-
ذكر قصتي الخضر وإلياس عليهما السلام
أما الخضر : فقد تقدم أن موسى عليه السلام رحل إليه في طلب ما عنده من العلم اللدني ، وقص الله من خبرهما في كتابه العزيز في سورة الكهف ، وذكرنا في تفسير ذلك هنالك ، وأوردنا هنا ذكر الحديث المصرح بذكر الخضر عليه السلام ، وأن الذي رحل إليه هو موسى بن عمران نبي بني إسرائيل عليه السلام ، الذي أنزلت عليه التوراة
وقد اختلف في الخضر ، في اسمه ، ونسبه ، ونبوته ، وحياته إلى الآن - على أقوال - سأذكرها لك هنالك إن شاء الله وبحوله وقوته
قال الحافظ ابن عساكر : يقال إنه الخضر بن آدم عليه السلام لصلبه ، تم روى من طريق الدارقطني : حدثنا محمد بن الفتح القلانسي ، حدثنا العباس بن عبد الله الرومي ، حدثنا رواد ابن الجراح ، حدثنا مقاتل بن سليمان ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : الخضر ابن آدم لصلبه ، ونسئ له في أجله حتى يكذب الدجال وهذا منقطع وغريب
وقال أبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان السجستاني : سمعت مشيختنا منهم أبو عبيدة وغيره قالوا : إن أطول بني آدم عمراً الخضر ، واسمه خضرون بن قابيل بن آدم
قال : وذكر ابن إسحاق أن آدم عليهه السلام لما حضرته الوفاة أخبر بنيه أن الطوفان سيقع بالناس ، وأوصاهم إذا كان ذلك أن يحملوا جسده معهم في السفينة ، وأن يدفنوه معهم في مكان عينه لهم فلما كان الطوفان حملوه معهم ، فلما هبطوا إلى الأرض أمر نوح بنيه أن يذهبوا ببدنه فيدفنوه حيث أوصى فقالوا ك إن الأرض ليس بها أنيس وعليها وحشة فحرضهم وحثهم على ذلك وقال : إن آدم دعا لمن يلي دفنه بطول العمر ، فهابوا المسير إلى ذلك الموضع في ذلك الوقت ، فلم يزل جسده عندهم حتى كان الخضر هو الذي تولى دفنه ، وأنجز الله ما وعده ، فهو يحيا إلى ما شاء الله له أن يحيا
وذكر ابن قتيبة في المعارف عن وهب بن منبه : أن اسم الخضر بليا ويقال بليا بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام
وقال اسماعيل بن أبي أويس : اسم الخضر - فيما بلغنا والله أعلم - المعمر بن مالك بن عبد الله ابن نصر بن الأزد وقال غيره : هو خضرون بن عماييل بن اليفز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل ويقال هو : أرميا بن حلقيا فالله أعلم
وقيل إنه كان ابن فرعون صاحب موسى ملك مصر وهذا غريب جداً قال ابن الجوزي : رواه محمد بن أيوب عن ابن لهيعة ، وهما ضعيفان
وقيل : إنه ابن مالك وهو أخو إلياس ، قال السدي كما سيأتي وقيل إنه كان على مقدمة ذي القرنين وقيل كان ابن بعض من آمن بإبراهيم الخليل وهاجر معه وقيل كان نبياً في زمن نشتاسب ابن بهراسب
قال ابن جرير : والصحيح أنه كان متقدماً في زمن أفريدون ابن إثفيان حتى أدركه موسى عليه السلام
وروى الحافظ ابن عساكر عن سعيد بن المسيب أنه قال : الخضر أمه رومية وأبوه فارسي
وقد ورد على أنه من بني إسرائيل في زمان فرعون أيضاً
قال أبو زرعة في دلائل النبوة حدثنا صفوان بن صالح الدمشقي ، حدثنا الوليد ، حدثنا سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب ، عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : أنه ليلة أسرى به وجد رائحة طيبة ، فقال : يا جبريل ما هذه الرائحة الطيبة ؟ قال : هذه ريح قبر الماشطة وابنيها وزوجها
وقال : وكان بدء ذلك أن الخضر كان من أشرف بني إسرائيل ، وكان ممره براهب في صومعته ، فتطلع عليه الراهب فعلمه الإسلام فلما بلغ الخضر زوجه أبوه امرأة فعلمها الإسلام ، وأخذ عليها ألا تعلم أحداً ، وكان لا يقرب النساء ثم طلقها ثم زوجه أبوه بأخرى فعلمها الإسلام وأخذ عليها ألا تعلم أحداً ثم طلقها ، فكتمت إحداهما وأفشت عليه الأخرى
فانطلق هارباً حتى أتى جزيرة في البحر ، فأقبل رجلان يحتطبان فرأياه فكتم أحدهما وأفشى عليه الآخر قال : قد رأيت الخضر ، قيل : ومن رآه معك ؟ قال فلان ، فسئل فكتم وكان من دينهم أنه من كذب قتل ، فقتل ، وكان قد تزوج الكاتم المرأة الكاتمة قال : فبينما هي تمشط بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها ، فقالت : تعس فرعون ، فأخبرت أباها ، وكان للمرأة ابنان وزوج ، فأرسل إليهم فراود المرأة وزوجها أن يرجعا عن دينهما ، فأبيا ، فقال : إني قاتلكما ، فجعلهما في قبر واحد ، فقال : وما وجدت ريحا أطيب منهما ، وقد دخلت الجنة
وقد تقدمت قصة مائلة بنت فرعون ، وهذا المشط في أمر الخضر قد يكون مدرجاً من كلام أبي بن كعب ، أو عبد الله بن عباس والله أعلم وقال بعضهم : كنيته أبو العباس ، والأشبه ، والله أعلم أن الخضر لقب غلب عليه
قال البخاري رحمه الله : حدثنا محمد بن سعيد االأصبهاني ، حدثنا ابن المبارك ، عن معمر ،
عن همام ، عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : " إنما سمى الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتزمن خلفه خضراء "
تفرد به البخاري ، وكدلك رواه عبد الرزاق عن معمر به
ثم قال عبد الرزاق : الفروة : الحثسيش الأبيض وما أشبه ، يعني الهشيم اليابس وقال الخطابي : وقال أبو عمر : الفروة : الأرض التي لا نبات فيها وقال غيره : هو الهشيم اليابس شبهه بالفروة ، ومنه قيل : فروة الرأس وهي جلدته بما عليها من الشعر ، كما قال الراعي :
ولقد ترى الحبشي حول بيوتنا جذلا إذا ما نا يوماً مأكلا
صعلا أصك كان فروة رأسه بذرت فأنبيت جانباه فلفلا
قال الخطابي : ويقال : إنما سمى الخضر خضراً لحسنه وإشراق وجهه ، قلت : وهذا لا ينافي ما ثبت في الصحيح ، فإن كان ولا بد من التعليل بأحدهما ، فما ثبت في الصحيح أولى وأقوى ، بل لا يلتفت إلى ما عداه
وقد روى الحافظ ابن عساكر هذا الحديث أيضاً من طريق إسماعيل بن حفص بن عمر الأبلى : حدثنا عثمان وأبو جزى وهمام بن يحيى ، عن قتادة ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : " إنما سمى الخضر خضراً لأنه صلى على فروة بيضاء فاهتزت خضراء " وهذا غريب من هذا الوجه
وقال قبيصة عن الثوري عن منصور عن مجاهد قال : إنما سمى الخضر لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله
وتقدم أن موسى ويوشع عليهما السلام لما رجعا يقصان الأثر ، وجداه على طنفسة خضراء على كبد البحر ، وهو مسجى بثوب قد جعل طرفاه من تحت رأسه وقدميه ، فسلم موسى عليه السلام فكشف عن وجهه فرد ، وقال : إني بأرضك السلام ؟ من أنت ؟ قال : أنا موسى قال : نبي بني إسرائيل ؟ قال : نعم فكان من أمرهما ما قصه الله في كتابه عنهما
وقد دل سياق القصة على نبوته من وجوه : أحدها : قوله تعالى : " فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما "
الثاني : قول موسى له :" هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا * قال إنك لن تستطيع معي صبرا * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا * قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا * قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا "
فلو كان ولياً وليس ببني لم يخاطبه بهذه المخاطبة ، ولم يرد على موسى هذا الرد ، بل موسى إنما سأل صحبته لينال ما عنده من العلم الذي اختصه الله به دونه فلو كان غير نبي ، لم يكن معصوماً ، ولم تكن لموسى - وهو نبي عظيم ورسول كريم واجب العصمة - كبير رغبة ولا عظيم طلبة في علم ولي غير واجب العصمة ، ولما عزم على الذهاب إليه والتفتيش عنه ، ولو أنه يمضي حقباً من الزمان ، قيل ثمانين سنة ثم لما اجتمع به تواضع له وعظمه ، واتبعه في صورة مستفيد منه فدل على أنه نبي مثله يوحى إليه كما يوحى إليه ، وقد خص من العلوم اللدنية والأسرار النبوية بما لم يطلع الله عليه موسى الكليم ، نبي بني إسرائيل الكريم وقد احتج بهذا المسلك بعينه الرماني على نبوة الخضر عليه السلام
الثالث : أن الخضر أقدم على قتل الغلام ، وما ذلك إلا للوحي إليه من الملك العلام وهذا دليل مستقل على نبوته ، وبرهان ظاهر على عصمته ، لأن الولي لا يجوز له الإقدام على قتل النفوس بمجرد ما يلقى في خلده ، لأن خاطره ليس بواجب العصمة ، إذ يجوز عليه الخطأ بالاتفاق ولما أقدم الخضر على قتل ذلك الغلام الذي لم يبلغ الحلم ، علما منه بأنه إذا بللغ يكفر ، ويحمل أبويه على الكفر لشدة محبتهما له فيتابعانه عليه ، ففي قتله مصلحة عظيمة تربو على بقاء مهجته ، صيانة لأبويه عن الوقوع في الكفر وعقوبته ، دل ذلك على نبوته ، وأنه مؤيد من الله بعصمته
وقد رأيت الشيخ أبا الفرج ابن الجوزي طرق هذا المسلك بعينه في الاحتجاج على نبوة الخضر وصححه ، وحكى الاحتجاج عليه الرماني أيضاً
الرابع : أنه لما فسر الخضر تأويل الأفاعيل لموسى ووضح له عن حقيقة أمره وجلى ، قال بعد ذلك كله : " رحمة من ربك وما فعلته عن أمري " يعني ما فعلته من تلقاء نفسي ، بل أمر أمرت به وأوحى إلي فيه
فدلت هذه الوجوه على نبوته ولا ينافي ذلك حصول ولايته ، بل ولا رسالته ، كما قاله آخرون وأما كونه ملكاً من الملائكة فقول غريب جداً ، وإذا ثبتت نبوته - كما ذكرناه ، لم يبق لمن قال بولايته وأن الولي قد يطلع على حقيقة الأمور دون أرباب الشرع الظاهر ، مستند يستندون إليه ، ولا معتمد يعتمدون عليه
وأما الخلاف في وجوه إلى زماننا هذا ، فالجمهور على أنه باق إلى اليوم ، قيل لأنه دفن آدم بعد خروجهم من الطوفان فنالته دعوة أبيه آدم بطول الحياة ، وقيل لأنه شرب من عين الحياة فحيى وذكروا أخباراً استشهدوا بها على بقائه إلى الآن وسنوردها مع غيرها إن شاء الله تعالى وبه الثقة
وهذه وصيته لموسى حين : " قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا " روى في ذلك آثار منقطعة كثيرة : قال البيهقي : أنبأنا أبو سعيد بن أبي عمرو ، حدثنا أبو عبد الله الصفار ، حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا ، حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، حدثنا جرير ، حدثني أبو عبد الله الملطي قال : لما أرد موسى أن يفارق الخضر قال له موسى : أوصني قال : كن نفاعاً ولا تكن ضراراً ، كن بشاشاً ولا تكن غضبان ، ارجع عن اللجاجة ولا تمشي في غير حاجة وفي رواية من طريق أخرى زيادة : ولا تضحك إلا من عجب
وقال وهب بن منبه : قال الخضر : يا موسى إن الناس معذبون في الدنيا على قدر همومهم بها
وقال بشر بن الحارث الحافي : قال موسى للخضر : أوصني فقال : يسر الله عليك طاعته
وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه ابن عساكر من طريق زكريا بن يحيى الوقاد - إلا أنه من الكذابين الكبار - قال : قرئ على عبد الله بن وهب وأنا أسمع ، قال الثوري ، قال مجالد ، قال أبو الوداك قال أبو سعيد الخدري ، قال عمر بن الخطاب ، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " قال أخي موسى : يا رب وذكر كلمته - فأتاه الخضر وهو فتى طيب الريح حسن بياض الثياب مشمرها ، فقال : السلام عليك ورحمة الله يا موسى بن عمران ، إن ربك يقرأ عليك السلام قال موسى : هو السلام وإليه السلام ، والحمد لله رب العالمين ، الذي لا أحصي نعمه ، ولا أقدر على أداء شكره إلا بمعونته
ثم قال موسى : أريد أن توصينى بوصية ينفعني الله بها بعدك ، فقال الخضر : يا طالب العلم إن القائل أقل ملالة من المستمع ، فلا تمل جلساءك إذا حدثتهم ، واعلم أن قلبك وعاء فانظر ماذا تحشو به وعاءك واعزف عن الدنيا وانبذها وراءك فإنها ليست لك بدار ولا لك فيها محل قرار ، وإنما جعلت بلغة للعباد والتزود منها ليوم المعاد ورض نفسك على الصبر تخلص من الإثم
يا موسى تفرغ للعلم إن كنت تريده ، فإنما العلم لمن تفرغ له ، ولا تكن مكثاراً للعلم مهذاراً فإن كثرة المنطق تشين العلماء وتبدي مساوئ السخفاء ولكن عليك بالاقتصاد ، فإن ذلك من التوفيق والسداد وأعرض عن الجهال وماطلهم ، واحلم عن السفهاء ، فإن ذلك فعل الحكماء وزين العلماء وإذا شتمك الجاهل فاسكت عنه حلماً ، وجانبه حزماً ، فإن ما بقى من جهلة عليك وسبه إياك أكثر وأعظم
يا ابن عمران ولا ترى أنك أوتيت من العلم إلا قليلاً ، فإن الاندلاث والتعسف من الاقتحام والتكلف يا ابن عمران لا تفتحن باباً لا تدري ما غلقه ، ولا تغلقن باباً لا تدري ما فتحه يا ابن عمران من لا ينتهي من الدنيا نهمته ، ولا تنقضي منها رغبته ومن يحقر حاله ، ويتهم الله فيما قضي له كيف يكون زاهداً ؟ هل يكف عن الشهوات من غلب عليه هواه ؟ أو نفعه طلب العلم والجهل قد حواه ؟ لأن سعيه إلى آخرته وهو مقبل على ديناه
-
يا موسى تعلم ما تعلمت لتعمل به ، ولا تعلمه لتحدث به ، فيكون عليك بوارد ، ولغيرك نوره ، ياموسى بن عمران اجعل الزهد والتقوى لباسك والعلم والذكر كلامك ، واستكثر من الحسنات فإنك مصيب السيئات ، وزعزع بالخوف قلبك فإن ذلك يرضي ربك ، واعمل خيراً فإنك لا بد عامل سوءاً ، قد وعظت إن حفظت
قال : فتولي الخضر وبقى موسى محزونا مكروباً يبكي "
لا يصح هذا الحديث ، وأظنه من صنعة زكريا بن يحيى الوقاد المصرى وقد كذبه غير واحد من الأئمة والعجب أن الحافظ ابن عساكر سكت عنه
وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني : حدثنا سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني ، حدثنا عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الحمصي ، حدثنا محمد بن الفضل بن عمران الكندي ، حدثنا بقية ابن الوليد ، عن محمد بن زياد ، عن أبي أمامة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لأصحابه : " ألا أحدثكم عن الخضر ، قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : بينما هو ذات يوم يمشي في سوق بني إسرائيل أبصره رجل مكاتب فقال : تصدق علي بارك الله فيك ، فقال الخضر آمنت بالله ، ما شاء الله من أمر يكون ، ما عندي من شيء أعطيكه فقال المسكين : أسألك بوجه الله لما تصدقت علي ، فإني نظرت إلى السماء في وجهك ، ورجوت البركة عندك فقال الخضر : أمنت بالله ما عندي شيء أعطيكه ، إلا أن تأخذني فتبيعني ، فقال المسكين : وهل يستقيم هذا ؟ قال : نعم ، الحق أقول لك لقد سألتني بأمر عظيم أما إني لا أخيبك بوجه ربي ، بعني
قال : فقدمه إلى السوق فباعه بأربعمائة درهم ، فمكث عند المشتري زماناً لا يستعمله في شيء ، فقال له : إنك إنما ابتعتني التماس خير فأوصني بعمل ، قال : أكره أن أشق عليك ، إنك شيخ كبير ضعيف قال : ليس تشق علي ، قال : فانقل هذه الحجارة وكان لا ينقلها دون ستة نفر في يوم فخرج الرجل لبعض حاجاته ثم انصرف وقد نقل الحجارة في ساعة ، فقال : أحسنت وأجملت وألطفت ما لم أرك تطيقه ، ثم عرض للرجل سفر ، فقال : إني أحسبك أمينا فاخلفني في أهلي خلافة حسنة قال : فأوصني بعمل ، قال : إني أكره أن أشق عليك قال : ليس تشق علي ، قال : فاضرب من اللبن لبيتي حتى أقدم عليك فمضى الرجل لسفره ، فرجع وقد شيد بناؤه
فقال : أسألك بوجه الله ما سبيلك وما أمرك ؟ فقال : سألتني بوجه الله ، والسؤال بوجه الله أوقعني في العبودية ، سأخبرك من أنا ، أنا الخضر الذي سمعت به ، سألني مسكين صدقة فلم يكن عندي من شيء أعطيه ، فسألني بوجه الله فأمكنته من رقبتي فباعني وأخبرك أنه من سئل بوجه الله فرد سائل وهو يقدر وقف يوم القيامة جلده لا لحم له ولا عظم يتقعقع
فقال الرجل : آمنت بالله ، شققت عليك يا نبي الله ولم أعلم ! فقال : لا بأس أحسنت وأبقيت فقال الرجل : بأبي وأمي يا نبي الله ، احكم في أهلي ومالك بما أراك الله أو أخيرك فأخلي سبيلك ، فقال : أحب أن تخلي سبيلي ، فأعبد ربي ، فخلى سبيله فقال الخضر : الحمد لله الذي أوقعني في العبودية ثم نجاني منها "
وهذا الحديث رفعه خطأ والأشبه أن يكون موقوفاً ، وفي رجاله من لا يعرف فالله أعلم
وقد رواه ابن الجوزي في كتابه عجالة المنتظر في شرح حال الخضر من طريق عبد الوهاب بن الضحاك ، وهو متروك عن بقية
وقد روى الحافظ ابن عساكر بإسناد إلى السدي : أن الخضر وإلياس كانا أخوين ، كان أبوهما ملكاً ، فقال إلياس لأبيه : إن أخي الخضر لا رغبة له في الملك ، فو أنك زوجته لعله يجىء منه ولد يكون الملك له ، فزوجه أبوه بامرأة حسناء بكر ، فقال لها الخضر : إنه لا حاجة لي في النساء ، فإن شئت أطلقت سراحك ، وإن شئت أقمت معي تعبدين الله عز وجل وتكتمين على سري فقالت : نعم ، وأقامت معه سنة
فلما مضت السنة دعاها الملك ، فقال : إنك شابة وابني شاب فأين الولد ؟ فقالت : إنما الولد من عند الله ، إن شاء كان وإن لم يشأ لم يكن ، فأمره أبوه فطلقها وزوجه بأخرى ثيباً قد ولد لها ، فلما زفت إليه قال لها كما قال للتي قبلها ، فأجابت إلى الإقامة عنده فلما مضت السنة سألها الملك عن الولد ، فقالت : إن ابنك لا حاجة له بالنساء ، فتطلبه أبوه فهرب ، فأرسل وراءه فلم يقدروا عليه ، فيقال إنه قتل المرأة الثانية لكونها أفشت سره ، فهرب من أجل ذلك ، وأطلق سراح الأخرى
فأقامت تعبد الله في بعض نواحي تلك المدينة ، فمر بها رجل يوماً فسمعته يقول : باسم الله فقالت له : أني لك هذا الاسم ؟ فقال : إني من أصحاب الخضر ، فتزوجته فولدت له أولاداً ثم صار من أمرها أن صارت ماشطة بنت فرعون ، فبينما هي يوماً تمشطها إذ وقع المشط من يدها فقالت : باسم الله ، فقال ابنة فرعون : أبي ؟ فقالت : لا ، ربي وربك ورب أبيك الله فأعلمت أباها فأمر بنقرة من نحاس فأحميت ، ثم أمر بها فألقيت فيها فلما عاينت ذلك تقاعست أن تقع فيها ، فقالت لها ابن معها صغير : يا أمه اصبري فإنك على الحق فألقت نفسها في النار فماتت ، رحمها الله
وقد روى ابن عساكر عن أبي داود الأعمى نفيع - وهو كذاب وضاع - عن أنس بن مالك ، ومن طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف - وهو كذاب أيضاً - عن أبيه عن جده : أن الخضر جاء ليلة فسمع النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو يدعو ويقول : " اللهم أعني على ما ينجيني مما خوفتني ، وارزقني شوق الصالحين إلى ما شوقتهم إليه " فبعث إلى رسول (الله صلى الله عليه وسلم) أنس بن مالك فسلم عليه فرد عليه السلام وقال له :" إن الله فضلك على الأنبياء كما فضل شهر رمضان على سائر الشهور ، وفضل أمتك على أمم كما فضل يوم الجمعة على غيره " الحديث
وهو مكذوب لا يصح سنداً ولا ممتناً ، فكيف لا يتمثل بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ويجيء بنفسه مسلماً ومتعلماً ؟!
