفسها والخضوع للقوانين السائدة دون اعتبار للعرق أو النوع أو الدين أو الوضع الاجتماعي.
وعلى الدولة بمؤسساتها أن تعمل على تحقيق المساواة، وعلى المجتمع المدني أن يقدم النموذج في القدرة على تجاوز الانقسامات لتحقيق مبدأ المواطنة بإتاحة الفرصة للجميع أن يعملوا في إطاره لتحقيق المصالح العامة للوطن، وبالتالي خلق المواطن الصالح..
هذا المواطن الصالح يختلف مفهومه من بلد إلى أخر فقد يكون هو الجندي الشاكي للسلاح أو قد يكون غير ذلك طبقاً لمفهوم الإعداد، فالروسي الذي يقتل الشيشانيين مواطن صالح في عرف قومه! واليهودي الذي يقتل المسلمين ويغتصب أرضهم وديارهم وكرامتهم مواطن صالح في عرف قومه! والهندي الذي يقتل أهالي كشمير ويحرم عليهم أن يقرروا مصيرهم لأنفسهم مواطن صالح في عرف قومه! وما أبأسهم جميعا وما أبعدهم عن صفة الإنسانية فضلا عن صفة الإنسان الصالح!..
أما الإسلام فهو يسعي إلى خلق (الإنسان الصالح) بجوهره الكامن فيه .. (الإنسان الصالح) من حيث هو إنسان وليس من حيث هو (مواطن)
كما يتوجه الخطاب في القرآن الكريم في 56 موضع إلى (الإنسان) لا إلى قوم بعينهم من بني الإنسان:
1ـ {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً }النساء28
2ـ {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }يونس12
3ـ {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ }هود9
4ـ {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ }إبراهيم34
5ـ {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ }الحجر26
من الواضح في المضامين القرآنية اعتبار الإنسانمحوراً للخلق العاقل «وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم» (البقرة: 34) وكذلك «ولقدكرّمنا بني آدم» (الإسراء: 70) ولكن هل يعني ذلك إمكان أن ينتج النص الديني مايساوق المفهوم الفلسفي الحديث لحقوق الإنسان؟..
ح ـ نظرية المساواة بين الرجل والمرأة:
هذه النظرية ليست إلا فرعاً من النظرية العامة للمساواة أو تطبيقاً لها، وقد فضلنا أن نجعل لها مكاناً خاصاً لأهميتها ولأنها دليل ظاهر على عدالة الشريعة وسموها وحكمتها في تقرير الحقوق وتوزيع الواجبات، وأن الشارع لا يطبق المبادئ العامة تطبيقاً آلياً، وإنما يطبقها ليحقق بها نفعاً أو يدفع بها ضراً.
1ـ القاعدة العامة في الشريعة الإسلامية:
أن المرأة تساوي الرجل في الحقوق والواجبات، فلها مثل ما له وعليها مثل ما عليه، وهي تلتزم للرجل بما يقابل التزاماته لها، فكل حق لها على الرجل يقابله واجب عليها للرجل، وكل حق للرجل عليها يقابله واجب على الرجل لها، وذلك مصداقاً لقوله تعالى: [وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ] البقرة : 238
ولكن الشريعة مع تقريرها المساواة بين الرجل والمرأة كقاعدة عامة ميزت الرجل على المرأة بميزة واحدة، فجعلت له على المرأة درجة في قوله تعالى: [وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ] البقرة: 228 وقد بين القرآن الكريم حدود هذه الميزة أو الدرجة التي اختص بها الرجل في قوله تعالى: [الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ] النساء:34 فبين ذلك أن الدرجة هي درجة الرئاسة والقوامة على شئونهما المشتركة.
ولا شك أن الرجل وهو المكلف طبقاً للشريعة بالإنفاق على المرأة وتربية الأولاد والمسئول الأول عن الأسرة أحق بالرئاسة والقوامة على شئون البيت، لأن مسئوليته عن هذه الشئون تقتضي أن يكون صاحب الكلمة العليا فيها.
فالسلطة التي أعطيت للرجل إنما أعطيت له مقابل المسئولية التي حملها ليتمكن من القيام بمسئولياته على خير وجه، وهذا تطبيق دقيق لقاعدة شرعية عامة هي القاعدة التي تقول: (السلطة بالمسئولية) تلك القاعدة التي جاءت بها الشريعة لتحكم علاقة أصحاب السلطان بغيرهم، ولتبين مدى سلطتهم ومسئوليتهم والتي قررها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها).
وإذا كان للرجال درجة على النساء في شئونهما المشتركة فإن الرجل لا يتميز على المرأة في شئونها الخاصة،وليس له عليها أي سلطان فهي تستطيع مثلاً أن تتملك الحقوق وتتصرف فيها دون أن يكون للرجل ولو كان زوجاً أو أباً أن يشرف عليها أو يتدخل في أعمالها.
هذا هو مفهوم الرجل والمرأة في نظر الشريعة الإسلامية..وأكتفي بهذا القدر وإلا الحديث عن المرأة والرجل يطول وحتى لا نخرج عن دائرة البحث فنحن نتحدث عنهما في إطار محدد ذلك الإطار الخاص بمبدأ نظام الحكم في الإسلام،أما في الحكومات العلمانية فالتطرف في الفكر قد يكون كبيراً إذ أنهم قد ألغوا التمييز بين الرجل والمرأة وراحوا يطلقون في العنان
مصطلح الجندر GENDER.
2ـ الجندر..( GENDER) خفايا المعنى وتقنين الشذوذ:
"الجندر مصطلح ابتكرته وفرضته وثائق المؤتمرات الدولية والاتفاقيات الخاصة بالمرأة، ليجدوا بديلا من مصطلح الجنس ـ أي نوع الإنسان ذكر أو أنثى ـ والذي لا يقبل احتمالا ثالثاً، لتتسع الدائرة لتشمل الشواذ والجنس الثالث والأجناس الأخرى !!! فأوجدوا بهذا المصطلح فرصة لتعبير كل إنسان عن نفسه وميوله، بدون النظر إلى أصل خلقه ذكراً أو أنثى.
فالجندر.. دعوة خبيثة تكرس الشذوذ الجنسي بذريعة إزالة الفوارق بين الرجل والمرأة، وإنصاف جنس المرأة !! حيث تم إدراج مصطلح مساواة النوع "الجندر" لضمان حصول الشواذ على حقوق الأسوياء أو التقليديين نفسها، وهذا ما تجلى مؤخرا في قرار الأمين العام للأمم المتحدة في مارس 2004 بحصول المتزوجين الشواذ على حقوق المتزوجين "التقليديين" أنفسهم، وذلك من حيث الميراث والضرائب والتأمينات الاجتماعية !!..
الظهور الأول للمصطلح : ظهر المصطلح لأول مرة في وثيقة المؤتمر الدولي للسكان والتنمية المنعقد في القاهرة عام 1994، ثم أثير مرة ثانية ولكن بشرط واضح في مؤتمر بكين للمرأة عام 1995، وقد شاع استخدام هذا المصطلح في المؤتمرات الدولية بغية التدرج في فرضه على الدول، ويسعى دعاة الجندر إلى تمرير هذا المصطلح في كافة مؤسسات المجتمع الرسمية وغير الرسمية لجعل الشواذ مقبولين اجتماعيا ولهم شرعية قانونية!!.
وتعريف هذا المصطلح خالطه الغموض في وثائق مؤتمرات الأمم المتحدة التابعة لها بل إن النسخة الإنجليزية لمؤتمر بكين الدولي المشهور ذكرت المصطلح 254 مرة دون أن تعرفه!!. وتحت ضغط الدول المحافظة تم تشكيل فرق عمل لتعريفه وخرجت لجنة التعريف بعدم تعريف المصطلح!!.
"الجندر" وفخ المصطلح :
رغم استخدامه بكثرة في الآونة الأخيرة إلا أنه ظل مفهوما غامضاً، ويتم تعريبه وترجمته إلى اللغة العربية إلى مصطلحات عدة منها: " الجنس البيولوجي، والجنس الاجتماعي، والدور الاجتماعي، والنوع الاجتماعي"، ويستخدمه بعضهم حالياً للتعبير عن عملية دراسة العلاقة المتداخلة بين المرأة والرجل في المجتمع.
وما زال يستخدم هذا المفهوم أداة في تقارير مؤتمرات الأمم المتحدة للمرأة ليس لتحسين دورها في التنمية ولكن أيضاً لفرض فكرة حق الإنسان في تغيير هويته والأدوار المترتبة عليها والاعتراف بالشذوذ الجنسي وفتح الباب إلى إدراج حقوق الشواذ من زواج المثليين وتكوين أسر ـ غير نمطية ـ كما يقولون !!. وفي ذلك المصطلح أرادونا أن نستسلم للمسمى الفاسد في مضامينه ومعانيه ودلالاته ، بل والقبول في التعامل معه لإعطاء الشواذ كل الحقوق باعتبار أن ذلك الفعل من الحرية الشخصية التي لا تمس، فالشاذ جنسياً في بريطانيا كان يعاقب بالحبس والغرامة، وبعد أن طرحت المؤتمرات الدولية ذلك المصطلح خففت العقوبة وصارت غرامة بغير حبس، وبمضي الوقت وبعد أن فرضته تلك المؤسسات ألغيت العقوبتان وأصبح الشذوذ مباحاً، وتطورت المسألة وطالب الشاذون بحقوقهن في الوظائف العامة، وأصبح التعريض بهم تمييزاً عنصرياً يحاسب عليه القانون وأصبحت دور العبادة عندهم تبارك مثل هذا الزواج وتعطيه الحقوق المتبعة في الزواج الطبيعي من ميراث وحقوق مالية والتبني … ووصل الأمر في هولندا باتهام من ينتقد الشذوذ بأنه تعدى على القيم !!، حيث رفعت أكثر من خمسين منظمة في هولندا العرائض على رجل انتقد الشذوذ علنا . بل امتد الأمر إلى أقصى درجات الضغط التي يمارسها النظام العالمي الجديد، حيث أصبح من شروط انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي ـ مثلا ـ الاعتراف بالشذوذ الجنسي.
مصطلح "الجندر" في بطاقات الطيران:
في بطاقات الطيران ـ في الغرب والولايات المتحدة ـ كان يكتب مصطلحا لتحديد نوع الراكب: ذكر أو أنثى، ويصطلح عليها بكلمة الجنس، اختفى هذا المصطلح ليحل محله مصطلح جديد وهو : GENDER “ ـ جندر ـ والسر في هذا التبديل أن كلمة الجنس تعني الوضع التشريحي ـ أي الأعضاء التناسلية التي تميز الذكر من الأنثى ـ أما كلمة GENDER فلا يهمها الوضع التشريحي، بل يقصد بها ميول الشخص لعله يكون ذكرا يشعر بمشاعر الأنثى أو العكس، وعليه أن يظهره بلا حياء ولا خجل، من باب الحرية الشخصية !!.
الأسرة في مفهوم " الجندر" :
كانت الأسرة في الماضي ـ في الشرق والغرب ـ تضم ثلاثة أجيال الجد والجدة، والأبناء وزوجاتهم, والأحفاد، ومن ثم انكمشت الأسرة إلى الأسرة التي تضم رجلاً وزوجته وطفليهما، وأطلق عليها مصطلح " الأسرة النووية "!! ويقصدون بذلك الأسرة الأساسية، أي نواة تكوين الأسرة .
أما الآن فأصبحت تظهر مسميات وأنماط لأسر مختلفة ـ غريبة الأطوار والفطرة والإنسانية ـ لتكريس المفهوم الغربي للأسرة، وأنها تتكون من شخصين يمكن أن يكونا رجلاً وامرأة أو من نوع واحد، نذكر نماذج لتكوينها :
- أب مع أطفاله وصديقته أو أطفالهما.
- أم وصديقها مع أطفالها أو أطفالهما.
- أم وصديقتها مع أطفالها أو أطفالهما.
- أب وصديقه مع أطفاله أو أطفالهما.
- أم وأب وصديقه وأطفالهم، وبذلك حدث تعديل طفيف إذ انضم للأسرة عشيق الأب، ووافقت الأم على ذلك !!.
- أم وأب وصديقتها وأطفالهم !!.
و" الأطفال غير الشرعيين " كانوا يسمون بهذا الاسم ، ولكنهم أصبحوا يسمون " أطفال أم غير متزوجة "، ثم اكتسبوا أخيراً اسماً حتمياً لطيفاً هو " أطفال طبيعيون " يعني أن الحادث تم قيده ضد مجهول أو أنه ثمرة الطبيعة.
وأخيراً أصبحوا يسمون " أطفال الحب/ الجنس " مع أنه في واقع الأمر هؤلاء الأطفال لا علاقة لهم بالحب أو الكره، فهم نتيجة علاقات عابرة لقضاء شهوة آنية، ومهما كان المعنى المقصود فإن تلك المصطلحات تخفي الأصول، وتجعل ظاهرة الأطفال غير الشرعيين ظاهرة طبيعية تماماً، والانتقال من الحرام إلى الحياد ثم إلى الحلال.
الفلسفة الجندرية والحرب على الرجال
الفلسفة الجندرية فلسفة غربية جديدة تتبناها منظمات نسويّة غربيّة استطاعت أن تخترق بعض المستويات العليا في منظمات عالميّة، مثل منظمة الأمم المتحدة، وأفلحت كذلك في عقد مؤتمرات دوليّة تخص قضايا المرأة، كان من أشهرها مؤتمر بكين عام 1995م.
والسياسات الجندريّة تسعى إلى الخروج على الصيغة النمطيّة للأسرة، وتريد أن تفرض ذلك على كل المجتمعات البشرية، وتسعى إلى تماثل كامل بين الذكر والأنثى، وترفض الاعتراف بوجود الفروقات، وترفض التقسيمات، حتى تلك التي يمكن أن تستند إلى أصل الخلق والفطرة. فهذه الفلسفة لا تقبل بالمساواة التي تراعي الفروقات بين الجنسين، بل تدعو إلى التماثل بينهما في كل شيء. وهذه الفلسفة لا تقوم على أسس علميّة، بل هي تصورات فلسفيّة تتناقض مع معطيات العلم الحديث، وتتناقض مع الواقع الملموس للرجل والمرأة.
ولا تملك هذه الفلسفة الدليل على إمكانية إلغاء الفروق بين الرجال والنساء، وليس لديها الضمانات التي تجعلنا نطمئنّ إلى أنّ تطبيق هذه الفلسفة سيأتي بنتائج إيجابيّة.
وهذه الحركات الأنثوية المتطرفة أعلنت بفلسفتها الحرب ضد الرجال والمطالبة بعالم بلا رجال!. رادف ذلك الهجوم بشكل مكثف على مؤسسة الأسرة باعتبارها مؤسسة قمع وقهر للمرأة، والبديل هو الارتباط الحر والحرية الجنسية، بل تجاوز الأمر إلى الدعوة إلى الشذوذ الجنسي "السحاق" باعتباره شكلا ملائما للخروج من سيطرة الرجل العدو !!.
ومن ضمن ما دعت إليه تلك الحركات إلغاء دور الأب في الأسرة ورفض السلطة الأبوية كما رفضت الأسرة والزواج وأباحت الإجهاض ورفضت الأمومة والإنجاب، وأباحت الشذوذ الجنسي، وبناء الأسرة الغير النمطية حيث رأت الحركة الأنثوية أن إباحة الشذوذ وسيلة لكي تتخلص المرأة من تبعيتها للرجل ومن سطوته أيضا، وتخلصها من مشكلات الإنجاب والولادة والأمومة وتثبت المرأة من خلالها أنها تستطيع أن تستقل بذاتها وتستغني عن الرجل تماما !!.
رأي الشرع في "الجندر"
جاء في الفتوى الصادرة عن دار الإفتاء المصرية للدكتور علي جمعة ما يفيد أن "مساواة الجندر" والتي تعني التساوي المطلق بين الرجل والمرأة يرفضها الإسلام، والشأن بين آدم وزوجته حواء المساواة في الحقوق والواجبات، وفي الإنسانية وفي التكليف، وليس الشأن بينهما هو التساوي في الخصائص والوظائف؛ ولذا نرى الشرع الإسلامي قد نهى عن تشبه كل فريق بالآخر التشبه الذي يخل بتوازن الكون وبمراد الله من خلقه".
وفي بيان مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف جاء القول : " تستخدم كلمة نوع "جندر" عشرات المرات بمعان محرفة ترمي إلى إلغاء الفوارق بين الذكور والإناث وتحويل الإنسان إلى مسخ لا هو بالذكر ولا بالأنثى وذلك مع الإيهام ببراءة القصد وسلامة الهدف ".
سبل المواجهة
لخطورة هذا المصطلح وما يتضمنه من معانٍ ودلالات ، لابد من التنبيه على خطورته وبيان مراميه ومخالفاته الشرعية، والمسؤولية الأكبر تلقى على عاتق ولاة الأمر من الحكام، وكذلك العلماء والدعاة وطلاب العلم والمثقفين والإعلاميين والمؤسسات التربوية والمراكز النسائية؛ لتوعية عامة المسلمين بأهداف الحركات الأنثوية الجديدة ومخططاتها ومن يقف وراءها من خلال وسائل الإعلام المختلفة والندوات والمحاضرات، وإصدار الفتاوى والبيانات التي تستنكر هذه المؤتمرات الدولية ونشرها إعلاميا، وإقامة أسابيع ثقافية في المدارس والجامعات لبيان مخالفة مثل تلك المصطلحات لمقاصد الشريعة. ولا مناص من النصح والتوجيه للحكومات الإسلامية ومراكز القرار حتى لا توقع على أية اتفاقيات متضمنة تلك المعاني المخالفة لشريعتنا الغراء.
المطلب الثاني
من مبادئ الشريعة الإسلامية العامة
مبدأ الحرية
من المبادئ الأساسية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية مبدأ الحرية، فقد أعلنت الشريعة الحرية وقررتها في أروع مظاهرها فقررت
حرية التفكير، وحرية الاعتقاد، وحرية القول، وسنتكلم عن هذه الحريات واحدة بعد أخرى فيما يلي:
1ـ حرية التفكير:
جاءت الشريعة الإسلامية معلنة حرية التفكير محررة للعقل من الأوهام والخرافات والتقاليد والعادات، داعية إلى نبذ كل مالا يقبله العقل، فهي تحث على التفكير في كل شيء وعرضه على العقل فإن أمن به العقل كان محله إيمان، وإن كفر به كان محله كفران فلا تسمح الشريعة للإنسان أن يؤمن بشيء إلا بعد أن يفكر فيه ويعقله، ولا تبيح له أن يقول مقالاً أو يفعل فعلاً إلا بعد أن يفكر فيما يقول ويفعل ويعقله.
ولقد قامت الدعوة الإسلامية نفسها على أساس العقل فها هو القرآن الكريم يعتمد في إثبات وجود الله، ويعتمد في إقناع الناس بالإسلام، ويعتمد في حملهم على الإيمان بالله ورسوله وكتابه، يعتمد القرآن الكريم في ذلك كله اعتماداً أساسياً على استثارة تفكير الناس وإيقاظ عقولهم ويدعوهم بشتى الطرق والوسائل إلى التفكير في خلق السموات والأرض وفي خلق أنفسهم وفي غير ذلك من المخلوقات،ويدعوهم إلى التفكير فيما تقع عليه أبصارهم وما تسمعه آذانهم ليصلوا من وراء ذلك كله إلى معرفة الخالق وليستطيعوا التمييز بين الحق والباطل.
ونصوص القرآن الكريم في هذا الصدد لا تحصى منها على سبيل المثال:قوله تعالى : [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] البقرة : 164.
وقوله تعالى : [قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا] سبأ: 46.
وقوله تعالى : [أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى] الروم: 8.
وقوله تعالى : [فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ] الطارق: 5ـ 7.
وقوله تعالى : [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] ق: 37.
وقوله تعالى: [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)] آل عمران :190 ـ 191.
ويعيب القرآن الكريم على الناس أن يلغوا عقولهم، ويعطلوا تفكيرهم، ويقلدوا غيرهم، ويؤمنوا بالخرافات والأوهام، ويتمسكوا بالعادات والتقاليد دون تفكير فيما يتركون وما يدعون، وينعي عليهم ذلك كله، ويصف من كانوا على هذه الشاكلة بأنهم كالأنعام بل أضل سبيلاً من الأنعام لأنهم يتبعون غيرهم دون تفكير ولا يحكمون عقولهم فيما يعملون أو يقولون أو يسمعون، ولأن العقل هو الميزة الوحيدة التي ميز الله بها الإنسان على غيره من المخلوقات فإذا ألغي عقله أو عطل فكره تساوى بالأنعام بل كان أضل منها.
ونصوص القرآن الكريم صريحة في تقرير هذه المعاني، واقرأ إن شئت قوله تعالى : [وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)] البقرة: 170 ـ 171
وقوله تعالى: [يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)] الحج: 46.
وقوله تعالى : [وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)] الأعراف: 179.
وللإنسان أن يفكر فيما شاء وهو آمن من التعرض للعقاب على هذا التفكير ولو فكر في إتيان أشياء تحرمها الشريعة، والعلة في ذلك أن الشريعة لا تعاقب الإنسان على أحاديث نفسه ولا تؤاخذه على ما يفكر فيه من أقوال أو أفعال محرمة ، وغنما تؤاخذه على ما أتاه من قول أو فعل محرم، وذلك معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم).
2ـ حرية الاعتقاد: والشريعة الإسلامية هي أول شريعة أباحت حرية الاعتقاد وعملت على صيانة هذه الحرية وحمايتها إلى آخر الحدود، فلكل إنسان طبقاً للشريعة الإسلامية أن يعتنق من العقائد ما ساء وليس لأحد أن يحمله على ترك عقيدته أو اعتناق غيرها أو يمنعه من إظهار عقيدته.
وكانت الشريعة الإسلامية عملت حين قررت حرية الاعتقاد فلم تكتف بإعلان هذه الحرية وإنما اتخذت لحمايتها طريقين:
أولاهما: إلزام الناس أن يحترموا حق الغير في اعتقاد ما يشاء وفي تركه يعمل طبقاً لعقيدته، فليس لأحد أن يكره آخر على اعتناق عقيدة ما أو ترك أخرى ومن كان يعارض آخر في اعتقاده فعليه أن يقنعه بالحسنى، ويبين له وجه الخطأ فيما يعتقد، فإن قبل أن يغير عقيدته عن اقتناع فليس عليهما حرج، وإن لم يقبل فلا يجوز إكراهه ولا الضغط عليه، ولا التأثير عليه بما يحمله على تغيير عقيدته وهو غير راض، ويكفي صاحب العقيدة المضادة أنه أدى واجبه فبين الخطأ، وأرشد إلى الحق، ولم يقصر في إرشاد خصمه وهدايته إلى الصراط المستقيم.
واقرأ إن شئت هذه المعاني صريحة واضحة في قوله تعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم:
[ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] البقرة : 256
وقوله تعالى: [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ] يونس: 99
وقوله تعالى: [فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ] الغاشية: 22
وقوله تعالى : [ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ] النور: 54
ثانيهما: إلزام صاحب العقيدة نفسه أن يعمل على حماية عقيدته، وأن لا يقف موقفاً سلبياً، فإذا عجز عن حماية نفسه تحتم عليه أن يهاجر من هذه البلدة التي لا تحترم عقيدته إلى بلد آخر يحترم أهله عقيدته، ويمكن فيه من إعلان ما يعتقده، فإن لم يهاجر وهو قادر على الهجرة فقد ظلم نفسه قبل أن يظلمه غيره، وارتكب إثماً عظيماً، وحقت عليه كلمة العذاب، أما إذا كان عاجزاً عن الهجرة فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وهذا هو القرآن الكريم ينص صراحة على ذلك في قوله تعالى:
[ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)] النساء: 97ـ 99
وقد بلغت الشريعة الإسلامية غاية السمو حينما قررت حرية العقيدة للناس عامة مسلمين وغير مسلمين، وحينما تكفلت بحماية هذه الحرية لغير المسلمين في بلاد الإسلام، ففي أي بلد إسلامي يستطيع غير المسلم أن يعلن عن دينه ومذهبه وعقيدته، وأن يباشر طقوسه الدينية ، وأن يقيم المعابد والمدارس لإقامة دينه ودراسته دون حرج عليه، فلليهود في البلاد الإسلامية عقائدهم ومعابدهم وهم يتعبدون علنا وبطريقة رسمية، ولهم مدارسهم التي يتعلمون فيها الدين الموسوي، ولهم أن يكتبوا ما يشاءون عن عقيدتهم وأن يقارنوا بينها وبين غيرها من العقائد ويفضلوها عليها في حدود النظام العام والآداب والأخلاق الفاضلة.
وكذلك الحال مع المسيحيين مع اختلاف مذاهبهم وتعددها، فلكل أصحاب مذهب كنائسهم ومدارسهم، وهم يباشرون عباداتهم علناً، ويعلمون عقائدهم في مدارسهم ويكتبون عنها وينشرون ما يكتبون في البلاد الإسلامية.
3ـ حرية القول: أباحت الشريعة الإسلامية حرية القول وجعلتها حقاً لكل إنسان، بل جعلت القول واجباً على الإنسان في كل ما يمس الأخلاق والمصالح العامة والنظام العام وفي كل ما تعتبره الشريعة منكراً، وذلك قوله تعالى:[ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] آل عمران: 104
وقوله تعالى: [الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ] الحج: 41
وإذا كان لكل إنسان أن يقول ما يعتقد أنه الحق ويدافع بلسانه وقلمه عن عقيدته فإن حرية القول ليست مطلقة، بل هي مقيدة بأن لا يكون ما يكتب أو يقال خارجاً عن حدود الآداب العامة والأخلاق الفاضلة أو مخالفاً لنصوص الشريعة.
وقد قررت الشريعة حرية القول من يوم نزولها وقيدت في الوقت نفسه هذه الحرية بالقيود التي تمنع من العدوان وإساءة الاستعمال، وكان أول من قيدت حريته في القول محمد صلى الله عليه وسلم وهو رسول الله الذي جاء معلناً للحرية مبشراً بها وداعياً إليها، ليكون قوله وعمله مثلاً يحتذى، وليعلم الناس أنه لا يمكن أن يعفى أحد من هذه القيود إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من قيد بها مع ما وصفه به ربه من قول تعالى:[ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] القلم:4
ولقد أمر الله رسوله أن يبلغ رسالته للناس وأن يدعو الناس جميعاً إلى الإيمان بالله وبالرسالة، وأن يحاجّ الكفار والمكذبين ويخاطب عقولهم وقلوبهم.
ولكن الله جلّ شأنه لم يترك لرسوله صلى الله عليه وسلم حرية القول على الإطلاق فرسم له طريق الدعوة، وبين له منهاج القول والحجاج، وأوجب عليه أن يعتمد في دعوته على الحكمة والموعظة الحسنة، وأن يجادل بالتي هي أحسن، وأن يعرض عن الجاهلين ، وأن لا يجهر بالسوء من القول، وأن لا يسب الذين يدعون من دون الله، فرسم الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم حدود حرية القول، وبيِّن لنا أن الحرية ليست مطلقة وإنما هي حرية مقيدة بعدم العدوان وعدم إساءة الاستعمال.
ونستطيع أن نبين مدى صلاحية نظرية الشريعة إذا علمنا أن المشرعين الوضعيين بعد تجاربهم الطويلة ينقسمون اليوم إلى قسمين:
قسم يرى حرية القول دون قيد إلا فيما يمس النظام العام وهؤلاء لا يعيرون الأخلاق أي اهتمام، وتطبيق رأيهم يؤدي دائماً إلى التباغض والتنابذ والتحزب ثم القلاقل والثورات وعدم الاستقرار.
وقسم يرى تقييد حرية الرأي في كل ما يخالف رأي الحاكمين ونظرتهم للحياة، وتطبيق رأي هؤلاء يؤدي إلى كبت الآراء الحرة وإبعاد العناصر الصالحة عن الحكم، ويؤدي في النهاية إلى الاستبداد ثم القلاقل والثورات.
ونظرية الشريعة الإسلامية تجمع بين هاتين النظريتين اللتين تأخذ بهما دول العالم، ذلك أن نظرية الشريعة تجمع بين الحرية والتقييد، وهي لا تسلم بالحرية المطلقة، ولا بالتقييد المطلق..
فالقاعدة الأساسية في الشريعة هي حرية القول،والقيود على هذه الحرية ليست إلا فيما يمس الأخلاق أو الآداب أو النظام.
والواقع أن هذه القيود قصد منها حماية الأخلاق والآداب والنظام ولكن هذه الحماية لا تتيسر إلا بتقييد حرية القول، فإذا منع القائل من الخوض فيما يمس هذه الأشياء فقد منع من الاعتداء ولم يحرم من أي حق لأن الاعتداء لا يمكن أن يكون حقاً .
ويمكننا بعد ذلك أن نقول إن الشريعة الإسلامية تبيح لكل إنسان أن يقول ما يشاء دون عدوان فلا يكون شتاماً ولا عياباً ولا قاذفاً ولا كاذباً، وأن يدعو إلى ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يجادل بالتي هي أحسن، وأن لا يجهر بالسوء من القول، ولا يبدأ به، وأن يعرض عن الجاهلين.
ولا جدال في أن من يفعل هذا يحمل الناس على أن يسمعوا قوله ويقدروا رأيه فضلاً عن بقاء علاقاته بغيره سليمة ثم بقاء الجماعة يداً واحدة تعمل للمصلحة العامة.
والنصوص القرآنية الآتية تعتبر دستور القول في الشريعة وهي قوله تعالى:
[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ] النحل: 125
[خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ] الأعراف: 199
[وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا] الفرقان: 63
[وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] الأنعام: 108
[لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا] النساء: 148
[وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] العنكبوت : 46
هذه هي نظرية الحرية بشعبها الثلاث جاءت بها الشريعة الإسلامية في وقت كان الناس لا يفكرون بعقولهم ولا يحفلون إلا بما وجدوا عليه آباءهم, وقد جاءت النصوص المقررة للحرية والمبينة لحدودها نصوصاً عامة مرنة بحيث لا يمكن أن تحتاج إلى تعديل أو تبديل.وهذا يتفق مع الأساس الذي قامت عليه الشريعة وهو عدم قابليتها للتعديل والتبديل، ولا شك أن النصوص من العموم والمرونة بحيث لا يمكن أن تضيق بأي حال مهما تغيرت الظروف والأمكنة وطال الزمن.
ولقد سبقت الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية في تقرير نظرية الحرية بسبعة عشر قرناً، لأن القوانين الوضعية لم تبدأ بتقرير هذه النظرية إلا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر.
أما قبل ذلك فلم تكن هذه القوانين تعترف بالحرية بل كانت أقسى العقوبات تخصص للمفكرين ودعاة الإصلاح ولمن ينتقد عقيدة تخالف العقيدة التي يعتنقها أولو الأمر.
هذا هو الواقع وهذه هي حقائق التاريخ، فمن شاء بعد ذلك أن يعرف كيف نشأت الأكذوبة الكبرى التي تقول إن الأوروبيين هم أول من دعا للحرية فليعلم أنها نشأت من الجهل بالشريعة الإسلامية، وقد يعذر الأوربيون في هذا الجهل أما نحن فلن نجد لأنفسنا عذراً.
المطلب الثالث
من مبادئ الشريعة الإسلامية العامة
مبدأ الشورى
والحديث عن مبدأ الشورى ونظام الحكم على فرعين:
الفرع الأول: الشورى كمبدأ من مبادئ نظام الحكم في الإسلام.
الفرع الثاني: نظام الحكم الإسلامي بين الشّورى والديمقراطية
الفرع الأول
الشورى كمبدأ من مبادئ نظام الحكم في الإسلام.
تعريف الشورى في مفهوم الفقه الدستوري هي: «تبادل الرأي بين المتشاورين من أجل استخلاص الصواب من الرأي، والأنجح من الحلول، والسديد من القرارات، وهي من مبادئ الشريعة، وأصل من أصول الحكم».
وإذا ما أتينا إلى الشورى، الذي هو ركن من أركان نظام الحكم في الإسلام، متى ما طبّق شكلا ومضمونا، وان لم تحدد الشريعة معالمه، ولم يهتد المسلمون إلى تقرير شكله وأسلوبه عبر العصور، فانه ينبغي التوقف أمامه عند سؤال كبير، سيظل يتردد على المسامع إلى حين، وهو: هل تطبق الشورى على أصولها في الدول التي تأخذ بها؟..
وبما أن النموذج الأكثر تعبيرا عن مفهوم الشورى الذي ورثناه من الخلافة الإسلامية (وهو مفهوم أهل الحل والعقد)، يظل النموذج شبه الوحيد، لكنه لم يجرّب حديثا ولم يبلور بعد على نطاق عملي، وما يزال ضبابيا، ولا أظن أن صيغة مجالس الشورى القائمة تمثل مفهومه وتحقق فلسفته ومقاصده. لقد ظهرت فكرة «أهل الحل والعقد والاختيار» في فترة مبكرة من عهد الخلافة الراشدة، بدأت بعدد محدود، وكان الهدف منها عقد البيعة للخليفة الخلف، ثم اختفت مع ظهور أنماط مختلفة من نظم الحكم في العهود الإسلامية اللاحقة.
لكن «عمومية» اللفظ بقيت في بطون كتب التاريخ وان خصصها بعض مفكري المسلمين بقليل من التعليقات التنظيرية في الكتب التي تناولت نظم الحكم في الإسلام.
الفرع الثاني
نظام الحكم الإسلامي بين الشّورى والديمقراطية
موضوع( نظام الحكم الإسلامي بين الشّورى والديمقراطية) يهدف إلى بيان المقصود بالديمقراطية في المجتمعات المعاصرة،وعقد مقارنة بينها وبين حقيقة الشّورى في النظرالإسلامي بقصد الوصول إلى الموقف الإسلامي من الديمقراطيّة، وبيان إمكانيّة تبنيها في المجتمعات الإسلاميّة المعاصرة.. وما حدود ذلك وشروطه والآليّات اللازمة له، في إطار يركز على بيان الحكم الشرعي المعتمد، من منطلق أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره؛ وبيان المقصود منه اعتماداً على النصوص والتطبيقات المتعلقة بالموضوع وعلى حرص الشريعة على تحقيق مصالح العباد، وفق ما بيَّنه علماؤنا في مباحث مقاصد الشريعة والمصالح المرسلة والاستحسان والعرف.
وتأتي أهمية البحث في هذا الموضوع من منطلق التوجّه العالمي إلى تبني الديمقراطيّة، عنواناً لاستقرار المجتمعات الإنسانيّة وتقدّمها، وبخاصّة في مجال الحياة السياسيّة، والمحافظة على حقوق الإنسان وحرياته.. بحيث بات تبنّي الديمقراطيّة مطلباً عالمياً تركز عليه حركات الإصلاح في المجتمعات المعاصرة، وأصبح الموقف منها مقياساً لمدى تقدم المجتمع ونهوضه، ومعياراً للحكم على صلاح النظم والمذاهب والحركات والتجمّعات والأحزاب السياسيّة.
ومن الأهمية بمكان أن نلاحظ أنّ الحكم على نجاح الأفكاروالمفاهيم الديمقراطية بات يركز على صيغها وآلياتها وآثارها ونتائجها، ولا يهتم بأسسها الفلسفيّة، وما كانت عليه مفاهيمها في البداية أو في إطار النظم والفلسفات الأخرى، ومن هنا فإنه من المهم الوعي على هذه النقطة لأهميتها في تسهيل الحكم عليهامن الناحية الشرعيّة، حيث يبادر العديد من الباحثين المهتمين بدراسة هذا الأمر إلى القول بتحريم الأخذ بالأفكار والمفاهيم الديمقراطيّة بالنظر إلى أسسها الفلسفيّة،باعتبارها مصطلحاً غربياً طارئاً على الثقافة الإسلاميّة، له مدلولاته الخاصّة في الثقافات المغايرة.. وأنّ الأخذ بها قديؤدي إلى الخلط بين الفلسفات والنظم، واستيراد المضامين غير الإسلاميّة، وليس فقط الأخذ بالصيغ والآليّات.
ويمكن تشبيه ما يدور حول استخدام لفظ الديمقراطيّة في الفكر والواقع الإسلاميين المعاصرين بما دار حول استخدام لفظ الاشتراكيّة في منتصف القرن الماضي، فقد سمى بعض الباحثين ما قدمه الإسلام من معالجة لمشكلات الفقر وتوزيع الثروة والدخل وتحقيق العدالة الاجتماعيّة في الإسلام باشتراكيّة الإسلام، ورفض بعضهم هذه التسمية واعتبرها خطراً يهدّد الفكر الإسلامي المعاصر، لأنه يؤدي إلى دخول بعض المفاهيم الغريبة عن الإسلام في هذا الفكر (انظر اشتراكية الإسلام، د. مصطفى السباعي حيث ناقش هذا الموضوع وعرض لحجج المانعين والموافقين وانتهى إلى ترجيح هذا الاستخدام، ص 6 – 8 .).
وعلى ضوء هذا كله فإنّ هذا المبحث سوف يهتم ببيان الأمور التالية:
1ـ المقصود بالديمقراطيّة في المجتمعات المعاصرة، وعلاقة ذلك بأصولها الفلسفيّة،بهدف بيان إمكانيّة فصلها بصيغها وممارساتها المعاصرة عن أصولها الفلسفيّة.
2ـ حقيقة الشّورى في النظر الإسلامي، وأدلتها وتطبيقاتها ومقارنتها بالصيغ الديمقراطية المعاصرة.
3ـ الحكم على الصيغ الديمقراطيّة المعاصرة منوجهة نظر إسلاميّة، وبيان كيف يمكن للتطبيق الإسلامي المعاصر أن يتبنى هذه الصيغ وينتفع بها، دون إخلال بالمبادئ والقواعد الإسلاميّة.
وأخصص لكل أمر من هذه الأمور مبحثاً مستقلاً.
المبحث الأول
المقصود بالديمقراطيّة في المجتمعات المعاصرة وعلاقة ذلك بأصولها الفلسفيّة
يذكر الباحثون أنّ الديمقراطيّة تعني حكم الشعب للشعب، وقد نادى المفكرون والمصلحون بهذا المفهوم في وجه الديكتاتورية التي تعني حكم الفرد للشعب. (انظر الديمقراطية التقدميّة والاشتراكيّة الثوريّة، د. عدنان الأتاسي، ص 97.).
وقد أوضحوا أنّ هذه اللفظة قديمة في استعمالها، إذ استخدمها الإغريق القدامى لأول مرة في القرن الخامس قبل الميلاد.
فالديمقراطية: كلمة مشتقة من الكلمة اليونانية Δήμος أو Demos وتعني عامة الناس، والنصف الثاني Κρατία أو kratia وتعني حُكم، Democratia حكم عامة الناس.
يمكناستخدام مصطلح الديمقراطية بمعنى ضيق لوصف دولة- قومية أو بمعنى أوسع لوصف مجتمع حر.
فهي مصطلح يوناني مركب من لفظين: «ديموس» أيالشّعب و«كراتوس» أي السّلطة، فهي تعني سلطة الشّعب، وقد ظهرت أول ما ظهرت في كتاب تاريخ حرب البيلو بونيز للمؤرخ اليوناني توسيد يوس (460 – 400 قبل الميلاد) الذينقل قول بيريكليس – وهو يرثيه – التالي: «إنّ دستورنا لا ينقل عن الدول الأخرى،فنحن نموذج للآخرين .. إنّ حكومتها – يقصد أثينا – ترعى الأغلبيّة لا الأقليّة . ولهذا تسمى ديمقراطيّة (انظر ذلك معنى الديمقراطيّة، صول. ك. بادوفر، ترجمة جورج عزيز، دار الكرنك للنشرالقاهـرة 1997م، ص23.).
ويقول توسيديوس: أن بيريكليس كان يتصور الديمقراطيّة نظام حكم يتمتع في ظله الناس جميعاً بالمساواة أمام القوانين، ويُنتخب موظفوه على أساس من كفاءتهم، لا على أساس الطبقة التي ينتمون إليها، ويستند إلى المبدأ القائل إنّ الأغلبيّة أكثر حكمة من الأقليّة..(انظر ذلك في: معنى الديمقراطيّة، صول. ك. بادوفر، ترجمةجورج عزيز، دار الكرنك للنشر القاهرة 1997م، ص 23 - 24.).
وقد طبقت الديمقراطيّة نظاماً للحكم في أثينا خلال القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد.. وكانت هذه الديمقراطيّة ديمقراطيّة مباشرة تتكون الجمعية العموميّة فيهامن جميع أفراد الشّعب، مستبعداً منهم الإناث والعبيد ومادون العشرين سنة، حيث يتولّى هؤلاء اختيار الحكام والقضاة، ووضع القوانين المقدمة من المجلس النيابي،وإعلان الحرب والسلام وعقد المعاهدات وغيرها، أمّا المجلس النيابي فيتكون من خمسمائة عضو عن كل قبيلة من قبائل أثينا العشرة، على أن تكون أعمارهم فوق الثلاثين،ومدّة العضويّة سنة، ولا يعاد الاختيار إلا مرّة واحدة طوال الحياة، ويتولّى المجلس بالإضافة لإعداد مشروعات القوانين الإشراف على أجهزة الإدارة والشؤون الماليّة وعلى الجيش.. وفي النظام مناصب أخرى مثل المحاكم الشعبيّة والقواد العشرة والمناصب العامة الأخرى (انظر بالتفصيل: الشّورى وأثرها في الديمقراطيّة، ص 22 وما بعدها.).