وهم يذكرون في حيياتهم وما يسندونه عن بعض مشايخهم أن الخضر يأتي إليهم ويسلم عليهم ، ويتعرف أسماءهم ومنازلهم ومحالهم ، وهو مع هذا لا يعرف موسى بن عمران كليم الله ، الذي اصطفاه الله في ذلك الزمان على من سواه ، حتى يتعرف إليه بأنه موسى بني إسرائيل
وقد قال الحافظ أبو الحسن بن البيهقي قائلاً : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ ، أنبأنا أبو بكر بن بالويه ، حدثنا محمد بن بشر بن مطر ، حدثنا كامل بن طلحة ، حدثنا عباد بن عبد الصمد ، عن أنس بن مالك قال : لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أحدق به أصحابه ، فبكوا حوله واجتمعوا ، فدخل رجل أشهب اللحية جسيم صبيح فتخطى رقابهم فبكي ، ثم التفت إلى أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال : إن في الله عزاء من كل مصيبة ، وعوضاً من كل فائت ، وخلفاً من كل هالك ، فإلى الله فأنيبوا وإليه فارغبوا ، وقد نظر إليكم في البلاء فانظروا ، فإن المصاب من لم يجبر وانصرف
فقال بعضهم لبعض : أتعرفون الرجل ؟ فقال أبو بكر وعلي : نعم ، هو أخو رسول الله الخضر عليه السلام
وقد رواه أبو بكر بن أبى الدنيا عن كامل بن طلحة به وفي متنه مخالفة لسياق البيهقي
ثم قال البيهقي : عباد بن عبد الصمد ضعيف ، فهذا منكر بمرة قلت : عباد بن عبد الصمد هذا هو ابن معمر البصر ، روى عن أنس نسخة ، قال ابن حبان و العقيلي : أكثرها موضوع ، وقال البخاري : منكر الحديث ، وقال أبو حاتم : ضعيف الحديث جدا منكره ، وقال ابن عدي : عامة ما يرويه في فضائل علي ، وهو ضعيف غال في التشيع
وقال الشافعي في مسنده : أنبأنا القاسم بن عبد الله بن عمر ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده عن علي بن الحسين قال : لما توفي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وجاءت التعزية سمعوا قائلاً يقول : إن في الله عزاء من كل مصيبة ،و خلفاً من كل هالك ، ودركا من كل فائت ، فبالله فثقوا ،وإياه فارجعوا ، فإان المصاب من حرم الثواب قال علي بن الحسين أتدرون من هذا ؟ هذا الخضر
شيخ الشافعي القاسم العمري متروك قال أحمد بن حنبل و يحيى بن معين : يكذب زاد أحمد : ويضع الحديث ، ثم هو مرسل ومثله لا يعتد عليه هاهنا والله أعلم
وقد روى من وجه آخر ضعيف ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده ، عن أبيه عن علي ولا يصح
وقد روى عبد الله بن وهب عمن حدثه ، عن محمد بن عجلان ، عن محمد بن المنكدر: أن عمر بن الخطاب بينما هو يصلي على جنازة إذ سمع هاتفاً وهو يقول : لا تسبقنا يرحمك الله فانتظره حتي لحق بالصف فذكر دعاءه للميت : إن تعذبه فكثيراً عصاك ، وإن تغفر له ففقير إلى رحمتك ولما دفن قال : طوبى لك يا صاحب القبر إن لم تكن عريفاً أو جابياً أو خازناً أو كاتباً أو شرطياً فقال عمر : خذوا الرجل نسأله عن صلاته وكلامه عمن هو ؟ قال : فتوارى عنهم ، فنظروا فإذا أثر قدمه ذراع فقال عمر : هذا والله الخضر الذي حدثنا عنه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
وهذا الأثر فيه مبهم ، وفيه انقطاع ولا يصح مثله
وروى الحافظ ابن عساكر عن الثوري عن عبد الله بن المحرز ، عن يزيد بن الأصم ، عن علي بن أبي طالب قال : دخلت الطواف في بعض الليل ، فإذا أنا برجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول : يا من لا يمنعه سمع عن سمع ، ويا من تغلطه المسائل ، ويا من لا يبرمه إلحاح الملحين ولا مسألة السائلين ارزقني برد عفوك وحلاوة رحمتك قال : فقتل أعد علي ما قلت ، فقال لي : أو سمعته ؟ قلت : نعم فقال لي : والذي نفس الخضر بيده - قال : وكان هو الخضر- لا يقولها عبد خلف صلاة مكتوبة إلا غفر الله له ذنوبه ، ولو كانت مثل زبد البحر وورق الشجر وعدد النجوم ، لغفرها الله له
وهذا ضعيف من جهة عبد الله بن المحرز ، فإنه متروك الحديث ، ويزيد بن الأصم لم يدرك علياً ، ومثل هذا لا يصح والله أعلم
وقد رواه أبو إسماعيل الترمذي : حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا صالح بن أبي الأسود ، عن محفوظ بن عبد الله الحضرمي ، عن محمد بن يحيى قال : بينما علي بن أبي طالب يطوف بالكعبة ، إذا هو برجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول : يا من لا يشغله سمع عن سمع ، ويامن لا يغلطه السائلون ، ويامن لا يتبرم بإلحاح الملحين ارزقني برد عفوك وحلاة رحمتك قال : فقال له علي : عبد الله أعد دعاءك هذا ، قال : أوقد سمعته ؟ قال : نعم قال : فادع به في دبر كل صلاة ، فوالذي نفس الخضر بيده لو كان عليك من الذنوب عدد نجوم السماء ومطرها ، وحصباء الأرض وترابها ، لغفر لك أسرع من طرفة عين
وهذا أيضاً منقطع ، وفي إسناده من لا يعرف والله أعلم
وقد رواه ابن الجوزي من طريق أبي بكر بن أبي الدنيا : حدثنا يعقوب بن يوسف ، حدثنا مالك بن إسماعيل فذكره نحوه ثم قال : وهذا إسناد مجهول منقطع ، وليس فيه ما يدل على أن الرجل الخضر
وقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر : أنبأنا أبو القاسم بن الحصين أنبأنا أبو طالب محمد بن محمد ، أنبأنا أبو إسحاق المزكي ، حدثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة ، حدثنا محمد بن أحمد بن يزيد أملاه علينا بعبادان ، أنبأنا عمرو بن عاصم ، حدثنا الحسن بن رزين عن ابن جريج ، عن عطاء عن ابن عباس قال : - ولا أعلمه إلا مرفوعاً إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) - قال : يلتقي الخضر وإلياس كل الموسم فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه ، ويتفرقان عن هؤلاء الكلمات : باسم الله ما شاء الله ، لا يسوق الخير إلا الله ، ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله ، ما شاء الله ما كان من نعمة فمن الله ، ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا الله
قال وقال ابن عباس : من قالهن حين يصبح وحين يمسي ثلاث مرات ، آمنه الله من الغرق والحرق والسرق قال : وأحسبه قال ومن الشيطان والسلطان والحية والعقرب
قال الدارقطني في الأفراد : هذا حديث غريب من حديث ابن جريج لم يحدث به غير هذا الشيخ عنه يعني الحسن بن رزين هذا وقد روى عن محمد بن كثير العبدي أيضاً ، ومع هذا قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عدي ، ليس بالمعروف
وقال الحافظ أبو جعفر العقيلي : مجهول وحديثه غير محفوظ وقال أبو الحسن بن المنادي : هو حديث واه بالحسن بن رزين وقد روى ابن عساكر نحوه من طريق علي بن الحسن الجهضمي - وهو كذاب - عن ضمرة بن حبيب المقدسي ، عن أبيه ، عن العلاء بن زياد القشيري ، عن عبد الله بن الحسن ، عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب مرفوعاً قال : يجتمع كل يوم عرفة بعرفات - جبريل وميكائيل وإسرافيل والخضر وذكر حديثاً طويلاً موضوعاً تركنا إيراده قصداً والله الحمد
وروى ابن عساكر من طريق هشام بن خالد عن الحسن بن يحيى الخشني ، عن ابن رواد قال : إلياس والخضر يصومان شهر رمضان ببيت المقدس ، ويحجان في كل سنة ، ويشربان من ماء زمزم شربة واحدة تكفيهما إلى مثلها من قابل
وروى ابن عساكر : أو الوليد بن عبد الملك بن مروان - باني جامع دمشق - أحب أن يتعبد ليلة في المسجد ، فأمر القومة أن يخلوه له ففعلوا ، فلما كان من الليل جاء في باب الساعات فدخل الجامع ، فإذا رجل قائم يصلي فيما بينه وبين باب الخضراء ، فقال للقوم : ألم آمركم أن تخلوه ؟ فقالوا : يا أمير المؤمنين هذا الخضر يجيء كل ليلة يصلي هاهنا
قال ابن عساكر أيضاً : أنبأنا أبو القاسم بن إسماعيل بن أحمد ، أنبأنا أبو بكر بن الطبري ، أنبأنا أبو الحسين بن الفضل ، أنبأنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا يعقوب - هو ابن سفيان الفسوي - حدثني محمد بن عبد العزيز ، حدثنا ضمرة عن السرى بن يحيى ، عن رباح بن عبيدة ، قال : رأيت رجلاً يماشي عمر بن عبد العزيز معتمداً على يديه ، فقلت في نفسي : إن هذا الرجل حاف ، قال : فلما انصرف من الصلاة قلت : من الرجل الذي كان معتمداً على يدك آنفاً ؟ قال : وهل رأيته يا رباح ؟ قلت : نعم قال : ما أحسبك إلا رجلاً صالحاً ، ذا أخي الخضر بشرني أني سألى وأعدل
قال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي : الرملي مجروح عند العلماء وقد قدح أبو الحسن بن المنادي في ضمرة والسرى ورباح ثم أورد من طرق أخرى عن عمر بن عبد العزيز ، أنه اجتمع بالخضر ، وضعفهما كلها
وروى ابن عساكر أيضاً أنه اجتمع بإبراهيم التيمي وبسفيان بن عيينة وجماعة يطول ذكرهم
وهذه الروايات والحكايات هي عمدة من ذهب إلى حياته إلى اليوم وكل من الأحاديث المرفوعة ضعيفة جدا لا يقوم بمثلها حجة في الدين ، والحكايات لا يخلو أكثرها عن ضعف الإسناد ، وقصارها أنها صحيحة إلا من ليس بمعصوم من صاحبي أو غيره ، لأنه يجوز عليه الخطأ والله أعلم
وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر ، عن الزهري ، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، أن أبا سعيد قال : حدثنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حديثا طويلاً كان الدجال وقال فيما يحدثنا : " يأتي الدجال - وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة - فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس - أو من خيرهم - فيقول : أشهد أنك أنت الدجال الذي حدثنا عنك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بحديثه فيقول الدجال : أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته أتثسكون في الأمر ؟ فيقولون : لا ، فيقتله ثم يحييه ، فيقول حين يحيا : والله ما كنت أشد بصيرة فيك مني الآن قال : فيريد قتله الثانية فلا يسلط عليه "
قال معمر : بلغني أنه يحمل على تحقه صحيفة من نحاس ، وبلغني أنه الخضر الذي يقتله الدجال ثم يحييه وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري به
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه الراوي عن مسلم : الصحيح أن يقال إن هذا الرجل الخضر ، وقول معمر وغيره : بلغني ليس فيه حجة وقد ورد في بعض ألفاظ الحديث : فيأتي بشاب ممتلئ شباباً فيقتله ، وقوله الذي حدثنا عنه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يقتضي المشافهة ، بل يكفي التواتر
وقد تصدي الشيخ أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله في كتابه : عجالة المنتظر في شرح حالة الخضر للأحاديث الواردة في ذلك من المرفوعات فبين أنها موضوعة ، ومن الآثار عن الصحابة والتابعين فمن بعدهم فبين ضعف أسانيدهم ببيان أحوالهم وجهالة رجالها ، وقد أجاد في ذلك أحسن الانتقاد
وأما الذين ذهبوا إلى أنه قد مات ، ومنه البخاري وإبراهيم الحربي وأبو الحسن بن المنادي والشيخ أبو الفرج بن الجوزي ، وقد انتصر لذلك وألف فيه كتاباً أسماه عجالة المنتظر في شرح حالة الخضر فيحتج لهم بأشياء كثيرة : منها قوله : " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد " فالخضر إن كان بشراً فقد دخل في هذا العموم لا محالة ، ولا يجوز تخصيصه منه إلا بدليل صحيح ، والأصل عدمه حتى يثبت ، ولم يذكر فيه دليل على التخصيص عن معصوم يجب قبوله
ومنها أن الله تعالى قال : " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين
-
قال ابن عباس : ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق ، لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه ذكره البخاري عنه
فالخضر إن كان نبياً أو ولياً ، فقد دخل في هذا الميثاق ، فلو كان حياً في زمن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لكان أشرف أحواله أن يكون بين يديه ، يؤمن بما أنزل الله عليه ، وينصره أن يصل أحد من الأعداء إليه ، لأنه إن كان ولياً فالصديق أفضل منه ، وإن كان نبياً فموسى أفضل منه
وقد روى الإمام أحمد في مسنده : حدثنا شريح بن النعمان ، حدثنا هشيم ، أنبأنا مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال : والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني ، وهذا الذي يقطع به ويعلم من الدين علم الضرورة ، وقد دلت عليه هذه الأية الكريمة : أن الأنبياء كلهم لو فرض أنهم أحياء مكلفون في زمن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لكانوا كلهم أباعاً له ، وتحت أوامره وفي عموم شرعه كما أنه صلوات الله وسلامه عليه لما اجتمع بهم ليلة الإسراء رفع فوقهم كلهم ولما هبطوا معه إلى بيت المقدس وحانت الصلاة أمره جبريل عن أمر الله أن يؤمهم ، فصلى بهم في محل ولا يتهم ودار إقامتهم فدل على أنه الإمام الأعظم ، والرسول الخاتم المبجل المقدم ، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين
فإذا علم هذا - وهو معلوم عند كل مؤمن - علم أنه لو كان الخضر حياً لكان من جملة أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) ، وممن يقتدي بشرعه لا يسمعه إلا ذلك
هذا عيسى ابن مريم عليه السلام إذا نزل في آخر الزمان يحكم بهذه الشريعة المطهرة ، لا يخرج منها ولا يحيد عنها ، وهو أحد أولي العزم الخمسة المرسلين وخاتم أنبياء بني إسرائيل ، والمعلوم أن الخضر لم ينقل بسند صحيح ولا حسن تسكن النفس إليه ، أنه اجتمع برسول الله (صلى الله عليه وسلم) في يوم واحد ، ولم يشهد معه قتالا في مشهد من المشاهد
وهذا يوم بدر يقول الصادق المصدوق فيما دعا به لربه عز وجل ، واستنصره واستفتحه على من كفره : " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض " وتلك العصابة كان تحتها سادة المسلمين يومئذ ، وسادة الملائكة حتى جبريل عليه السلام ، كما قال حسان بن ثابت في قصيدة له ، في بيت يقال إنه أفخر بيت قالته العرب
وببئر بدر إذ برد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد
فلو كان الخضر حياً ، لكان وقوفه تحت هذه الراية أشرف مقاماته وأعظم غزواته
قال القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراد الحنبلي : سئل بعض أصحابنا عن الخضر : هل مات ؟ فقال : نعم قال : وبلغني مثل هذا عن أبي طاهر بن الغباري قال : وكان يحتج بأنه لو كان حياً لجاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
نقله ابن الجوزي في العجالة
فإن قيل : فهل يقال إنه كان حاضراً في هذه المواطن كلها ولكن لم يكن أحد يراه ؟ فالجواب : أن الأصل عدم هذا الاحتمال البعيد الذي يلزم منه تخصيص العموميات بمجرد التوهمات ثم ما الحامل له على هذا الاختفاء ؟ وظهوره أعظم لأجره وأعلى في مرتبته وأظهر لمعجزته ؟ ثم لو كان باقياً بعده ، لكان تبليغه عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الأحاديث النبوية والآيات القرآنية ، وإنكاره لما وقع من الأحاديث المكذوبة ، والروايات المقلوبة والآراء البدعية والأهواء العصبية ، وقتاله مع المسلمين في غزواتهم وشهود جمعهم وجماعاتهم ، ونفعه إياهم ودفعه الضرر عنهم ممن سواهم ، وتسديده العلماء والحكام ، وتقريره الأدلة والأحكام ، أفضل مما يقال عنه من كنونه في الأمصار ، وجوبه الفيافي والأقطار واجتماعه بعباد لا يعرف أحوال كثير منهم ، وجعله لهم كالنقيب المترجم عنهم وهذا الذي ذكرناه لا يتوقف فيه أحد بعد التفهيم ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن عمر : أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلى ليلة العشاء ثم قال : " أرأيتم ليلتكم هذه ؟ فإنه إلى مائة سنة لا يبقى ممن هو على وجه الأرض اليوم أحد " وفي رواية " عين تطرف " قال ابن عمر : فوهل الناس من مقالة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هذه ، أراد نخرام قرنه
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن الزهري قال : أخبرني سالم بن عبد الله وأبو بكر بن سلمان بن أبي خيثمة ، أن عبد الله بن عمر قال : صلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته ، فلما سلم قام فقال :" أرأيتم ليلتكم هذه ؟ فإن على رأس مائة سنة لا يبقى ممن على ظهر الأرض أحد " ؟ وأخرجه البخاري و مسلم من حديث الزهري
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن سليمان التيمي ، عن أبي نضرة ، عن جابر ابن عبد الله قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قبل موته بقليل أو بشهر :" ما من نفس منفوسة - أو ما منكم من نفس اليوم منفوسة - يأتي عليها مائة سنة وهي يومئذ حية "
وقال أحمد: حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لهيعة ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال قبل أن يموت بشهر : " يسألونني عن الساعة وإنما علمها عند الله ، أقسم بالله ما على الأرض نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مائة سنة "
وهكذا رواه مسلم من طريق أبي نضرة وأبي الزبير : كل منهما عن جابر بن عبد الله به نحوه
وقال الترمذي : حدثنا عباد ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش عن أبي سفيان ، عن جابر قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " ما على الأرض من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة "
وهذا أيضاً على شرط مسلم
قال ابن الجوزي: فهذه الأحاديث الصحاح تقطع دابر دعوى حياة الخضر
قالوا : فالخضر إن لم يكن قد أدرك زمان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما هو المظنون الذي يترقى في القوة إلى القطع ، فلا إشكال ، وإن كان قد أدرك زمانه ، فهذا الحديث يقتضي أنه لم يعش بعد مائة سنة ، فيكون الآن مفقوداً لا موجوداً ، لأنه داخل في هذا العموم والأصل عدم المخصص له حتى يثبت بدليل صحيح يجب قبوله والله أعلم
وقد حكى الحافظ أبو القاسم السهيلي في كتابه التعريف والأعلام عن البخاري وشيخه أبي بكر العربي : أنه أدرك حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) ولكن مات بعده لهذا الحديث
وفي كون البخاري رحمه الله يقول بهذا وأنه بقي إلى زمان النبي (صلى الله عليه وسلم) نظر
ورجح السهيلي بقاءه ، وحكاه عن الأكثرين
قال : وأما اجتماعه مع النبي (صلى الله عليه وسلم) وتعزيته لأهل البيت بعده فمروي من طرق صحاح ، ثم ذكر ما تقدم مما ضعفناه ، ولم يورد أسانيدها والله أعلم
-
قصة إلياس عليه السلام
قال الله تعالى بعد قصة موسى وهارون من سورة الصافات :" وإن إلياس لمن المرسلين * إذ قال لقومه ألا تتقون * أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين * الله ربكم ورب آبائكم الأولين * فكذبوه فإنهم لمحضرون * إلا عباد الله المخلصين * وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إل ياسين * إنا كذلك نجزي المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين "
قال علماء النسب هو : إلياس النشبي ، ويقال : ابن ياسين ابن فنحاص بن العيزار بن هارون وقيل : إلياس بن العازر بن العيزار ابن هارون بن عمران
قالوا وكان إرساله إلى أهل بعلبك غربي دمشق ، فدعاهم إلى الله عز وجل وأن يتركوا عبادة صنم لهم كانوا يسمونه بعلا وقيل كانت امرأة اسمها بعل والله أعلم
والأول أصح ولهذا قال لهم :" ألا تتقون * أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين * الله ربكم ورب آبائكم الأولين "
فكذبوا وخالفوه وأرادوا قتله فيقال : إنه هرب منهم واختفي عنهم ، قال أبو يعقوب الأذرعي ، عن يزيد بن عبد الصمد ، عن هشام بن عمار قال : وسمعت من يذكر عن كعب الأحبار أنه قال : إن إلياس اختفى من ملك قومه في الغار الذي تحت الدم عمثر سنين ، حتى أهلك الله الملك وولى غيره ، فأتاه إلياس فعرض عليه الإسلام ، وأسلم من قومه خلق عظيم غير عشرة آلاف منهم ، فأمر بهم فقتلوا عن آخرهم
وقال ابن أبي الدنيا : حدثني أبو محمد القاسم بن هشام ، حدثنا عمر بن سعيد الدمشقي ، حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن بعض مشيخة دمشق قال : أقام إلياس عليه السلام هارباً من قومه في كهف جبل عشرين ليلة - أو قال أربعين ليلة - تأتيه الغربان برزقه
وقال محمد بن سعد كاتب الواقدي : أنبأنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي ، عن أبيه قال : أول نبي بعث إدريس ، ثم نوح ثم إبراهيم ، ثم إسماعيل وإسحاق ، ثم يعقوب ثم يوسف ثم لوط ثم هود ثم صالح ثم شعيب ، ثم موسى وهارون ابنا عمران ، ثم إلياس النشبي بن العازر بن هارون ابن عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام
هكذا قال : وفي هذا الترتيب نظر
وقال مكحول عن كعب : أربعة أنبياء أحياء : اثنان في الأرض إلياس والخضر ، واثنان في السماء : إدريس وعيسى عليهم السلام