وقد أخذ على هذا النظام ملاحظات عديدة منها استبعاد النساء والاعتراف بنظام العبودية واستبعاد العبيد، وأنها قررت الحريّة المطلقة بطريقة تتيح للفرد أن يفعل ما يشاء، وأنها ساوت بين الصالحين وغير الصالحين،وأنّ السيادة في كثير من الأحوال للأغلبية لا للقانون، وقد وجّه هذه الانتقادات كل من أفلاطون وأرسطو وغيرهم (انظر بالتفصيل: الشّورى وأثرها في الديمقراطيّة، ص 32 - 38.).
ويذكر بعض الباحثين أنّ الديمقراطيّة تعني المشاركة الشعبيّة في شؤون الحكم (د. عبد الحميد الأنصاري، الشّورى وأثرهافي الديمقراطيّة، ص 21.).
وقد ذكر الباحثون أنّ للديمقراطيّة في مجالات السياسات والنظم ما لا يقل عن خمس ميزات أساسيّة هي:
1. المساواة أمام القانون.
2. المساواة في الاقتراع.
3. انتخاب الممثلين النيابيين دورياً.
4. التشريع بموافقة الأغلبيّة.
5. حريّة العمل السياسي ووضع البرامج السياسيّة.
(يراجع بالتفصيل معنى الديمقراطية، صول. ك. بادوفر، ترجمة جورج عزيز،دار الكرنك للنشر القاهرة 1997م، ص 19.)
ويقول الدكتور عدنان الأتاسي: ومن الوجهة العمليّة إنّ للديمقراطية اليوم شقين يتمم أحدهم الآخر:
1ـ تعني الديمقراطيّة تمتع كل مواطن بالأمن الشخصي وبالحريّات المدنيّة والسياسيّة، وخاصّة بالمساواة في الحقوق والواجبات، وبقضاء عادل مستقل.
2ـ تعني الديمقراطيّة أيضاً، أن يكون للمواطنين رأي في انتقاء الحكام وفي توجيه الحكم ومراقبته، وذلك عن طريق التصويت العام الحرّ في فترات متقاربة (الديمقراطية التقدميّة والاشتراكية الثوريّة، ص 97.).
فهي تقول بحقّ الإنسان بأن يعيش حرّاً ضمن حدود القانون، وأن يساهم في الحياةالسياسيّة ضمن نظام قائم على إرادة الشعب (الديمقراطية التقدميّة والاشتراكية الثوريّة، ص 114)، وبحيث تتعمق هذه المبادئ في حسالمواطنين وسلوكهم وهذا يقتضي إطلاق حريات الأفراد، والالتزام برأي الأكثرية معاحترام رأي الأقلية، في إطار تطبيق القانون على الجميع. ذلك أنّ تطبيق المبادئ الديمقراطيّة يحتاج إلى تربية سياسيّة وتوجيه مستمر حتى لا تقع الأخطاء ويقع القصورفي الممارسة والتطبيق (انظر المرجع نفسه عند الحديث عما أسماه بعيوب الديمقراطيّة وكيفية علاجها، ص 132 وما بعدها.).
وواضح أنّ هذا الفهم يجعل التشريع للأغلبيّة من خلال الممثلين النيابيين، من منطلق أن التشريع ووضع القوانين الضابطة لنواحي الحياة المتعددة هو من صلاحيّة الشّعب يمارسها من خلال مجلس منتخب تؤخذ القرارات فيه بالأغلبيّة. فهو فهم لا يلاحظ ولا يهتم بوجود شريعة إلهيّة حملها الرسل والأنبياء يجب الالتزام بها والعمل بموجبها، لذلك يهاجم كثير من المتمسكين بوجوب تطبيق الشريعة هذا الفهم وينددون به،ويعتبرونه مخالفاً لوجوب تطبيق الشريعة، ومن هنا فإنّ عدداً من العلماء المسلمين أشاروا إلى هذا الفهم ومتعلقاته باعتباره نوعاً من أنواع الحكم الذي يختلف عن الحكم الإسلامي المقبول.
وقد نبّه ابن خلدون في مقدمته إلى أنواع الحكم بالنظر إلى نوعيّة ما يطبقه الحكم على الناس فقسمها إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: المُلك الطبيعي، وهو الحكم الذي يقوم على مقتضى الفرض والشهوة،والغلبة والقهر، دون أن يكون هنالك أي قوانين تطبق على الناس. وهو ما يسمى بالحكم الديكتاتوري، وهو الذي تكون فيه إرادة الحاكم هي الفيصل الحاكم في جميع شؤون الدولة والرعيّة.
القسم الثاني: المُلك السياسي، وهو الحكم الذي يقوم على حمل الكافة على تطبيق قانون وضعي مبني على النظر العقلي في جلب المصالح ودفع المضار، وذلك من قبل عقلاء الأمة وأكابرها.
القسم الثالث: الخلافة؛ وهو الحكم الذي يقوم على حمل الكافّة على مقتضى النظرالشرعي في مصالح الدنيا والآخرة، فهي خلافة عن صاحب الشّرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا.
ثمّ بيَّن ابن خلدون بعد ذلك أنّ المُلك الطبيعي مذموم، لأنه جور وعدوان لا يقوم على قانون أوشرع، وأنّ الملك السياسي مذموم كذلك، لأنه نظر بغير نور الله، ومن لم يجعل اللهله نوراً فما له من نور، والشارع أعلم بمصالح الكافة منهم.
والمُلك السياسي يُعنى بمصالح الدنيا، ولا يهتم بمصالح الآخرة.
أمّا الخلافة فتسير بنور الله، وتعمل بوحيه المنزل، وتهتم بمصالح الناس الدنيويّة والأخرويّة، فهي أحسن أنواع الحكم(انظر ذلك فيالفصل الخامس والعشرين من المقدمة، ص 190 – 191، وانظر الملكيّة في الشريعةالإسلاميّة، د. عبد السلام العبادي، ج 2، ص 236.).
ويظهر من تقسيم ابن خلدون هذا لأنواع الحكم أنه يعتبر الأساس في التمييز بين أنواع الحكم هو نوعية القوانين التي تنظم شؤون الحكم وتسيّر أموره؛ فالقانون الذي يمارس الحكم تطبيقه هو الذي يحدد طبيعة الحكم ونوعية وظائفه. ومن هنا كان لنظام الحكم الإسلامي طبيعة خاصّة، ووظائف متميزة، لأنه هو الذي يطبق شريعة الله الكاملة؛حكم يكمل بقدر ما يطبّق من أحكام الشريعة، والمهم فيه تطبيق الأحكام الشرعيّة.
أمّاالتسميات التي تطلق عليه فيلاحظ فيها أمر أو آخر، فتسميته بالخلافة باعتبار أنه خلافة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تطبيق الشريعة الإلهيّة الخاتمة والالتزام بها(انظر مقدمة ابن خلدون، 191.).
وتسميته بالإمامة باعتبار أنّ الحاكم يتقدم المسلمين في الصلاة وغيرها. وواضح في الأنظمة الديمقراطيّة أنّ أكابر الأمّة وعقلاءها يتم اختيارهم من الشّعب، فالمجلس المنتخب هو الذي يضع القوانين. وفي الدولة الحديثة، وأمام تقسيم السلطات إلى ثلاث: تنفيذيّة وتشريعيّة وقضائيّة، فإنّ السّلطة التشريعيّة هي التي تمثلها المجالس المنتخبة من الشّعب.
والشريعة التي يطبقها الحكم الإسلامي لها منهجها في تنظيم الواقع الإنساني، فهوالذي يقوم عليه الفقه الإسلامي، فهي في تنظيمها لحياة الناس قد وضعت القواعدالعامّة والمبادئ الأساسية، ونصّت على كثير من الأحكام التفصيلية التي لا يتغيّرفيها الحكم بتغير الأزمنة، وتركت كثيراً من الأمور التفصيلية لتنظم في كل عصربحسبه، وفق ما يقدر عليه العقل الإنساني، ويقدمه نمو المجتمع الإنساني، على أن يظل ذلك في إطار مبادئ الشريعة العامة وقواعدها الأساسيّة، ولا يخرج على نصوصها. ويكون ذلك وفق قواعد الاجتهاد التي قررتها الشريعة لاستنباط الأحكام للحوادث المستجدة والقضايا الحادثة من نصوص الشريعة، ويكون ذلك لولي الأمر وفقهاء الشريعة بالوسائل التي اعتمدتها وقررتها لضبط عملية استنباط الأحكام الشرعية من النصوص الشرعيّة الخاصّة والعامّة.
وقد فصل القول في هذه القواعد علم أصول الفقه؛ فبيَّن مصادرالأحكام الشرعيّة، وقواعد الاستنباط وشروط الاجتهاد وكل ما يتعلق بمعرفة القواعد التي تعين المجتهد على استنباط الأحكام الشرعيّة من أدلتها التفصيليّة.
ولكون ولي الأمر الإمام هو الذي يسهر على تنفيذ الشريعة، وتطبيق أحكامها في كلالحوادث والنوازل فقد اشترط فيه العلم المؤدي إلى القدرة على الاجتهاد لمعرفة حكم النوازل والحوادث الطارئة من نصوص الشريعة، وعندما وجد خلفاء لم يصلوا إلى هذه الرتبة، ولم يتوافر فيهم هذا الشرط، بيَّن الفقهاء أنه لابد أن يتحقق هذا الشرط عن طريق اعتماد الإمام على المجتهدين من الأمّة، فلا يقطع رأياً دونهم.
وعلى ضوء هذا الاستعراض فإنّ أهم ميزة للحكم الإسلامي أنه يطبق الشريعة الإسلاميّة، وأنّ تطبيق الشريعة الإسلاميّة يتطلب باستمرار اجتهاداً يواكب حركةالمجتمع وحاجاته ليستنبط لكل ذلك الأحكام الشرعيّة اللازمة، وأنّ هذا الأمر أوسع منمجرّد إدارة الدولة المباشرة والقيام على شؤونها الخاصّة، وهو الذي يعالج من خلال إقامة ولي الأمر، أي إقامة الدولة. وقد بيّن العلماء أدلة وجوب إقامة الدولة.
وكان أهم أدلتهم على ذلك وجوب تطبيق الشريعة الذي لا يمكن أن يتم دون أن تقوم دولة تسهر على ذلك، وتعمل على تحقيقه بين الناس، ولذلك اهتموا في بدايات بحثهم في الفقه السياسي في الإسلام بهذا الأمر وعالجوه بإفاضة وتوسّع، وبينوا أنّ إقامة الدولة حكم شرعي، وأنّ الإسلام قد عنى بتنظيم شؤونها، وأنّ هنالك نصوصاً مباشرة تعالج هذا الأمر؛ يتضمن بعضها أحكاماً تفصيليّة،ويتضمن بعضها الأخر مبادئ كلية تستوعب في تطبيقها تفصيلات كثيرة قد تختلف باختلاف الأماكن والأزمان، وذكروا من ذلك مبدأ الشورى فهو قاعدة من قواعد الحياة الإسلاميّة سياسيّة أو غير سياسيّة، متروك للاجتهاد في كل عصر أن يستحدث من الصور والتفصيلات ما يمكن من تطبيقها والالتزام بها أحسن تطبيق والتزام.
وهذا يطرح قضية البحث الأساسيّة في إمكانيّة تبني نظام الحكم الإسلامي لصيغ الديمقراطيّة وآلياتها المعاصرة وهي نتاج جهد إنساني كبير، وذلك على أساس قواعدالاجتهاد المقررة في الشريعة، وفي إطار ما يمكن أن يستوعبه مبدأ الشّورى المقرر قاعدة أساسيّة من قواعد نظام الحكم في الإسلام، بل إنّ بعضها له نظير في تطبيقات هذا المبدأ في صدر الإسلام، وهذا ما سوف أخصص له المطلب الثالث من هذا البحث بعد أن استعرض في المطلب الثاني حقيقة الشّورى في النظر الإسلامي، ومدى استيعابها للصيغ الديمقراطيّة المعاصرة.
المبحث الثاني
حقيقة الشّورى في النظر الإسلامي وأدلتها وتطبيقاتها
الشّورى في اللغة: إبداء الرأي وأخذه، من شَوَرَ، فهي الأصل الثلاثي للكلمة تستخدم في اللغة بمعنى: عرض الشيء وإظهاره وإبدائه، مثل قوله: شرت الدابة إذاعرضتها للبيع، وبمعنى: أخذ الشيء وتناوله، مثل شرت العسل: أي أخذته من الخلية(لسان العرب، ج 4، طبعة دار صادر، ص 434).فإذا قال شرت فلاناً أو شاورته أو استشرته فهي بمعنى: أخذ الرأي وتوجيهه منه،والتشاور والمشاورة والمشورة بمعنى: استخراج الرأي وإظهاره بمراجعة بعض القوم لبعضهم ومن ذلك قوله تعالى: [ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)] آل عمران/ 159. (الراغب الأصفهاني،مفردات ألفاظ القرآن ص 47.).
فنحن أمام طرفين:
الأول: الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أي حاكم من حكام المسلمين، فهو يستخرج الرأي السليم بسماعه لما يقدم من المؤمنين من رأي وفكر وهم الطرف الثاني.
وفي المصباح المنير: وشاورته في كذا واستشرته: راجعته لأرى رأيه فيه، فأشار عليَّ بكذا: أراني ما عنده فيه من المصلحة (الفيومي، المصباح المنير، ج 1، ص 395.).
والشّورى في اصطلاح فقه السياسة الشرعيّة تعني الحصول على رأي الأمّة أو من يمثلها في شؤون الحكم المتعددة.
والشّورى ليست – فحسب – مبدأ هامّاً وراسخاً من مبادئ الحكم الإسلامي، بل هي قاعدة من قواعد الحياة الإسلاميّة، قال تعالى: [:وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ]الشورى/ 38، وقد سميت بها سورة من سور القرآن الكريم لأهميتها وهي سورة مكيّة. كما جاء طلبها في شؤون الأسرة بين الزوجين عندما يريدان فطام الطفل الرضيع قبل مضي حولين كاملين، قال تعالى: [ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)]البقرة/ 233.
قال الإمام محمد رشيد رضا معلّقاً على هذه الآية ورابطاً لمعناها بأمر الشّورى العامّة: «إذا كان القرآن يرشدنا إلى المشاورة في أدنى أعمال تربية الولد، ولا يبيح لأحد والديه الاستبداد بذلك دون الآخر، فهل يبيح لرجل واحد أن يستبد في الأمّةكلها؟ وأمر تربيتها وإقامة العدل فيها أعسر، ورحمة الأمراء أو الملوك دون رحمة الوالدين بالولد وأنقص!» ( تفسير المنار، دار الكتب العلمية، ج 2، ص 333، وانظر: بحث الدكتور صلاح الخالدي بعنوان «الشّورى في القرآن الكريم« المقدم إلى مؤسسة آل البيت للفكر الإسلامي،والمنشور في كتاب الشّورى في الإسلام، ج 1، ص 55. وانظر: النظام السياسي في الإسلام، الدكتور عبد العزيز الخياط، ص 89 وما بعدها.).
أمّا في مجال الحكم فقد ورد الأمر بها في الكتاب الكريم في قوله تعالى:
[فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)] آلعمران/ 159.
وقد وردت هذه الآية الكريمة التي تأمر بالشّورى في سياق آيات تتحدّث عن غزوة أحد، ومعلوم أنّ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما تجهزت قريش لقتاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين في المدينة أخذ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستعد لقتالهم، وشاور الصحابة رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُم في:
هل يواجههم في المدينة، أم يخرج لقتالهم خارجها؟.. وكان رأي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتحصن في المدينة ويلاقيهم فيها، وكان معه في ذلك عدد من الصحابة، فقال لأصحابه: «لو أنّا أقمنا في المدينة، فإن دخلوا علينا فيها قاتلناهم»، وشاركهم في الرأي عبد الله بن أبّي ومجموعة من المنافقين، لكن أغلب المسلمين، وبخاصة الشبان منهم، والذين لميشتركوا في معركة بدر، وقد كانوا متحمسين للقاء قريش وجهاً لوجه، ولم يدخل المشركون عليهم مدينتهم في السابق، قالوا: «يارسول الله، والله ما دخل علينا فيها في الجاهليّة، فكيف يدخل علينا فيها في الإسلام؟»، فكان رأيهم الخروج للقائهم خارج المدينة، وظلت هذه الأكثريّة تبين رأيهاحتى أخذ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برأيها وقال: «شأنكم إذاً»، ودخل بيته ولبس لامته، أي عدة الحرب،واستعد للخروج للقاء قريش خارج المدينة. فلما ظنّوا أنهم أكرهوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك برأيهم، وقالوا: رددنا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأيه، وقالوا أيضاً: «أكرهنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الخروج »، قالواله : «يا نبي الله، شأنك إذاً» وقالوا: «يا رسول الله إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل»، فرد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائلاً: ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه. وخرج صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أحد بألف مقاتل.
وفي الطريق رجع عبد الله بن أبي ومجموعته في ثلث الجيش.. وكان ما كان في أحد، وأخذ بعض المنافقين يذكرون أنّ السبب في ذلك هو الخروج للقاء قريش، وأنّ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو أطاعهم لما حدث ما حدث، لأنّ المنافقين وزعيمهم عبد الله بن أبي كان رأيهم عدم الخروج من المدينة. قال تعالى في بيان ذلك:[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)] آل عمران/ 156.
وقال سبحانه: [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)] آل عمران/ 168، وكأن في ذلك تعريض بما فعله الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأخذ برأي الأكثريّة، ومع ذلك جاءت الآية الكريمة لتؤكد مبدأ الشّورى رغم ما كان عنهامن نتيجة فقال سبحانه:[ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)] آل عمران/ 159، وذلك بصيغة الأمر فهي واجبة، لأنّ الأصل في الأمر هو الوجوب، وهي وإن كانتأمراً لرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهي أمر لكل حاكم من حكام المسلمين، لأنها خطاب له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باعتباره إماماً للمسلمين. والأمر جاء عاماً بمشورة المسلمين جميعاً، وفي كل ما يتعلق بأمرهم،أي جميع شؤونهم أياً كان مجالها.
وهي قد سجلت المبدأ، وتركت التطبيق وفقما يراه الحاكم وجماعة المسلمين مناسباً لتحقيق أهداف الشّورى.
والآية تنبه إلى أنّ الشّورى يجب أن لا تؤدي إلى الفوضى والانفلات والضعف، فهدف الشّورى هو الوصول إلى أسلم الآراء وأحسنها وأكثرها تحقيقاً لمصلحة الأمّة، لكن بعدذلك لابدّ من العزم واتخاذ القرار والمضي في التنفيذ، مع التوكل على الله سبحانه وتعالى.
ثمّ إنّ الشّورى تأتي في إطار التعامل الرحيم واللين الذي يمارسه الحاكم مع المحكومين، مما يجعله حريصاً على مصالحهم، راعياً لشؤونهم، قائماً بأمورهم برفق ومودّة، ولو كان بعضها قد أشار بما يخالف رأيه، بل يذهب أبعد من ذلك فيستغفر لهم إذا وقعوا في خطأ أو غلط، مادام أنّ ذلك لم يصل إلى الخروج عليه، وفق ما بينت أحكام الشريعة بهذا الخصوص.
وقد ورد في القصص القرآني العديد من الأحداث التي كان فيها مشورة برأي صائب،وفيها الطلب من أهل الرأي المشورة مما لا يتسع المجال لتفصيله(انظر بحث د. صلاح الخالدي، ص 64-80، حيث ذكر ثلاثة عشر مثالاً.)، لكن هذه الأحداث مفيدة في مجال الاعتبار، والاستفادة منها في التوجيه، لأهمية الرأي الصائب وضرورة البحث عنه، ومن ذلك قوله تعالى في نصيحة الرجل المؤمن لموسى عليه السلام :[ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)] القصص/20.
وفي قصة سبأ في القرآن الكريم:[قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)] النمل/ 29-32
كما ندّدت الآية الكريمة في قصص بعض الحكام الظالمين بالمشورات الشكليّة الصوريّة والاستبداد بالرأي وبتزيين المشاورين لرأي الحاكم وموقفه الاستبدادي، كماحدث من مشاورة فرعون للملأ من قومه في شأن موسى عليه السلام، ومشورتهم عليه بما يتفق مع رأيه الاستبدادي. قال تعالى على لسان فرعون: [ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)] غافر/29، رغم أنهاستشارهم في أمر موسى عليه السلام بقولـه: «فماذا تأمرون»، فأشاروا عليه بما يرضيه في إطارما يعرفون عنه من تحكم واستبداد.
فالشورى كما تكون بالحقّ قد تكون بالباطل، وعندما تكون بالباطل تكون مكراً وتآمراً، والسنّة النبويّة حافلة بالأحاديث التي تدعو إلى الشّورى وتحثّ عليها، وقدمارسها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كثير من أمور الحكم وأخذ فيها برأي المشيرين، كما استشار المسلمين ـ وبخاصّة الأنصار ـ في الخروج إلى بدر وفي اختيار مكان المعركة في إشارة الحباب بن المنذرالمشهورة، وفي أسرى بدر بين القتل والفداء، وكذلك في أحد، وكذلك مشورته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لزعماء الأنصار في أمر مقاسمة قبيلة غطفان شطر تمر المدينة ورفضهم لذلك، وأنهم لم ينالواذلك في الجاهلية فكيف ينالوه في الإسلام، بعد أن اطمأنوا أنه ليس وحياً من السماء،ولا عن رغبة من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن الشّورى المهمة التي مارسها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة الحديبية عندما خاطب المسلمين بعد اقترابهم من مكة وعلْمهم باستعداد قريش لملاقاة المسلمين قائلاً: أشيروا علي، أترونأن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم، فإن قعدوا قعدوا موتورين محروبين،وإن يجيئوا تكن عنقاً قطعها الله، أم ترون أن نؤمَّ البيت، فمن صدنا قتلناه،فقالوا: رسول الله أعلم، يا نبي الله! إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أحد، ولكنمن حال بيننا وبين البيت قاتلناه، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فروحوا إذاً.
وقد عقد الإمام البخاري في صحيحه باباً سماه: الاعتصام بالكتاب والسنّة، وعقدفيه باباً سماه: باب قول الله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)،) وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)، وقد ترجم للباب ترجمة طويلة بيّن فيها ما فهمه من فقه الآيات والأحاديث التي وردت في موضوع الشورى وقال: «وإن المشاورة قبل العزم والتبين، لقوله تعالى: [ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)] آل عمران/ 159،فإذا عزم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن لبشرالتقدم على الله ورسوله.
وشاور النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُم يوم أحد في المقام والخروج، فرأوا لهالخروج، فلما لبس لامته، وعزم، قالوا: أقم، لم يمل إليهم بعد العزم، وقال: لا ينبغي لنبي يلبس لامته، فيضعها حتى يحكم الله، وشاور علياً وأسامة فيما رمى أهل الإفك عائشة، فسمع منهما، حتى نزل القرآن فجلد الرامين، ولم يلتفت إلى تنازعهم، ولكن حكم بما أمره الله، وكان الأئمة بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمورالمباحة، ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب والسنّة لم يتعدوه إلى غيره اقتداءً بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثمّ أخذ بعد ذلك البخاري يستعرض أحداثاً من سيرتهم على ذلك(انظر صحيح البخاري بشرح فتح الباري، ج 13، ص 186-290.).
وأمّا علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ فقد روى الطبري بسنده عن محمد بن الحنفية قال: كنت معأبي حين قتل عثمان رضي الله عنه، فقام فدخل منزله. فأتاه أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،فقالوا: إنّ هذا الرجل قد قتل، ولابد للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحداً أحقّ بهذاالأمر منك؛ لا أقدم سابقة،ولا أقرب من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فقال: لا تفعلوا، فإني إن أكون وزيراً خير من أنأكون أميراً. فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك. قال: ففي المسجد، فإنّ بيعتي لا تكون خفياً، ولا تكون إلاّ عن رضا المسلمين.
قال سالم بن أبي الجعد: فقال عبد الله بن عباس: فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يشغب عليه، وأبى هو إلاّالمسجد، فلما دخل المهاجرون والأنصار فبايعوه ثمّ بايعه الناس (الطبري، تاريخ الرسل، ج 2، ص 696. وانظر ذلك بالتفصيل أيضاً ابن كثير في البداية والنهاية، ج 7، ص 273 وما بعدها.). وحياتهم جميعاً رضي الله عنهم مليئة بالحوادث التي أخذوا فيها بمبدأ الشّورى وتمسكوا به.
وقد كان ما قاموا به هو أساس القضايا الكبيرة التي ثارت في الفقه السياسي الإسلامي حول مباحث عديدة من هذا الموضوع الحيوي الكبير منها:
هل الشّورى واجبة على الحاكم؟ وهل نتيجتها ملزمة له إجماعاً أو أكثرية؟ وكيف يحدد أهل الحلّ والعقد أو مجالس الشّورى في التطبيق والممارسة؟
وهل للإسلام توجيهات محددة بهذا الخصوص؟..
ومن الممارسات التي قام بها الخلفاء الراشدون في مجال الشّورى عن ميمون بن مهران: قال: كان أبو بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ إذا ورد
عليه أمر نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه مايقضي به قضى بينهم، وإن علمه من سنّة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى به،
وإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين عن السنّة، وإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم.
ونقل ذلك من فعل عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ ، إلاّأنه كان يلجأ إلى أن ينظر هل كان لأبي بكر فيه قضاء
فإن وجده أخذه(أخرجهالبيهقي في السنن، ج 10، ص 113-114. وانظر تاريخ الخلفاء، للسيوطي، ص 42.).
وقد كتب عنه إلى عمرو بن العاص رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ يقول: «إني كتبت إلى خالد بن الوليد، ليسير إليك مدداً لك، فإذا قدم عليك فأحسن
مصاحبته، ولا تطاول عليه، ولا تقطع الأمور دونه، لتقديمي إياك عليه وعلى غيره، شاورهم ولا تخالفهم( ذكره ابن سعد في الطبقات،
انظر علاء الدين علي المتقي الهندي، كنزل العمال، نشرمؤسسة الرسالة، ج 5، ص 621).
وكان أبو بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ يشاور في معظم الأحوال كبار أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الذين كانت
لهم الفتوى في الأحكام، وكان يلجأ أيضاً لجماعة المسلمين في بعض الأمور، وكان عمرابن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ يجمع للشورى
أكبر عدد من الأنصار والمهاجرين، ويدعوهم لها بان يأمر بالمناداة: الصلاة جامعة.. فيجتمع أكبر عدد ممكن من الصحابة رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُم.
( انظر بحث الأستاذ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي بعنوان : «الشّورى في عهد الخلفاء الراشدين ص 115، ص 113 - 132.).
ورفع إلى عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ صك مكتوب لرجل على أخر بدين يحل عليه في شعبان فقال: أي شعبان؟
أمن هذه السنة أم التي قبلها، أم التي بعدها؟ ثمّ جمع الناس فقال: ضعوا للناس شيئاً يعرفون فيه حلول ديونهم، فيقال:
أراد بعضهم أن يؤرخ كما تؤرخ الفرس بملوكهم، كلما هلك ملك أرخوا من تاريخ ولاية الذي بعده، فكرهوا ذلك.
ومنهم من قال: أرِّخوا بتاريخ الروم من زمن إسكندر فكرهوا ذلك، ولطوله أيضاً، وقال قائلون: أرِّخوا من مولد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
وقال آخرون: من مبعثه عليه السلام. وأشارعلي رضي الله تعالى عنه وآخرون أن يؤرخ من هجرته من مكة إلى المدينة لظهوره
لكل أحد، فإنه أظهر من المولد والمبعث. فاستحسن ذلك عمر وأمر به(ابن كثير، البداية والنهاية، ج 7، ص 90).
وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس أنّ عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ خرج إلى الشام، حتى
إذا كان بسرغ (سرغ : قرية بواديتبوك في طريق الشام.) لقيه أمراء الأجناد، أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أنّ الوباء
قد وقع بأرض الشام. قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين،فدعاهم، فاستشارهم، وأخبرهم أنّ الوباء قد وقع بالشام،
فاختلفوا فقال بعضهم: قدخرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
ولا نرى أن تقدمهم إلى هذا الوباء، فقال ارتفعوا عني. ثمّ قال ادع لي الأنصار، قال فدعوهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين
واختلفوا كاختلافهم. فقال ارتفعوا عني،ثمّ قال أدع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوهم.
فلم يختلف عليه منهم رجلان. فقالوا: نرى أن ترجع الناس، ولا تقدمهم على هذاالوباء. فنادى عمر في الناس: إني مصبح على
ظهر فأصبحوا عليه. قال أبو عبيدة بنالجراح: أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة. نعم، نفرّ من قدر الله إلى قدر الله.
أرأيت لو كان لك إبل هبطت وادياً له عدوتان، إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله،
وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدرالله؟.. قال فجاء عبد الرحمن بن عوف، وكان متغيباً في بعض حاجته. فقال: إنّ عندي في هذا علماً،
سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إذا سمعتم به – أي بالطاعون – بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم
بها فلا تخرجوا منه فراراً » قال: فحمد الله عمر ثم انصرف(محمد فؤاد عبد الباقي، اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، ج 3، ص 68 - 70.).
وكان موقع الصحابة من الشّورى موقف المستعين الباحث عن الصواب، والقرار لهم في نهاية المطاف «فإذا عزمت فتوكل على الله»،
ويقول سبحانه [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)]النساء/ 59. ولكن هذه الطاعة التي أرادها هي طاعة أمينة وبصيرة،
قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا طاعة لأحد في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف»( أخرجه أحمد والبخاري
ومسلم، الفتح الكبير، ج 3، ص 346.). وقال عليه السلام: «إنّ من أعظم الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر»
( أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي، تهذيب الترغيب والترهيب، م 2، ص 133.) .
وبعد استعراض واسع لما كتب حول هذا الموضوع وما يتعلق به، فإنّ الذي يظهر أنّ مبدأ الشّورى مبدأ أصيل وراسخ، يجب
أن يجري تطبيقه بكل فاعلية، وحرص على تحقيق أفضل النتائج منه في حياة المسلمين، وهذا يعني،وهو ما أكّده فعل الخلفاء الراشدين،
أنّ الباب مفتوح لكل الصيغ المناسبة المحقّقة لذلك، وبذلك نستطيع أن نستفيد من الآليات والصيغ التي تقدمها النظم الديمقراطيّة المعاصرة،
وذلك من منطلق الحرص على مصالح المسلمين، وأنّ الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها، سواء أكان ذلك بالاستفتاء المباشر للأمة،
أو المجالس المنتخبة، أوالمجالس المتخصصة، أو تشكيل الهيئات واللجان لإقامة شؤون الحكم وفق أسلم الأسس وأحكم القواعد.
ويمكن وفق قواعد الاجتهاد المعتمدة وضع صيغة شاملة متكاملة لمنهج الحكم الإسلامي في تطبيقه لمبدأ الشّورى، تلاحظ فيه كل الأبعاد
والموجبات، لتقديم تطبيق إسلامي قائم على التزام شعبي شامل وراسخ، وبحيث يجمع بين الصيغ المتعددة، كمافعل التطبيق الإسلامي الأول،
فقد أخذ بشموليّة المشاورة لعامّة الناس، وبالأعداد المتخصصة المحدودة، وبأهل الرأي والفكر والمسؤولية في المجتمع، والذين سموا بأهل الحلّ والعقد.
المبحث الثالث
الحكم على الصيغ الديمقراطيّة من وجهة نظر إسلامية
لقد أهتم الإسلام بأمر الدولة، ووضع القواعد التي تضبط شؤون الحكم فيها، وقدأفرد علماء المسلمين هذا الموضوع بالبحث سابقاً ولاحقاً، تحت عناوين متعدّدة منها: الأحكام السلطانيّة، والسياسة الشرعيّة، ونظام الحكم في الإسلام، والنظام السياسي في الإسلام، وقد ألّفوا كتباً عديدة بهذه العناوين قديماً وحديثاً، كما يظهر من هوامش هذا البحث، ويعرف بالرجوع إلى مظانه في الفهارس والمكتبات.
وقد تعدّدت الأدلّة الشرعيّة التي تقرر وجوب إقامة الدولة التي تلتزم بالإسلام وتعمل على تطبيقه في المجتمع الإنساني، وتلتزم بطاعة ولي الأمر مادام يلتزم في ممارساته لمسؤولياته الأحكام الشرعية، قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول( (النساء/ 59). وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظلّ إلاظله… وذكر في طليعتهم: إمام عادل»( أخرجه البخاري ومسلم، اللؤلؤ والمرجان، ج 1، ص 216.). وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كلكم راع فمسؤول عن رعيته: فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته»( أخرجه البخاري ومسلم، اللؤلؤ والمرجان، ج 2، ص 242، الفتح الكبير، ج 2، ص 330.).
ومن أسطع الأدلة على ذلك قيام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتأسيس الدولة الإسلاميّة الأولى بعدا لهجرة.. حيث أرسى جميع قواعد الحكم فيها، ومارس شؤونه المتعددة؛ من تعيين الولاة والقضاة وإقامة الحدود وإعداد الجيوش ومقاتلة الأعداء وجمع الزكاة وتقسيم الغنائم.. وهو في ذلك الأسوة والقدوة. قال تعالى: )لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوالله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً( (الأحزاب/ 21).
ونظام الحكم الذي أقامه الإسلام يتصف لذلك بصفات أساسيّة، ويتمتع بخصائص تميزه عن غيره من أنظمة الحكم. وأهمّ ما ذكره العلماء من خصائص وصفات في هذا المجال:
1. أنّ السيادة فيه للشريعة، أي لله تعالى.
2.وأنّ السلطان فيه للأمّة أو الشّعب.
3. وأنّ هدفه تحقيق العدل في المجتمع الإنساني.
4. وكذلك نشر الرحمة بين الناس، ورعاية مصالحهم.
5. وأن للإمام على الرعيّة حقّ الطاعة بالمعروف.
وأنّ دراسة هذه الخصائص والصفات تمكن الباحث من تحديد إطار العلاقة بين الشّورى والديمقراطيّة بكل وضوح.. بحيث يمكن الاستفادة في تطبيقات الشّورى من الصيغ الديمقراطيّة المعاصرة ضمن هذا الإطار، ووفق ما يقدّم من أسس ومعايير. والمقصود بالخصيصة الأولى أنّ نظام الحكم في الإسلام يقوم على تطبيق أحكام الشريعة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتمة للشرائع الإلهيّة،وللناس كافة، فليس لفرد حاكم أو غيره، ولا لمجموعة أفراد ولا للأمّة كلها أن يشرعوا الأحكام، وينظموا أحوال الناس من عند أنفسهم، إنما أمر تنظيم الحياة الإنسانيّة والتشريع لها لله وحده، هو الذي خلق الإنسان، واستخلفه في الأرض، وهو صاحب الحقّ في تنظيم حياته قال تعالى: ) ألا له الخلق والأمر( (الأعراف/ 54). وقال سبحانه: )إن الحكم إلا لله( (يوسف/ 40)، وهذا الأمر قد جرى التأكيد عليه أكثر من مرة في البحث.
أمّا الخصيصة الثانية فالمقصود بها أن الأمّة في نظر الإسلام هي صاحب الحقّ في اختيار الحاكم ومراقبة تصرّفاته في مجالات الحكم المتعدّدة، للاطمئنان على تطبيقه لأحكام الشريعة، فهو نائب ووكيل عن الأمّة في إدارة أمور الدولة، لا يجوز أن يتولى الحكم إلاّ بإرادتها، وذلك عن طريق مبايعتها له، واتفاقها معه على القيام بواجبات الحكم، كما يقرّرها الإسلام، مقابل أن تطيعه في كل ما ليس فيه معصية أو مخالفة لأحكام الإسلام، وهذا ما حدث في التاريخ الإسلامي يقول الدكتور الأتاسي: «فالبيعة الشرعيّة للحاكم على كتاب الله وسنة رسوله تؤمن ديمقراطيّة حقيقيّة»( د. الأتاسي، الديمقراطيّة التقدميّة، ص 99.)
والشّورى بالإضافة إلى البيعة تؤكد هذه الخصيصة من خصائص الحكم الإسلامي، فلاتنتهي صلة الأمّة بالحاكم بالقيام باختياره ومبايعته، بل عليه أن يشاور الأمّة في أمور الحكم، مما يؤكد أنّ السلطان للأمّة، وأنّ الحاكم وكيل عنها في إدارة أمورالحكم(د. عبد العزيز الخياط، النظام السياسي في الإسلام، ص 74 - 75.)، وبيان حقيقة الشّورى وتأكيدها لحقّ الأمّة في توجيه شؤون الحكم المختلفة، وهو ما تعرضت له بالحديث في المطلب الثاني من هذا البحث.
وأهمية هذه الخصيصة في هذا البحث تأتي من أنّ الديمقراطيّة في المجتمعات المعاصرة باتت تعني صيغاً تقوم على التأكيد على مبدأ الانتخاب وحق الأمّة في اختيارممثليها للتعاون مع الحاكم «السّلطة التنفيذيّة» في إدارة شؤون الحكم المتعددة، كماتقوم على التأكيد على ضرورة سماع رأي الشّعب فيما يطبق عليه والدفاع عن حقوق الإنسان وحريته، فواضح أنّ الإسلام يتبنى هذا.. وقد جرى فعلاً النصّ عليه وتطبيقه في أصول ومبادئ، كما ظهر من البحث في المطلب الثاني.
نعم جرى النص على القواعد والمبادئ وترك للمسلمين ليبدعوا في تطبيقها بقدر ما يستطيعون، تحقيقاً لأهداف هذه القواعد والمبادئ.
وأمّا بقية الخصائص المشار إليها فهي جديرة بالإشارة إلى المقصود بها في هذاالبحث، لتعلقها المباشر بموضوعه، فتحقيق العدل في المجتمع الإنساني هو هدف الرسالات الإلهيّة؛ فمن أجل تحقيقه أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب الإلهية، وأحكمت الشرائع الإلهية المنظمة لواقع هذا المجتمع وحياته . قال تعالى: [ لقد أنزلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط] (الحديد/25). والقسط هو العدل،وقد تكرر أمر الله سبحانه وتعالى بالعدل ونهيه عن الظلم والبغي في أكثر من موضع من كتاب الله، كما أنه جل وعلا حذّر من أن يدفع كره الناس إلى ظلمهم والاعتداء عليهم،فإعطاء كل ذي حقّ حقه واجب المسلم في جميع الظروف والأحوال، فلا فرصة للأهواء لتتحكم في ممارسات الناس، فالعدل بين الناس هو عنوان التقوى. قال تعالى: [ ولايجرمنكم شنئآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى] (المائدة /8). وقد نبّه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفضل الحاكم العادل وأجره العظيم عند الله سبحانه فقال: «إنّ أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم مجلساًمنه إمام عادل، وإنّ أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذاباً إمام جائر»(أخرجه أحمد والترمذي، الفتح الكبير، ج 1، ص 285.)
وقد قدّم الإسلام تقريراً لحقوق الإنسان وحريّاته كان فيه السبق والتميز بالمقارنة مع ما وصلت إليه البشريّة في هذه الأيام. مما يؤكد على أنّ الإسلام يتبنى بكل قوّة الجانب المتعلق بحقوق الإنسان وحرياته من معنى الديمقراطيّة وصيغها المعاصرة.
وممارسات المسلمين في الحروب في مجالات العدل والرّحمة دفعت – مثلاً – جوستافلوبون للقول: «ما عرف التاريخ فاتحاً أعدل ولا أرحم من العرب»( د. وهبة الزحيلي، آثار الحرب في الفقه الإسلامي، ص 128.).
وأمّا الخصيصة الرابعة فتعتبر الرحمة والحرص على مصالح الناس من أهم صفات الحكم الإسلامي، فالدولة في الإسلام تسهر على مصالح الرعيّة، وتعمل على جلب المنافع لهم،ودفع المضار عنهم، وتساعد الضعيف، وتنصف المظلوم، وتطعم الجائع، وتكسو العاري،وترشد الضال، وتقدّم العلاج، فلا تترك حاجة من حاجات الأمّة إلا وتهتم بسدّها، ولامشكلة من مشكلات الحياة إلاّ وتساعد في حلها، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فأرفق به، ومن ولي من أمر أمتي فشقّ عليهم فأشقق عليه»( أخرجه مسلم في صحيحه، مختصر صحيح مسلم، ج 2، ص 89.).
ورحمة الحاكم بالرعيّة تدفع الناس إلى حبّه والتعاون معه والالتفاف حولـه؛يطيعونه ويخلصون في نصيحته ومشورته وأداء ما يجب عليهم تجاه بلادهم وأمتهم. وهذه الخصيصة من خصائص الحكم الإسلامي تجعل العلاقة بين الأمة والحاكم علاقة ودومحبة لا علاقة نزاع وتصارع ومعارضة واحتجاج. وقد نبّه العلماء بكل وضوح أنّ هدف الحكم تحقيق مصالح الناس، ومن هنا جاءت القاعدة الفقهية المعتمدة: «تصرف الحاكم على الرعيّة منوط بالمصلحة»( د. عبدالسلام العبادي، انظر بالتفصيل الملكية في الشريعة الإسلامية، ج 2، ص 259.).