وقد قدمنا قوك من ذكر أن إلياس والخضر يجتمعان في كل عام في شهر رمضان ببيت المقدس ، وأنهما يحجان كل سنة ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى مثلها من العام المقبل وأوردنا الحديث الذي فيه أنهما يجتمعان بعرفات كل سنة
وبينا أنه لم يصح شيء من ذلك ، وأن الذي يقوم عليه الدليل : أن الخضر مات ، وكذلك إلياس عليهما السلام
وما ذكره وهب بن منبه وغيره : أنه لما دعا ربه عز وجل أن يقبضه إليه لما كذبوه وآذوه ، فجاءته دابة لونها لون النار فركبها ، وجعل الله له ريشاً وألبسه النور ، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وصار ملكياً بشرياً سماوياً أرضياً ، وأوصى إلى اليسع بن أخطوب ، ففي هذا نظر وهو من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب ، بل الظاهر أن صحتها بعيدة والله أعلم
فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثني أبو العباس أحمد بن سعيد المعداني البخاري ، حدثنا عبد الله بن محمود : حدثنا عبدان بن سنان ، حدثني أحمد بن عبد الله البرقي ، حدثنا يزيد بن يزيد البلوي ، حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، عن الأوزاعي ، عن مكحول ، عن أنس بن مالك قال : كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في سفر ، فنزلنا منزلاً فإذا رجل في الوادي يقول : اللهم اجعلني من أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) المرحومة المغفورة المتاب لها قال : فأشرفت على الوادي فإذا رجل طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع ، فقال لي : من أنت ؟ فقلت : أنس بن مالك خادم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قال : فأين هو ؟ قلت : هو ذا يسمع كلامك ، قال : فأته فأقرئه مني السلام ، وقل له : أخوك إلياس يقرئك السلام قال : فأتيت النبي (صلى الله عليه وسلم) فأخبرته ، فجاء حتى لقيه فعانقه وسلم ، ثم قعدا يتحادثان فقال له : يا رسول الله إني ما آكل في السنة إلا يوماً ، وهذا يوم فطري فآكل أنا وأنت قال : فنزلت عليهما مائدة من السماء ، عليها خبز وحوت وكرفس ، فأكلا وأطعماني وصلينا العصر ، ثم وعده ورأيه مرة في السحاب نحو السماء
فقد كفانا البيهقي أمره ، وقال : هذا حديث ضعيف بمرة
والعجب أن الحاكم أبا عبد الله النيسابوري أخرجه في مستدركه على الصحيحين ، وهذا مما يستدرك به على المستدرك : فإنه حديث موضوع مخالف للأحاديث الصحاح من وجوه ومعناه لا يصح أيضاً فقد تقدم في الصحيحن أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال :" إن الله خلق آدم طوله ستون ذراعاً في السماء - إلى أن قال - : ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن "
وفيه أنه لم يأت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى كان هو الذي ذهب إليه ، وهذا لا يصح ، لأنه كان أحق بالسعي إلى بين يدي خاتم الأنبياء وفيه أنه يأكل في السنة مرة ، وقد تقدم عن وهب أنه سلبه الله لذة المطعم والمشرب ، وفيما تقدم عن بعضهم : أنه يشرب من زمزم كل سنة شربة تكفيه إلى مثلها من الحول الآخر
وهذه أشياء متعارضة وكلها باطلة لا يصح شيء منها
وقد ساق ابن عساكر هذا الحديث من طريق أخرى واعترف بضعفها وهذا عجب منه ، كيف تكلم عليه ؟ فإنه أورده من طريق حسين بن عرفة ، عن هانئ بن الحسن ، عن بقية ، عن الأوزاعي ، عن مكحول ، عن واثلة ، عن ابن الأسقع ، فذكر نحو هذا مطولاً وفيه أن ذلك كان في غزوة تبوك ، وأنه بعث إليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنس بن مالك وحذيفة بن اليمان ، قالا : فإذا هو أعلى جسماً منا بذراعين أو ثلاثة ، واعتذر بعدم قدرته لئلا تنفر الإبل ، وفيه أنه لما اجتمع به رسول الهل (صلى الله عليه وسلم) أكلا من طعام الجنة ، وقال : إن لي في كل أربعين يوماً أكلة ، وفي المائدة خبز من عنب وموز ورطب وبقل ، ما عدا الكراث وفيه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سأله عن الخضر فقال : عهدي به عام أول ، وقال لي : إنك ستلقاه قلي فأقرئه مني السلام
وهذا يدل على أن الخضر وإلياس ، بتقدير وجودهما وصحة هذا الحديث لم يجتمعا به إلى سنة تسع من الهجرة ، وهذا لا يسوغ شرعاً وهذا موضوع أيضاً
وقد أورد ابن عساكر طرقاً فيمن اجتمع بإلياس من العباد ، وكلها لا يفرح بها ، لضعف إسنادها أو لجهالة المسند إليه فيها ، ومن أحسنها ما قاله أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثني بشر ابن معاذ : حدثنا حماد بن واقد ، عن ثابت قال : كنا مع مصعب بن الزبير بسواد الكوفة ، فدخلت حائطاً أصلي فيه ركعتين فافتتحت :" حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول " فإذا رجل من خلفي على بغلة شهباء ، عليه مقطعات يمنية فقال لي : إذا قلت :" غافر الذنب " فقل : يا غافر الذنب اغفر لي ذنبي ، وإذا قلت :" قابل التوب " فقل : يا قابل التوب تقبل توبتي ، وإذا قلت : " شديد العقاب " فقل : يا شديد العقاب لا تعاقبني ، وإذا قلت :" ذي الطول " فقل : يا ذا الطول تطول على برحمة ، فالتفت فإذا لا أحد وخرجت فسألت : مر بكم رجل على بغلة شهباء عليه مقطعات يمنية ؟ فقالوا : ما مر بنا أحد فكانوا لا يرون إلا أنه إلياس
وقوله تعالى :" فكذبوه فإنهم لمحضرون " أي للعذاب ، أما في الدنيا والآخرة ، أو في الآخرة والأول أظهر على ما ذكره المفسرون والمؤرخون وقوله :" إلا عباد الله المخلصين " أي إلى من آمن منهم وقوله :" وتركنا عليه في الآخرين " أي أبقينا بعده ذكراً حسناً له في العالمين فلا يذكر إلا بخير ، ولهذا قال :" سلام على إل ياسين " أي سلام على إلياس والعرب تحلق النون في أسماء كثيرة وتبدلها من غيرها كما قالوا : إسماعيل وإسماعين ، وإسرائيل وإسرائين ، وإلياس وإلياسين ، وقد قرئ : سلام على آل ياسين ، أي على آل محمد ، وقرأ ابن مسعود وغيره : سلام على إدراسين ، ونقل عنه من طريق إسحاق عن عبيدة بن ربيعة عن ابن مسعود أنه قال : إلياس هو إدريس وإليه ذهب الضحاك بن مزاحم ، وحكاه قتادة ومحمد بن إسحاق والصحيح أنه غيره كما تقدم والله أعلم
-
باب ذكر جماعة من أنبياء بني إسرائيل
بعد موسى عليه السلام
ثم نتبعهم بذكر داود وسليمان عليهما السلام
قال ابن جرير في تاريخه : لا خلاف بين أهل العلم بأخبار الماضين وأمور السالفين من أمتنا وغيرهم أن القائم بأمور بني إسرائيل بعد يوشع : كالب بو يوفنا ، يعني أحد أصحاب موسى عليه السلام وهو زوج اخته مريم ، وهو أحد الرجلين اللذين ممن يخافون الله ، وهما يوشع وكالب ، وهما القائلان لبني إسرائيل حين نكلوا عن الجهاد :" ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين "
قال ابن جرير : ثم من بعده كان القائم بأمور بني إسرائيل حزقيل ابن بوذي وهو الذي دعا الله فأحيا الذين أخرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت
-
قصة حزقيل
قال الله تعالى :" ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون "
قال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه : إن كالب بن يوفنا لما قبضه الله إليه بعد يوشع خلف في بني إسرائيل حزقيل بن بوذي ، وهو ابن العجوز ، وهو الذي دعا للقوم الذين ذكرهم الله في كتابه فيما بلغنا
" ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " قال ابن إسحاق : فروا من الوباء فنزلوا بصعيد من الأرض فقال لهم الله : موتوا ، فماتوا جميعاً فحظروا عليهم حظيرة دون السباع ، فمضت عليهم دهور طويلة فمر بهم حزقيل عليه السلام فوقف عليهم متفكراً فقيل له : أتحب أن يبعثهم الله وأنت تنظر ؟ فقال : نعم فأمر أن يدعوا تلك العظام أن تكتسي لحماً وأن يتصل العصب بعضه ببعض فناداهم عن أمر الله له وبذلك ، فقال القوم أجمعون وكبروا تكبيرة رجل واحد
وقال أسباط عن السدي عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من الصحابة في قوله :" ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم " قالوا : كانت قرية يقال لها داوردان قبل واسط وقع بها الطاعون ، فهرب عامة أهلها فنزلوا ناحية منها فهلك من بقي في القرية وسلم الآخرون فلم يمت منهم كثير ، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين فقال الذين بقوا : أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منا لو صنعنا كما صنعوا بقينا ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن معهم ، فوقع في قابل ، فهربوا وهم بضعة وثلاثون ألفاً حتى نزلوا ذلك المكان وهو واد أفيح ، فناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه : أن موتوا فماتوا حتى إذا هلكوا وبقيت أجسادهم مر بهم نبي يقال له حزقيل ، فلما رآهم وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم ويلوي شدقيه وأصابعه ، فأوحى الله إليه ، تريد أن أريك كيف أحييهم ؟ قال : نعم ، وإنما كان تفكيره أنه تعجب من قدرة الله عليهم ، فقيل له : ناد ، فنادي : يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض ، حتى كانت أجساداً من عظام ، ثم أوحى الله إليه أن ناد : يا أيتها العظام عن الله يأمرك أن تكتسي لحماً ، فاكتست لحماً ودماً وثيابها التي ماتت فيها ثم قيل له : ناد فنادى : يا أيتها الأجساد إن الله يأمرك أن تقومي فقاموا
قال أسباط : فزعم منصور عن مجاهد أنهم قالوا حين أحيوا : سبحانك الله وبحمدك لا إله إلا أنت فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى ، سحنة الموت على وجوههم لا يلبسون ثوباً إلا عدا رسماً ، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم
وعن ابن عباس أنهم كانوا أربعة آلاف ، وعنه ثمانية آلاف ، وعن أبي صالح تسعة آلاف ، وعن ابن عباس أيضاً كانوا أربعين ألفاً ، وعن سعيد بن عبد العزيز كانوا من أهل أذرعات
وقال ابن جريج عن عطاء : هذا مثل يعني أنه سيق مثلاً مبيناً أنه لن يغني حذر من قدر وقول الجمهور أقوى من هذا وقع
وقد روى الإمام أحمد وصاحبا الصحيح من طريق الزهري عن عبد الحميد بن عبد الرحمن ابن زيد بن الخطاب ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن عبد الله بن عباس ، أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء وقع بالشام فذكر الحديث يعني في مشاورته المهاجرين والأنصار فاختلفوا عليه ، فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيباً ببعض حاجته فقال : إن عندي من هذا علماً سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول " إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه " فحمد الله عمر ثم انصرف
وقال الإمام : حدثنا حجاك ويزيد المفتي قالا : حدثنا ابن أبي ذؤيب عن الزهري ، عن سالم ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة ، أن عبد الرحمن بن عوف أخبر عمر وهو في الشام عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أن هذا السقم عذب به الأمم قبلكم ، فإذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه قال : فرجع عمر من الشام
وأخرجاه من حديث مالك عن الزهري بنحوه
قال محمد بن إسحاق : ولم يذكر لنا مدة لبث حزقيل في بني إسرائيل ثم إن الله قبضه إليه ، فلما قبض نسي بنو إسرائيل عهد الله إليهم وعظمت فيهم الأحداث وعدوا الأوثان وكان في جملة ما يعبدونه من الأصنام صنم يقال له بعل فبعث الله إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران
قلت : وقد قدمنا قصة إلياس تبعاً لقصة الخضر لأنهما يقرنان في الذكر غالباً ، ولأجل أنها بعد قصة موسى في سورة الصافات فتعجلنا قصته لذلك والله أعلم
قال محمد بن إسحاق فيما ذكر له عن وهب بن منبه قال : ثم تنبأ فيهم بعد إلياس وصيه اليسع بن أخطوب عليه السلام
-
قصة اليسع عليه السلام
وقد ذكره الله تعالى مع الأنبياء في سووة الأنعام في قوله :" وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين " وقال تعالى في سورة صلى الله عليه وسلم :" واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار " قال ابن إسحاق : حدثنا بشر أبو حذيفة ، أنبأنا سعيد ، عن قتادة عن الحسن ، قال : كان بعد إلياس اليسع عليهما السلام ، فمكث ما شاء الله أن يمكث يدعوهم إلى الله مستمسكاً بمنهاج الياس وشريعته حتى قبضه الله عز وجل إليه ، ثم خلف فيهم الخلوف وعظمت فيهم الأحداث والخطايا وكثرت الجبابرة وقتلوا الأنبياء ، وكان فيهم ملك عنيد طاغ ، ويقال إنه الذي تكفل له ذو الكفل إن هو تاب ورجع دخل الجنة فسمي ذا الكفل
قال محمد بن إسحاق : هو اليسع بن أخطوب
وقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر في حرف الياء من تاريخه : اليسع وهو الأسباط بن عدي بن شوتلم بن أفراثيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل ويقال هو ابن عم إلياس النبي عليهما السلام ، ويقال كان مستخفياً معه بجبل قاسيون من ملك بعلبك ثم ذهب معه إليها فلما رفع إلياس خلفه اليسع في قومه ونبأه الله بعده
ذكر ذلك عبد المنعم بن إدريس بن سنان عن أبيه ، عن وهب ابن منبه ، قال وقال غيره : وكان الأسباط ببانياش
ثم ذكر ابن عساكر قراءة من قرأ اليسع بالتخفيف والتشديد ومن قرأ والليسع وهو اسم واحد لنبي من الأنبياء
قلت : قد قدمنا قصة ذا الكفل بعد قصة أيوب عليه السلام لأنه قد قيل إنه ابن أيوب فالله تعالى أعلم
فصل :
قال ابن جرير وغيره : ثم مرج أمر نبي إسرائيل وعظمت منهم الخطوب والخطايا وقتلوا من قتلوا من الأنبياء ، وسلط الله عليهم بدل الأنبياء ملوكاً جبارين يظلمونهم ويسفكون دماءهم ، وسلط الله عليهم الأعداء من غيرهم أيضاً ، وكانوا إذا قاتلوا أحداً من الأعداء يكون معهم تابوت الميثاق الذي كان فيه قبة الزمان ، كما تقدم ذكره ، فكانوا ينصرون ببركته وبما جعل الله فيه من السكينة والبقية مما ترك آل موسى وآل هارون
فلما كان في بعض حروبهم من أهل غزة وعسقلان غلبوهم وقهوروهم على أخذه فانتزعوه من أيديهم ، فلما علم بذلك ملك بني إسرائيل في ذلك الزمان مالت عنقه فمات كمداً
وبقي بنو إسرائيل كالغنم بلا راع حتى بعث الله فيهم نبياً من الأنبياء يقال له شمويل ، فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكاً ليقاتلوا معه الأعداء ، فكان من أمرهم ما سنذكره مما قص الله في كتابه
قال ابن جرير : فكان من وفاة يوشع بن نون إلى أن بعث الله عز وجل شمويل بن بالي أربعمائة سنة وستون سنة ، ثم ذكر تفصيلها بمدد الملوك الذي ملكوا عليهم وسماهم واحداً واحداً تركنا ذكرهم قصداً
-
قصة شمويل عليه السلام وفيها بدء أمر داود عليه السلام
هو ثمويل - ويقال أشمويل - بن بالي بن علقمة بن يرخام بن اليهو ابن تهو بن صوف بن علقمة بن ماحث بن عموصاً بن عزريا
قال مقاتل : وهو من ورثة هارون وقال مجاهد : هو أشمويل ابن هلفاقا ، ولم يرفع في نسبة أكثر من هذا والله أعام
حكى السدي بإسناده عن ابن عباس وابن مسعود وأناس ، من الصحابة والثعلبي وغيرهم : أنه لما غلبت العمالقة من أرض غزة وعسقلان على بني إسرائيل ، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً وسبوا من أبنائم جمعاً كثيراً وانقطعت النبوة من بسط لاوى ولم يبق فيم إلا امرأة حبلى ، فجعلت تدعو الله عز وجل أن يرزقها ولداً ذكراً ، فولدت غلاماً فسمته أشمويل ، ومعناه بالعبرانية إسماعيل ، أي سمع الله دعائي
فلما ترعرع بعثته إلى المسجد وأسلمته عند رجل صالح يكون عنده ليتعلم من خيره وعبادته فكان عنده فلما بلغ أشده بينها هو ذات ليلة نائم إذأ صوت يأتيه من ناحية المسجد فانتبه مذعوراً ، فظنه الشيخ يدعوه فسأله : أدعوتني ؟ فكره أن يفزعه فقال : نعم نم فنام
ثم ناداه الثانية فكذلك ثم الثالثة فإذا جبريل يدعوه ، فجاءه فقال : إن ربك قد بعثك إلى قومك فكان من أمره معهم ما قص الله في كتابه
قال الله تعالى في كتابه العزيز :" ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين * وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم * وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين * فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين * ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين "
قال أكثر المفسدين : كان نبي هؤلاء القوم المذكورين في هذه القصة هو شمويل وقيل شمعون وقيل هما واحد وقيل يوشع ، وهذا بعيد لما ذكره الإمام أبو جعفر بن جرير في تاريخه : أن بين موت يوشع وبعثه شمويل أربعمائة سنة وستين سنة فالله أعلم
والمقصود أن هؤلاء القوم لما أنهكتهم الحروب وقهرهم الأعداء سألوا نبي الله في ذلك الزمان وطلبوا منه أن ينصب لهم ملكاً يكونون تحت طاعته ليقاتلوا من ورائه ومعه وبين يديه الأعداء فقال لهم :" هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله " أي وأي شيء يمنعنا من القتال " وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا " ويقولون نحن محروبون موتورون ، فحقيق لنا أن نقاتل عن أبنائنا المنهورين المستضعفين فيهم المأسورين في قبضتهم
قال تعالى :" فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين " كما ذكر في آخر القصة أنه لم يجاوز النهر مع الملك إلا القليل الباقون رجعوا ونكلوا عن القتال
" وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا " قال الثعلبي : وهو طالوت بن قيش ابن أفيل بن صارو بن تحورت بن أفيح بن أنيس بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل
قال عكرمة والسدي : كان سقاء ! وقال وهب بن منبه : كان دباغاً وقيل غير ذلك والله أعلم
ولهذا " قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال " ولقد ذكروا أن النبوة كانت في سبط لاوى وأن الملك كان في سبط يهوذا ، فلما كان هذا من سبط بنيامين نفروا منه وطعنوا في إمارته عليهم وقالوا نحن أحق بالملك منه وقد ذكروا أنه فقير لا سعة من المال معه فكيف يكون مثل هذا ملكاً
" قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم " قيل : كان الله قد أوحى إلى شمويل أن بني إسرائيل كان طوله على طول هذه العصا إذا حضر عندك يفوز هذا القرن الذي فيه من دهن القدس فهو ملكهم فجعلوا يدخلون ويقيسون أنفسهم بتلك العصا فلم يكن أحد منهم على طولها سوى طالوت ولما حضر عند شمويل فاز ذلك القرن فدهنه منه وعينه للملك عليهم وقال لهم :" إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم " قيل في أمر الحروب وقيل بل مطلقاً " والجسم " قيل الطول وقيل الجمال ، والظاهر من السياق أنه كان أجملهم وأعلمهم بعد نبيهم عليه السلام " والله يؤتي ملكه من يشاء " فله الحكم وله الخلق والأمر " والله واسع عليم "
" وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين " وهذا أيضاً من بركة ولاية هذا الرجل الصالح عليهم ويمنه عليهم أن يرد الله عليهم التابوت الذي كان سلب منهم ، وفهرهم الأعداء عليه ، وقد كانوا ينصرون على أعدائهم بسببه " فيه سكينة من ربكم " قيل طست من ذهب كان يغسل فيه صدور الأنبياء ، وقيل السكينة مثل الريح الخجوج وقيل صورتها مثل الهرة إذا صرخت في حال الحرب أيقن بنو إسرائيل بالنصر " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " قيل كان فيه رضاض الألوح وشيء من المن الذي كان نزل عليهم بالتيه " تحمله الملائكة " أي تأتيكم به الملائكة يحملونه وأنتم ترون ذلك عياناً ليكون آية لله عليكم وحجة باهرة على صدق ما أقوله لكم وعلى صحة ولاية هذا الملك الصالح عليكم ولهذا قال :" إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين وقيل : إنه لما غلب العمالقة على هذا التابوت وكان فيه ما ذكر من السكينة والبقية المباركة وقيل كان فيه التوراة أيضاً فلما استقر في أيديهم وضعوه تحت صنم لهم بأرضهم فلما أصبحوا إذا التابوت على رأس الصنم فوضعوه تحته فلما كان البوم الثاني إذا التابوت فوق الصنم ، فلما تكرر هذا علموا أن هذا أمر من الله تعالى فأخرجوه من بلدهم وجعلوه في قرية من قراهم ، فأخذهم داء في رقابهم فلما طال عليهم هذا جعلوه في عجلة وربطوها في بقرتين وأرسلوهما ، فيقال إن الملائكة ساقتها حتى جاءوا بهما ملأ بني إسرائيل وهم ينظرون كما أخبرهم النبي بذلك ، فالله أعلم على أي صفة جاءت به الملائكة ، والظاهر أن الملائكة كانت تحمله بأنفسهم كما هو المفهوم من الآية والله أعلم ، وإن كان الأول قد ذكره كثير من المفسرين أو أكثرهم
" فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده "
قال ابن عباس وكثير من المفسرين : هذا النهر هو نهر الأردن ، وهو المسمى بالشريعة فكان من أمر طالوت بجنوده عند هذا النهر عن أمر نبي الله له ، عن أمر الله له اختباراً وامتحاناً : أن من شرب من هذا النهر فلا يصحبني في هذه الغزوة ، ولا يصحبني إلا من لم يطعمه إلا غرفة بيده