وبالتالي فإنّ ما يحقق مصالح الناس من الآليات والصيغ والممارسات مطلوب شرعاً بقدر ما يحقق من المصالح. وهذا أمر يعالجه بكل وضوح مصدر من مصادر الأحكام الشرعيّة وهو مصدرالاستصلاح؛ وهو بناء الأحكام على مقتضى المصالح المرسلة في إطار مقاصد الرعيّة في تحقيق مصالح العباد، وفق المعيار المعتمد في ذلك، وهو يقوم على درجات ثلاث: الضروريات والحاجيات والتحسينيات وبذا يظهر لنا موضوع التقاء الشّورى في التطبيق والممارسة مع الصيغ الديمقراطية المعاصرة مادام أنّ الأمر فيها في إطار الالتزام بشريعة الله سبحانه، ومراعاة قواعدها في استنباط الأحكام للقضايا المستجدّة والأمور الحادثة، رعاية لمصالح الأمّة، وتحقيقاً لخيرها وتقدّمها.
المطلب الرابع
من مبادئ الشريعة الإسلامية العامة
مبدأ العدل
مقدمة:
عندما تختفي أنوار العدل عن البشر، يغشاهم الهرج والمرج، ويتفشى الظلم بينهم بشكلٍ فظيع، حيث تجد القويّ يفتك بالضعيف، والقادر يسلب حق العاجز، والغالب يُريق دم المغلوب، والراعي يهضم حق المرعى، والكبير يقهر الصّغير، ولا يخرجهم من هذا الوضع المشين، إلاّ "العدل" سعادتهم، وقاعدة أمنهم واستقرارهم.
فما هو العدل وما أنواعه، وما ثمرته، وكيف طبقّه المسلمون في حياتهم ؟؟ أسئلة وتساؤلات تأتي الإجابة عنها في الفقرات الآتية:
أولاً: مفهوم العدل:
المراد بالعدل: إعطاء كل ذي حق حقه، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، من غير تفرقة بين المستحقين.. ولأهمية العدل ومنزلته، بعث الله سبحانه وتعالى رسله وأنزل كتبه، لنشره بين الأنام، قال تعالى:
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ }الحديد25.
والقسط :العدل،وهو قوام الدنيا والدين، وسبب صلاح العباد والبلاد، به قامت السموات والأرض، وتألفت به الضمائر والقلوب والتأمت به الأمم والشعوب، وشمل به الناس التناصف والتعاطف، وضمهم به التواصل والتجانس ، وارتفع به التقاطع والتخالف.
وضعه الله تعالى لتوزّع به الأنصبة والحقوق، وتقدر به الأعمال والأشخاص، إذ هو الميزان المستقيم، الذي لا تميل كفته، ولا يختل وزنه، ولا يضطرب مقياسه، فمن رام مخالفته، وقصد مُجانبته، عرّض دينه للخبال، وعمرانه للخراب، وعزته للهوان، وكثرته للنقصان، وما من شيء قام على العدل، واستقام عليه ، إلاّ أمن الانعدام، وسلم من الانهيار.
ومن أهم دعائم السعادة، التي ينشدها البشر في حياتهم، أن يطمئنوا على حقوقهم وممتلكاتهم، وأن يستقر العدل فيما بينهم، وإلاّ فلا يعرف على وجه الأرض شيء أبعث للشقاء والدّمار، وأنفى للهدوء والاستقرار بين الأفراد والجماعات، من سلب الحقوق.
إذن العدل قيمة ضرورية في الإسلام، عمل الإسلام على إثباتها، وإرسائها بين الناس، حتى ارتبطت بها جميع مناحي تشريعاته ونظمه، فلا يوجد نظام في الإسلام إلاّ وللعدل فيه مطلب، فهو مرتبط بنظام الإدارة والحكم، والقضاء، وأداء الشهادة، وكتابة العهود والمواثيق بل إنه مرتبط أيضاً بنظام الأسرة والتربية، والاقتصاد والاجتماع، والسلوك، والتفكير، إلى غير ذلك من أنظمة الإسلام المختلفة وهذا يدل بوضوح على أن الإسلام ضمن قيمة العدل في جميع مجالات الحياة، بل إنه ركز كافة أهدافه على ضوئها، مما شهد له التاريخ على سلامة المجتمعات التي حكمها، من الانهيار الخطير في الأخلاق ، وأمنها من اضطراب الموازين والمعايير ، وصانها من دمار النفوس، وخراب العمران.
ثانياً: أنواع العدل:
يمكن تقسيمه إلى أنواع باعتبارات مختلفة ، منها:
أ ـ تقسيم العدل باعتبار زمانه ومكانه : والعدل بهذا الاعتبار ينقسم إلى قسمين:
1. عدل في الدنيا: وهو يشمل الحياة البشرية كلها ، منذ أن خلق الله آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ }الحديد25.و معلوم أن رسل الله وأنبياءه، موزعون على الأزمان والأجيال بالتعاقب، ليقيموا العدل بين الناس، إذ الناس يختلفون ويختصمون، ويؤثر فيهم الهوى والشهوة، فيقع الظلم بينهم، فجاء الأنبياء بالعدل لرفع ذلك الظلم، ومنع ضرره، ولولاهم، لفسدت حياة الناس وخربت عليهم الديار.
وفي قصة ابني آدم عليه السلام وهما قابيل وهابيل التي خلّد ذكرها القرآن ما يعطي صورة واضحة على خطورة الظلم وضرره، حيث إنه أول معصية أودت بحياة إنسان على وجه الأرض، ويؤكد على ضرورة العدل، كي تعيش البشرية في أمن وسلام واستقرار.
2.عدل في الآخرة: وهو الذي استأثر به الله تعالى يوم القيامة، إذ قد يفلت الظالم في الدنيا من سلطة الحكم العادل، الذي يرد عليه ظلمه، ويؤاخذه بذنبه، كما أن من التزم العدل في الدنيا، يتشوق إلى الأجر العظيم، الذي أعده الله له يوم القيامة مقابل التزامه وصبره وتحمله. وفي هذا وذاك، يقول الله تعالى : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ }الأنبياء47 .
وهذا هو العدل المطلق لأن الذي يتولى القيام به هو الله تعالى الذي لا يعزب عنه مثقال حبة أو ذرة في السماوات ولا في الأرض.
والعدل يعمّ الإنسان والحيوان وسائر الكائنات. أما شموله للإنسان فتدّل عليه أدلة كثيرة ، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }المائدة8 والخطاب للعقلاء، فكل عاقل مطالب بإقامة العدل في حياته، مع نفسه وغيره، حتى لو كان الغير عدوّه وخصمه لأن سلطان العدل، ليس له حدود، فهو يتجاوز حدود الدين والعقيدة، ويتجاوز حدود القرابة والنّسب، ويتجاوز حدود الأرض أو الوطن، فمن كان له حق لآخر، فلا يظلمه، بحجة أنه يختلف معه في الدّين أو النسب، أو الوطن، بل الواجب عليه أن يعطيه حقه لإنسانيته، إذ العدل حق يشترك فيه جميع الناس.
ب ـ تقسيم العدل باعتبار تعلقه بالإنسان: والعدل بهذا الاعتبار ينقسم إلى قسمين:
1ـ عدل فردي : وهو ما كان مظهراً للتوازن النفسي لدى الفرد، وذلك أن تناسب قوى المرء الثلاث ـ العقل والغضب والشهوة ـ أمر راجع إلى الإنسان نفسه، إما لذاته، نتيجة تأملاته وأفكاره الفردية، وإما بتأثير غيره، عن طريق العلم والمعرفة والإدراك مثال ذلك: عدل الإنسان في نفسه ، بأن يعدل في جسده وروحه ، وعقله وفكره، وأخذه وعطائه، وعمله ونشاطه ، ونحو ذلك من الأمور التي تخص الفرد في هذه الحياة.
2ـ عدل جماعي: وهو ما روعي فيه حقوق الآخرين، وما يجب نحوهم من احترام وتقدير أي أن الإنسان يعتدل في أخذ ما له من حقوق، وأداء ما عليه من واجبات.
مثال ذلك: عدل الإنسان في بيعه وشرائه، وفي حكمه وقضائه، وشهادته وأمانته، ومنعه وعطائه، وغير ذلك من المظاهر الاجتماعية الكثيرة، التي يجري فيها العدل بين الفرد وغيره.
فالحاكم الأعلى أو الرّئيس ـ وهو إنسان فرد ـ يجب عليه إزاء الجماعة أن يتبع قواعد العدل في توليتها، وذلك بإسناد الأعمال إلى أهلها من ذوي الكفاءة والخبرة.
والقاضي يجب أن يراعي العدل بين الخصمين، بإعطاء كل ذي حق حقه، وإلزام من عليه الحق أن يدفعه لمستحقه.
والزوج كذلك عليه أن يعامل زوجته أو زوجاته بالعدل، ويعطي كل واحدة منهن حقها المشروع ، من النفقة والسكن، والمبيت والركوب، والطعام واللباس ونحوه.
والأب مطالب بالعدل بين أبنائه، في التربية والتعليم، والصحة، والمنع والعطاء، وألاّ يفضل أحداً على آخر إلاّ بحقّه وقد ثبت كل ذلك بنصوص صريحة ومباشرة قال الله تعالى : {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً }النساء58 ، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) وقال تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ }النساء3 .
ثالثاً:ثمرة العدل:
إن المجتمع الذي يضمن نظامه العدل، لا بدّ أن يجني في حياته ثمرات عظيمة ومنافع كثيرة، نذكر منها ما يلي:
أ ـ العدل مشعر للناس بالاطمئنان والاستقرار، وحافز كبير لهم على الإقبال على العمل والإنتاج، فيترتب على ذلك: نماء العمران و اتساعه، وكثرة الخيرات وزيادة الأموال والأرزاق، ولا يخفى أن المال والعمل، من أكبر العوامل لتقّدم الدّول وازدهارها، بينما في المقابل تكون عواقب الاعتداء على أموال الناس وممتلكاتهم، وغمطهم حقوقهم، هي الإحجام عن العمل، والركود عن الحركة والنشاط، لفقد الشعور بالاطمئنان والثقة بين الناس،وهذا يؤدي بدوره إلى الكساد الاقتصادي، والتأخر العمراني، والتعثر السّياسي يقول ابن خلدون: [اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم، ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه حينئذ من أنّ غايتها ومصيرها، انتهابها من أيديهم، وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرّعايا عن السّعي في الاكتساب، والعمران ووفوره ، ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال، فإذا قعد الناس عن المعاش ، كسدت أسواق العمران، وانتقصت الأموال، وابذعرـ أي تفرق ـ الناس في الآفاق، وفي طلب الرّزق، فخفّ ساكن القطر، وخلّت دياره، وخربت أمصاره، واختل باختلافه حال الدّولة] أ.ھ.
ب ـ أنه بغير العدل ، يتحيّن الناس الفرصة، للثورة على الحكومة الظالمة، وخلع يد الطاعة عن أعناقهم، ذلك أن النفوس مجبولة على حبّ من أحسن إليها ،وكره من أساء إليها ، وليس هناك إساءة أشد من الظلم ، وأفدح من الجور، ولذلك تقوم الثورات كل حين، وتزداد الانتفاضات هنا وهناك ، لتقويض كابوس الظلم، ورفع وطأته عن كاهل الشعوب. وما قيام "الثورة الفرنسية" في أوروبا ،والانتفاضة الفلسطينية في الشرق الأوسط ومقاومة التمييز العنصري في أمريكا وجنوب أفريقيا إلاّ صورة معبرة عن فقدان العدل في تلك الأماكن وانتشار الظلم فيها ، فأسفر عن إعلان غضب شعوب المنطقة على الظلم وأهله، وكراهيتها لأساليب القمع والاضطهاد، والتعذيب والتنكيل، والطغيان والاستبداد التي تمارسها السّلطات القائمة في تلك المناطق ضد شعوبها.
رابعاً:تطبيقات العدل في الإسلام:
طبّق المسلمون "العدل" في أعلى صوره ، بدءاً برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، الذي حكى عنه القرآن قوله:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً }الكهف110 فقد وضع نفسه في مصاف مرتبة البشر، ولم يحمله شرفه العظيم للامتياز عن الناس تبريراً لأخذ حقوقهم من غير وجه حق، بل كان نموذجاً رائعاً في إقامة العدل، حتى على نفسه الكريمة رغم كونه نبي الله ورسوله.
خامساً: معالجة القانونيين المعاصرين لنظرية العدالة في الإسلام
يفجع القارئ عندما يطالع ما كتبه رجال القانون المعاصرون عن العدالة الإسلامية كأصل من أصول القانون وما يعلمونه لأبنائنا في كليات الحقوق عنها..
فهؤلاء العلماء يحسنون الكتابة عن العدالة عند الإغريق والعدالة في القانون الروماني وحتى في القانون البريطاني رغم أنه ليس في هذه كلها "تنظير" للعدل أو إقامة للحكم ـ أو حتى القضاء عليه ـ ولكنهم عندما جوبهوا بالعدالة في الشريعة الإسلامية ولديهم شواهد القرآن وسوابق الخلافة.. أبلسوا أو قل أفلسوا وجاؤا بشيء يصور هذا الإفلاس.. فهم يضعون (الرأي) مقابلا (للعدالة).. في حين أن هذا شيء والعدالة شيء آخر تماما..
وتتطلب معرفة أسباب ذلك كاتبا محققا يتفرغ لاستجلاء هذه النقطة، ولعلنا نسهم في هذا الشيء، ففي كتاب صدر في الثلاثينات باسم " فن القضاء" تولى ترجمته وعلق عليه الأستاذ محمد رشدي المستشار السابق بمحكمة استئناف مصر الأهلية نجد أول إشارة إلى (الرأي) كمقابل (للعدالة) عندما كان المؤلف يحاول أن يجد المقابل لها في الشريعة الإسلامية وخلال محاورة له مع زميل يبدأها بأن قال:
أن للعدالة في القوانين الوضعية مصدرين وأن لعدالة كل مصدر اسما خاصا.
المصدر الأول: القوانين والعدالة المستمدة منها يسمونه (justice)..
والعدالة الأخرى: مصدرها القاضي نفسه ويسمونها (équité)..
وقال إنه ليس هناك تسمية مقابلة لها في الشريعة الإسلامية فرد عليه زميله وقال :( قرأت في كتاب المبسوط للسرخسي في الجزء السادس عشر صفحة 169 أنه ذكر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين بعثني إلى اليمن بم تقضي يا معاذ قلت: بما في كتاب الله قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإذا لم تجد في كتاب الله قلت: أقضي بما يقضي به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فإن لم تجد ذلك فيما قضى به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قلت أجتهد رأيي.
فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الحمد لله الذي وفق رسول رسوله)..
ثم قال فلماذا لا يسمون كلمة (équité) اجتهاد الرأي.. واجتهاد الرأي يشترك فيه عقل القاضي وقلبه وإحساسه وضميره وفهمه وعلمه وتجاربه.
فقلت وأنا كذلك قرأت في كتاب ضحى السلام في الجزء الأول صفحة 290 للأستاذ أحمد بك أمين تأييدا لهذا الرأي فقال: (وعلى الجملة فقد كان كثير من الصحابة يرى أن يستعمل الرأي حيث لا نص من كتاب ولا سنة والمتتبع لما روي عن العصر الأول في (الرأي) يرى أنهم كانوا يستعملون هذه الكلمة بالمعنى الذي نفهمه الآن من كلمة العدالة وبعبارة أخرى ما يرشد إليه الذوق السليم بما في الأمر من عدل وظلم وفسره ابن القيم "بأنه ما يراه القلب بعد فكر وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب".
فقال محدثي : لقد اتفقنا هنا أيضا على أن نقول عن كلمة (équité) اجتهاد الرأي.
قلت: وعلى هذا ماذا على وزير العدل لو سأل أحد قضاته بم تحكم ؟ فقال أحكم بالنصوص التشريعية.
فقال فإن لم تجد.
قال: اجتهد رأيي (équité)..
ويا حبذا لو عدَّلت الوزارة نص المادة الثانية من مشروع تعديل القانون المدني التي نصها:
( فإذا لم يوجد نص تشريعي يحكم تطبيقه حكم القاضي بمقتضى العرف فإذا لم يوجد فبمقتضى القانون الطبيعي وقواعد العدالة équité)..فاستبدلت كلمة (قواعد العدالة) بكلمة (اجتهاد الرأي).
ولعل هذا هو النص الأول لوضع كلمة (الرأي) أو (اجتهاد الرأي) في مقابل (العدالة) إذ أننا نجد المراجع التي تقدم لطلبة كليات الحقوق تذهب هذا المذهب فبعد أن تتحدث عن العدالة عند الإغريق والعدالة في القانون الروماني تنتقل إلى الشريعة الإسلامية فتشير إشارة خاطفة إلى مَصْدَري التشريع القرآن والسنة ثم تنتقل إلى (الرأي) وهو عندها القياس في بعض الحالات والإجماع في حالات أخرى وتستطرد إلى المعتزلة وقد تعني بقضية (التحسين والتقبيح) على بعدها شيئا ما عن قضية العدالة المباشرة التي تصدى المعتزلة لها بشجاعة ووصلت فيها إلى مدى إلزام الله تعالى بها وينتقلون من هذا إلى (المصالح المرسلة) أو (الاستحسان) أو غيره من وسائل ابتغاء المصالح والمقاصد في الفقه الإسلامي.
وعذر هؤلاء أنهم كفقهاء لم يجدوا من مصادر الشريعة الإسلامية كما وضعها السلف العدل. وإنما وجدوا الكتاب والسنة والإجماع والقياس ولما كان لابد لهم أن يجدوا مجالاً للعدالة في الشريعة الإسلامية حتى تكون على قدم المساواة مع الإغريق والرومان فإنهم اعتبروا أن (الرأي) يحل هذا الإشكال وهي معالجة سقيمة ولكنها مألوفة في الكتابات الأكاديمية فقد أصبحت الجامعات قلاعا لحماية وإذاعة المذاهب المقررة وليس للتجديد والإبداع أو البحث عن الحقيقة ومن ثم فلم يجد رجال القانون أن واجبهم أن يستخرجوا من القرآن والحديث مبادئ العدالة التي كانت وراء كل تشريع أو في أصله وجوهره.
ونعتقد أن هذه الطريقة في معالجة العدل في الشريعة الإسلامية لم تعد كافية أو مقنعة. ولا هي تتفق مع اهتمام الشريعة الإسلامية بالعدل. إن لم نقل قيامها على العدل ولا هي مما يتناسب مع الخدمة المطلوبة لقضية العدل. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن رجال القانون لدينا يهربون من القضية بهذه الصورة من المعالجة لأن عرض القضية بهذه الصورة أمر مخجل.. ولا يجوز.
الخطوط العريضة لنظرية العدل في الإسلام
1ـ يشغل العدل في الإسلام منزلة الصدارة بحكم الطبيعة التعددية للإسلام التي يكون العدل فيها هو واسطة العقد. وقد ترادفت وتعددت الآيات التي تأمر به وتجعله معيار الإيمان ومقياس الثواب وتندد بالظلم بحيث لابد وأن يتكون فيمن يقرأ القرآن "حاسة" بالعدل.
2ـ أعاد القرآن الكريم العدل إلى الله تعالى وجعله اسما من أسمائه وربط بينه وبين الحق – الذي هو أيضا اسم من أسمائه بحيث توجد بينهما علاقة تكاملية يكون الحق هو العدل مجردا والعدل هو الحق مطبقا وقد يكون الحق أوسع نطاقا، ولكن العدل حاكم على تطبيق الحق لأنه الحق مطبقا ولأن كافة الحقوق في الإسلام مضبوطة بحسن التطبيق – أي بالعدل – فإساءة استخدام فرد ما لحقه يهدر تصرفه ويخضعه لمقتضيات العدالة وليس هناك من حق طلق والحق المطلق هو الله تعالى.
3ـ إن انبثاق العدل من الله تعالى والربط بينه وبين الحق يعطي العدل قداسة وأصالة تحول دون إغفاله أو إهماله أو تسخيره وكقاعدة عامة، ففي الإسلام الحق لا يخسر والباطل لا يكسب.