قال الله تعالى :" فشربوا منه إلا قليلا منهم "
قال السدي : كان الجيش ثمانين ألفاً فشرب منه ستة وسبعون ألفاً ، فبقي معه أربعة آلاف كذا قال
وقد روى البخاري في صحيحه من حديث إسرائيل وزهير والثوري ، عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال : كنا أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) نتحدث أن عدة أصحاب بدر عدة أصحاب طالت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوز معه إلا بضعة عشر وثلاثمائة مؤمن وقول السدي إن عدة الجيش كانوا ثمانين ألفاً فيه نظر ، لأن أرض بيت المقدس لا تحتمل أن يجتمع فيها جيش مقاتله يبلغون ثمانين ألفاً والله أعلم
قال الله تعالى :" فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " أي استقلوا أنفسهم واستضعفوها عن مقاومة أعدائهم بالنسبة إلى قلتهم وكثرة عدد عدوهم " قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين " يعني ثبتهم الشجعان منهم والفرسان أهل الإيمان والإيقان الصابرون على الجلاد والجدال والطعان
" ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين " طلبوا من الله أن يفرغ عليهم الصبر أي يغمرهم به من فوقهم فتستقر قلوبهم ولا تقلق ، وأن يثبت أقدامهم في مجال الحرب ومعترك الأبطال وحومة الوغي والدعاء إلى النزال فسألوا التثبيت الظاهر والباطن وأن ينزل عليهم النصر على أعدائهم وأعدائه من الكافرين الجاحدين بآياته وآلائه ، فأجابهم العظيم القدير السميع البصير الحكيم الخبير إلى ما سألوا وأنالهم ما إليهم فيه رغبوا
ولهذا قال :" فهزموهم بإذن الله " أي بحول الله وقوته لا بحولهم ، وبقوة الله ونصره لا بقوتهم وعددهم ، مع كثرة أعدائهم وكمال عددهم ، كما قال الله تعالى :" ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون "
وقوله تعالى :" وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء " فيه دلالة على شجاعة داود عليه السلام وأنه قتله قتلاً أذل به جنده وكسر جيشه ، ولا أعظم من غزوة يقتل فيها ملك عدوه فيغنم بسبب ذلك الأموال الجزيلة ويأسر الأبطال والشجعان والأقران ، وتعلو كلمة الإيمان على الأوثان ويدال لأولياء الله على أعدائه ، ويظهر الدين الحق على الباطل وأوليائه
وقد ذكر السدي فيما يرويه أن داود عليه السلام كان أصغر أولاد أبيه وكانوا ثلاثة عشر ذكراً ، كان سمع طالوت مالك بني إسرائيل وهو يحرض بني إسرائيل على قتل جالوت وجنوده وهو يقول : من قتل جالوت زوجته بابنتي وأشركته في ملكي ، وكان داود عليه السلام يرمي بالقذافة وهو المقلاع رمياً عظيماً ، فبينما هو سائر مع بني إسرائيل إذ ناداه حجر أن خذني فإن بي تقتل جالوت فأخذه ثم حجر آخر كذلك ثم آخر كذلك ، فأخذ الثلاثة في خلاته فلما تواجه الصفان برز جالوت ودعا إلى نفسه فتقدم إليه داود فقال له : ارجع فإني أكره قتلك فقال : لكني أحب قتلك وأخذ تلك الأحجار الثلاثة فوضعهما في القذافة ثم أدارها فصارت الثلاثة حجراً واحداً ثم رمى بها جالوت ففلق رأسه وفر جيشه مهزوماً ، فوفى له طالوت بما وعده فزوجه ابنته وأجرى حكمه في ملكه وعظم داود عليه السلام عند بني إسرائيل وأحبوه ومالوا إليه أكثر من طالوت ، فذكروا أن طالوت حسده وأراد قتله واحتال على ذلك بنو إسرائيل وأحبوه ومالوا إليه أكثر من طالوت ، فذكروا أن طالوت حسده وأراد قتله واحتال على ذلك ولم يصل إليه ، وجعل العلماء ينهون طالوت عن قتل داود فتسلط عليهم فقتلهم حتى لم يبق منهم إلا القليل ، ثم حصل له تابوت وندم وإقلاع عما سلف منه ، وجعل يكثر من البكاء ويخرج إلى الجبانة فيبكي حتى يبل الثرى بدموعه فنودي ذات يوم من الجبانة : أن يا طالوت قتلتنا ونحن أحياء وآذيتنا ونحن أموات فازداد لذلك بكاؤه وخوفه واشتد وجله ثم جعل يسأل عن عالم يسأل عن أمره وهل له من توبة ، فقيل له : وهل أبقيت عالماً ؟! حتى دل على امرأة من العابدات فأخذته فذهبت به إلى قبر يوشع عليه السلام قالوا : فدعت الله فقام يوشع من قبره فقال : أقامت القيامة ؟ فقالت : لا ، ولكن هذا طالوت يسألك : هل له من توبة ؟ فقال : نعم ينخلع من الملك ويذهب فيقاتل في سبيل الله حتى يقتل ثم عاد ميتاً
فترك الملك لداود عليه السلام وذهب ومعه ثلاثة عشر من أولاده فقاتلوا في سبيل الله حتى قتلوا قالوا : فذلك قوله :" وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء "
هكذا ذكره ابن جرير في تاريخه من طريق السدي بإسناده وفي بعض هذا نظر ونكارة والله أعلم
وقال محمد بن إسحاق : النبي الذي بعث فأخبر طالوت بتوبته هو اليسع بن أخطوب حكاه ابن جرير أيضاً
وذكر الثعلبي أنها أتت به إلى قبر شمويل فعاتبه على ما صنع بعده من الأمور ، وهذا أنسب ولعله إنما في النوم لا أنه قام من القبر حياً ، فإن هذا إنما يكون معجزة لنبي ، وتلك المرأة لم تكن نبية والله أعلم قال ابن جرير : وزعم أهل التوراة أن مدة ملك طالوت إلى أن قتل مع أولاده أربعون سنة فالله أعلم
-
قصة داود عليه السلام
وما كان في أيامه وذكر فضائله وشمائله ودلائل نبوته وأعلامه
هو داود بن إيشا بن عويد بن عابر بن مسلمون بات نحشون بن عوينادب بن إرم بن حصرون بن فرص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عبد الله ونبيه وخليفته في أرض بيت المقدس
قال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه : كان داود عليه السلام قصيراً أزرق العينين قليل الشعر طاهر القلب ونقيه
تقدم أنه لما قتل جالوت وكان قتله له فيما ذكر ابن عساكر عند قصر أم حكيم بقرب مرج الصفر ، فأحبته بنو إسرائيل ومالوا إليه وإلى ملكه عليهم ، فكان من أمر طالوت ما كان وصار الملك إلى داود عليه السلام ، وجمع الله له بين الملك والنبوة ، بين خير الدنيا والآخرة ، وكان الملك يكون في سبط والنبوة في آخر فاجتعا في داود هذا
وهذا ؟ قال تعالى :" وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين " أي لولا إقامة الملوك حكاماً على الناس ، لأكل قوي الناس ضعيفهم ولهذا جاء في بعض الأمثلة السلطان ظل الله في أرضه وقال أمير المؤمنين عثمان بن عفان : إن الله ليزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن
وقد ذكر ابن جرير في تاريخه أن جالوت لما بارز طالوت فقال له : اخرج إلي وأخرج إليك ، فندب طالوت الناس فانتدب داود فقتل جالوت
قال وهب بن منبه : فمال الناس إلى داود حتى لم يكن لطالوت ذكر ، وخلعوا طالوت وولوا عليم داود وقيل إن ذلك عن أمر شمويل حتى قال بعضم إنه ولاه قبل الوقعة
قال ابن جرير : والذي عليه الجمهور أنه إنما ولى ذلك بعد قتل جالوت والله أعلم ، وروى ابن عساكر عن سعيد بن عبد العزيز : أن قتله جالوت كان عند قصر أم حكيم وأن النهر الذي هناك هو المذكور في الآية فالله أعلم
وقال تعالى :" ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد * أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير " وقال تعالى :" وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين * وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون "
أعانه الله على عمل الدروع من الحديد ليحصن المقاتلة من الأعداء وأرشده إلى صنعتها وكيفيتها فقال :" وقدر في السرد " أي لا تدق المسماء فيفلق ولا تغلظه فيفصم قاله مجالهد وقتادة والحكم وعكرمة
قال الحسن البصري وقتادة و والأعمش : كان الله قد ألان له الحديث حتى كان يتفله بيده لا يحتاج إلى نار ولا مطرقة قال قتادة : فكان أول من عمر الدروع من زرد وإنما كان قبل ذلك من صفائح قال ابن شوذب : كان يعمل كل يوم درعاً يبيعها بستة آلاف درهم
وقد ثبت في الحديد أن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وأن نبي الله داود كان يأكل من كسب يده
وقال تعالى :" واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب * إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق * والطير محشورة كل له أواب * وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب "
قال ابن عباس ومجاهد : الأيد القوة في الطاعة يعني ذا قوة في العبادة والعمل الصالح
قال قتادة : أعطي قوة في العبادة وفقها في إسلام قال : وقد ذكر لنا أنه كان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر
وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال :" أحب الصلاة إلي صلاة داود ، وأحب الصيام إلى الله صيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً ولا يفر إذا لاقى "
وقوله :" إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق * والطير محشورة كل له أواب " كما قال :" يا جبال أوبي معه والطير " أي سبحي معه قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد في تفسير هذه الآية " إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق " أي عند آخر النهار وأوله ، وذلك أنه كان الله تعالى قد وهبه من الصوت العظيم ما لم يعطه أحد بحيث إنه كان إذا ترنم بقراءة كتابه يقف الطير في الهواء يرجع بترجيعه ويسبح بتسبيحه وكذلك الجبال تجيبه وتسبح معه كلما سبح بكرة وعشياً ، صلوات الله وسلامه عليه
وقال الأوزاعي : حدثني عبد الله بن عامر قال : أعطي داود من حسن الصوت ما لم يعط أحد قط ، حتى إن كان الطير والوحش ينعكف حوله حتى يموت عطشاً وجوعاً وحتى إن الأنهار لتقف ! وقال وهب ابن منبه : كان لا يسمعه أحد إلا حجل كهيئة الرقص ، وكان يقرأ الزبور بصوت لم تسمع الآذان بمثله ، فيعكف الجن والإنس والطير والدواب على صوته حتى يهلك بعضها جوعاً وقال أبو عوانة الأسفراييني : حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا ، حدثنا محمد ابن منصور الطوسي سمعت صبيحاً أبا تراب رحمه الله قال أبو عوانة : حدثني أبو العباس المدني ، حدثنا بن محمد بن صالح العدوي ، حدثنا سيار هو ابن حاتم عن جعفر ، عن مالك ، قال : كان داود عليه السلام إذا أخذ في قراءة الزبور تفتقت العذارى وهذا غريب
وقال عبد الرزاق عن ابن جريج ، سألت عطاء عن القراءة على الغناء فقال : وما بأس بذلك ؟ سمعت عبيد بن عمر يقول : كان داود عليه السلام يأخذ المعزفة فيضرب بها فيقرأ عليها فترد عليه صوته يريد بذلك أن يبكي وتبكي
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : سمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صوت أبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال :" لقد أوتي أبي موسى من مزامير آل داود "
وهذا على شرط الشيخين ولم يخرجاه من هذا الوجه
وقال أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا حمادة بن سلمة ، عن محمد بن عمر ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال :" لقد أعطي أبو موسى من مزامير داود " على شرط مسلم
وقد روينا عن أب عثمان النهدي أنه قال : لقد سمعت البربط والمزمار ، فما سمعت صوتاً أحسن من صوت أبي موسى الأشعري
وقد كان مع هذا الصوت الرخيم سريع القراءة لكتابة الزبور ، قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا عمر ، عن همام عن أبي هريرة قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" خفف على داود القراءة ، فكان يأمر بدابته فتسرج فكان يقرأ القرآن من قبل أن تسرج دابته ، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه "
وكذلك رواه البخاري منفرداً به عن عبد الله بن محمد ، عن عبد الرزاق به ولفظه :" خفف على داود القرآن فكان يأمر بدوابه فتسرج فيقرأ القرآن قبل أن تسرج دوابه ، ولا يأكل إلا من عمل يديه "
ثم قال البخاري : ورواه موسى بن عقبة ، عن صفوان ، هو ابن سدليم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم)
وقد أسنده ابن عساكر في ترجمة داود عليه السلام في تاريخه من طرق عن إبراهيم بن طهمان ، عن موسى بن عقبة ، ومن طرق أبي عاصم عن أبي بكر السبري ، عن صفوان بن سليم به
والمراد بالقرآن ها هنا الزبور ألذي أنزله الله عليه وأوحاه إليه ، وذكر رواية أشبه أن يكون محفوظاً فإنه كان ملكاً له أتباع ، فكان يقرأ ألزبور بمقدار ما تسرج الدواب ، وهذا أمر سريع مع التدبر والترنم والتغني به على وجه التخشع ، صلوات الله وسلامه عليه
وقد قال الله تعالى :" وآتينا داود زبورا " والزبور كتاب مشهور وذكرنا في التفسير الحديث الذي رواه أحمد وغيره أنه أنزل في شهر رمضان ، وفيه من المواعظ والحكم ما هو معروف لمن نظر فيه
وقوله :" وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب " أي أعطيناه ملكأ عظيماً وحكماً نافذاً
روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن رجلين تداعيا إلى داود عليه السلام في بقر ادعى أحدهما على الآخر أنه اغتصبها منه فأنكر المدعى عليه فأرجأ أمرهما إلى الليل ، فلما كان الليل أوحى الله إليه أن يقتل المدعى ، فلما أصبح قال له داود : إن الله قد أوحى إلي أن أقتلك فأنا قاتلك لا محالة ، فما خبرك فيما ادعيته على هذا ؟ قال : والله يا نبي الله إني لمحق فيما ادعيت عليه ، ولكني كنت اغتلت أباه قبل هذا فأمر به داود فقتل فعظم أمر داود في بني إسرائيل جداً وخضعوا له خضوعاً عظيماً قال ابن عباس : وهو قوله تعالى :" وشددنا ملكه " وقوله تعالى :" وآتيناه الحكمة " أي النبوة " وفصل الخطاب " قال شريح والعشبي وقتادة وأبو عبد الرحمن السلمي وغيرهم : فصل الخطاب الشهود والأيمان يعنون بذلك : البينة على المدعي واليمين على من أنكر وقال مجاهد : والسدي : هو إصابة القضاء وفهمه وقال مجاهد : وهو الفصل في الكلام وفي الحكم واختاره ابن جرير
وهذا لا ينافي ما روي عن أبي موسى أنه قول : أما بعد
وقال وهب بن منبه : لم كثر الشر وشهادات الزور في بني إسرائيل أعطى داود سلسلة لفصل القضاء فكانت ممدودة من السماء إلى صخرة بيت المقدس ، وكانت من ذهب ، فإذا تشاجر الرجلان في حق فأيهما كان محقاً نالها والآخر لا يصل إليها فلم تزل كذلك حتى أودع رجلاً لؤلؤة فجحدها منه وأخذ عكازاً وأودعها فيه ، فلما حضرا عند الصخرة تناولها المدعى فلما قيل للآخر خذها بيدك عمد إلى العكاز فأعطاه المدعي وفيه تلك اللؤلؤة ، وقال : اللهم إنك تعلم أني دفعتها إليه ثم تناول السلسلة فنالها فأشكل أمرها على بني إسرائيل ثم رفعت سريعاً من بينهم
ذكره بمعناه غير واحد من المفسرين وقد رواه إسحاق بن بشر عن إدريس بن سنان عن وهب به بمعناه
" وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب * إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط * إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب * قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب * فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب "
وقد ذكر كثير من المفسرين من السلف والخلف هاهنا قصصاً وأخباراً أكثرها إسرائيليات ومنها ما هو مكذوب لا محالة تركنا إيرادها في كتابنا قصداً اكتفاء واقتصاراً على مجرد تلاوة القصة من القرآن العظيم ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
وقد اختلف الأئمة في سجدة ً : هل هي من عزائم السجود أو إنما هي سجدة شكر ليست من عزائم السجود ؟ على قولين
-
قال البخاري : حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي عن العوام ، قال سألت مجاهداً في سجدة صلى الله عليه وسلم فقال : سألت ابن عباس من أين سجدت ؟ قال : أو ما تقرأ :" ومن ذريته داود وسليمان " " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " فكان داود ممن أمر نبيكم (صلى الله عليه وسلم) أن يقتدي به فسجدها داود عليه السلام فسجدها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل - هو ابن علية - عن أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : في السجود في ص ليست من عزائم السجود وقد رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يسجد فيها
وكذا رواه البخاري وأبو داود و الترمذي و النسائي من حديث أيوب وقال الترمذي : حسن صحيح وقال النسائي أخبرني إبراهيم ابن الحسن المقسمي ، حدثنا حجاج بن محمد ، عن عمر ابن ذر ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وسلم) سجد في ص وقال : سجدها داود توبة ونسجدها شكراً تفرد به أحمد ورجاله ثقات
وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن عياض بن عبد الله بن سعيد بن أبي سرح ، عن أبي سعيد الخدري قال : قرأ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو على المنبر ص فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد معه الناس فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود فقال :" إنما هي توبة نبي ولكن رأيتكم تشزنتم " فنزل وسجد تفرد به أبو داود وإسناده على شرط الصحيح
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حميد ، حدثنا بكر ، هو ابن عمر ، وأبو الصديق الناجي ، أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري رأى رؤيا أنه يكتب ص فلما بلغ إلى التي يسجد بها رأى الدواة والقلم وكل شيء بحضرته انقلب ساجداً قال فقصها على النبي (صلى الله عليه وسلم) ، فلم يزل يسجد بها بعد ، تفرد به أحمد
وروى الترمذي و ابن ماجه من حديث محمد بن يزيد بن خنيس عن الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد ، قال : قال لي ابن جريج : حدثني جدك عبيد الله بن أبي يزيد ، عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال : يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم كأني أصلي خلف شجرة ، فقرأت السجدة فسجدت الشجرة بسجودي ، فسمعتها تقول وهي ساجدة : اللهم اكتب لي بها عندك أجراً واجعلها عندك ذهراً وضع عني بها وزراً ، واقبلها مني كما قبلت من عبدك داود
قال ابن عباس : فرأيت النبي (صلى الله عليه وسلم) قام فقرأ السجدة ثم سجد فسمعته يقول وهو ساجد كما حكى الرجل عن كلام الشجرة ثم قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه
وقد ذكر بعض المفسرين أنه عليه السلام ، مكث ساجداً أربعين يوماً وقاله مجاهد والحسن وغيرهما وورد في ذلك حديث مرفوع ، لكنه من رواية يزيد الرقاشي وهو ضعيف متروك الرواية
قال الله تعالى :" فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " أي إن له يوم القيامة لزلفى ، وهي القربة التي يقربه الله بها ويدنيه من حظيرة قدسه بسببها ، كما ثبت في حديث :" المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين ، الذين يقسطون في أهليهم وحكمهم وما ولوا "
وقال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا فضيل عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلساً إمام عادل ، وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذاباً إمام جائر "
وهكذا رواه الترمذي من حديث فضيل بن مرزوق الأغر به ، وقال : لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عبد الله بن أبي زياد ، حدثنا سيار ، حدثنا جعفر بن سليمان ، سمعت مالك بن دينار في قوله :" وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " قال : يقوم داود عليه السلام يوم القيامة عند ساق العرش فيقول الله : يا داود مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني في الدنيا ، فيقول : وكيف وقد سلبته فيقول : إني أرده عليك اليوم قال : فيرفع داود بصوت يستفرغ نعيم أهل الجنان
" يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " هذا خطاب من الله تعالى مع داود ، والمراد ولاة الأمور وحكام الناس ، وأمرهم بالعدل بغير ذلك ، وقد كان داود عليه السلام هو المقتدى به في ذلك الزمان في العدل ، وكثرة العبادة ، وأنواع القربات ، حتى إنه كان لا يمضي ساعة من آناء الليل وأطراف النهار إلا وأهل بيته في عبادة ليلاً ونهاراً كما قال تعالى :" اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور "
قال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن بسام ، حدثنا صالح المري ، عن أبي عمران الجولي ، عن أبي الجلد ، قال : قرأت في مسألة داود عليه السلام أنه قال : يا رب كيف لي أن أشكرك وأنا لأصل إلى شكرك إلا بنعمتك ؟ قال : فأتاه الوحي : أن يا داود ألست تعلم أن الذي بك من النعم مني ؟ قال : بلى يا رب قال : فإني أرضى بذلك منك
وقال البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ أنبأنا أبو بكر بن بالويه ، حدثنا محمد بن يونس القرشي ، حدثنا روح بن عبادة ، حدثني عبد الله بن لاحق ، عن ابن شهاب قال : قال داود : الحمد لله كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله ، فأوحى الله إليه : إنك أتعبت الحفظة يا داود !
ورواه أبو بكر بن أبي الدنيا عن علي بن الجعد ، عن الثوري مثله
وقال عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد أنبأنا سفيان الثوري ، عن رجل ، عن وهب ابن منبه قال : إن في حكمة آل داود : حق على العقل ألا يغفل عن أربع ساعات : ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يفضي فيها إلى إخوانه الذي يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه ، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل فإن هذه الساعة عون على هذه الساعات وإجمام للقلوب ، وحق على العاقل أن يعرف زمانه ويحفظ لسانه ويقبل على شأنه ، وحق على العاقل ألا يظعن إلا في إحدي ثلاث : زاد لمعاده ومرمة لمعاشه ، ولذة في غير محرم
وقد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا ، عن أبي بكر بن أبي خيثمة ، عن ابن مهدي عن سفيان ، عن أبيه الأغر ، عن وهب بن منبه ، فذكره ورواه أيضاً عن على بن الجعد ، عن عمر بن الهيثم الرقاشي عن أبي الأغر ، عن وهب بن منبه فذكره ، وأبو الأغر هذا هو الذي أبهمه ابن المبارك في روايته قاله ابن عساكر
وقال عبد الرزاق : أنبأنا بشر بن رافع ، حدثنا شيخ من أهل صنعاء يقال له : أبو عبد الله ، قال : سمعت وهب بن منبه ، فذكر مثله ، وقد أورد الحافظ بن عساكر في ترجمة داود عليه السلام أشياء كثيرة مليحة منها قوله : كن لليتيم كالأب الرحيم ، واعلم أنك كما تزرع كذلك تحصد
وروى بسند غريب مرفوعا قال داود : يا زارع السيئات أنت تحصد شوكها وحسكها
وعن داود عليه السلام أنه قال : مثل الخطيب الأحمق في نادي القوم كمثل المغني عند رأس الميت وقال أيضاً : ما أقبح الفقر بعد الغني وأقبح من ذلك الضلالة بعد الهدي وقال :أنظر ما تكره أن يذكر عنك في نادي القوم فلا تفعله إذا خلوت
وقال : لا تعدن أخاك بما لا تنجزه له فإنا ذلك عداوة بينك وبينه
وقال محمد بن سعد : أنبأنا محمد بن عمر الواقدي ، حدثني هشام بن سعيد ، عن عمر مولي عفرة ، قال : قالت يهود ، لما رأت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يتزوج النساء ! انظروا إلى هذا الذي لا يشبع من الطعام ولا والله ماله همة إلا إلى النساء : حسدوه لكثرة نسائه وعابوه بذلك فقالوا : لو كان نبيا ما رغب في النساء وكان أشدهم في ذلك حيى بن أخطب فأكذبهم الله وأخبرهم بفضل الله وسعته على نبيه صلوات الله وسلامه عليه فقال :" أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله " يعني بالناس رسول الله (صلى الله عليه وسلم) " فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما " يعني ما آتي الله سليمان بن داود كانت له ألف امرأة سبعمائة مهرية وثلاثمائة سرية ، وكانت لداود عليه السلام مائة امرأة منهن امرأة أرويا أم سليمان بن داود التي تزوجها بعد الفتنة هذا أكثر مما لمحمد (صلى الله عليه وسلم) وقد ذكر الكلبي نحو هذا وأنه كان لداود عليه السلام مائة امرأة ولسليمان ألف امرأة منهن ثلاثمائة سرية
وروى الحافظ في تاريخه في ترجمة صدقة الدمشقي الذي يروى عن ابن عباس من طريق الفرج بن فضالة الحمصي ، عن أبي هريرة الحمصي عن صدقة الدمشق ، أن رجلاً سأل ابن عباس عن الصيام فقال : لأحدثنك بحديث كان عندي في البحث مخزوناً ، إن شئت أنبأتك بصوم داود فإنه كان صواماً قواماً وكان شجاعاً لا يفر إذا لاقى ، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً ، وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" أفضل الصيام صيام داود " وكان يقرأ الزبور بسبعين صوتاً يكون فيها ، وكانت له ركعة من الليل يبكي فيها نفسه ويبكي ببكائه كل شيء ويصرف بصوته المهموم والمحموم
وإن شئت أنبأتك بصوم ابنه سليمان فإنه كان يصوم من أول الشهر ثلاثة أيام ، ومن وسطه ثلاثة أيام ومن آخره ثلاثة أيام يستفتح الشهر بصيام ووسطه بصيام ويختمه بصيام
وإن شئت أنبأتك بصوم ابن العذراء البتول عيسى ابن مريم ، فإنه كان يصوم الدهر ويأكل الشعير ويلبس الشعر ، ويأكل ما وجد ولا يسأل عما فقد ، ليس له ولد يموت ولا بيت يخرب ، وكان أينما أدركه الليل صف بين قدميه وقام يصلي حتى يصبح ، وكان رامياً لا يفوته صيد يريده ، وكان يمر بمجالس بني إسرائيل فيقضي لهم حوائجهم
وإن شئت أنبأتك بصوم أمه مريم بنت عمران ، فإنها كانت تصوم يوماً وتفطر يومين
وإن شئت أنبأتك بصوم النبي العربي الأمي محمد (صلى الله عليه وسلم) فإنه كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ويقول : إن ذلك صوم الدهر وقد روى الإمام أحمد عن أبي النضر ، عن فرج بن فضالة ، عن أبي هرم عن صدقة عن ابن عباس مرفوعاً في صوم داود
ذكر كمية حياته وكيفية وفاته
قد تقدم في ذكر الأحاديث الواردة في خلق آدم أن الله لما استخرج ذريته من ظهره فرأى فيهم الأنبياء عليهم السلام ورأى فيهم رجلاً يزهر فقال : أي رب من هذا ؟ قال : هذا ابنك داود قال : أي رب كم عمره ؟ قال : ستون عاماً قال : أي رب زد في عمره قال : لا ، إلا أن أزيده من عمرك وكان عمر آدم ألف عام فزاده أربعين عاماً فلما انقضى عمر آد جاءه ملك الموت فقال : بقي من عمري أربعون سنة ونسي آدم ما كان وهبه لولده داود فأتمها الله لآدم ألف سنة ولداود مائة سنة
رواه أحمد عن ابن عباس ، و الترمذي وصححه عن أبي هريرة ، وابن خزيمة وابن حبان وقال الحاكم : على شرط مسلم وقد تقدم ذكر طرقه وألفاظه في قصة آدم
قال ابن جرير ، وقد زعم أهل الكتاب أن عمر داود كان سبعاً وسبعين سنة قلت : هذا غلط مردود عليهم ، قالوا ؟ وكانت مدة ملكه أربعين سنة ،وهذا قد نقله لأنه ليس عندنا ما ينافيه ولم لا ما يقتضيه
وأما وفاته عليه السلام فقال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا قبيصة حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عمرو بن أبي عمرو ، عن المطلب ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال : كان داود عليه السلام فيه غيرة شديدة فكان إذا خرج أغلق الأبواب فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع قال : فخرج ذات يوم وغلقت الدار فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار فإذا رجل قائم وسط الدار فقالت لمن في البيت : من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة ، والله لنفضحن بداود فجاء داود فإذا الرجل قائم في وسط الدار فقال له داود : من أنت ؟ فقال : أنا الذي لا أهاب الملوك ولا أمنع من الحجاب ، فقال داود : أنت والله إذن ملك الموت مرحباً بأمر الله : ثم مكث حتى قبضت روحه فلما غسل وكفن وفرغ من شأنه طلعت عليه الشمس ، فقال سليمان للطير : أظلي على داود ، فأظلته الطير حتى أظلمت عليه الأرض ، فقال سليمان للطير : اقبضي جناحاً قال أبو هريرة : فطفق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يرينا كيف فعلت الطير ، وقبض رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بيده ، وغلبت عليه يومئذ المضرحية
انفرد بإخراجه الإمام أحمد وإسناده جيد قوي رجاله ثقات ، ومعنى قوله : وغلبت عليه يومئذ المضرحية ، أي وغلبت على التظليل عليه المضرحية وهي الصقوع الطوال الأجنحة واحدها مضرحي ، قال الجوهري : هو الصقر الطويل الجناح
وقال السدي عن أبي مالك ، عن ابن مالك ، عن ابن عباس قال مات داود عليه السلام فجاء وكان بسبت ، وكانت الطير تظله وقال السدي أيضا ، عن أبي مالك وعن سعيد بن جبير قال : مات داود عليه السلام يوم السبت فجأة
وقال إسحاق بن بشر ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة عن ألحسن ، قال : مات داود عليه السلام وهو ابن مائة سنة ومات يوم الأربعاء فجأة وقال أبو السكن الهجري : مات إبراهيم الخليل فجأة وداود فجأة وابنه سليمان فجأة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين رواه ابن عساكر
وروى عن بعضهم أن ملك الموت جاءه وهو نازل من محرابه فقال له : دعني أنزل أو أصعد ، فقال : يا نبي الله قد نفدت السنون والشهور والآرثار والأرزاق ، قال : فخر ساجداً على مرقاة من تلك المراقي فقبضه وهو ساجد
وقال إسحاق بن بشر : أنبأنا وافر بن سليمان ، عن أبي سلمان الفلسطيني عن وهب بن منبه قال : إن الناس حضروا جنازة داود عليه السلام فجلسوا في الشمس في يوم صائف قال :وكان قد شيع جنازته يومئذ أربعون ألف راهب عليهم البرانس سوى غيرهم من الناس ، ولم يمت في بني إسرائيل بعد موسى وهارون أحد كانت بنو إسرائيل أشد جزعا عليه منهم على داود قال : فآذاهم الحر فنادوا سليمان عليه السلام أن يعمل لهم وقاية لما أصابهم من الحر ، فخرج سليمان فنادى الطير فأجابت فأمرها أن تظل الناس ، فتراص بعضها إلى بعض من كل وجه ، حتى استمسكت الريح فكاد الناس أن يهلكوا غما فصاحوا إلى سليمان عليه السلام من الغم ، فخرج سليمان فنادى الطير أن أظلي الناس من ناحية الشمس وتنحي عن ناحي الريح ففعلت فكان الناس في ظل تهب عليهم الريح ، فكان ذلك أول ما رأواه من ملك سليمان
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع ، حدثني الوليد بن مسلم ، عن الهيثم بن حميد ، عن الوضين بن عطاء ، عن نصر بن علقمة ، عن جبير بن نفير، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " لقد قبض الله داود من بين أصحابه ما فتنوا ولا بدلوا ، ولقد مكث أصحاب المسيح على سننه وهديه مائتي سنة"
هذا حديث غريب وفي رفعه نظر ، والوضين بن عطاء كان ضعيفاً في الحديث والله أعلم
-
قصة سليمان بن داود عليهما السلام
قال الحافظ ابن عساكر : وهو سليمان بن داود بن إيشا بن عويد بن عابر بن سلمون بن نخشون بن عمينا أداب بن إرم بنحصرون ابن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم أبي الربيع نبي الله بن نبي الله
جاء في بعض الآثار أنه دخل دمشق قال ابن ماكولا : فارص بالصاد المهملة ،وذكر نسبه قريبا مما ذكره ابن عساكر
قال الله تعالى :" وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين " أي ورثه في النبوة والملك ، وليس المراد ورثه في المال ، لأنه قد كان له بنون غيره ، فما كان ليخص بالمال دونهم ، ولأنه قد ثبت في الصحاح من غير وجه عن جماعة من الصحابة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال :" لا نورث ما تركنا فهو صدقة " وفي لفظة :" نحن معاشر الأنبياء لا نورث " فأخبر الصادق المصدوق أن الأنبياء لا تورث أموالهم عنهم كما يورث غيرهم ، بل تكون أموالهم صدقة من بعدهم على الفقراء والمحاويج لا يخصون بها أقرباؤهم ، لأن الدنيا كان أهون عليهم وأحقر عندهم من ذلك كما هي عند الذي أرسلهم واصطفاهم وفضلهم وقال :" يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء " يعني أنه عليه السلام كان يعرف ما يتخاطب به الطيور بلغاتها ويعبر للناس عن مقاصدها وإرادتها
وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ أنبأنا علي بن حشاد ، حدثنا إسماعيل بن قتيبة ، حدثنا علي بن قدامة ، حدثنا أبو جعفر الأسواني ، يعني محمد بن عبد الرحمن : عن أبي يعقوب العمي ، حدثني أبو مالك ، قال : مر سليمات بن داود بعصفور يدور حول عصفورة فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : وما يقول يا نبي الله ؟ قال : يخطبها إلى نفسه ويقول زوجيني أسكنك أي غرف دمشق شئث ! قال سليمان عليه السلام : لأن غرف دمشق مبنية بالصخر لا يقدر أن يسكنها أحد ولكن كل خاطب كذاب !