4ـ تنتفي عن العدل الإسلامي بحكم انبثاقه عن الله تعالى النسبية، وإنما تكون النسبية في فهمه، وتكييفه و"الارتفاقات" للوصول إلى تحقيقه، فمثلا من العدل المساواة في الحقوق والواجبات، ولكن ليس من العدل المساواة ما بين من يعمل ومن لا يعمل وعندما تتعدد الاحتياجات كما هو الحال في العصر الحديث، فإن العدل يوجب ضرورة وفاء أجر العامل بهذه الاحتياجات، التي لم تكن موجودة قبلا ولم يكن بالتالي مجال للمطالبة بها وفي سبيل تحقيق العدل يجب التثبت تماما من الوقائع واستبعاد الحكم دونها ولكن إذا تثبت فيصبح التراخي في تطبيق ما يوجبه العدل ـ من عقوبة أو مكافأة ـ نوعا من الظلم.
5ـ العدل هو أكبر مصدر للشريعة وقواعد الشريعة لأنه:
أ. هو المعيار المهيئ للفصل بين الناس.
ب . إيجاب القرآن للحكم به كمقياس وميزان.
1ـ تحدد مفردات ومضمون ومفهوم العدل من الآيات القرآنية والأحاديث الثابتة التي لا تجافي هذه الآيات، وقد يضاف إليها استئناسا بعض سياسات الخلفاء الراشدين.
وباستقصاء هذه الآيات والأحاديث يمكن استخلاص المقومات الآتية للعدل الإسلامي.
(أ) لا تزر وازرة أخرى فلا يحاسب أو يكافأ شخص على ذنب أو فضيلة آخر وتنبني على هذا شخصية العقوبة والمكافأة.
(ب) ليس للإنسان إلا ما سعى، فالعمل هو سبيل الاكتساب وقد يستثني الميراث والوصية وقد كان من مقتضيات ذلك تحريم الربا لأنه كسب دون عمل.
(ج) لابد من التوازن ما بين العمل وثمرة هذا العمل ثوابا أو عقابا بحكم منطق الميزان وأن الغرم بالغنم وهذا هو الأساس في تقدير الثواب والعقاب كما في القصاص مثلا.
(د) يطبق العدل على الجميع فلا يفلت أي واحد منه بحكم المنصب أو الجاه أو النسب "لو أن فاطمة بينت محمد سرقت لقطع محمد يدها".
يضم إطار العدل الإسلامي كافة ما يصدر عن الفرد من أعمال ويعرض الإسلام الوسائل التي تحقق العدل في كل مجال.
ففي المجال الاقتصادي تحريم الربا والاستغلال والاكتناز وإيجاب الزكاة والإنفاق والتكافل .
وفي المجال السياسي إيجاب الشورى وتحريم الطغيان والمساواة بين الناس في الحقوق والواجبات.
وفي المجال القضائي درأ الحدود بالشبهات وتعافيها بين الناس والنهي عن التجسس واستبعاد أي صور من الإكراه لأخذ اعترف من المتهم وفي الوقت نفسه الأخذ بإنكاره وتطبيق.
وفي المجال الخاص عندما يظلم أحد الناس نفسه بارتكاب آثام أو ذنوب لا تطولها العقوبة، فإن الوسيلة هي التوبة والمقاصة. "إن الحسنات يذهبن السيئات".
أعتقد أننا أثبتنا فيما قدمناه لنظرية العدل في الإسلام بعض المبادئ التي لا نرى خلافا عليها..
1ـمن هذه المبادئ أن لإشارات إلى العدل والالتزام به وما يتبعها من نهي عن الظلم وصلت من كثرة العدد وإحكام الصياغة درجة غرسته عميقا في كافة مجالات الإسلام عقيدة وشريعة وسلوكا وكان عهد الرسول في المدينة وفترة الخلافة الراشدة أفضل مما صوره أفلاطون في جمهوريته تحقيقا للعدالة، وقلما يظهر في تاريخ البشرية ما يماثله.
2ـإن القرآن الكريم اعتبر العدل تطبيقا للحق ونسب الحق إلى الله نفسه وقرر القرآن أن إقامة السموات أو الأرض وإنزال الرسل والأنبياء وما جاءوا به من الكتب إنما كان بالحق وللحق وبذلك أضفى عليه قداسة وأصالة يصبح من الصعب معها التلاعب به وتحول دون أن تذهب به النسبية المزعومة. وظهر هذا واضحا خلال الآيات التي استشهد بها وهي قليل من كثير لم يتيسر نقله. كما يثبته الكثير من التفاصيل العملية لمضمون العدل من الممارسات النبوية. وأنه نتيجة لذلك فإن العدل أصبح واسطة عقد المجتمع أيام الرسول والخلفاء الراشدين.
مع هذا كله فقد شاهدت الأعوام التي تلت الأربعين عاما الذهبية التي تمثل حكم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والخلافة الراشدة تدهوراً خطيراً للعدل، وإهمالا له من مجالات الحياة.
في المجال السياسي انتفت الشورى والبيعة أو أصبحتا شكليتين، وفي المجال الاقتصادي أهمل جباية الزكاة وصرفها إلى مستحقيها وأستأثر الحكام بالمال، وأثقلوا الناس بالضرائب والمكوس والمصادرات وأكل الأموال بالباطل، وفي الناحية الاجتماعية انحطت المرأة وفقدت حريتها وما أعطاها الإسلام من حقوق وعادت الحمية الجاهلية القديمة التي ندد بها الإسلام وحذر منها الخ. وسادت الأمية والخرافات وتخلفت الزراعة والصناعة وانحطت مستويات الحياة.
3ـإن المفارقة المأساوية التي تحز في النفس هي : كيف يمكن لأمة لديها هذا التأصيل المحكم للعدالة والتركيز عليها في كتبها المقدسة ثم يكاد العدل أن ينتفي منها ويسود الظلم والجور.. هل نقول إننا وضعنا رأسمالنا كله في القرآن وأن هذا القرآن قد نبذناه جانباً وجعلناه ظهريا..
هل نقول أن السعة التي تطور بها المجتمع الإسلامي وما جاءت به الفتوح من تغييرات جسيمة في بنية هذا المجتمع حالت دون تأصل القيم الإسلامية فيه..؟
إن ما حدث في المجتمع الأوروبي هو نقيض ما حدث في المجتمع الإسلامي. فلا تملك أوروبا نظرية للعدالة ولا يمثل العدل قيمة حاكمة في حضارتها. ولا نجد في كتبها كلها عشر معشار ما نجده عن العدل في القرآن. والقيمة التي آمنت بها أوروبا ومارستها هي الحرية وهذه الحرية هي التي مكنت الملوك من حكم الجماهير والبابوات من التلاعب في روح المسيحية، ولكنها – أي الحرية – هي نفسها التي مكنت العمال من تكوين النقابات والكتاب من الدعوة الإنسانية وهي التي مكنت الفئات التي وقع عليها ظلم الحكام والأثرياء من العمل والتكتل.. لنيل العدالة في النهاية.
4ـقد يظن البعض أن الإسلام لم يعن بالحرية إلى الدرجة الواجبة ومن هنا أوتى الإسلام. ولكن الحقيقة أن القرآن قرر أثمن وأهم حرية وهي حرية الفكر بصراحة ليس هناك ما يدانيها.( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) وفي حديثنا عن "نظرية الحرية في الإسلام" قلنا : إن القيم الإسلامية تنبثق عن الحق ولكن هناك قيمة واحدة لا يمكن ربطها بالحق نفسه هي حرية الاعتقاد وإن هذا لا يعود إلى تعارض ما بين الحرية والحق ولكنه يعود إلى أن حرية الاعتقاد هي سبيل الاهتداء إلى الحق ومن ثم لا يكون للحق وصاية عليها أو مصادرة لها.
5ـ وهذا الدفع يدرأ عن الإسلام تهمة عدم التقدير للحرية أما ما عدا حرية الفكر من حريات فقد أقامها الإسلام على العجل وهو وضع لا يمكن نقده لأن إطلاق حرية الاعتقاد مع إقامة الحريات العملية على العدل توجد توازنا في المجتمع وتحول دون تكرار مأساة سوء استخدام الحرية.
وهكذا نجد أنفسنا دون إجابة عن المفارقة المأساوية : أن توجد هذه القيم الثمينة كلها في الإسلام ومع هذا يتدهور المجتمع الإسلامي ويسود فيه التخلف والظلم والاستغلال.
6ـإن حل هذه المفارقة هو أن هذا المجتمع ليس إسلاميا حتى وإن كان يضم مسلمين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. إن المجتمع كمجتمع إسلامي يفترض أن يقوم على المبادئ التي أقام الإسلام عليها المجتمع وأولها : الحرية في الاعتقاد والعدل في العمل. فإذا لم يتحقق هذا فليس هناك داع للقول بأنه مجتمع إسلامي. إنه مجتمع غير إسلامي يضم أفرادا مسلمين.وقد نستخلص من هذه الواقعة وما سبقها، أي أن المجتمع الأوروبي يحقق الأهداف الإسلامية دون أن يدري ودون أن يدّعي الإسلام وأن مجتمعنا نبذ الأهداف الإسلامية في الوقت الذي يتمسح بالإسلام، أن نقول إن المجتمع الأوروبي قد يكون أقرب إلى الإسلام من المجتمع العربي اليوم حتى وإن كان المجتمع الأوروبي يتوصل إلى العدالة عن طريق حرية الكفاح وليس عن طريق أصولية العدالة وهي إحدى الاختلافات ما بين الإسلام والحضارة الأوروبية.
ويمكن أن نسير مع هذه الواقعة إلى نهايتها فنقول:
إن المتجمع الأوروبي هو في الواقع تطبيق للأهداف الإسلامية، وأن انخذال المجتمعات العربية عنها هو في الواقع رفض لها. وأن الإسلام قد يعيش في أرض لا تحمل اسمه بل وترفع لواء الصليب أكثر مما يعيش في بلاد ترفع لواء الهلال. فليس المهم الشعارات والمظاهر ولكن العمل والتطبيق.إن إهمال إعمال العدل هو الذي سمح بوجود هذه المفارقة المأساوية، وإعمال العدل هو ـ وحده ـ الذي يخلصنا منها ويعيد إلى مجتمعنا إسلامه.
المطلب الخامس
من مبادئ الشريعة الإسلامية العامة
مبدأ السيادة العليا Sovereignty
ونظرية تقييد سلطة الحاكم
الفرع الأول
مسألة السيادة المدنية للشعب المسلم على دولته
جاء في الموسوعة السياسية في تعريف كلمة "السيادة" Sovereignty أنّها السلطة العليا التي لا تعلوها سلطة، وهي ميزة الدولة الأساسيّة الملازمة لها والتي تتميّز بها عن كلّ ما عداها من تنظيمات داخل المجتمع السياسي المنظم، ومركز إصدار القوانين والتشريعات، والجهة الوحيدة المخوّلة بمهمّة حفظ النظام والأمن، وبالتالي المحتكرة الشرعيّة الوحيدة لوسائل القوّة ولِحقّ استخدامها لتطبيق القانون .
وعلى الرغم من دخن العلاقة بين مسألتي السيادة, والسلطة، وعدم وضوح الفرق بينهما فلعلّه أن يكون من أفضل ما وجدت في هذا الباب ما ذكره الدكتور عصمت سيف الدولة، حيث يقول: "قد يعبر عن موضوع السيادة في بعض كتب فقه القانون بكلمة السلطة, قال: وهو تعبير غير دقيق؛ إذ السلطة هي استعمال السيادة وليست السيادة ذاتها، مثلها مثل حقّ الانتفاع, الذي هو حقّ استعمال لحقّ الملكيّة، وليس الملكيّة ذاتها.
والفارق بينهما: أنّ السيادة لا تنتقل ولكنّ السلطة تنتقل. فبينما تبقى السيادة لصيقة بالشعب لا تفارقه، ولا تنتقل إلى غيره، قد يعهد الشعب بممارستها إلى من ينوب عنه فتصبح ممارستها "سلطة".
والسيادة ـ بنظرنا ـ مسألة بدهيَّة تابعة في بداهتها لبداهة فكرتي الاجتماع السياسي والدولة وهي تمثل لب الشأن السياسي لأية جماعة فهي مما يلزم عن حتمية التشخيص والترميز الضروريَّيْن لتسيير حياة وتنظيم علاقات الجماعة، وبواسطتها تتشخّص الحكومة في صورة الشخص الاعتباري للمجموع وتضطلع بتنظيم علاقات الجماعة بالفرد، وعلاقات الدولة بغيرها من الجماعات المختلفة حولها، وبواسطة فكرة السيادة هذه تعتبر الدولة بمثابة "فرد" حر له شخصيته القانونية والدينية والمالية...الخ. وعلى هذه الحالة تتأسس أحكام ما يعرف بالقانون الدولي الذي تعتبر الدولة فيه بمثابة واحد من الجماعة الدولية.
وقد أثيرت مشكلة السيادة في مقدمة ما أثير من المشاكل في أثناء محاولات التأصيل لعلوم الفقه السياسي المسلم في العصر الحديث.
خصوصاً تلك المشكلة النظريّة التي تتعلّق بتحديد صاحب السيادة العمليّة على الدولة، ومع أنّها قضيّة مفصّلة من ذاتها وواضحة فقد أكثر الناس من القول فيها، وقد انحصر الكلام فيها بين رأيين: رأي يقول أصحابه أن صاحب السيادة هو الله. ورأي يرى أنَّ صاحبة السيادة هي الأمة.
أما القائلون بسيادة الأمّة فكثير من العلماء المحدَثين، منهم الأستاذ المفتي: محمد بخيت المطيعي حيث يقول في كتابه "حقيقة الإسلام وأصول الحكم": إنّ كتب الكلام كلّها مطبقة على أنّ نصب الخليفة والإمام إنّما يكون بمبايعة أهل الحلّ والعقد، وأنّ الإمام إنّما هو وكيل الأمّة، وأنّهم هم الذين يولّونه ملك السلطة وأنّهم يملكون خلعه وعزله، وشرطوا لذلك شروطاً أخذوها من الأحاديث الصحيحة، وليس لهم مذهب سوى هذا المذهب.. أنّ مصدر قوّة الخليفة هو الأمّة، وأنّه إنّما يستمدّ سلطاته منها، وأنّ المسلمين هم أوّل أمّة قالت بأنّ الأمّة هي مصدر السلطات كلّها" [يراجع: محمد بخيت المطيعي، المفتي، حقيقة الإسلام وأصول الحكم، المطبعة السلفيّة، القاهرة (1344ﻫ) ص30.] .
وإلى مثل ذلك ذهب السيد محمد رشيد رضا[محمد رشيد رضا، الخلافة، ص32.
] والأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف [عبد الوهاب خلاف، أصول الفقه، ص68.] كما ذهب إلى القول به الأستاذ عبّاس محمود العقّاد في كتابه "الديمقراطيّة في الإسلام[عبّاس محمود العقّاد، الديمقراطيّة في الإسلام، ص65.] وإلى اعتبار الحكم من المصالح العامّة التي تفوّض إلى نظر الأمّة ذهب الشيخ أحمد أبو الفتح في كتابه "المختارات الفتحيّة في تاريخ التشريع، وفي أصول الفقه".
يقول د. عبد الحميد متولّي: "ودليلهم على ذلك كون الشورى هي دعامة الحكم في الإسلام، وأنّ ولاية الأمر إنما هي مسئولية، وأنّ استمداد الرئاسة العليا إنما يكون من البيعة العامة. كما يستدلون بحديث "لا تجتمع أمتي على ضلالة وبالأمر بطاعة أولى الأمر["{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}" (59) سورة النساء.] وهم –عندهم- جماعة العقد والحل، الذين هم ممثلو الأمة: وهم "الأمراء" (أي الولاة) والحكام والعلماء ورؤساء الجند وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامة, فكون هؤلاء إذا اتفقوا على أمر أو حكم وجب أن يطاعوا كل ذلك دليل على أنّ السيادة حق مكفول للأمة[يراجع: عبد الحميد متولي، مبادئ نظام الحكم، ص169. ]
وقد تزعم الرأي الثاني القائل بنسبة السيادة لله وحده، العلامةُ أبو الأعلى المودودي (رحمه الله) وفحواه أنّ السيادة والحاكمية والتشريع في الدولة الإسلاميّة إنّما هي حق لله تعالى وحده، وأنّ الحكومة الإسلامية لا يمكن أن تكون ديمقراطية بالمعنى الغربي باعتبار أنّها (أي الديمقراطيّة) بهذا المعنى تدعوا إلى توسيد السيادة المطلقة للشعب على مقرراته التشريعية والسياسيّة على السواء، وهو يرى أنّها بذا تكون بعيدةً عن الفكر السياسي الإسلامي. كما أنها (الحكومة الإسلامية) غير ثيوقراطية بذات المعنى الغربي، الذي تتحكم فيه طائفة من السدنة برقاب النّاس دون وازع من دين صحيح أو حتى من خلق، وهو يرى أنّ الحكومة الإسلاميّة ذات طابع ثيوقراطيّ من جانب، وديمقراطيّ من جانب آخر، لكن كلا النوعين من طراز خاص[ينظر: أبو الأعلى المودودي، نظريّة الإسلام السياسيّة، ص32 وما بعدها.] ومع أنّ الظروف التاريخية التي أدت إلى ظهور نظرية السيادة بوجه عام ونظرية أو مبدأ سيادة الأمة بوجه خاص ظروف خاصة بالمجتمع الغربي، الذي مثلت النظرية السيادية فيه حلقةً من حلقات الكفاح الملكي من أجل مواجهة نفوذ كل من البابا والإمبراطور.
وقد كان هؤلاء الملوك حين كانوا يدّعون- قبل عصر الثورة الفرنسية- أنهم أصحاب السيادة كانوا يقيمون هذا الحق على أساس نظرية الحق أو التفويض "الإلهي" التي يقصد بها أن الملوك إنما استمدوا الحق في تلك السيادة (أو السلطة) من الله.
فيما لجأ فلاسفة الثورة الفرنسية ورجالها حين أرادوا مواجهة هؤلاء الملوك إلى ذات المبدأ لكن ليس من جهة كون الله تعالى خص به الملوك وإنما من باب أنّه تعالى فيما احتفظ لنفسه بالسيادة العامة خص الشعوب بسيادة خاصة تقرر بها مصائرها فيما عرف بنظرية "سيادة الأمة" والتي استخدمت كسلاح من أسلحة الكفاح ضد الملوك، وضد نظرية الحق الإلهي التي يستندون إليها.
فقد استخدم مبدأ السيادة إذن كأحد معاول الهدم الرئيسة لمواجهة سلطة البابا الشمولية بحق الملوك الزمنيين، ثمّ أعيد طرحه ليكون مِعْول هدم لهذه الملكيات باعتبار أنّ التفويض الإلهي إنّما هو للأمة، وليس للملوك، وهو ما تأسست عليه الديمقراطيّات الحديثة.
والحقيقة أنّه لا يصعب على الباحث أن يلحظ اتفاقاً بين الدّاعين إلى نظريّة السيادة[يراجع: عبد الحميد متولي، مبادئ نظام الحكم، ص183. عبد الهادي عباس، السيادة، ص15، وما بعدها. فتحي أحمد عبد الكريم، السيادة، ص165، وما بعدها.] سواء أكانت دعواهم لأجل توسيد السلطة المطلقة للكنيسة وللبابا، أو لإثبات حقّ للملوك أمام البابا والإمبراطور، أو حتّى لردّ هذا الحقّ، وصرفه عن الملوك إلى الأمّة، لا يصعب على الباحث أن يلحظ أنّ المسألة برمّتها لا تخرج عن حدود التفويض من صاحب السيادة الأصيل إلى آخرين، وأنّ النظريّة من مبدئها محكومة بأنّ الله تعالى هو السيّد المطلق.
وهذا في الحقيقة يهدم أصل الحديث عندنا في المسألة من الأساس فإذا أردنا أن نفيد من هذه النظريّة –وهي مفيدة فعلاً- فلن يعجزنا أن نثبت أنّ لله تعالى سلطة السيادة بالأصالة، كما لن يُجهدنا أنّ نتعرّف على الذين فوّض الله تعالى لهم القيام على هذا الحقّ، إذ الكنيسة عندنا غير موجودة والمسجد مؤسسة مدنيّة بالأساس إذ الفرق بين الديني والمدني يتمثّل في السريّة والخصوصيّة ولا شيء من ذلك عندنا، والملوك عندنا غير مخوّلين بصلة خاصّة بالله تعالى؛ فيبقى أنّ الأمّة في مجملها هي صاحبة الخلافة عن الله، وهي النائبة عنه في القيام بالسيادة على الأرض، وعلى هذا من الأدلّة، وأقوال العالِمين-مع استغنائه بنفسه- ما هو ظاهر معروف فأيّ مشكلة في السيادة إذن؟
ومع أنّ أستاذنا الدكتور عبد الحميد متولّي هاجم التناول المسلم لهذه النظريّة من الأساس واعتبرها غير ذات علاقة بنا، فإنّنا نثبت ما قد رأينا، وننقل عنه ما قد ذهب إليه بعض كبار رجال الدين المسيحي في أوربا في القرن السادس عشر ممّا يدعم وجهة نظرنا في إمكانية ويُسر الإفادة من هذا المبحث السياسي الغربي الجيّد.