رواه ابن عساكر عن أبي القاسم زاهر بن طاهر ، عن البيهقي به وكذلك ماعداها من الحيوانات وسائر صنوف المخلوقات ، والدليل على هذه قوله بعد هذا من الآيات :" وأوتينا من كل شيء " أي من كل ما يحتاج الملك إليه من العدد والآلات والجنود والجيوش والجماعات من الجن والإنس والطيور والوحوش والشياطين السارحات والعلوم والفهوم والتعبير عن ضمائر المخلوقات من الناطقات والصامتات ثم قال :" إن هذا لهو الفضل المبين " أي من بارئ البريات وخالق الأرض والسموات كما قال تعالى :" وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون * حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون * فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين "
يخبر تعالى عن عبده ونبيه وابن نبيه سليمات بن داود عليهما الصلاة والسلام أنه ركب يوماً في جيشه جميعه من الجن والإنس والطير ، فالجن والإنس يسيرون معه والطير سائرة معه تظله بأجنحتها من الحر وغيره وعلى كل من هذه الجيوش الثلاثة وزعة - أي نقباء - يردون أوله على آخره فلا يتقدم أحد عن موضعه الذي يسير فيه ولا يتأخر عنه قال الله تعالى :" حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون " فأمرت وحذرت واعتذرت عن سليمان وجنوده بعدم الشعور ، وقد ذكر وهب أنه مر وهو على البساط بواد بالطائف وأن هذه النملة كان اسمها جرسا ، وكانت من قبيلة يقال لها بنو الشيصبان وكان عرجاء وكانت بقدر الذئب
وذي هذا كله نظر ، بل في هذه السياق دليل على أنه كان في موكبه راكباً في خيوله وفرسانه ، لاكما زعم بعضهم من أنه كان إذا ذاك على البساط لأنه لو كان كذلك لم ينل النمل منه شيء ولا وطء ، لأن البساط كل عليه جميع ما يحتاجون إليه من الجيوش والخيول والجمال والأثقال والخيام والأنعام والطير من فوق ذلك كله ، كما سنبينه بعد ذلك إن شاء الله تعالى
والمقصود أن سليمان عليه السلام فهم ما خاطبت به تلك النملة لأمتها من الرأس السديد والأمر الحميد ، وتبسم من ذلك على وجه الاستبشار والفرح والسرور بما أطلعه الله عليه دون غيره ، وليس كما يقوله بعض الجهلة من أن الدواب كانت تنطق قبل سليمان وتخاطب الناس حتى أخذ عليهم سليمان بن داود العهد وألجمها فلم تتكلم مع الناس بعد ذلك ، فإن هذا لا يقوله إلا الذين لا يعلمون ، ولو كان هذا هكذا لم يكن لسليمان في فهم مقالها مزية على غيره إذ قد كان الناس كلهم يفهمون ذلك ولو كان قد أخذ عليها العهد ألا تتكلم مع غيره وكان هو يفهمها لم يكن في هذا أيضاً فائدة يعول عليها ولهذا قال :" رب أوزعني " أي ألهمني وأرشدني " أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين " فطلب من الله أن يقيضه للشكر على ما أنعم به عليه وعلى ما خصه به من المزية على غيره وأن ييسر عليه العمل الصالح وأن يحشره إذا توفاه مع عباده الصحاليحن وقد استجاب الله تعالى له
والمراد بوالديه داود عليه السلام وأمه ، وكانت من العابدات الصالحات كما قال سنيد بن داود ، عن يوسف بن محمد بن المنكدر ، عن أبيه ، عن جابر ، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :" قالت أم سليمان بن داود : يا بني لا تكثر النوم بالليل فإن كثرة النوم بالليل تدع العبد فقيراً يوم القيامة " رواه ابن ماجه عن أربعة من مشايخه عنه به نحوه
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، أن سليمان بن داود عليه السلام خرج هو وأصحابه يستسقون فرأى نملة قائمة رافعة إحدى قوائمها تستسقي ، فقال لأصحابه : ارجعوا فقد سقيتم ، إن هذه النملة استسقت فاستجيب لها
قال ابن عساكر : وقد روى مرفوعاً ولم يذكر فيه سليمان ، ثم ساقه من طريق محمد بن عزيز ، عن سلامة بن روح بن خالد ، عن عقيل ، عن ابن شهاب حدثني أبو سلمة ، عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول : " خرج نبي من الأنبياء بالناس يستسقون الله فإذا هم بنملة رافعة بعض قوائمها إلى السماء فقال النبي : ارجعوا فقد استجيب لكم من أجل هذه النملة "
وقال السدي : أصاب الناس قحط على عهد سليمان عليه السلام فأمر الناس فخرجوا فإذا بنملة قائمة على رجليها باسطة يديها وهي تقول : اللهم أنا خلق من خلقط ولا غناء بنا عن فضلك قال : فصب الله عليهم المطر
وقال الله تعالى :" وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين * لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين * فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين * إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم * وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون * أن لا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون * الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم * قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين * اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون * قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم * إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم * أن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين * قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون * قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين * قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون * وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون * فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون * ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون "
يذكر تعالى ما كان من أمر سليمان والهدهد ، وذلك أن الطيور كان على كل صنف منها مقدمون يقدمون بما يطلب منهم ويحضرون عنده بالنوبة كما هي عادة الجنود مع الملوك ، وكانت وظيفة الهدهد على ماذكره ابن عباس وغيره أنهم كانوا إذأ أعوزوا الماء في القفار في حال الأسفار يجيء فينظر لهم هل بهذه البقاع من ماء ، وفيه من القوة ألتي أودعها الله تعالى فيه أن ينظر إلى الماء تحت تخوم الأرض ، فإذا دلهم عليه حفروا عنه واستنبطوه وأخرجوه واستعملوه لحاجتهم ، فلما تطلبه سليمان عليه السلام ذات يوم فقده ولم يجده في موضعه من محل خدمته " فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين " أي ماله مفقود من هاهنا ، أو قد غاب عن بصري فلا أراه بحضرتي " لأعذبنه عذابا شديدا " توعده بنوع من العذاب اختلف المفسرون فيه ، والمقصود حاصل على تقدير " أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين " أي بحجة تنجيه من هذه الورطة
قال الله تعالى :" فمكث غير بعيد " أي فغاب الهدهد غيبة ليست بطويلة ثم قدم منها " فقال " لسليمان :" أحطت بما لم تحط به " أي اطلعت على ما لم تطلع عليه " وجئتك من سبإ بنبإ يقين " أي بخبر صادق " إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم " يذكر ما كان عليه ملوك سبأ في بلاد اليمن من المملكة العظيمة والتبابعة المتوجين ، وكان الملك قد آل في ذلك الزمان إلى امرأة منهم ابنة ملكهم لم يخلف غيرها فملكوها عليهم
وذكر الثعلبي وغيره أن قومها ملكوا عليها بعد أبيها رجلاً فعم به الفساد ، فأرسلت إليه تخطبه فتزوجها فلما دخلت عليه سقته خمراً ثم حزت رأسه ونصبته على بابها ، فأقبل الناس عليها وملكوها عليهم وهي بلقيس بنت السيرح وهو الهدهاد وقيل سراحيل بن ذي جدن بن السيرح بن الحارث بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، وكان أبوها من أكابر الملوك وكان قد تأبى أن يتزوج من أهل اليمن ، فيقال إنه تزوج بامرأة من الجن اسمها ريحانة بنت السكن ، فولدت له هذه المرأة واسمها تلقمة ويقال لها بلقيس
وقد روى الثعلبي من طريق سعيد بن بشير عن قتادة ، عن النضر بن أنس ، عن بشير بن نهيك ، عن أبي هريرة ، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال : كان أحد أبوي بلقيس جنياً ، وهذا حديث غرب وفي سنده ضعف
-
وقال الثعلبي : أخبرني أبو عبد الله بن قبحونة ، حدثنا أبو بكر بن حرجة ، حدثنا ابن أبي الليث ، حدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن ، عن أبي بكرة ، قال ذكرت بلقيس عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال :" لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " إسماعيل بن مسلم هذا هو المكي الضعيف
وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث عوف ، عن الحن عن أبي بكرة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما بلغه أن أهل فارس ملكوا عليهم ابنة كسرى قال :" لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة "
ورواه الترمذي و النسائي من حديث حميد ، عن الحسن ، عن أبي بكرة ، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بمثله وقال الترمذي : حسن صحيح وقوله :" وأوتيت من كل شيء " أي مما من شأنه أن تؤتاه الملوك " ولها عرش عظيم " يعني سرير مملكتها كان مزخرفاً بأنواع الجواهر واللآلئ والذهب والحلي الباهر
ثم ذكر كفرهم بالله ، وعبادتهم الشمس من دون الله ، وإضلال الشيطان لهم ، وصده إياهم عن عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ، الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما يخفون وما يعلنون ، أي يعلم السرائر والظواهر من المحسوسات والمعنويات :" الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم " أي له العرش العظيم الذي لا أعظم منه في المخلوقات
فعند ذلك بعث سليمان عليه السلام كتابه يتضمن دعوته لهم إلى طاعة الله وطاعة رسوله والإنابة والإذعان إلى الدخول في الخضوع لملكه وسلطانه ولهذا قال لهم :" أن لا تعلوا علي " أي لا تستكبروا عن طاعتين وامتثال أوامري " وأتوني مسلمين " أي واقدموا علي سامعين مطيعين بلا معاودة ولا مراودة ، فلما جاءها الكتاب مع الطير ، ومن ثم اتخذ الناس البطائق ، ولكن أين الثريا من الثرى ، تكل البطاقة كانت مع سائر سامع مطيع فاهم عالم بما يقول ويقال له ، فذكر غير واحد من الفسرين وغيرهم أن الهدهد حمل الكتاب وجاء إلى قصرها فألقاه إليها وهي في خلوة لها ثم وقف ناحية ينتظر ما يكون من جوابها عن كتابها ، فجمعت أمراءها ووزراءها وأكابر دولتها إلى مشورتها " قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم " ثم قرأت عليهم عنوانه أولاً " إنه من سليمان " ثم قرأته " وإنه بسم الله الرحمن الرحيم * أن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين " ثم شاورتهم في أمرها وما قد حل بها وتأدبت معهم وخاطبتهم وهم يسمعون :" قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون " تعني ما كنت لأبت أمراً إلا وأنتم حاضرون " قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد " يعنون لنا قوة وقدرة على الجلاد والقتال ومقاومة الأبطال ، فإن أردت منا ذلك فإنا عليه من القادرين " و " مع هذا " الأمر إليك فانظري ماذا تأمرين " فبذلوا لها السمع والطاعة ، وأخبروها بما عندهم من الاستطاعة ، وفوضعوا إليها في ذلك الأمر لترى فيه ما هو الأرشد ها ولهم
فكان رأيها أتم وأشد من رأيهم ، وعلمت أن صاحب هذا الكتاب لا يغالب ولا يمانع ولا يخالف ولا يخادع " قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون " تقول برأيها السديد : إن هذا الملك لو قد غلب على هذه المملكة لم يخلص الأمر من بينكم إلا إلي ولم تكن الحدة والشدة والسطوة البليغة إلا علي " وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون " أرادت أن تصانع عن نفسها وأهل مملكتها بهدية ترسلها وتحف تبعثها ولم تعلم أن سليمان عليه السلام لا يقبل منهم والحالة هذه صرفاً ولا عدلاً ، لأنهم كافرون ، وهم وجنوده عليهم قادرون
ولهذا :" لما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون " هذا وقد كانت تلك الهدايا مشتملة على أمور عظيمة ، ذكره المفسرون
ثم قال لرسولها إليه ووافدها الذي قدم عليه والناس حاضرون يسمعون :" ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون " يقول ارجع بهديتك التي قدمت بها إلى من قد من بها فإن عندي مما قد أنعم الله علي وأسداه إلي من الأموال والتحف والرجال ما هو أضعاف هذا وخير من هذا الذي أنتم تفرحون به وتفخرون على أبناء جنسكم بسببه " فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها " أي فلأبعثن إليهم بجنود لا يستطيعون دفاعهم ولا نزالهم ولا مما نعتهم ولا قتالهم ، ولأخرجنهم من بلادهم وحوزتهم ومعاملتهم ودوتلهم أذلة " وهم صاغرون " عليهم الصغار والعار والدمار
فلما بلغهم ذلك عن نبي الله لم يكن لهم بد من السمع والطاعة ، فبادروا إلى إجابته في تلك الساعة وأقبلوا صحبة الملكة أجمعين سامعين مطيعين خاضعين فلما سمع بقدومهم عليه ووفودهم إليه قال لمن بين يديه ممن هو مسخر له من الجان ما قصه الله عنه في القرآن :" قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين * قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين * قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم * قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون * فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين * وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين * قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين "
لما طلب سليمان من الجان أن يحضروا له عرش بلقيس ، وهو سرير مملكتها التي تجلس عليه وقت حكمها ، قبل قدومها عليه " قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك " يعني قبل أن ينقضي مجلس حكمك ، وكان فيما يقال من أول النهار إلى قريب الزوال يتصدى لمهمات بني إسرائيل وما لهم من الأشغال " وإني عليه لقوي أمين " أي وإني لذو قدرة على إحضاره إليه وأمانة على ما فيه من الجواهر النفيسة لديك " قال الذي عنده علم من الكتاب " المشهور أنه آصف بن برخيا وهو ابن خالة سليمان وقيل هو رجل من مؤمني الجان ، كان فيما يقال يحفظ الاسم الأعظم وقيل رجل من بني إسرائيل من علمائهم وقيل : إنه سليمان ، وهذا غريب جداً وضعفه السهيلي بأنه لا يصح في سياق الكلام قال : وقد قيل فيه قول رابع وهو : جبريل :" أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك " قيل معناه قبل أن تبعث رسولاً إلى أقصى ما ينتهي إليه طرفك من الأرض ثم يعود إليك وقيل قبل أن يصل إليك أبعد ما تراه من الناس وقيل قبل أن يكل طرفك إذا أدمت النظر به قبل أن تطبق جفنك وقيل قبل أن يرجع إليك طرفك إذا نظرت به إلى ابعد غابة منك ثم أغمضته وهذا أقرب ما قيل
" فلما رآه مستقرا عنده " أي فلما رأى عرش بلقيقرا عنده في هذه المدة القريبة من بلاد اليمن إلى بيت المقدس في طرفة عين " قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر " أي هذا من فضل الله علي وفضله على عبيده ليخبرهم على الشكر أو خلافه " ومن شكر فإنما يشكر لنفسه " أي إنما يعود نفع ذلك عليه " ومن كفر فإن ربي غني كريم " أي غني عن شكر الشاكرين ولا يتضرر بكفر الكافرين
ثم أمر سليمان عليه السلام أن يغير حلي هذا العرش وينكر لها لتختبر فهمها وعقلها ولهذا قال :" ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون * فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو " وهذا من فطنتها وغزارة فهمها ، لأنها استبعدت أن يكون عرشها لأنها خلفته وراءها بأرض اليمن ، ولم تكن تعلم أن أحداً يقدر على هذا الصنع العجيب الغريب ، قال الله تعالى إخباراً عن سليمان وقومه :" وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين * وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين " أي ومنعها عبادة الشمس التي كانت تسجد لها هي وقومها من دون الله اتباعاً لدين آبائهم وأسلافهم لا لدليل قادهم إلى ذلك ولا حادهم على ذلك
وكان سليمان قد أمر ببناء صرح من زجاج وعمل في ممره ماء ، وجعل عليه سقفاً من زجاج ، وجعل فيه السمك وغيرها من دواب الماء ، وأمرت بدخول الصرح وسليمان جالس على سريره فيه " فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين " وقد قيل إن الجن أرادوا أن يبشعوا منظرها عند سليمان وأن تبدي عن ساقيها ليرى ما عليها من الشعر فينفره ذلك منها ، وخشوا أن يتزوجها لأن أمها من الجان فتتسلط عليهم معه وذكر بعضهم أن حافرها كان كحافر الدابة وهذا ضعيف وفي الأول نظر والله أعلم
إلا أن سليمان قيل إنه لما أراد إزالته حين عزم على تزوجها سأل الإنس عن زواله فذكروا له الموسى ، فامتنعت من ذلك فسأل الجان فصنعوا له النورة ، ووضعوا له الحمام ، فكان أول من دخل الحمام ، فلما وجد مسه قال : أوه من عذاب أوه أوه قبل أن لا ينفع أوه
وقد ذكر الثعلبي وغيره أن سليمان لما تزوجها أقرها على مملكة اليمن وردها إليه ، كان يزورها في كل شهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام ثم يعود على البساط ، وأمر الجان فبنوا له ثلاثة قصور باليمن : غمدان وسالحين وبيتون فالله أعلم
وقد روى ابن إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه أن سليمان لم يتزوجها بل زوجها بملك همدان وأقرها على ملك اليمن وسخر زوبعة ملك اليمن فبني لها القصور الثلاثة التي ذكرناها باليمن ، والأول أشهر وأظهر والله أعلم
وقال تعالى في سورة ص :" ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب * إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد * فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب * ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق * ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب * قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب * فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب * والشياطين كل بناء وغواص * وآخرين مقرنين في الأصفاد * هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب * وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب "
يذكر تعالى أنه وهب لداود سليمان عليهما السلام ، ثم أثنى الله تعالى عليه فقال :" نعم العبد إنه أواب " أي رجاع مطيع لله ، ثم ذكر تعالى ما كان من أمره في الخيل الصافنات وهي التي تقف على ثلاثة وطرف حافر الرابعة ، الجياد وهي المضمرة السراع
" فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب " يعني الشمس وقيل الخيل على ما سنذكره من القولين " ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق " قيل مسح عراقيبها وأعناقها بالسيوف وقيل مسح عنها العرق لما أجراها وسابق بينها بين يديه على القول الآخر
والذي عليه أكثر السلف الأول ، فقالوا اشتغل بعرض تلك الخيول حتى خرج وقت العصر وغربت الشمس وروى هذا عن علي بن أبي طالب وغيره والذي يقطع به أنه لم يترك الصلاة عمداً من غير عذر ، اللهم إلا أن يقال إنه كان سائغاً في شريعتهم ، فأخر الصلاة لأجل أسباب الجهاد وعرض الخيل من ذلك
وقد ادعي طائفة من العلماء في تأخير النبي (صلى الله عليه وسلم) صلاة العصر يوم الخندق أن هذا كان مشروعاً إذ ذاك حتى نسخ بصلاة الخوف ، قاله الشافعي وغيره وقال مكحول و الأوزاعي : بل هو حكم محكم إلى اليوم أنه يجوز تأخيرها بعذر القتال الشديد ، كما ذكرنا تقرير ذلك في سورة النساء عند صلاة الخوف وقال آخرون : بل كان تأخير النبي (صلى الله عليه وسلم) صلاة العصر يوم الخندق نسياناً وعلى هذا فيحمل فعل سليمان عليه السلام على هذا والله أعلم
وأما من قال : الضمير في قوله :" حتى توارت بالحجاب " عائد على الخيل وأنه لم تنته وقت صلاة وأن المراد بقوله :" ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق " يعني مسح العرق عن عراقيبها وأعناقها ، فهذا القول اختاره ابن جرير ، ورواه الوالبي عن ابن عباس في مسح العرق ووجه هذا القول ابن جرير بأنه ما كان ليعذب الحيوان بالعرقبة ويهلك مالاً بلا سبب ولا ذنب لها ، وهذا الذي قاله فيه نظ لأنه قد يكون هذا سائغاً في ملتهم وقد ذهب بعض علمائنا إلى أنه إذا خاف المسلمون أن يظفر الكفار على شيء من الحيوانات من أغنام ونحوها جاز ذبحها وإهلاكها لئلا يتقووا بها ، وعليه حمل صنيع جعفر بن أبي طالب يوم عقر فرسه بمؤتة وقد قيل إنها كانت خيلاً عظيمة قيل كانت عرة آلاف فرس وقيل كانت عشرين ألف فرس وقيل كان فيها عشرون فرساً من ذوات الأجنحة
وقد روي أبو داود في سننه : حدثنا محمد بن عوف ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، أنبأنا يحيى ابن أيوب ، حدثني عمارة بن غزية ، أن محد بن إبراهيم حدثه عن محمد بن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عائشة قالت : قدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر ، فهبت الريح فكشفت ناحية الستر من بنات لعائشة لعب فقال : " ما هذا يا عائشة ؟ فقالت :بناتي ورأى بينهن فرساً له جناحان من رقاع فقال : ما هذا الذي أرى وسطهن ؟ قالت : فرس قال : وما الذي عليه هذا ؟ قالت : حناحان قال : فرس له جناحان ؟ قالت : أما سمعت أن لسليمان خيلاً لها أجنحة ؟ " قالت : فضحك حتى رايت نواجذه (صلى الله عليه وسلم)
قال بعض العلماء : لما ترك الخيل لله عوضه الله عنها بما هو خير له منها ، وهو الريح التي كانت غدوها شهر ورواحها شهر ، كما سيأتي الكلام عليها
-
كما قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن حميد بن هلال ، عن أبي قتادة وأبي الدهماء ، وكانا يكثران السفر نحو البيت قالا : أتينا على رجل من أهل البادية فقال البدوي : أخذ بيدي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فعل يعلمني مما علمه الله عز وجل وقال :" إنك لا تدع شيئاً اتقاء الله عز وجل إلا أعطاك الله خيراً منه "
وقوله تعال :" ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب "
ذكر ابن جرير و ابن أبي حاتم وغيرهما من المفسرين هاهنا آثاراً كثيرة عن جماعة من السلف ، وأكثرها أو كلها متلقاة من الإسرائيليات ، وفي كثير منها نكارة شديدة ، وقد نبهنا على ذلك في كتابنا التفسير واقتصرنا هاهنا على مجرد التلاوة
ومضمون ما ذكره أن سليمان عليه السلام غاب عن سريره أربعين يوماً ثم عاد إليه ، ولما عاد أمر ببناء بيت المقدس فبناه بناء محكماً ، وقد قدمنا أنه جدده وأن أول من تجعله مسجداً إسرائيل عليه السلام ، كما ذكرنا ذلك عند قول أبي ذر قلت : يا رسول الله أي مسجد وضع أول ؟ قال :" المسجد الحرام ، قلت : ثم أي ؟ قال : مسجد بيت المقدس ، قلت : كم بينهما ؟ قال : أربعون سنة "
ومعلوم أن بين إبراهيم الذي بنى المسجد الحرام وبين سليمان بن داود عليهما السلام أزيد من ألف سنة دع أربعين سنة ، وكان سؤاله الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده بعد إكماله البيت المقدس ؟ قال الإمام أحمد و النسائي و ابن ماجه و وابن خزيمة و ابن حابن و الحاكم بأسانيدهم عن عبد الله بن فيروز الديلمي ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه عز وجل خلالاً ثلاثاً ، فأعطاه اثنتين ، ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة : سأله حكماً يصادف حكمه ، فأعطاه إياه ، وسأله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه ، وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذه المسجد خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه فنحن نرجو أن يكون الله قد أعطانا إياها "
فأما الحكم الذي يوافق حكم الله تعالى فقد أثنى الله تعالى عليه وعلى أبيه في قوله :" وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما " وقد ذكر شريح القاضي وغير واحد من السلف أن هؤلاء القوم كان لهم كرم فنفشت فيه غنم قوم آخرين ، أي رعته بالليل فأكلت شجرة فأكلت ، فتحاكموا إلى داود عليه السلام فحكم لأصحاب الكرم بقيمته فلما خرجوا على سليمان قال : بم حكم لك نبي الله ؟ فقالوا : بكذا وكذا ، فقال : أما لو كنت أنا لما حكمت إلا بتسليم الغنم إلى أصحاب الكرم فيستغلونها نتاجاً ودراً حتى يصلح اصحاب الغنم كرم أولئك ويردوه إلى ما كان عليه ، ثم يتسلموا غنمهم ، فبلغ داود عليه السلام ذلك فحكم به
وقريب من هذا ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي الزناد ، عن الأعراج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" بينما امرأتان معهما ابناهما إذ عدا الذئب فأخذ ابن إحداهما فتنازعتا في الآخر فقالت الكبرى : إنما ذهب بابنك وقالت الصغرى : بل إنما ذهب بابنك فتحاكمتا إلى داود فحكم به للكبرى ، فخرجتا على سليمان فقال : آتوني بالسكين أشقه نصفين لكل واحدة منكما نصفه فقالت الصغرى : يرحمك الله هو ابنها فقضى به لها "
ولعل كل من الحكمين كان سائغاً في شريعتهم ، وكلن ما قاله سليمان أرجح ، ولهذا أثنى الله عليه بما ألهمه إياه بعد ذلك إياه فقال :" وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين * وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون "
ثم قال :" ولسليمان الريح عاصفة " أي وسخرنا لسليمان الرحي عاصفة " تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين * ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين "
وقال في صورة ص :" فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب * والشياطين كل بناء وغواص * وآخرين مقرنين في الأصفاد * هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب * وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب "
لما ترك الخيل ابتغاء وجه الله عوضه الله منها الريح التي هي أسرع سيراً وأقوى وأعظم ولا كلفة عليه لها " تجري بأمره رخاء حيث أصاب " أي حيث أراد من أي البلاد ، كان له بساط مركب من أخشاب بحيث إنه يسع جميع ما يحتاج إليه من الدور المبنية والقصور الخيام والأمتعة والخيول والجمال والأثقال والرجال من الإنس والجان ، وغير ذلك من الحيوانات والطيور فإذا أراد سفراً أو مستنزهاً أو قتال ملك أو أعداء من أي بلاد الله شاء ، فإن حمل هذه الأمور المذكورة على البساط أمر الريح فدخلت تحته فرفعته فإذا استقل بين السماء والأرض أمر الرخاء فسارت به ، فإن أراد أسرع من ذلك أمر العاصفة فحملته أسرع ما يكون فوضعته في أي مكان شاء ، بحيث إنه كان يرتحل في أول النهار من بيت المقدس فتغدو به الريح فتضعه بإصطخر مسيرة شهر فيقيم هناك إلى آخر النهار ، ثم يروح من آخره فترده إلى بيت المقدس
كما قال تعالى :" ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير * يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور "
قال الحسن البصري : كان يغدو من دمشق فينزل بإصطخر فيتغدى بها ويذهب رائحاً منها فيبيت بكابل وبين دمشق وبين اصطخر مسيرة شهر وبين اصطخر وكابل مسيرة شهر
قتل : قد ذكر المتكلمون على العمران والبلدان أن اصطخر بنتها الجان لسليمان وكان فيها قرار مملكة الترك قديماً ، وكذلك غيرها من بلدان شتى كتدمر وبيت المقدس وباب جيرون وباب البريد اللذان بدمشق على أحد الأقوال
وأما القطر فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد : هو النحاس قال قتادة وكانت باليمن أنبعها الله له قال السدي : ثلاثة أيام فقط أخذ منها جميع ما يحتاج إليه للبنايات وغيرها
وقوله :" ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير " أي وسخر الله له من الجن عمالاً يعملون له ما يشاء لا يفترون ولا يخرجون عن طاعته ومن خرج منهم عن الأمر عذبه ونكل به " يعملون له ما يشاء من محاريب " وهي الأماكن الحسنة وصدور المجالس " وتماثيل " وهي الصور في الجدران ، وكان هذا سائغاً في شريعتهم وملتهم " وجفان كالجواب " قال ابن عباس : الجفنة كالجوبة من الأرض ، وعنه كالحياض وكذا قال مجاهد والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم وعلى هذه الرواية يكون الجواب جمع جابية وهي الحوض الذي يجبى فيه الماء ، قال الأعشى :
تروح على آل المحلق جفنة كجابية الشيخ العراقي تفهق
وأما القدور الراسيات فقال عكرمة : أثافيها منها ، يعني أنهن ثوابت لا يزلن عن أماكنهن ، وهكذا قال مجاهد وغير واحد ولما كان هذا بصدد إطعام الطعام والإحسان إلى الخلق من إنسان وحيوان قال تعالى :" اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور "
وقال تعالى : " والشياطين كل بناء وغواص * وآخرين مقرنين في الأصفاد " أي قد عصوا فقيدوا مقرنين اثنين اثنين في الأصفاد وهي القيود ، وهذا كله من جملة ما هيأه الله وسخر له من الأشياء التي هي من تمام الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده ولم يكن أيضاً لمن كان قبله
وقد قال البخاري : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :" إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم فذكرت دعوة أخي سليمان :" رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي " ، فردته خاسئاً "
وكذا رواه مسلم و النسائي من حديث شعبة
وقال مسلم : حدثنا محمد بن سلمة المرادي ، حدثنا عبد الله بن وهب عن معاوية بن صالح ، حدثني ربيعة بن يزيد ، عن أبي إدريس يصلي فسمعناه يقول : " أعوذ بالله من ك ألعتك بلعنة الله " ثلاثاً ، وبسط يده كأنه يتناول شيئاً ، فلما فرغ من الصلاة قلنا : يا رسول الله قد سمعناك تقول في الصلاة شيئاً لم نسمعك تقوله قبل ذلك ، ورأيناك بسطت يدك قال :" إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت : أعوذ بالله منك ثلاث مرات ، ثم قلت : ألعنك بلعنة الله التامة فلم يستأخر ثلاث مرات ، ثم أردت أخذه ، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً يلعب به ولدان أهل المدينة وكذا رواه النسائي عن محمد بن سلمة به
وقال أحمد : حدثنا أبو أحمد ، حدثنا مرة بن معبد ، حدثنا أبو عبيد حاجب سليمان ، قال : رأيت عطاء بن يزيد الليثي قائماً يصلي ، فذهبت أمر بين يديه فردني ثم قال : حدثني أبو سعيد الخدري أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قام فصلى صلاة الصبح وهو خلفه فقرأ فالتبست عليه القراءة فلما فرغ من صلاته قال :" لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أخنفه حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين الإبهام والتي تليها ، ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطاً بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة ، فمن استطاع منك ألا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل "
روى أبو داود منه " فمن استطاع " إلى آخره عن أحمد بن سريج عن أحمد الزبيري به
وقد ذكر غير واحد من السلف أنه كانت لسليمان من النساء ألف امرأة سبعمائة بمهور وثلاثمائة سرارى وقيل بالعكس ثلاثمائة حرائر وسبعمائة من الإماء ، وقد كان يطيق من التمتع بالنساء أمراً عظيماً جداً
قال البخاري : حدثنا خالد بن مخلد ، حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :" قال سليمان بن داود : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تحمل كل امرأة فارساً يجاهد في سبيل الله فقال له صاحبه : إن شاء الله فلم يقل فلم تحمل شيئاً إلا واحداً ساقطاً أحد شقيه " فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) :" لو قالها لجاهدوا في سبيل الله "
وقال شعيب وابن أبي الزناد : تسعين وهو أصح تفرد به البخاري من هذا الوجه
وقال أبو يعلي : حدثنا زهير ، حدثنا يزيد ، أنبأنا هشام بن حسان عن محمد ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" قال سليمان بن داود : لأطوفن الليلة على مائة امرأة كل امرأة منهن تلد غلاماً يضرب بالسيف في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله ، فطاف تلك الليلة على مائة امرأة فلم تلد منهن امرأة إلا امرأة ولدت نصف إنسان " فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" لو قال إن شاء الله لولدت كل امرأة منهن غلاماً يضرب بالسيف في سبيل الله عز وجل "
إسناده على شرط الصحيح ولم يخرجوه من هذا الوجه
وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم ، حدثنا هشام ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة قال : قال سليمان بن داود : لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل واحدة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله ، ولم يستثن فما ولدت إلا واحدة منهن بشق إنسان قال : رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" لو استثنى لولد له مئة غلام كلهم يقاتل في سبيل الله عز وجل " تفرد به أحمد أيضاً
-
وقال الإمام أحمد: حجثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن ابن طاووس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" قال سليمان بن داود : لأطوفن الليلة بمائة امرأة تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله ، قال : ونسي أن يقول إن شاء الله ، فأطاف بهن قال : فلم تلد منهن امرأة إلا واحدة نصف إنسان " فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركاً لحاجته "
وهكذا أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق به مثله
قال إسحاق بن بشر : أنبأنا مقاتل ، عن أبي الزناد ، وابن أبي الزناد عن أبيه ، عن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، أن سليمان بن داود كان له أربعمائة امرأة وستمائة سرية فقال يوماً : لأطوفن الليلة على ألف امرأة فتحمل كل واحدة منهن بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يستثن ، فطاف عليهن فلم تحمل واحدة منهن إلا امرأة واحدة منهن جاءت بشق إنسان
فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) :" والذي نفسي بيده لو استثنى فقال إن شاء الله لولد له ما قال فرسان ولجاهدوا في سبيل الله عز وجل "
وهذا إسناد ضعيف لحال إسحاق بن بشر ، فإنه منكر الحديث ولا سيما وقد خالف الروايات الصحاح
وقد كان له عليه السلام من أمور الملك واتساع الدولة وكثرة الجنود وتنوعها ما لم يكن لأحد قبله ، ولا يعطيه الله أحداً بعده كما قال :" وأوتينا من كل شيء " ، و " قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب " وقد أعطاه الله ذلك بنص الصادق المصدوق
ولما ذكر تعالى ما أنعم به عليه وأسداه من النعم الكاملة العظيمة إليه قال :" هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب " أي أعط من شئت واحرم من شئت ، فلا حساب عليك أي تصرف في المال كيف شئت فإن الله قد سوغ لك ما تفعله من ذلك ولا يحاسبك على ذلك ، وهذا شأن النبي الملك بخلاف العبد الرسول ، فإن من شأنه ألا يعطي أحداً إلا بإذن الله له في ذلك
وقد خير نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه بين هذين المقامين فاختار أن يكون عبداً رسولاً وفي بعض الروايات أنه استشار جبريل في ذلك فأشار إليه أن تواضع فاختار أن يكون عبداً رسولاً صلوات الله وسلامه عليه وقد جعل الله الخلافة والملك من بعده في أمته إلى يوم القيامة فلا تزال طائفة من أمته ظاهرين حتى تقوم الساعة فلله الحمد والمنة
ولما ذكر تعالى ما وهبه لنبيه سليمان عليه السلام من خير الدنيا نبه على ما أعده له من الآخرة من الثواب الجزيل والأجر الجميل والقربة إليه والفوز العظيم والإكرام بين يديه ، وذلك يوم المعاد والحساب حيث يقول تعالى :" وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب
ذكر وفاته سليمان بن داود وكم كانت مدة ملكه وحياته
قال الله تبارك وتعالى :" فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين "
روى ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما من حديث إبراهيم ابن طهمان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :" كان سليمان نبي الله عليه السلام إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه يقول لها : ما اسمك ؟ فتقول كذا فيقول : لأي شيء أنت ؟ فإن كنت لغرس غرست وإن كات لدواء أنبتت فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها : ما اسمك ؟ قالت : الخروب قال : لأي شيء أنت ؟ قالت : لخراب هذا البيت فقال سليمان : اللهم عم على الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب فنحتها عصاً فتوكأ عليها حولا والجن تعمل ، فأكلتها الأرضة فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب المهين قال : - وكان ابن عباس يقرؤها كذلك - فشكرت الجن للأرضة فكانت تأتيها بالماء "
لفظ ابن جرير وعطاء الخرساني في حديثه نكارة
وقد رواه الحافظ ابن عساكر من طريق سلمة بن كهيل ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبسا موقوفاً وهو أشبه بالصواب والله أعلم
وقال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن أناس من الصحابة : كان سليمان عليه السلام يتجرد في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقل من ذلك وأكثر يدخل طعامه وشرابه فأدخله في المرة التي توفي فيها فكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلا نبتت في بيت المقدس شجرة فيأتيها فيسألها ما اسمك ؟ فتقول الشجرة : اسمي كذا وكذا فيجعلها كذلك حتى نبتت شجرة يقال لها الخروبة ، فسالها ما اسمك ؟ فقالت : أنا الخروبة فقال : ولأي شيء نبت ؟ فقالت : نبت لخراب هذا المسجد ، فقال سليمان : ما كان الله ليخربه وأنا حي ، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائط له ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئاً على عصاه فمات ولم تعلم به الشياطين وهم في ذلك يعملون له يخافون أن يخرج فيعاقبهم ، وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب ، وكان المحراب له كوى بين يديه وخلفه فكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول : ألست جليداً إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر فدخل شيطان من أولئك فمر ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان عليه السلام وهو في المحراب إلا احترق ، قلم يسمع صوت سليمان ، ثم رجع فلم يسمع ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق ونظر إلى سليمان عليه السلام قد سقط ميتاً ، فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات ، ففتحوا عنه فأخرجوه ووجدوا منسأته - وهي العصا بلسان الحبشة - قد أكلتها الأرضة ولم يعلموا منذ كم مات فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها يوماً وليلة ، ثم حسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة ، وهي قراءة ابن مسعود : فمكثوا يدابون له من بعد موته حولاً كاملاً فأيقن الناس عند ذلك أن الجن كانوا يكذبون ولو أنهم علموا الغيب لعلموا بموت سليمان ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له ذلك ، وذلك قول الله عز وجل :" ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين " يقول : تبين أمرهم للناس أنهم كانوا يكذبونهم ، ثم إن الشياطين قالوا للأرضة : لو كنت تأكلين الطعام لأتيناك بأطيب الطعام ، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب ، ولكنا سننقل إليك الماء والطين قال : فإنهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت قال : ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب فهو ما يأتيها به الشيطان تشكراً لها
وهذا فيه من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب
وقال أبو داود في كتاب القدر : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا قبيصة ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن خيثمة ، قال : قال سليمان بن داود عليهما السلام لملك الموت : إذا أردت أن تقبض روحي فأعلمني ، قال : ما أنا أعلم بذلك منك إنما هي كتب يلقي غلي فيها تسمية من يموت
وقال أصبغ بن الفرج وعبد الله بن وهب ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال : قال سليمان لملك الموت : إذا أمرت بي فأعلمني ، فأتاه فقال : يا سليمان قد أمرت بك قد بقيت لك سويعة فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحاً من قوارير ليس له باب ، فقام يصلي فاتكأ على عصاه قال : فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متوكئ على عصاه ولم يصنع ذلك فراراً من ملك الموت قال والجن تعمل بين يديه وينظرون إليه يحسبون أنه حي ، قال : فبعث الله دابة الأرض - يعني إلى منسأته - فأكلتها حتى إذا أكلت جوف العصا ضعفت وثقل عليها فخر فلما رأت الجن ذلك انفضوا وذهبوا قال : فقلك قوله :" ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين "
قال أصبغ : وبلغني عن غيره أنها مكثت سنة تأكل من منسأته حتى خر وقد روى نحو هذا عن جماعة من السلف وغيرهم والله تعالى أعلم
قال إسحاق بن بشر عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري غيره أن سليمان عليه السلام عاش اثنتين وخمسين سنة وكان ملكه أربعين سنة وقال إسحاق : أنبأنا أبو روق ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن ملكه كان عشرين سنة والله أعلم وقال ابن جرير : فكان جميع عمر سليمان ابن داود عليهما السلام نيفاً وخمسين سنة
وفي سنة أربع من ملكه ابتداء ببناء المقدس فيما ذكر ثم ملك بعده ابنه رحبعام مدة سبع عشرة سنة فيما ذكره ابن جرير وقال : ثم تفرقت بعده مملكة بني إسرائيل
-
باب ذكر جماعة من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام
ممن لا يعلم وقت زمانهم على التعيين إلا أنهم بعد داود عليه السلام وقبل زكريا ويحيى عليهما السلام
فمنهم شعيا بن أمصيا قال محمد بن إسحاق : وكان قبل زكريا ويحيى وهو ممن بسثر بعيسى ومحمد عليهما السلام وكان في زمانه ملك اسمه حزقيا على بني إسرائيل ببلاد بيت المقدس ، وكان سامعا مطيعاً لشعيا فيما يأمره به وينهاه عنه من المصالح ، وكانت الأحداث قد عظمت في بني إسرائيل ، فمرض الملك وخرجت في رجله قرحة ، وقصد بيت المقدس ملك بابل في ذلك الزمان وهو سنحاريب قال ابن إسحاق : في ستمائة ألف راية
وفزع الناس فزعا عظيماً شديداً وقال الملك للنبي شعيا : ماذأ أوحى الله إليك في أمر سنحاريب وجنوده ؟ فقال : لم يوح إلي فيهم شيء بعد ، ثم نزل عليه الوحي بالأمر للملك حزقيا بأن يوصي وسيتخلف على ملكه من يشاء ، فإنه قد اقترب أجله فلما أخبره بذلك أقبل الملك على القبلة فصلى وسبح ودعا وبكى فقال وهو يبكي ويتضرع إلى الله عز وجل بقلب مخلص وتوكل وصبر : اللهم رب الأرباب وإله الآلهة يا رحمن يا رحيم ، يا من لا تأخذه سنة ولا نوم اذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله كان منك فأنت أعلم به من نفسي ، سري وإعلاني لك
قال : فاستجاب الله له ورحمه وأوحى الله إلى شعيا أن يبشره بأنه قد رحم بكاءه وقد أخر في أجله خمس عمثرة سنة وأنجاه من عدوه سنحاريب فلما قال له ذلك ذهب منه الوجع وانقطع عنه الشر والحزن وخر ساجداً وقال في سجوده : اللهم أنت الذي تعطي الملك من تشاء ، وتنزعه ممن تشاء ، وتعز من تشاء ، عالم الغيب والشهادة ، فأنت الأول والآخر ، والظاهر والباطن ؟ وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين
فلما رفع رأسه أوحى الله إلى شعيا أن يأمره أن يأخذ ماء التين فيجعله على قرحته فيشفى ويصبح قد برئ ففعل ذلك فشفي
وأرسل الله على جيش سنحاريب الموت فأصبحوا وقد هلكوا كلهم سوى سنحاريب وخمسة من أصحابه منهم بختنصر أرسل ملك بني إسرائيل فجاء بهم فجعلهم في الأغلال وطاف بهم البلاد على وجه التنكيل بهم والإهانة لهم سبعين يوماً ، ويطعم كل واحد منهم كل يوم رغيفين من شعير ، ثم أودعهم السجن وأوحى الله تعالى إلا شعيا أن يأمر الملك بإرسالهم إلى بلادهم لينذروا قومهم ما قد حل بهم ، فلما رجعوا جمع سنحاريب قومه وأخبرهم بما قد كان من أمرهم فقال له السحرة والكهنة : إنا أخبرناك عن شأن ربهم وأنبيائهم فلم تطعنا ، وهي أمة لا يستطيعها أحد من ربهم فكان أمر سنحاريب مما خوفهم الله به ثم مات سنحاريب بعد سبع سنين
قال ابن إسحاق : ثم لما مات حزقيا ملك بني إسرائيل مرج أمرهم واختلطت أحداثهم ، وكثر شرهم ، فأوحى الله تعالى إلى شعيا فقام فيهم فوعظهم وذكرهم وأخبرهم عن الله بما هو أهله وأنذرهم بأسه وعقابه إن خالفوه وكذبوه فلما فرغ من مقالته عدوا عليه وطلبوه ليقتلوه ، فمهرب منهم فمر بشجرة فاتفلتت له فدخل فيها وأدركه الشيطان فأخذ بهدبة ثوبه فأيرزها فلما رأوا ذلك جاءوا بالمنشار فوضعوه على الشجرة فنشروها ونشروه معها ، فإنا لله وإنا إليه راجعون
ومنهم أرميا بن حلقيا من سبط لاوى بن يعقوب
وقد قيل إنه الخضر رواه الضحاك عن ابن عباس وهو غريب وليس بصحيح
قال ابن عسكر : جاء في بعض الآثار أنه وقف على دم يحيى بن زكريا وهو يفوز بدمشق فقال : أيها الدم فتنت الناس فاسكن فسكن ورسب حتى غاب
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثني علي بن أبي مريم ، عن أحمد بن حباب ، عن عبد الله ابن عبد الرحمن قال : قال أرميا : أي رب أي عبادك أحب إليك ؟ قال : أكثرهم لي ذكراً ، الذين يشتغلون بذكري عن ذكر الخلائق ، الذي لا تعرض لهم وساوس الفناء ، ولا يحدثون أنفسهم بالبقاء ، الذين إذا عرض لهم عيش الدنيا قلوه وإذا زوى عنهم سروا بذلك ، أولئك أنحلهم محبتي وأعطيهم فوق غاياتهم
-
ذكر خراب بيت المقدس
وقوله تعالى :" وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل أن لا تتخذوا من دوني وكيلا * ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا * وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا * فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا * ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا * إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا * عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا "
وقال وهب بن منبه : أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له أرميا حين ظهرت فيهم المعاصي : أن قم بين ظهراني قومك فأخبرهم أن لهم قلوباً ولا يفقهون ، وأعيناً ولا يبصرون ، وآذاناً ولا يسمعون ، وإني تذكرت صلاح آبائهم فعطفني ذلك على أبنائهم فسلهم كيف وجدوا غب طاعتي ، وهل سعد أحد ممن عصاني بمعصيتي ، وهل شقى أحد ممن أطاعني بطاعتي ؟ إن الدواب تذكر أوطانها فتنزع إليها وإن هؤلاء القوم تركوا الأمر الذي أكرمت عليه آباءهم والتمسوا الكرامة من غير وجهها ، أما أحبارهم فأنكروا حقي ، وأما قراؤهم فعبدوا غيري ، وأما نساكهم فلم ينتفعوا بما علموا ، وأما ولاتهم فكذبوا علي وعلى رسلي ، خزنوا المكر في قلوبهم وعودوا الكذب ألسنتهم ، وإني أقسم بجلالي وعزتي لأهيجن عليهم جيوشاً لا يفقهون ألسنتهم ، ولا يعرفون وجوههم ولا يرجمون بكاءهم ، ولأبعثن فيهم ملكاً جباراً قاسياً له عساكر كقطع السحاب ، ومواكب كأمثال الفجاج ، كأن خفقان راياته طيران النسور ، وكأن حمل فرسانه كر العقبان ، يعيدون العمران خراباً ويتركون القرى وحشة ، فياويل إليا وسكانها كيف أذللهم للقتل ، وأسلط عليهم السبا ، وأعيد بعد لجب الأعراس صراخاً ، وبعد صهيل الخيل عواء الذئاب ، وبعد شرفات القصور مساكن السباع ، وبعد ضوء السرج وهج العجاج ، وبالعز الذب وبالنعمة العبودية وأبدلن نساءهم بعد الطيب التراب ، وبالمشي على الزرابي الخبب ، ولأجعلن أجسادهم زبلا للأرض ، وعظامهم ضاحية للشمس ، ولأدوسنهم بألوان العذاب ، ثم لآمرن السماء فتكون طبقاً من حديد ، والأرض سبيكة من نحاس ، فإن أمطرت لم تنبت الأرض ، وإن أنبتت شيئاً في خلال ذلك فبرحمتي للبهائم ، ثم أحبسه في زمان الزرع وأرسله في زمان الحصاد ، فإن زرعوا في خلال ذلك شيئاً سلطت عليه الآفة ، فإن خلص منه شيء نزعت منه البركة ، فإن دعوني لم أجبهم ، وإن سألوا لم أعطهم ، وإن بكوا لم أرحمهم ، وإن تضرعوا صرفت وجهي عنهم رواه ابن عساكر بهذا اللفظ
وقال إسحاق بن بشر : أنبأنا إدريس ، عن وهب بن منبه ، قال : إن الله تعالى لما بعث أرمياً إلى بني إسرائيل ، وذلك حين عظمت الأحداث فيهم فعملوا بالمعاصي ، وقتلوا الأنبياء ، طمع بختنصر فيهم وقذف الله في قلبه وحدث نفسه بالمسير إليهم لما أراد الله أن ينتقم به منهم ، فأوحى الله إلى أرميا : إني مهلك بني غسرائيل ومنتقم منهم ، فقم على صخرة بيت المقدس ياتيك أمري ووحيي فقام أرميا فشق ثيابه وجعل الرماد على رأسه وخر ساجداً وقال يا رب وددت لو أن أمي لم تلدني حين جعلتني آخر أنبياء بني إسرائيل فيكون خراب بيت المقدس وبوار بني إسرائيل من أجلي ، فقال له : ارفع رأسك فرفع رأسه فبكى ثم قال : يا رب من تسلط عليهم ؟ فقال : عبدة النيران لا يخافون عقابي ، ولا يرجون ثوابي ، قم يا أرميا فاستمع وحيي أخبرك خبرك وخبر بني إسرائيل : من قبل أن أخلفك اخترتك ، ومن قبل أن أصورك في رحم أمك قدستك ، ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهرتك ، ومن قبل أن تبلغ نبأتك ، ومن قبل أن تبلغ الأشد اخترتك ولأمر عظيم اجتنبتك ، فقم من الملك تسدده وترشده
فكان مع الملك يسدده ويأتيه الوحي من الله حتى عظمت الأحداث ، ونسوا ما نجاهم الله به من عدوهم سنحاريب وجنوده ، فأوحى الله إلى أرميا : قم فاقصص عليهم ما آمرك به ، وذكرهم نعمتي عليهم ، وعرفهم أحداثهم فقال أرميا ك يا رب إني ضعيف إن لم تقوني ، عاجز إن لم تبلغني ، مخطئ إن لم تسددني ، مخذول إن لم تنصرني ، ذليل إن لم تعزني ، فقال الله تعالى : أولم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي ، وأن الخلق والأمر كله لي ، وأن القلوب والألسنة كلها بيدي فأقلبها كيف شئت فتطيعني ، فأنا الله الذي ليس شيء مثلي ، قامت السموات والأرض وما فيهن بكلمتي ، وأنه لا يخلص التوحيد ، ولم تتم القدرة إلا لي ، ولا يعلم ما عندي غيري ، وأنا الذي كلمت البحار ففهمت قولي ، وأمرتها ففعلت أمري ، وحددت عليها حدوداً فلا تعدو فلا تعدو حدي ، وتأتي بأموال كالجبال فإذا بلغت حدي ألبستها مذلة لطاعتي وخوفاً واعترافاً لأمري ، وإني معك ولن يصل إليك شيء معي ، وإني بعثتك إلى خلق عظيم من خلقي لتبلغهم رسالاتي فتستوجب بذلك أجر من اتبعك ، ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً
انطلق إلى قومك فقم فيهم وقل لهم : إن الله قد ذكركم بصلاح آبائكم فلذلك استبقاكم ، يا معشر أبناء الأنبياء ، وكيف وجد آباؤكم مغبة طاعتي وكيف وجدتم مغبة معصيتي ، وهل وجدوا أحداً عصاني فسعد بمعصيتي وهل عملوا أحداً أطاعني فشقي بطاعتي ؟ إن الدواب إذا ذكرت أوطانها الصالحة نزعت إليها ، وإن هؤلاء القوم رتعوا في مروج الهلكة وتركوا الأمر الذي أكرمت به آباءهم ، وابتغوا الكرامة من غير وجهها فأما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادي خولاً يتعبدونهم ، ويعملون فيهم بغير كتابي حتى أجهلوهم أمري وأنسوهم ذكري وسنتي وغروهم عني ، فدان لهم عبادي بالطاعة التي لا تنبغي إلى لي ، فهم يطيعونهم في معصيتي
وأما ملوكهم وأمراؤهم فبطروا نعمتي ، وأمنوا مكري ، وغرتهم الدنيا حتى نبذوا كتابي ونسوا عهدي ، فهم يحفون كتابي ، ويفترون على رسلي جرأة منهم علي وغرة بي ، فسبحان جلالي وعلو مكاني وعظمة شأني ، هل ينبغي أن يكون لي شريك في ملكي ؟ وهل ينبغي لبشر أن يطاع في معصيتي ؟ وهل ينبغي لي أن أخلق عباداً أجعلهم أرباباً من دوني ، أو آذن لأحد بالطاعة لأحد وهي لا تنبغي إلا لي ؟ !
وأما قراؤهم وفقهاؤهم فيدرسون ما يتخيرون ، فينقادون للملوك فيتابعونهم على البدع التي يبتدعون في ديني ، ويطيعونهم في معصيتي ، ويوفون لهم بالعود الناقضة لعهدي ، فهم جهلة بما يعلمون لا ينتفعون بشيء مما علموا من كتابي
وأما أولاد النبيين فمقهورون ومفتونون ، يخوضون مع الخائضين يتمنون مثل نصري آباءهم والكرامة التي أكرمتهم بها ، ويزعمون أنه لا أحد أولى بذلك منهم بغير صدق منهم ولا تفكر ، ولا يذكرون كيف كان صبر آبائهم وكيف كان جهدهم في أمري حين اغتر المغترون ، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم فصبروا وصدقوا حتى عز أمري وظهر ديني فتأنيت هؤلاء القوم لعلهم يستحيون مني ويرجعون ، فتطولت عليهم وصفحت عنهم فأكثرت ومددت لهم في العمر وأعذرت لهم لعلهم يتذكرون وكل ذلك أمطر عليهم السماء وأنبت لهم الأرض وألبسهم العافية وأظهرهم على العدو ولا يزدادون إلا طغياناً وبعداً مني فحتى متى هذا ؟ أبي يسخرون أم بي يتحرشون أم إياي يخادعون أم علي يجترئون
فإني أقسم بعزتي لأتيحن عليهم فتنة يتحير فيها الحليم ويضل فيها رأي ذوي الرأي وحكمة الحكيم ، ثم لأسلطن عليهم جباراً قاسياً عاتياً ألبسه الهيبة وأنزع من قلبه الرأفة والرحمة وآليت أن يتبعه عدد وسواد مثل الليل المظلم ، له فيه عساكر مثل قطع السحاب ومواكب مثل العجاج ، وكأن خفيق راياته طيران النسور وحمل فرسانه كريد العقبان ، يعيدون العمران خراباً والقرى وحشاً ويعيشون في الأرض فساداً ويتبرون ما علو تتبيراً ، قاسية قلوبهم لا يكترثون ولا يرقبون ، ولا يرحمون ولا يبصرون ، ولا يسمعون ، يجولون في الأسواق باصوات مرتفعة مثل زئير الأسد تقشعر من هيبتها الجلود ، وتطيش من سمعها الأحلال بألسنة لا يفقهونها ، ووجوه ظاهر عليها المنكر لا يعرفونها فوعزتي لأعطلن بيوتهم من كتبي وقدسي ، ولأخلين مجالسهم من حديثها ودروسها ، ولأوحشن مساجدهم من عمارها وزوارها الذين كانوا يتزينون بعمارتها لغيري ، ويتهجدون فيها ويتعبدون لكسب الدنيا بالدين ، ويتفقهون فيها لغير الدين ، ويتعلمون فيها لغير العمل ، لأبدلن ملوكها بالعز الذل ، وبالأمن الخوف ، وبالغنى الفقر ، وبالنعمة الجوع ، وبطول العافية والرخاء ألوان البلاء ، وبلباس الديباج والحرير مدارع الوبر والعباء ، وبالأرواح الطيبة والأذهان جيف القتلى ، وبلباس التيجان أطواق الحديد والسلاسل والأعلال ، ثم لأعيدن فيهم بعد القصور الواسعة والحصون الحصينة الخراب ، وبعد البروج المشيدة مساكن السباع وبعد صهيل الخيل عواء الذئاب ، وبعد ضوء السراج دخان الحريق ، وبعد الأنس الوحشة والقفار
ثم لأبدلن نساءها بالأسورة الأغلال ، وبقلائد الدر والياقوت سلاسل الحديد ، وبألوان الطيب والأدهان النقع والغبار ، وبالمشي على الزرابي عبور الأسواق والأنهار ، والخبب إلى الليل في بطون الأسواق ، والخدور والستور الحسور عن الوجوه والسوق والأسفار والأرواح السموم ثم لأدوسنهم بأنواع العذاب حتى لو كان الكائن منهم في حالق لوصل ذلك إليه ، إني إنما أكرم من أكرمني ، وإنما أهين من هان عليه أمري ثم لآمرن السماء خلال ذلك فلتكونن عليهم طبقاً من حديد ، ولآمرن الأرض فلتكون سبيكة من نحاس ، فلا سماء تمطر ، ولا أرض تنبت ، فإن أمطرت خلال ذلك شيئاً سلطت عليهم الآفة ، فإن خلص منه شيء نزعت منه البركة ، وإن دعوني لم أجبهم ، وإن سألوني لم أعطهم ، وإن بكوا لم أرحمهم ، وإن تضرعوا إلي صرفت وجهي عنهم ، وإن قالوا : اللهم أنت الذي ابتدأتنا وآباءنا من قبلنا برحمتك وكرامتك ، وذلك بأنك اخترتنا لنفسك وجعلت فينا نبوتك وكتابك ومساجدك ، ثم مكنت لنا في البلاد واستخلفتنا فيها وربيتنا وآباءنا من قبلنا بنعمتك صغراً ، وحفظتنا وإياهم برحمتك كباراً فأنت أوفى المنعمين وإن غيرنا ، ولا تبدل وإن بدلنا وأن تتم فضلك ومنك وطولك وإحسانك فإن قالوا ذلك قلت لهم : إني أبتدئ عبادي برحمتي ونعمتي ، فإن قبلوا أتممت ، وإن استزادوا زدت ، وإن شكروا ضاعفت ، وإن غيروا غيرت ، وإذا غيروا غضبت ، وإذا غضبت عذبت وليس يقوم شيء بغضبي
قال كعب : فقال أرميا : بوجهك أصبحت أتعلم بين يديك ، وهل ينبغي ذلك لي وأنا أذل وأضعف من أن ينبغي لي أن أتكلم بين يديك ، ولكن برحمتك أبغيتني لهذا اليوم ، وليس أحد أحق أن يخاف هذا العذاب وهذا الوعيد مني بما رضيت به مني طولاً ، والإقامة في دار الخاطئين وهم يعصونك حولي بغير نكر ولا تغيير مني ، فإن تعذبني فبذنبي ، وإن ترحمني فذلك ظني بك
-
ذكر شيء من خبر دانيال عليه السلام
قال ابن أبي الدنيا : حدثنا أحمد بن عبد الأعلى الشيباني قال : إن لم أكن سمعته من شعيب ابن صفوان فحدثني بعض أصحابنا عنه ، عن الأجلح الكندي ، عن عبد الله بن أبي الهذيل ، قال ك ضرا بختنصر أسدين فألقاهما في جب ، وجاء بدانيال فألقاه عليهما فلم يهيجاه ، فمكث ما شاء الله ثم اشتهى ما يشتهي الآدميون من الطعام والشراب فأوحى الله إلى أرميا وهو بالشام : أن اعدد طعاماً وشراباً لدانيال ، فقال : يا رب أنا بالأرض المقدسة ودانيال بأرض بابل من أرض العراق فأوحى الله إليه : أن أعدد ما أمرناك به فإنا سنرسل من يحملك ويحمل من أعددت ففعل وأرسل إليه من حمله وحمل ما أعده حتى وقف على راس الجب فقال دانيال : من هذا ؟ قال : أنا أرميا فقال : ما جاء بك ؟ فقال : أرسلني إليك ربك قال : وقد ذكرني ربي ؟ قال : نعم فقال دانيال : الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره والحمد لله الذي يجيب من رجاه ، والحمد لله الذي من وثق به لم يكله إلى غيره ، والحمد لله الذي يجزي بالصبر نجاه ، والحمد لله الذي هو يكشف ضرنا بعد كربنا ، والحمد لله الذي يقينا حين يسوء ظننا بأعمالنا ، والحمد لله الذي هو رجاؤنا حين تنقطع الحيل عنا
وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن أبي خالد بن دينار ، حدثنا أبو العالية قال : لما افتتحنا تستر وجدنا في مال بيت الهرمزان سريراً عليه رجل ميت عند رأسه مصحف ، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر بن الخطاب فدعا له كعباً فنسخه بالعربية ، فأنا أول رجل من العرب قراه ، قرأته مثل ما أقرأ القرآن هذا فقلت لأبي العالية ، ما كان فيه ؟ قال : سيركم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد ، قلت : فما صنعتم بالرجل ؟ قال : حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة ، فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس فلا ينبشونه قلت : فما يرجون منه ، قال : كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون قلت : من كنتم تظنون الرجل : قال : رجل يقال له دانيال قلت : منذ كم وجدتموه قد مات ؟ قال : منذ ثلاثمائة سنة قلت : ما تغير منه شيء ؟ قال : إلا شعرات من قفاه ، إن لحون الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع
وهذا إسناد صحيح إلى أبي العالية ، ولكن إن كان تاريخ وفاته محفوظاً من ثلاثمائة سنة فليس بنبي بل هو رجل صالح ، لأن عيسى ابن مريم ليس بينه وبين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نبي بنص الحديث الذي في البخاري ، والفترة التي كانت بينهما أربعمائة سنة ، وقيل ستمائة وقيل ستمائة وعشرون سنة ، وقد يكون تاريخ وفاته من ثمانمائة سنة وهو قريب من وقت دانيال ، إن كان كونه دانيال هو المطابق لما في نفس الأمر ، فإنه فد يكون رجلاً آخر إما من الأنبياء أو الصالحين ، ولكن قربت الظنون أنه دانيال لأن دانيال كان قد أخذه ملك الفرس فأقام عنده مسجوناً كما تقدم
وقد روى بإسناد صحيح إلى أبي العالية أن طول أنفه شبر ، وعن أنس بن مالك بإسناد جيد أن طول أنفه ذراع ، فيحتمل على هذا أن يكون رجلاً من الأنبياء الأقدمين قبل هذه المدد والله تعالى أعلم
وقد قال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب أحكام القبور : حدثنا أبو بلال محمد بن الحارث بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري حدثنا أبو محمد القاسم بن عبد الله ، عن أبي الأشعث الأحمري ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " إن دانيال دعا ربه عز وجل أن تدفنه أمة محمد " فلما افتتح أبو موسى الأشعري تستر وجده في تابوت تضرب عروقه ووريده ، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " من دل على دانيال فبشروه بالجنة " فكان الذي دل عليه رجل يقال له حرقوص فكتب أبو موسى إلى عمر بخبره فكتب إليه عمر : أن ادفنه وابعث إلى حرقوص فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) بشره بالجنة
وهذا مرسل من هذا الوجه وفي كونه محفوظاً نظر والله أعلم
ثم قال ابن أبي الدنيا : حدثنا أبو بلال ، حدثنا قاسم بن عبد الله عن عنبسة بن سعيد - وكان عالماً - قال : وجد أبو موسى مع دانيال مصحفاً وجرة فيها ودك ودراهم وخاتمه ، فكتب أبو موسى بذلك إلى عمر فكتب إليه عمر : أما المصحف فابعث به إليها ، وأما الودك فابعث إليه منه ومر من قبلك من المسلمين يستشفون به وأقسم الدراهم بينهم ، وأما الخاتم فقد نفلناكه
وروى ابن أبي الدنيا من غير وجه : أن أبا موسى لما وجده وذكروا له أنه دانيال التزمه وعانقه وقبله ، وكتب إلى عمر يذكر له أمره وأنه وجده عند مالا موضوعاً قريباً من عشرة آلاف درهم ، وكان من جاء اقترض منها فإن ردها وإلا مرض وإن عنده ربعة ، فأمر عمر بأن يغسل بماء وسدر ويكفن ويدفن ويخفي قبره فلا يعلم به أحد ، وأمر بالمال أن يرد إلى بيت المال وبالربعة فتحمل إليه ونفله خاتمه
وروي عن أبي موسى أنه أمر أربعة من الأسراء فسكروا نهراً وحفروا في وسطه قرباً فدفنه فيه ، ثم قدم الأربعة الأسراء فضرب أعناقهم فلم يعلم موضع قبره غير أبي موسى الأشعري رضي الله عنه
وقال ابن أبي الدنيا : حدثني إبراهيم بن عبد الله ، حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح ، حدثنا ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه قال : رأيت في يد ابن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري خاتماً نقش فصه أسدان بينهما رجل يلحسان ذلك الرجل ، قال أبو بردة : وهذا خاتم ذلك الرجل الميت الذي زعم أهل هذه البلدة أنه دانيال أخذه أبو موسى يوم دفنه ، قال أبو بردة : فسأل أبو موسى علماء تلك القرية عن نقش ذلك الخاتم فقالوا : إن الملك الذي كان دانيال في سلطانه جاءه المنجمون وأصحاب العلم فقالوا له : إنه يولد كذا وكذا غلام يغور ملكك ويفسده ، فقال الملك : والله لا يبقى تلك الليلة غلام إلا قتلته ، إلا أنهم أخذوا دانيال فألقوه في أجمة الأسد فبات السد ولبؤته يلحسانه ولم يضراه فجاءت أمه فوجدتهما يلحسانه فنجاه الله بذلك حتى بلغ ما بلغ قال أبو بردة : قال أبو موسى : قال علماء تلك القرية : فنقش دانيال صورته وصورة الأسدين يحلسانه في فص خاتمه لئلا ينسى نعمة الله عليه في ذلك إسناد حسن