فقد نقل سيادته عنهم القول بأنّ السُّلطة تأتي من الله بطريق غير مباشر، ولكنها تأتي من الشعب بطريق مباشرة, إذ إن السلطة ولو أنّ أصلها من الله، لكنه لم يجعلها لفرد معين وإنما منحها لجمهور الشعب، فالحاكمون يستمدون سلطتهم من الشعب بطريق مباشر ويستمدونها من الله بطريق غير مباشر. ولذلك رأى الأستاذ الدكتور أنّ الأوفق أن يطلق على هذه النظرية: نظرية "الحق الإلهي غير المباشر في السيادة". ثم قال: "وهذه النظرية لا تتعارض مع الديمقراطية- في رأي العميد والفقيه الفرنسي دوجيه Duguit- وتعتبر الديمقراطية في هذه الحالة ناشئة بناء على إرادة الله أي أنها اختيار سماوي مقدس[يراجع د. عبد الحميد متولي، مبادئ نظام الحكم، ص165- 167.]
وقد لجأ لنفس الطريقة المفكر المسلم الدكتور محمد عمارة حين أراد أن يقرر أنّ الشورى (الآليّة الديمقراطيّة) إنّما هي في الحقيقة خيار الإسلام السياسيّ فكما لا يسوغ أنْ يُتوصَّل لإرادة الله الدينية إلا بوسائل التوصُّل المعروفة، فإنه لا يسوغ التوصل لإرادة الله تعالى السياسية إلا بوساطة هذه الاختيارات المقدسة وعلى رأسها الشورى وآلياتها الممكنة، ومن ضمنها: "آلية الديمقراطية النيابية[يُراجع: محمد عمارة، فلسفة الحكم في دولة الخلافة، مقال منشور بموقع "بلاغ":
http://www.balagh.com/mosoa/fekr/rz0q52bi.htm. وقد نقلنا النصّ عنه في الفصل الأوّل ص104.] فاعتبر أنّ الديمقراطيّة والشورى كلاهما خياراً سماويّاً. وهو ذات ما اعتمده قبله الشيخ رشيد رضا (رحمه الله)[ يُراجع: محمد رشيد رضا، الخلافة، ص38، وما بعدها.]
وعلى العموم فالأمر قريب ولا حاجة للاختلاف في شأن تحكمه البداهات فمسألة السيادة ينبغي أن لا تتعارض فيها الآراء بين اختيارين كلاهما في نفسه صحيح وغير متقاطع مع الآخر فما يقابل القول بسيادة الله تعالى ليس القول بسيادة الأمة، وإنما يقابله القول بسيادة غيره من الآلهة، والأمّم لا تدّعي هذا لنفسها. غاية ما في الأمر أننا حين نتحدث عن سيادة أمة أو جماعة على نفسها فإننا لا نزيد على كوننا قررنا ما هو بدهي وثابت من أمر الله تعالى ومن أمر خلقه الذين جعل لهم حريتهم، واختيارهم، واستخلفهم في الأرض ليقيموا حياتهم، وليتعاونوا مع بعضهم، فهل إذا ما قرر الناس أن يضعوا أيديهم في أيدي بعضهم، وأن يتعاونوا في الخير فيما بينهم، يكونون بهذه الإرادة المعبرة عن سيادتهم على قرارهم وعلى اختياراتهم في حالة تقاطع مع سيادة الله تعالى على الكون؟
البداهة إذن تقرر أنه إذا قصدنا بسيادة الأمة إسناد السيادة لشخص المجموع الاعتباري باعتبار أنه شخص حرٌّ له سيادته على نفسه ومسئوليته عن اختياراته فهو إسناد صحيح لا مراء فيه، والسيادة مسندة للأمة من هذه الجهة، وإن قصدنا بها حق الدولة في التعبير عن هذا المجموع والنيابة أو الوكالة عنه في اختياراته فالسيادة على هذا النحو ثابتة لهؤلاء الوكلاء أو للدولة التي يمثّلونها. وما لا يقبل عرضه هنا هو السؤال عن علة ما جاء على أصله، فإنّ السؤال عن حرية الحر في تصرفه مما يدخل في دائرة الممنوع أو غير المستساغ، وعليه يكون الخطأ ليس في تقرير المسألة السيادية بقدر ما هو في شغل الذهن بتعليل ما تظهر علته.
ولنقتبس في النهاية تعبير سعادة الأستاذ الدكتور عبد الحميد متولّي حين يقول: "والرأي عندي أنه إذا أريد إثارة هذه المشكلة فليكن لها الطابع أو المغزى السلبي الذي عرفت به نظرية السيادة بوجه عام (ونظرية سيادة الأمة بوجه خاص) لدى نشأتها في بداية العهد بها، فنقول: أن الدولة –في الإسلام- لا سيادة فيها على الأمة لفرد أو لطائفة أو لطبقة. فمثل هذا التعبير السلبي عن مبدأ سيادته الأمة يحقق لنا المزايا التي تنسب إليه, ويجنبنا ما قد سبق بيانه من المساوئ التي تؤخذ عليه[يراجع: عبد الحميد متولّي، مبادئ نظام الحكم، ص164. ولزيادة التفصيل يراجع له: "المفصل في القانون الدستوري" ج1 (طبعة1952) ص 358-368. ]
إذن فالموقف الأسلم من نظرية السيادة ينبغي أن يكتفي بالجانب السلبي لتفسيرها بمعنى رفض قبول تفسيرها بمعنى التفويض الإلهي المطلق للحاكم، على الجماعة. وهو موضوع واجب تصوّر ملكيّة الأمة له لأنّه ما إلّا مجموع السيادات الفردية لمجموع أفرادها على أنفسهم، وهو أمر متصوّر بل يعارض إنكاره قانون التكليف الإسلامي، ويهدر فكرة المسئوليّة الشرعيّة للأفراد عن تصرّفاتهم، والتي لم يقل عاقل إنّها تخرج عن إطار السيادة الكونية لله الكبير.
الفرع الثاني
أساس سلطان الحاكم في الدولة الإسلامية
تمهيد :
قبل أن نتعرض لأساس سلطان الحاكم في الدولة الإسلامية، ومشروعية السيادة فيها ، يتعين علينا أن نستعرض الأفكار الرئيسة التي اعتنقها المفكرون، والحكام في العصور المختلفة لتبرير مشروعية السيادة، وأساس سلطة الحاكم أو الحكام، وفي هذا الصدد نجد نظريات عديدة سنحاول أن نجتزئ منها ما يلي : ـ
أولاً :نظرية الحق الإلهي المباشر: وتقضي هذه النظرية : بأن الدولة من خلق الله، فهو خالق كل شيء، وهو الذي يختار الملوك مباشرة لحكم الشعوب، وعلى الأفراد السمع والطاعة لأوامرهم، ولا يسأل الملوك عن أعمالهم أمام شعوبهم، وإنما يكون حسابهم عند الله .!!
وقد سادت هذه النظرية قديماً، وتشبث بها الملوك والحكام، وسادت في فرنسا وإنجلترا حتى القرن السابع عشر الميلادي، وترتب عليها أن طغى الملوك وتجبروا، واستبدوا بالشعوب المستضعفة، مقررين أن سلطانهم مستمد من الله، ولا ينبغي لأحد أن يحاسبهم على أعمالهم .!!
وإزاء ذلك، وبتطور الأفكار والثقافات، تحورت هذه النظرية إلى نظرية أخرى أسموها : ( نظرية الحق الإلهي غير المباشر )، ومؤداها: أن الله سبحانه لا يختار الحاكم، وإنما توجه العناية الإلهية الأشخاص إلى اختياره، فالأمة وإن كانت هي التي تختار الحاكم، إلا أنها مسوقة إلى هذا الاختيار بإرادة الله . !!
على كل حال فقد اندثرت هذه النظريات الفقهية عن أصل السيادة في الدولة، لإمعانها في الخيال، وتجاهلها للواقع، وإتاحتها الفرصة لطغيان الحكام واستبدادهم .
ثانياً : نظرية العقد الاجتماعي : وخلاصة هذه النظرية أن وجود الدولة ( السلطة)يرجع إلى الإرادة المشتركة لأفراد الجماعة، أي أن الأفراد اجتمعوا، واتفقوا على إنشاء مجتمع سياسي يخضع لسلطة عليا فالدولة على هذا الأساس، قد وجدت نتيجة لعقد أبرمته الجماعة .
وأهم من اعتنق هذه النظرية ثلاثة من الفقهاء، على خلاف بينهم في تفصيلاتها، وذلك ما سنحاول توضيحه فيما يلي :
(أ) نظرية العقد الاجتماعي عند هوبز :
يرى هذا الفقيه : إن حالة الإنسان قبل نشوء الدولة كانت فوضى مبعثها الشر المتأصل في نفوس البشر، وكانت الغلبة للأقوياء، والحق يتبع القوة، وإزاء هذه الفوضى والبدائية، وعدم توافر الأمن والاستقرار للأفراد، فقد بحثوا عن وسيلة لحمايتهم، وكانت هذه الوسيلة هي اتفاقهم على اختيار شخص من بينهم يكون رئيساً عليهم، يتولى رعاية مصالحهم وحمايتهم .
ويرى هوبز أن الحاكم لا يكون طرفاً في العقد، وإنما يعقده كل الأفراد عداه، ويتنازلون بمقتضى العقد للحاكم عن جميع حقوقهم بدون قيد أو شرط ، فسلطته مطلقة، ولا يسأل عما يفعل، وعلى الأفراد الخضوع والطاعة المطلقة له .
ويلاحظ أن معنى هذه النظرية، هو تأييد الحاكم الاستبدادي والانطلاق من منطلق أن القوة فوق الحق ، وليس الحق فوق القوة، وهو ما كان يهدف إليه هوبز باعتباره متحمساً للنظام الملكي في بلاده (انجلترا).
(ب) نظرية العقد الاجتماعي عند لوك :
وإن كان لوك قد تابع سلفه هوبز في أن الجماعة كانت تحيا في فوضى، فإنه رأى أن الأفراد كانوا يتمتعون بحريتهم في ظل القانون الطبيعي، ولكن لغموض هذا القانون، ولتشابك المصالح ، رأوا أن يتركوا هذه الحرية المطلقة إلى نوع من النظام يقوم على أساسه التعاون بين الجماعة، ويخضعون لحاكم عادل، فاتفقوا على اختيار أحدهم لتولي أمورهم.
ويختلف لوك عن هوبز، كذلك في أن الأفراد لا يتنازلون عن كل حقوقهم للحاكم ، وإنما يحتفظون بالحريات والحقوق الأساسية لهم، كذلك فإن الحاكم يكون طرفاً في العقد فإذا أخل في شروطه جاز عزله .
(ج) نظرية العقد الاجتماعي عند روسو :
يرى الفرنسي جان جاك روسو أن الإنسان كان يعيش قبل نشأة الدولة في حرية كاملة، ولكن نظراً لتعارض المصالح والميول والنزعات الشريرة، فقد اضطر الأفراد إلى البحث عن نظام يكفل لهم الأمن، ويحقق العدالة، فتعاقدوا على إنشاء مجتمع سياسي يخضع لسلطة عليا، ويعتبر هذا العقد هو أساس نشأة الدولة، وسند السلطة معاً .
ومؤدى العقد عند روسو أن الأفراد تنازلوا عن حرياتهم الطبيعية للجماعة مقابل الحصول على حريات مدنية جديدة يكفلها المجتمع لهم على أساس المساواة. وأن العقد قد تولد عنه إرادة عامة هي إرادة الجماعة، وهي مستقلة عن إرادة كل فرد على حدة، وهي مظهر لسيادة المجتمع، وتعبير عن هذه السيادة، ولا يجوز التنازل عنها .
أما الحاكم طبقاً لنظرية روسو فهو ليس طرفاً في العقد، ولكنه وكيل عن الجماعة ( الأمة ) وفقاً لأرادتها، ولها حق عزله متى أرادت ذلك .
كانت تلك هي خلاصة نظرية العقد الاجتماعي عند الفقهاء المذكورين، على ما أوضحنا من خلاف بينهم، غير أنهم يتفقون جميعاً على أساس واحد، وهو أن مصدر السيادة والسلطان في الدولة هو العقد .
وقد تعرضت هذه النظرية بصورها المختلفة عند تقديرها إلى مطاعن عديدة ، ولكن أهم نقد وجه إليها، هو أنها تقوم على أساس افتراضي خيالي، لا أساس له من الواقع، إذ أن الأفراد لم يبرموا هذا العقد قط .!!
ورغم ذلك فقد لاقت نظرية العقد الاجتماعي عند روسو حين نادى بها في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي ترحيباً حاراً، ونجاحاً ملحوظاً، وكان لها تأثيرها على الثورة الفرنسية، وما أصدرته من الدساتير والتشريعات .
ثالثاً:أساس شرعية السيادة والسلطات في الدولة الإسلامية :
يرجع النظام السياسي للحكم في الدولة الإسلامية إلى أحكام القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، بصفة أساسية، وهذان المصدران يتميزان بالمرونة التي تلاءم جميع الأزمان والمجتمعات، مع المحافظة على القواعد الكلية التي أوردها القرآن الكريم، وتولت شرحها وتوضيحها السنة النبوية المطهرة، والتي تتلخص في : العدل، والمساواة، والحرية، والشورى .
ومن المعلوم أن المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الدولة، ويعتمد عليها نظام الحكم فيها، قد وردت من عند الله تعالى، في نصوص القرآن الكريم، وفي أقوال وأفعال وتقارير الرسول محمد صلى الله عليه وسلم(أي السنة النبوية ).
وفيما يتعلق بوضع الحاكم في الدولة الإسلامية، فإنه يتبدى لنا بإمعان النظر أن الدولة الإسلامية قد رأسها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، أول ما بدأت، ولم يكن أحد من الخلق هو الذي اختاره لهذه المهمة، ولكن الله عز وجل هو الذي اصطفاه، وحمله أمانة القيام بشئون الدين والدنيا في الدولة الوليدة ، فهو عبد الله ورسوله الذي عهد إليه بهذا الأمر، ولكنه لم يكن عهداً مطلقاً، بل تولاه عليه الصلاة والسلام في نطاق أحكام الرسالة، ونصوص القرآن الكريم ومبادئه التي أنزلها المولى جل علاه لخيرية البشر في كل زمان ومكان وعلى أي حال فقد كان هذا الأساس مقتصراً على وضع الرسول صلى الله عليه وسلم وحده، وفي عهده، أما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد جرى العمل على نحو آخر.
لقد ترك الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو القائد والمعلم، ترك الأمر كله للمسلمين فيما يتعلق باختيار خلف له، وكان أن اهتدوا بهدي الله إلى الطريقة المثلى في اختيار الإمام أو الخليفة .
ويركز نظام الحكم في الإسلام على أساس فكرة الإمامة، وقد كانت مسألة الإمامة مثار جدل وخلاف شديدين بين المسلمين، ولكن حاصل ما انتهى إليه رأي المجتهدين ( عدا الشيعة ) أن ثبوت الإمامة ( الخلافة ) يكون بالاتفاق والاختيار، أو بالنص والتعيين ..
ويقصد بقيام الإمامة على النص، أن يكون التعيين من عند الله، وإذا لم يتحقق ذلك، ولم يقم الدليل على وجود هذا الأسلوب ، فلم يبقى إلا اختيار الإمام بواسطة الأمة .
ومعنى ذلك أن الأمة هي التي تقوم باختيار من يتولى أمورها، ويتم الاختيار بطريقة البيعة الصحيحة الشرعية .
ويتولى هذه البيعة جماعة من المسلمين ( هم ممثلي الأمة ) يطلق عليهم ( أهل الحل والعقد )، ويسميهم ( الماوردي ) في كتابه:(الأحكام السلطانية )، أهل الاختيار .
ويقول الماوردي عن أهل الاختيار، أن الشروط المعتبرة فيه ، شروط ثلاثة هي : ـ
أولاً :ـ العدالة الجامعة لشروطها( الاستقامة، والأمانة، والورع، والتقوى، والأخلاق الفاضلة).
ثانياً : ـ العلم الذي يتوصل به إلى معرفة مستحق الإمامة، على الشروط المعتبرة فيها ( والتي اتفق عليها العلماء) .
ثالثاً : ـ الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو أصلح للإمامة، ولتدبير المصالح ( مصالح الأمة ) أقوي وأعرف .
اختيار الحاكم :
ويقوم أهل الحل والعقد كنواب عن الأمة، باختيار الإمام من المسلمين، الذين تتوافر فيهم شروط الصلاحية للمنصب، وأهمها : الكفاية الجسدية، والعلمية، والعدالة، والنزاهة، والتقوى، والأخلاق الصالحة بوجه عام، والقدرة على تحمل أعباء المنصب .
ويرى بعض الفقهاء : أن أهل الحل والعقد هم الذين يترك إليهم بالفعل الإضطلاع بمسؤولية اختيار الخليفة أو الإمامة، ويجبون العقد معه ، وهم مسئولين عن إنقاذه .
وهم يفعلون ذلك نيابة عن الأمة كلها، فيما هو حق أصلي لها، باعتبارهم ممثليها أو نوابها .
ويرى فريق آخر من الفقهاء ( ونحن نتفق معهم فيما يذهبون إليه ) أن اختيار أهل الحل والعقد للحاكم لا ينعقد به الإمامة، وإنما نومن الترشيح للمنصب، وبجب أن يستكمل بالبيعة العامة، أي بموافقة الأغلبية من الأمة على المرشح لهذا المنصب .
وهذا التفسير هو ما يتفق مع إجازة الاختيار بعدد قليل أو بواحد، وإجازة العهد إلى واحد، كما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالنسبة لعمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ ، وكما جرت السوابق بالنسبة للخلفاء الراشدين، والخلفاء من بعدهم، حين كان يجرى الاختيار من أهل الاختيار أياً كان عددهم، ثم تحصل البيعة العامة من سائر المسلمين .
ومتى تم اختيار الخليفة على هذا الأساس وبالشروط المطلوبة فيه، تعين على أفراد الأمة الدخول في طاعته، وإذا حاد عن جادة الصواب، فمن حقهم عزله .
التكييف القانوني للإمامة :
القد قرر علماء الفقه الإسلامي بعد بحوث مستفيضة أن الإمامة تعتبر عقداً بين الأمة والحاكم، وقد تناول الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري ( رحمه الله ) بحث هذا العقد في مؤلفه القيم عن ( الخلافة) وانتهى إلى القول بأنه عقد حقيقي، مستوف لجميع الشروط القانونية، وأنه مبني على الرضا والقبول، وأن الغاية من هذا العقد أن يكون هو المصدر الذي يستمد منه الإمام سلطته، فالإمامة ما هي إلا عقد طرفاه الأمة والإمام .
ويضيف الدكتور السنهوري أن علماء الإسلام ومفكريه أدركوا جوهر نظرية روسو ( العقد الاجتماعي ) .
وإذا كان روسو يعتبر في نظر الأوربيين أباً للديمقراطية الحديثة، وملهماً للثورة الفرنسية، فإن فقهاء المسلمين قد وصلوا إلى نظرية العقد الاجتماعي قبل أن تعرفها أوربا بقرون عديدة .
نقول : إذا كان روسو قد أقام نظريته على أساس فرضي خيالي، لم يثبت وجوده، فإن فقهاء الإسلام حين تكلموا عن نظرية العقد، قد تكلموا عن نظرية لها ماضي تاريخي واقعي ثابت، من تجارب الأمة الإسلامية منذ عهدها الذهبي في زمن الخلفاء الراشدين .
وحاصل الأمر أن السيادة في الدولة الإسلامية تستند إلى إرادة الأمة، والتي تعمل في نطاق الشريعة الغراء، وتعتبر السيادة مشروعة ومبررة طالما كانت في نطاقها الشرعي.
الفرع الثالث
نظرية تقييد سلطة الحاكم
جاءت الشريعة الإسلامية من يوم نزولها بنظرية تقييد سلطة الحاكم، فكانت أول شريعة قيدت سلطة الحكام، وحرمتهم حرية التصرف،
وألزمتهم أن يحكموا في حدود معينة، ليس لهم أن يتجاوزوها وجعلتهم مسئولين عن عدوانهم وأخطائهم.
وتقوم النظرية على ثلاثة مبادئ أساسية:
أولها: وضع حدود لسلطة الحاكم.
ثانيها: مسئولية الحاكم عن عدوانه وأخطائه.
ثالثها: تخويل الأمة حق عزل الحاكم.
المبدأ الأول
وضع حدود لسلطة الحاكم
كانت سلطة الحاكم قبل الشريعة الإسلامية سلطة مطلقة لا حدود لها ولا قيد عليها وكانت علاقة الحاكمين بالمحكومين قائمة على القوة البحتة، ومن القوة كان الحاكم يستمد سلطانه، وعلى مقدار قوته كانت سلطته، فكلما كان قوياً امتد سلطانه لكل شيء ، وإن ضعف انكمشت سلطته وأصابها القصور والوهن.
وكان الناس يدينون للحاكم بالطاعة لا لأنه يحكمهم، بل لأنه أقوى منهم، فكلما كان الحاكم قادراً على أن يسوق الناس بعصاه أو يغريهم بماله وجاهه فهم من الطائعين السامعين، فإذا ضعف الحاكم واستطاع أحد منافسيه أن يتغلب عليه فإنه يستطيع تبعاً لذلك أن يتحكم في رقاب الرعية،وكانت الرعية تعتبر خدماً وعبيداً لصاحب السلطان سواء أورث سلطانه أم اكتسبه.
ولما كان الحاكم يستمد سلطته من قوته لم تكن سلطة أي حاكم تساوي سلطة الآخر، ولم تكن هناك حدود موسومة للحكام لا يتعدونها، بل كان للحاك أن يأتي ما يشاء ويدع ما يشاء دون حسيب أ, رقيب....
وجاءت الشريعة فاستبدلت لهذه الأوضاع الباليه أوضاعاً جديدة تتفق مع الكرامة الإنسانية والحاجات الاجتماعية، فجعلت أساس العلاقة بين الحكام والمحكومين تحقيق مصلحة الجماعة لا قوة الحاكم الذي يرعى مصلحتها ويحفظها، وجعلت لسلطة الحاكم حدوداً ليس له أن يتعداها، فإن خرج عليها كان عمله باطلاً وكان من حق الجماعة أن تعزله وتولي غيره لرعاية شئونها..
وقد بينت الشريعة مهمة الحاكم بياناً شافياً وحددت حقوقه وواجباته تحديداً دقيقاً، فمهمة الحاكم في الشريعة أن يخلف رسول الله في حراسة الدين وسياسة الدنيا [ الأحكام السلطانية للماوردي ص 3]. ويسمى الحاكم في اصطلاح الفقهاء الإمام.
والإمامة أو الخلافة كما يرى الفقهاء عقد لا ينعقد إلا بالرضا والاختيار وبموجب هذا العقد يلزم الإمام أي الحاكم أن يشرف على الشئون العامة للأمة في الداخل والخارج.بما يحقق مصلحتها، بشرط أن يكون ذلك كله في حدود ما أنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي مقابل التزام الإمام للأمة بهذا الالتزام تلتزم له الأمة على لسان ممثليها الذين اختاروه إماما أن تسمع له وتطيع أمره ما لم يتغير حاله فيصبح فاسقاً أو يعجز عن مباشرة عمله، فإذا تغير حاله انعزل بفسقه أو عجزه.
وقد حدد صاحب الأحكام السلطانية واجبات الإمام بأنها حفظ الدين وتوفير الأمن والنظام وإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام وحفظ الثغور والجهاد والإشراف على الموظفين العموميين الذين يتولون كل هذه المهام.
فسلطة الحاكم في الشريعة الإسلامية ليست مطلقة، وليس له أن يفعل ما يشاء، ويدع ما يشاء، وإنما هو فرد من الأمة اختير لقيادتها وعليه للأمة التزامات وله على الأمة حقوق، وله من السلطة ما يستطيع أن يؤدي به التزاماته ويستوفي به حقوقه، وهو في أداء وجباته واستيفاء حقوقه مقيد بأن لا يخرج على نصوص الشريعة أو روحها، وذلك طبقاً لقوله تعالى : [ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] المائدة:44ـ 45
وقوله تعالى:[ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ] المائدة:49
وقوله تعالى: [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ] الجاثية: 18
وإذا كان الإمام أي الحاكم مقيداً بأن يتبع الشريعة وأن يحكم طبقاً لنصوصها فمعنى ذلك أ سلطته مقيدة بنصوص الشريعة فما أباحته له فقد امتد سلطانه إليه،وما حرمته عليه فلا سلطان له عليه.
والشريعة لا تبيح للحاكم إلا ما تبيحه لكل فرد، ولا تحرم عليه إلا ما حرمته على كل فرد.
المبدأ الثاني
مسئولية الحاكم عن عدوانه وأخطائه
وبعد أن بينت الشريعة واجبات الإمام أي الحاكم وحقوقه وحددت سلطته على الوجه السابق جعلته مسئولاً عن كل عمل يتجاوز به سلطاته سواء أتعمد هذا العمل أم وقع العمل نتيجة إهماله.
ولم تكن الشريعة في تقرير مسئولية الحكام عن تصرفاتهم إلا متمشية مع منطق الأشياء فقد بينت للحاكم حقه ووجباته وألزمته بأن لا يخرج عن أحكام الشريعة، وجعلته كأي فرد عادي فلم تميزه على غيره بأي حال فكان من الطبيعي تحقيقاً للعدالة والمساواة واستجابة للمنطق أن يُسأل الحاكم عن كل عمل مخالف للشريعة سواء أتعمد هذا العمل أم وقع منه نتيجة إهماله.
ففي جريمة كبرى كجريمة الزنا مثلاً، يشترط القانون الجنائي في الإسلام أن يؤتى بأربعة شهداء إلى الحاكم، وإن لم يؤت بهم فالحكم هو في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }النور4
والسؤال الآن ما الحكم لو أن أمير المؤمنين نفسه هو الذي رأى رجلاً وامرأة على فاحشة؟.
اقرأ الحكم في الإسلام:
ذلك أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ ، روي عنه أنه كان يمر ليلاً ـ على عادته ـ ليتفقد أحوال رعيته، فرأى رجلاً وامرأة على فاحشة،وعرفهما، فسكت ولم يعقب وجمع الناس في اليوم الثاني وخطب فيهم قائلاً: " أيها الناس ما قولكم في رجل وامرأة رآهما أمير المؤمنين على فاحشة؟.. فرد عليه عليّ بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ: يأتي أمير المؤمنين بأربعة شهداء، أو يجلد حد القذف، شأنه في ذلك شأن سائر المسلمين. ثم تلا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }النور4 ولم يملك أمير المؤمنين إلاّ أن يمسك عن ذكر أسماء الجناة، حيث أدرك أنه لا يستطيع أن يأتي بباقي نصاب الشهادة وأنه لا فرق في هذا بينه وبين سائر المسلمين.
وهذا هو عليّ بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ الخليفة الرابع ، افتقد درعه ـ يوما من الأيام ـ فوجدها عند رجل يهودي، فاختصمه إلى شريح القاضي ، فقال عليّ مدعياً: الدّرع درعي، ولم أبع ولم أهب، وسأل شريح النصراني في ذلك فقال: ما الدّرع إلاّ درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذبٍ. فالتفت القاضي إلى أمير المؤمنين عليّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ ، فقال: يا أمير المؤمنين، إن اليهودي صاحب اليد على الدّرع، وله بذلك حقٌ ظاهر عليها، فهل لديك بيّنة على خلاف ذلك تؤيد ما تقول؟ فقال أمير المؤمنين أصاب شريح ، مالي بيّنة، وقضى شريحٌ بالدرع للنصراني ، وأخذ اليهودي الدّرع وانصرف بضع خطوات ،ثم عاد فقال أمّا أني أشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يدنيني إلى قاضيه ، فيقضي لي عليه، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، الدّرع درعك يا أمير المؤمنين، اتبعت الجيش وأنت منطلق من صفين، فخرجت من بعيرك الأورق. فقال علي: أمّا و قد أسلمت فهي لك.
وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة ، التي تدلّ على تطبيق العدل في الإسلام في أعلى درجاته، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }المائدة8.
المبدأ الثالث
تخويل الأمة حق عزل الحاكم.
بينا فيما سبق أن الإمامة تنعقد بناء على عقد يختار فيه الشعب الإمام أي الحاكم ويلتزم له بالطاعة في مقابل التزام الحاكم بالإشراف على شئون الأمة وقيادتها في الطريق التي رسمتها الشريعة وينبني على هذا المنطق أن الحاكم الذي لا يقوم بالتزاماته أو يخرج على حدودها فليس له أن ينتظر من الشعب السمع والطاعة، وعليه هو أن يتنحى عن مركزه لمن هو أقدر منه على الحكم في حدود ما أنزل الله، فإن لم يتنح مختاراً نحّاه الشعب واختار غيره.
وهذا الذي يقتضيه المنطق هو نفس حكم الشريعة الصريح، جاء به القرآن وأمر به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وعمل به الخلفاء الراشدون من بعده، فالله جلّ شأنه يأمر بطاعة أولي الأمر في حدود ما جاء به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول عز شأنه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا] النساء: 59
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)..ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إنما الطاعة في المعروف)..ويقول في ولاة الأمور: ( من أمركم منهم بمعصية فلا سمع له ولا طاعة).
وبعد موت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اختار المسلمون أبا بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُخليفة عليهم فكانت أول خطبة يقولها تطبيقاً دقيقاً لهذه النصوص حيث قال: ( أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم ) ..
وولي عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُأمر المسلمين بعد أبي بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ فكان حريصاً على إظهار معاني هذه النصوص وتثبيتها في الأذهان، خطب يوما فقال: ( لوددت أني وإياكم في سفينة في لجة البحر تذهب بنا شرقاً وغرباً فلن يعجز الناس أن يولوا رجلاً منهم فإن استقام اتبعوه وإن جنف قتلوه)..
فقال طلحة: وما عليك لو قلت وإن تعوج عزلوه..
قال عمر : لا ..القتل أنكل لمن بعده.
وإليكم مثالاً لمساواة الحاكم أمام القانون في الإسلام.
هذه هي مبادئ الشريعة جاءت بها في وقت كانت فيه سلطة الحاكمين على المحكومين سلطة مطلقة، فلم تكن الشريعة حين قررت هذه المبادئ تأتي بما يلائم الجماعة ويصلح لحالها وإنما جاءت بالمبادئ لأنها ضرورية للشريعة الكاملة الدائمة من ناحية، ولترفع بها مستوى الجماعة وتدفعهم نحو الرقي من ناحية أخرى..
فالمبادئ إذن شرعت للتكميل والتوجيه..وهذه هي النصوص التي تقوم عليها المبادئ جاءت عامة إلى آخر حدود العموم، مرنة إلى آخر حدود المرونة بحيث تنطبق في كل زمان ومكان ولا تضيق بما يمكن أن يستجد من حالات..
وقد سبقت الشريعة الإسلامية بمبادئها كل القوانين الوضعية في تقييد سلطة الحكام، وتعيين الأساس الذي تقوم عليه علاقة الحاكمين بالمحكومين، وفي تقرير سلطان الأمة علة الحكام، وأول قانون وضعي اعترف بعد الشريعة بسلطان الأمة علة الحكام هو القانون الإنجليزي، وكان ذلك في القرن السابع عشر بعد أن قررت الشريعة نظريتها بأحد عشر قرناً، ثم جاءت الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر وعلى أثرها انتشر هذا المبدأ في القوانين الوضعية.
إن الشريعة الإسلامية تجعل الحد بين الحاكمين والمحكومين محوره وأساسه هو مراقبة الله سبحانه وتعالى عليهم والذي هو واضع والمبادئ ويبقى التقنين على عباده..
الفصل الثامن
ماذا عن تطبيق الشريعة الإسلامية
الآن، وليس قبل الآن
مع إننا لم نتصور تطبيقاً للشريعة إلا بعد تعديلات جذرية في مضمون وشكل الشريعة نفسها، وفى رؤية العقيدة أيضاً، وفى نشر هذه الرؤية الجديدة وتعميقها حتى تشمل أغلبية المواطنين، إلا أن هناك عقبات ومحاذير خارج إطار هذين ـ أي العقيدة والشريعة ـ يتعين علينا أن نحسب حسابها وأن يكون لدينا حلولاً لما تثيره من مشكلات وإجابات لما ستطرحه من تساؤلات.
من هذه العقبات والمحاذير:عدم تهيؤ المجتمع لتقبل الشريعة الآن..
هناك من يقول بمجرد أن يقرأ هذا العنوان إن تطبيق الشريعة مطلب شعبي وإن الشعب يطالب به من زمن وأنه مهيّأ لذلك من الآن، وإن الحكومات هي السبب في تأخيره، وليس أدلّ على ذلك من تقنين الشريعة في قوانين سنة 1987 وكان يمكن أن تعرض على مجلس الشعب وقتئذ وكان فيه مائة نائب معارض كلهم يناصرون الشريعة ولكن رئيسه العنيد رفعت المحجوب الذي كان أحد أقطاب الناصرية، احتفظ بها في درج مكتبه وأغلق عليها وقُتِلَ والمفتاح معه.
ففي الحقيقة أن المجتمع المصريـ وهو ما ينطبق بصفة عامة على المجتمعات العربية الأخرى ـ تعرّض لمجموعة من التجارب السياسية والنظرية دون سابق استعداد أو دراسة أو اتفاق،فظهرت الأفكار اليسارية المصرية التي درست دراسات غربية وضاقت بوجوه النقص في الرأسمالية، ولكنها نقلتها كما عرضها ماركس ولينين، ومعظمها تبع الاتحاد السوفياتي، وقامت فيما بينهم منازعات وشقاقات مذهبية فرّقت شملهم، فضلاً عن أن ما قدّموه كان غريباً كل الغرابة على الأذن العربية، والقلب العربي فلم يظفروا إلا بأعداد قليلة من الناس ولكنهم وهم يسيطرون على الإعلام، استطاعوا أن يؤثّروا على مجموعات من الناس وعلى قدر من الرأي العام.
وبالطبع فإن الفكر الإسلامي كان أسبق الجميع، واكتسب الشارع المصري بفضل عبقرية ونبوغ حسن البنا وموهبته الفريدة في تنظيم الإخوان المسلمين وكان يرجى منها خيراً كثيراً، ولكن الإخوان خسروا مرشدهم عام 1949، ثم توالت الأحداث وقامت حركة 23 يوليو وحدث الصدام بينها وبين الإخوان، فصمت الإخوان حينا وحُظِرَ نشاطهم العلني بينما ظهرت الجماعات الإسلامية الشاردة التي كوّنت فكرها في سجون عبد الناصر وكردّ لتعذيبه المقيت. وككل الهيئات المتحمسة، دون دراسة عميقة، فقد ضلّلتها الشعارات والتصوّرات وألجأها حظر الحكومات لأن تلوذ بأسلوب العمل السرّي وانساقت في منزلقاته فأضاعت على نفسها ثلاثين عاماً قبل أن تتبيّن خطأ وضلال دعاوي"الحاكمية الإلهية".
وقبيل ذلك، سقط نظام عبد الناصر مع هزيمة 67المروّعة وسقطت شعارات القومية العربية والناصرية المزعومة، وسمح المجال بقدر من الحرّية وللأخذ بالانفتاح الاقتصادي، فظهرت الرأسمالية المتطفّلة والسماسرة والانتهازيون الذين كوّنوا ثروات طائلة بوضع اليد على أراض "المدن الجديدة" أو بالعمولات أو بالغشّ والتزييف.
وتقبّل المجتمع المصري ذلك لأنه سمح لنفسه بفترة "استرخاء" بعد الحكم الحديدي الصارم لناصر، وتخبّط المجتمع المصري ما بين اقتصاد منفتح دون ضابط أثمر طبقة ثرية متخمة بثروات التطفّل والفساد الاقتصادي وبين نظام سياسييتشبّث بالسلطة ويتمسّك بتراث عبد الناصر في الحزب الواحد والاستئثار بالسلطة وتقييد المعارضة وتزييف الانتخابات.
نتيجة لهذه التراكمات المتوالية التي كانت كلها تجارب فاشلة،فَقَدَ المجتمع ثقته في الجميع تقريباً، واستسلم واستسلمت المجموعات ذات المستوى الاقتصادي المرتفع للاسترخاء البرجوازي وانساقت وراء نزعة الاستهلاك والاستمتاع بما تقدمه "الفضائيات" من برامج تصل بعضها إلى إباحية الجنس الصريح وما تقدّمه "المول" والسوبر ماركت من سلع مبهرة بينما كان على الأغلبية أن تكدح حتى يمكن أن تكفل لنفسها بقاء وأصبحت تلهث وراء لقمة العيش.
من هنا نعرف أن المجتمع المصري لم يعد واثقاً، كما كان في الأوّل، في التوجّه الإسلامي وإن ظل موجوداً بل وأكثرها شيوعاً، ولكن على غير وضوح وتذبذب ما بين الاتجاهات الانفعالية المتحمسة وما بين الاتجاهات السلفية المحافظة وأن بقية فئات المجتمع لا تتحمس لدعوة تطبيق الشريعة، أو حتى لتقبلها، وقد تعارضها، وأصبح يغلب عليها الإحباط.
المجتمع المصري اليوم غير مهيّأ للتطبيق السليم للشريعة، فمعظم ذوي الاتجاهات الإسلامية هم من السلفيين، وفكرتهم عن الشريعة لا تصلح، وهم يظنّون مع هذا أنهم هم الذين يمثّلون الإسلام ويقاومون كل اتجاه للتجديد أو الإصلاح، أما بقية شرائح المجتمع فهي تتوزّع ما بين طبقه "الأثرياء الجدد" ومن حولهم، وقد كوّنوا لأنفسهم طوال العشرين عاماً الماضية، وجوداً وكيانا وهيمنة على الصحافة والإعلام، وما بين فلول الناصرية واليسارية والقومية ممن يعوّضون فشل نظرياتهم بالتعصّب والادّعاءات..
لهذا سيكون على الشريعة أن تسير طويلاً في دعوتها قبل أن تصل إلى مجموعات لها ثقل تؤمن بها. وأن تواجه صعوبات وعراقيل معارضة لأن هذه المهمّةهي في حقيقتها تجاوز الأطر السلفية إلى فهم جديد للعقيدة والشريعة، ومنظومة المعرفة الإسلامية، وليست هذه بالمهمة الهيّنة أو السريعة.
فإذا أريد تطبيق الشريعة فلابدّ أولاً من تقديم الصورة السليمة لها والتي تختلف جذريا عما يقدمه الفقه السلفي بقدر ما تختلف عما تقدمه الانبعاثات الجهادية، ثم عليها بعد ذلك أن تسير طويلاً على طريق الدعاة لتكسب لفكرتها عن الشريعة جمهوراً له وزن وثقل ويعتدّ به كمّاً ونوعاً، وكما هو معروف فإن هذا ليس بالأمر الهين أو الذي يمكن إنجازه في وقت قصير.
فلابد من إيجاد دولة الإسلام أولاً في نفس كل فرد لتوجد بعد ذلك على أرض الواقع..وهذا ما فعله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مدى ثلاثة عشر عاماً هي عمر الدعوة في مكة.
الخوف دولياً ومحليا من الدولة الدينية
والدعوة إلى إقامة دولة مدنية
الخوف يوجد ـ ليس فحسب ـ على المستوى القومي، بل على المستوى الدولي خوف من إقامة دولة دينية في بلد مثل مصر أو سوريا أو العراق. وقد تقبّل المجتمع الأوروبي على مضض دولات دينية مثل إسرائيل وإيران والسعودية، وكان هناك في كل حالة من هذه الحالات ما يشفع لها أو يتقبلها قبول الأمر الواقع، ويغلب أن لو قامت في مصر دولة دينية، أن لا تتقبّل القوى الخارجية ذلك، وستكيد لها بحيث لا يستقرّ أمرها.
والحقيقة أن تطبيق الشريعة يمكن أن لا يؤدّي إلى إقامة الدولة الدينية، لأن الشريعة هي مجموعة الأحكام التي يقتضيها العدل ويسعى الشعب لتطبيقها بالوسائل المتاحة داخل النظام وفي الدولة المدنية.
ولكن هذه الحقيقة انسحقت تماماً تحت ضغط الفكرة المتأصلة لدى الجماعات الإسلامية عن أن الشريعة تساوي الدولة..وهذا خطأ جسيم بحيث أصبح هذا الخطأ هو الأمر المسلّم به من الجميع، أي من الجماعات الإسلامية وغيرهم.
ويتطلّب اقتلاع فكرة "الدولة الدينية" من الأذهان جهداً جباراً ومتّصلاً يقوم على مبدأين، أوّلهما أن تطبيق الشريعة في حدّ ذاته لا يعنى الدولة الدينية كما أشرنا، والمبدأ الثاني أن الدولة الدينية ليست من الإسلام أصلاً.
هذا والله ولي التوفيق
زهدي جمال الدين..
مصر الحزينة في ذكر الثورة الثانية 2013